المنظومة الفارسية: مدن صناعية ومعسكرات عمل

نضال نعيسة
كاتب وإعلامي سوري ومقدم برامج سابق خارج سوريا(سوريا ممنوع من العمل)..
(Nedal Naisseh)

الحوار المتمدن-العدد: 2881 - 2010 / 1 / 7 - 18:56
المحور: الهجرة , العنصرية , حقوق اللاجئين ,و الجاليات المهاجرة
    

استذكرت وأنا أتابع حفل افتتاح أعلى مبنى في العالم في دبي في الرابع من شهر يناير كانون الثاني، حياة عشرات الآلاف من العمال والمقيمين، وحتى ممن يسمون بالمواطنين أو سكان البلد التي تتسم بالقساوة وبالجفاء والخشونة والقسوة والعبوس الدائم في كل مكان، حيث الثقافة السائدة في تلك البلاد تحرم الفرح والابتسام، وتضعها في مراتب الكبائر والعياذ بالله. وحياة معظم السكان هناك تتسمن بالنمطية والرتابة وانعدام الأفق الاجتماعية وانسداد قنوات الاتصال بسبب الخلائط غير المتجانسة من السكان، وصعوبة العثور على نمط ثقافي واجتماعي واحد وسائد يمكن للإنسان من خلاله أن يجد ذاته ويمارس حياته كالمعتاد. فالحياة الاجتماعية المعروفة في بلدان العالم الأخرى، هي صفر هنا، تماماً، حيث لا مودة، ولا إلفة، ومشاعر التوجس، والريبة، الشكوك المتبادلة تتناوب الجميع، وفي ظل غياب منظومة قانونية، وتشريعية، تشعر الجميع بالسكينة والاطمئنان، فلا المواطن، ولا المقيم، يشعر بكثير انتماء لهذه البلاد، ولا ينظر إليها، إلا باعتبار مدينة صناعية، ومعسكر عمل يقضي فيه ردحاً من الزمن، وبعد ذلك "باي باي". وبالقدر الذي يبدو فيه هذا البرج مزدهراً، وجميلاً، ومتألقاً، فإنه يخفي وراءه قصص لا حصر لها لاستغلال، وظلم، وامتهان لجهود آلاف العمال الآسيويين الفقراء الذين يعيشون في ظروف مزرية وبائسة للغاية، وتعويضات لا تكاد تذكر، ولعل المظاهرات وأعمال الشغب التي قامت بها جموع عمالية في وقت سابق تدلل على مدى ما يشعر به هؤلاء من غبن وصعوبات وهضم متكرر لحقوقهم.

هذا عدا عن أن هذه المدن الدول، لم تتطور بالسياق الطبيعي لتطور المجتمعات من القرية للبلدة للمدينة الكبيرة للدولة للأمة إلخ، وبدأت تطورها، بعد مرحلة الرعي مباشرة لتنتقل إلى أنموذج المدن صناعية الصناعية وورشات العمل المغلق، ومعسكرات العمل، حيث ينعدم الوقت، لدى المهاجرين، القادمين من أجل "تحويشة العمر" من أجل ممارسة أي نوع من اللهو والفرفشة، كما أنه لا يوجد عادات وأنماط حياة لمثل هذه السلوكيات.

ولذا ترى هنا ثقافة الغيتوهات الاجتماعية والثقافية هي السائدة والأعم، فترى أبناء كل جالية وجنسية يلتفون على بعضهم البعض، فيما يشبه عملية التقوقع على الذات، وضرب حصار على أنفسهم، ووضع حواجز في طريق التواصل مع الآخرين ولاسيما في المناسبات الدينية والاجتماعية المختلفة، لاسيما أن ثقافة تلك البلدان تعتبر أي سلوك وتفكير خارج عن النطاق العام هو بمثابة بدعة، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار. ناهيك عن وجود الشرطة الدينية، والمطاوعة، والتكفيريين الذين يقمعون، ويتصدون لأية ظاهرة لا تروق لهم ويعتبرونها خروجاً عن الشرع والآداب العامة، ومن حقهم التصدي لهذا "المنكر" الذي يأتي به هذا المقيم أو الأجنبي، حتى لو كانت ابتسامة في غير محلها.

والمهم بالعودة إلى اقتتاح برج دبي، الذي كان في الحقيقة، تذكيراً للناس بفقاعة دبي التي انفجرت من غير ميعاد، أكثر مما هو تعبير عن ازدهار والدخول في حقبة جديدة من النمو، لاسيما وأن الديون تنهش جسد هذه الإمارة، التي بدأت بعملية بيع لأصول بعض من رموزها العمرانية التي كانت وراء ما يسمى بازدهار الإمارة. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، من أين سيأتي الدبويون بسكان، وموظفين، ونزلاء، وشاغلين لهذا البرج العملاق، في الوقت الذي تتم فيه عمليات "تفنيش"، واستغناء عن الخدمات، وتسريح للموظفين بالجملة، وفي الوقت الذي تتنامى فيه ظاهرة الإحجام السياحي، بسبب الأزمة الاقتصادية العالمية والتي يشكل قوامها، طبعاً، الغربيون، وليس سكان كيرالا، ولا الصومال، أو النيبال. كما أن هناك مبالغ طائلة تفوق المائة مليار دولار ما زالت بذمة الإمارة الصغيرة للبنوك العالمية. دبي اليوم أنموذج للإفلاس، ليس إلا، ورياح الانهيار التي ستعصف بهذه المنظومة إن عاجلاً أو آجلاً، وتحقيقاً لنبوءة كثيرين، ونظراً لقيامها على الظلم والتعسف وغياب أية معايير للمساواة والضمير والأخلاق، والاعتراف بأي حق من حقوق الإنسان في عموم هذه المنظومة الفارسية، وعدم وجود من سيترحم أو يتأسف عليها في حال غيابها عن المسرح العام، فالحياة كما هو معلوم دين ووفاء.

في دبي وغيرها، قد ترتفع هذه الأبراج ومثيلاتها الكثيرات عالياً في عنان السماء، ولكن السؤال المهم، وما الذي، ومن يبعث والروح والفرح الحياة في تلك الأبراج، المشيدة على ظلم العمال وامتهانهم، ووسط مدن صناعية ومعسكرات عمل، ليس إلا، ومهما ارتفعت، هذه المشيخات، وتطاولت في البنيان؟

#نضال_نعيسة (هاشتاغ)       Nedal_Naisseh#          

---

ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages

---

الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل	حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل