أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - المجتمع المدني - حامد حمودي عباس - نذور السلطان















المزيد.....

نذور السلطان


حامد حمودي عباس

الحوار المتمدن-العدد: 2890 - 2010 / 1 / 16 - 11:58
المحور: المجتمع المدني
    


حين غادرت بنا الحافلة ساحة المحطة المركزيه لنقل المسافرين من قلب العاصمة بغداد ، متوجهة الى الاردن ، لم يكن في توديعي غير افراد عائلتي ، حيث كانت ملامح الرعب تكسو وجوههم ، وهم يرون معيلهم الوحيد يغادرهم الى المجهول . . ولم تكن ساعتها حاضرة تلك المشاعر الحزينة لفراق الوطن ، فالوطن الحبيب يومذاك كان مسلوب الارادة ، لا يقوى على ان يحتفظ بابنائه ، ويسيل دمه من كل زوايا جسده المستضعف ، وهو لا يعرف لمصيره من قرار .

تحركت الحافلة بنا وهي تتهادى بين شوارع بغداد ، والازقة المتعبة تسرع مختفية من امامي ، وليس فيها ما يضل صدى في النفس ، حيث كل شيء ميت لا حراك فيه ، وما يتحرك هناك فقط ، هو الصمت والخذلان ، ومعالم الحرب ، والسرادق المتناثرة لاقامة المآتم لضحايا القتال الدامي على خطوط الجبهة .

في الاوقات التي تتوقف الحافلة فيها عند منعطف أو تقاطع مروري ، كنت أمعن بالتطلع لما تبقى أمامي من بغداد .. أجساد تتحرك لا يميزها عن بعضها البعض سوى أن هذا رجل ، وتلك امرأه ، فالجميع يبدو مثقلا بهموم العالم برمته .. خيل لي وأنا انظر عبر زجاج النافذة المكسو ببخار انفاس الركاب ، بان تلك الاجساد راحت تمتص سبخ الارض التي تسير فوقها ، فاكتسبت ذلك اللون الرمادي القاتم ..

اللون الكاكي الباهت ، يكسو مناطق بعينها حيث يتجمع الجنود ، إما للالتحاق بوحداتهم العسكريه ، أو لتناول وجبة سريعة من عربات البيع المتجوله .. ملابسهم لا تحمل من علامات الانظباط العسكري سوى اللون ، ورؤوسهم عارية وكأنهم لا زالوا بالقرب من مداخل بيوتهم ، لا يحملون هما لحساب من أحد .. كل شيء في تلك الايام يبدو على سجيته لا يخشى من قانون ، ما مادام الامر لا يمس سمعة وشخص السلطان ، بل إن حركة الناس عموما كانت في تلك الايام مختومة بمهر الحكومه ، وهي تبيح لهم فعل كل شيء إلا أن تتعدى حدود عتبة الباب العالي .. السرقة من المال العام لم تكن جريمة إن أحسن فاعلها التخفي وعدم احراج الدولة ، ورجال الدين أشاعوا بين الخلق ، كون أن سرقة المال العام هو بمثابة الحرب على السلطه ، ولذا فهو حلال .. حينها استمرء المعوزون والتجار وموظفي الحكومه جميعا أمر نهب ما يتاح نهبه من أموال الشعب .. حتى قبور الشهداء ممن قدر لجثامينهم أن تعود لذويها وتدفن على سنن مذاهبهم الدينيه ، هي الاخرى لم تسلم من قانون الحلال ، فبيعت ابوابها في أسواق الخرده لتوفر للاحياء لقمة الخبز ، ولم يثني منظر وجود لوازم الشهيد الشخصية بالقرب من قبره ، كملابسه وعدة الحلاقه ، والتواجد الملزم لكتاب الله ، اللصوص من الاقدام على مقايضة تلك الموجودات ، بوجبة غذاء أو قضاء فسحة أنس ..


صوت ابنتي الصغرى لا زال يضغط على مسامعي ، وهي تبكي في المحطة قبل ان اغادرها ، ووجوه بقية افراد الاسره بملامحهم المأساوية توحي لي احيانا بان استوقف الحافله واعود ادراجي من جديد .. ولكن الى اين يمكنني ان اعود ، فكل شيء خلفته ورائي يطلب مني ان اتحرك وبأي إتجاه ، عدا ان ابقى ساكنا انتظر حلول الكارثه .. انهم جميعا يدفعون بي لاتخاذ القرارالمناسب .. أي قرار .. شرط أن يوفر لهم ما يقيهم شر الجوع والتشرد ..


كان رفيقي في تلك الرحلة ، مواطن كردي عراقي ، كنا نحن الاثنين نلتصق ببعضنا البعض ، رغم ان تعارفنا لم تتعدى بدايته محطة بغداد للمسافرين .. لقد كنت أحس وكما هو ، بالحاجة الى شريك في خوض معركة الاغتراب الجديده .. وعرفت بعد حين ، بانه يشبهني في كونه لا يعلم وجهة بعينها لتكون محطته النهائيه .. في المعبر العراقي الحدودي بدت لنا أصعب اللحظات ونحن نواجه استفسارات المقيمين على ادارة المعبر .. فالكمبيوتر كان عنيدا في تكرار طلباته لمعرفة كل شيء .. الاسم الرباعي ، واسم الام ، وطبيعة العمل قبل المغادره ، والجهة المقصوده ، وما هي أسباب السفر ..

الاردنيون في معبرهم لم يطيلوا النظر فينا سوى تقديم بعض الاستفسارات الروتينيه .. وسرعان ما بدأ يطل علينا عالم من نوع آخر ونحن نتقدم عبر اول مدينة غير عراقيه .. عالم فارقناه منذ زمن طويل ، حتى نسينا ملامحه .. محلات تغمرها الاضواء ، والوان من الفواكه تبهر النظر المحروم ، ومخازن تفنن مالكوها في إظهار ديكوراتها الجالبه للزبائن .. عيوننا كانت مشدودة للارصفة وهي تسرع بمغادرتنا قبل أن نشبع فضولنا من النظر الى ما فيها من الوان .. همس صاحبي بالقرب من أذني قائلا .. كم مر من الوقت ونحن بعيدين عن هكذا خيرات ؟؟ .. وحفزني قوله لأن أعود من جديد مستحضرا حقيقة أن بلادي لا ينقصها شيء ، غير ان تعقد سلاما مع ذاتها ، وتلتفت لابنائها ، تاركة فضيحة اسمها ( التضامن العربي ) ، والتبرع بالذود عن بوابات الوطن الكبير .

عمان كانت حميمة في استقبالها لنا من خلال مسحة الأمان المفقودة في حياتنا منذ زمن طويل .. وفي الفندق تدارسنا أمرنا لنتحرك في اليوم التالي ، علنا نجد سبيلا لعمل يوفر لنا ما يمدنا باسباب البقاء .. ولكون صاحبي يحمل تخصصا علميا في الزراعة وتربية الحيوان ، فقد قررنا البدء بالبحث عن عمل في هكذا مجال .. حيث شدنا عنوان أحد المكاتب الزراعية المملوكة لعربي من غير الاردنيين ، لأن ندخل على صاحبه ونعرض حاجتنا للعمل معه .. تفحصنا الرجل بدقه قبل أن يسأل .. من أين حضراتكم ؟؟ .. هل انتم عراقيين ؟؟ .. رد صاحبي بسرعه وبثقة عاليه .. نعم نحن من العراق .. حينها نهض الرجل من مكانه بتثاقل .. وامسك باكتافنا ليدفعنا خارج المكان وهو يقول .. ( لو قدر لكما ان تدخلا مزرعتي ، فان الدجاج هناك سيتوقف عن انتاج البيض ) ..

هزت تلك الحادثة نفوسنا ، ومع أنها كانت موطنا للتندر والضحك على ما بلغناه من حال ، فقد ضلت آثار ما سمعناه توخز في دواخلنا ولزمن ليس بالقصير .. ولم يكن لدينا من حل آخر غير أن نعود لتدبير ما يعيننا على ايجاد سبيل آخر مناسب ، علنا نعثر على عمل ، أو طريق يهدينا للسفر الى بلد آخر .. فكرنا بالسفر الى المغرب العربي عن طريق لبنان لوقوعه على ضفاف البحر الابيض المتوسط ، وحين ذهبنا للسفارة اللبنانيه في اليوم التالي ، استقبلنا الموظف المختص وبشكل اعتيادي ، وتسلم منا جوازات سفرنا على ان نعود في اليوم التالي لاستلام تاشيرة الدخول .. واحتفلنا مقدما بالمناسبه ، حيث سهرنا ليلتها في احدى المقاهي المطله على الساحة الهاشميه ، لنقضم ذكرياتنا ونخطط لما هو آت .. في الصباح الباكر كنا بالقرب من باب السفاره لنحضى بجوازاتنا الممهورة بالتأشيرة المطلوبه .. اقتربنا من شباك التسليم .. وحينما لمحنا الموظف ذاته ، إختفى برهة ليعود ومعه موظف آخر يحمل الجوازات ليسلمنا اياها وهو يقول .. ( هناك ختم مثبت في الصفحة الاخيره من جوازاتكم ، ينذركم بعدم مراجعة السفارة مرة اخرى ، وفي حال تكراركم المحاوله ، سنقوم باشعار السلطات المختصه لمخالفتكم التعليمات ) ..

لم نكن نعرف سببا لذلك الاجراء .. ولم نبدي اعتراضا البته خوفا من تبعات الاعتراض ، رغم اننا على يقين بان سيرتنا الذاتية سليمة ، وصفحاتنا الشخصية لا تشوبها شائبه .. فنحن مواطنين عاديين دفعتهما ظروف بلدهما ان يهاجرا طلبا للرزق ، بعد أن أديا ما عليهما من ضرائب وطنيه ، أولها هو اننا أدينا ما علينا من خدمة العلم الالزامية .. ثم انني شخصيا كنت من ضمن المدافعين عن البوابة الشرقية ( للوطن الكبير) من خلال أدائي الخدمة في القوات المسلحه ، وتعرضت للكثير من الاهوال جراء حملي للسلاح بوجه ( اعداء الامة من طامعين ..) .. وامتلك صور شتى من المعاناة الانسانية لابنائي نتيجة سوقي لجبهات القتال ، حتى اضطروا في بعض الاحيان لاستجداء عبوات غاز الطبخ من جيرانهم لبعدي عنهم .. فلماذا إذن ترفضني لبنان وبهذه الطريقه ؟؟ .. ولماذا يعزف الدجاج العربي عن انتاج البيض بمجرد احساسه بقربي من مكامن اعشاشه ؟؟ .. لم احضى بجواب يروي عطشي وشوقي لمعرفة الحقيقة ، عدا عن كوني وسواي من ابناء شعبي ، كنا ضحايا نذرنا سلطاننا لغيرنا بلا مقابل .

وللقصة بقيه ..



#حامد_حمودي_عباس (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الإمساك بأمجاد الماضي ، وحده لا يكفي .
- رساله مفتوحه إلى السيده بيان صالح
- رسالة مفتوحه إلى السيده بيان صالح .
- إرفعوا أيديكم عن المسيحيين في مصر والعراق !
- أفكار من أعماق الذات
- حقوق النساء ، وإستحالة الحضور مع الواقع العربي الراهن .
- إبحار في مشاعر أنثويه
- عام جديد .. وأمنيات شخصيه .
- حينما راح جذع النخلة يئن لفراق النبي
- معامل الطابوق في العراق تجسيد حي لعذاب البرزخ .
- تردي حالة البيئه في دول الشرق الاوسط وشمال افرقيا .. إلى أين ...
- متى يصار الى دعوة أفذاذ العراق وتكريمهم في بلدهم كما يستحقون ...
- قول في العيد الثامن لتأسيس الحوار المتمدن
- متى لهذا العراق أن يستريح ؟؟
- من بقايا الزمن الجميل .. عبد العزيز المعموري إنموذجا
- مهلا .. لقد إكتشفنا مؤخرا ما يحميكم من ( انفلونزا الخنازير ) ...
- من يحمي النساء المتزوجات من ( عرب ) في البلدان الاوروبيه ؟؟ ...
- عن أي مسرح نتحدث ، والمواطن في بلادنا تأكله أرضة الفقر ؟؟
- لتتوحد كافة الأصوات الوطنية والتقدمية في بلادنا من أجل نصرة ...
- بين هموم النخبة الثقافية ، ومعاناة الجماهير .. مسافات لا زال ...


المزيد.....




- الصحة العالمية تحذر من -حمام دم- ومن امتداد المجاعة لجنوب ال ...
- فرار 8 معتقلين من سجن في هايتي والشرطة تقتل 4 آخرين
- الآلاف يتظاهرون في إسرائيل للمطالبة باتفاق رهائن مع حماس
- ميقاتي ينفي تلقي لبنان -رشوة أوروبية- لإبقاء اللاجئين السوري ...
- فيديو.. سمير فرج يُشكك في عدد الأسرى الإسرائيليين: حماس تخفي ...
- برنامج الأغذية العالمي: أجزاء من غزة تعيش -مجاعة شاملة-
- مديرة برنامج الأغذية العالمي: شمال غزة يواجه بالفعل مجاعة كا ...
- -جيروزاليم بوست-: صحفيون إسرائيليون قرروا فضح نتنياهو ولعبته ...
- فعلها بحادثة مشابهة.. اعتقال مشتبه به دهس طفلة وهرب من مكان ...
- المياه ارتفعت لأسطح المنازل.. قتلى ومفقودون وآلاف النازحين ج ...


المزيد.....

- أية رسالة للتنشيط السوسيوثقافي في تكوين شخصية المرء -الأطفال ... / موافق محمد
- بيداغوجيا البُرْهانِ فِي فَضاءِ الثَوْرَةِ الرَقْمِيَّةِ / علي أسعد وطفة
- مأزق الحريات الأكاديمية في الجامعات العربية: مقاربة نقدية / علي أسعد وطفة
- العدوانية الإنسانية في سيكولوجيا فرويد / علي أسعد وطفة
- الاتصالات الخاصة بالراديو البحري باللغتين العربية والانكليزي ... / محمد عبد الكريم يوسف
- التونسيات واستفتاء 25 جويلية :2022 إلى المقاطعة لا مصلحة للن ... / حمه الهمامي
- تحليل الاستغلال بين العمل الشاق والتطفل الضار / زهير الخويلدي
- منظمات المجتمع المدني في سوريا بعد العام 2011 .. سياسة اللاس ... / رامي نصرالله
- من أجل السلام الدائم، عمونيال كانط / زهير الخويلدي
- فراعنة فى الدنمارك / محيى الدين غريب


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - المجتمع المدني - حامد حمودي عباس - نذور السلطان