أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - جهاد علاونه - مثقف أردني يتحدث عن نفسه2















المزيد.....



مثقف أردني يتحدث عن نفسه2


جهاد علاونه

الحوار المتمدن-العدد: 2869 - 2009 / 12 / 26 - 10:31
المحور: سيرة ذاتية
    


ولدت في بيئة تحترم الحرية والعمل الاجتماعي وكانت عائلة أبي شبه عائلة برجوازية أو أرستقراطية لأبعد الحدود فكان لجدي عبيد حقيقيون ورثهم عن جده وجده ورثهم أيضاً عن جده وما زالت آثار أقدامهم في بلدتنا وكانوا مرتبطون فيه ارتباطاً وثيقاً وما زالت سلالتهم تعيش في قريتنا ومعروفون وحين ظهرت الحكومات ونُظمت العلاقات العشائرية والقبلية وألغي نظام الرق أصبح هؤلاء العبيد مواطنون مثلهم مثل أي مواطن ولم يبقى من نظام استرقاقهم شيئاً إلا أن اسمهم أصبح مقترناً باسم عائلتنا لذلك عليهم ما علينا وندفع عنهم في الدم .
وأنا قد وصلت متأخرا جدا بتاريخ 12--5-1971 حيث كانت عائلتنا قد فقدت آخر معاقلها البرجوازية لذلك لم أرى العمال المرابعون الذين كانوا يعملون في أراضي جدي على نظام ربع الناتج من المحاصيل الزراعية أو خمس الناتج من المحاصيل الزراعية وكانت لجدي رؤيا ثاقبة لمستقبل حركة النقل فباع في منتصف شبابه نصف ما يملك من أراضي تمتدُ من غور الأردن في وقاص إلى بلدتنا (الطيبة) وذلك لكي يستثمرها في شراء سيارات نقل ولكن مشروعه خسره عن بكرة أبيه وخسر معه السيارات .
أما أنا فقد وصلت متأخراً كما قلتُ لكم لذلك نشأت كادحا أدرس في المدرسة وبعد الدوام أذهب للعمل مع النجارين والطوبرجية والعمال والشغيلة كي أتمكن من شراء رغيف من السندوتش في أثناء الفرصة المدرسية , ولم يكن هذا العمل مطلوباً مني لأن أمي كانت قادرة على الإنفاق المنزلي ولكن درجة حساسيتي كانت عالية جداً فكنت أخجل من مد يدي إلى امرأة وأنا رجل !!.

وكان جدي يلقب بالرجل (الواعي) لما امتاز فيه من وعي وحرص وشطارة وأناقة وما زال أهل بلدتنا يطلقون علينا لقب (الوعيان) ويحكون القصص والحكايات المذهلة عن الواعي باعتباره أول من ركب سيارة نوع (دج) وباعتبار أبي أول رجل يحمل رخصة قيادة سيارة في معظم أرجاء اللواء والذي تبلغ مساحته ربع مساحة مدينة محافظة اربد , وأشتهر بجماله وأناقته في لبس الثياب المكوية على مكوى يسخن فوق البابور قبل أن تصل الكهرباء إلينا وكان الفضل لأبناء عمومته في إدخال البنطلون إلى القرية فكانت الناس سنة 1930تنزل للسوق لكي يشاهدون أي شاب منهم وهو يلبس البنطلون وكانوا يطلبون من اللابس أن يمشي فيه أمامهم لكي يشاهدونه وهو يقع على الأرض حسب اعتقادهم أو لكي يشاهدوا منظر جسمه من الخلف وهو يمشي فينقلبون على ظهورهم من الضحك والتقهقه ,ومن هذه الناحية ولهذه الأسباب لم يلبس جدي البنطلون وكان يفضل عليه لبس المزنوك والعباءة وعلى رأسه عقال أسود وغطاء يسمونه (الشوره) وكان لونها أبيض وأسود باعتباره فلاح من الدرجة الأولى أما البدو الرعاة فكانوا يلبسون لونها أبيض وأحمر وما زالت هذه الشورة تُسمى(السلك)بلون ابيض وأحمر للبدو وأبيض وأسود للفلاحين , ولكن الناس اليوم ينسون أو نسوا أن هذا اللون للفلاحين وذاك للبدو فاعتقدوا أن هذا اللون للفلسطينيين وذاك للأردنيين أي أن اللون الأبيض والأحمر للأردنيين والأبيض والأسود للفلسطينيين .
وكان جدي يعدُ أولَ رجل مجدد في آداب الضيافة حيث كان هو أول من استعمل الشاي لتقديمه للضيوف وللحراثين الذين يحرثون عنده وأيضاً (المته) السورية وهذه المتة إلى اليوم ما زالت مجهولة في قريتنا وفي أرجاء المدينة كلها إلا ما ندر , وأيضاً كان جدي أول رجل في قريتنا يحضر إلى منزله (راديو) يستمع فيه للغناء وللأخبار ومما ساعده على ذلك هو بطارية السيارة التي تصطفُ في منتصف قاع الدار فكان يمد أسلاك الكهرباء من بطارية السيارة إلى جهاز الراديو وقال لي رجل طاعنٌ في السن ذات مرة : كنت أنا ولد صغير بس كان جدك في ساعات المساء يفتح للناس الراديو فكانوا كل الناس يطلعوا من بيوتهم من أجل النظر لهذه المعجزة وكان شيخ المسجد يحذر الناس من الذهاب لبيت جدك وكان جدك يقول عنه(متخلف)وكان الشيخ يردعليه ويقول: هذه إحدى علامات الساعة حين يتحدث الخشب والحديد وهو بذلك يقصد الراديو المصنوع إطاره من الخشب والسيارة المصنوع إطارها وهيكلها من الحديد .

ومع كل ذلك لم تر عيني ما أقوله بل سمعته من الناس وحظي التعيس جعلني أحمل كثيراً من صفات جدي ,هكذا يقول عني أشقاء جدي وآخرهم ما زال على قيد الحياة فكلما رآني أو سمعني يقول : سبحان الخالق نفس الصوت والحس والشطاره الزايده عن الحاجه...هذا الولد نسخه عن جده .
وفي الحقيقة هذا شيء كان بالنسبة لجدتي عليها رحمة الله مؤلما , فقد كانت تقول : الشطاره اكثير اكثير مش مليحه ,جدك يا جده كان زيك وكان فصيح وبالكلام يسحر الناس على شان هيك انصاب بالعين..يا جده بُكره الناس بصيبوك بالعين .

وآخر مرة رأيتُ فيها جدتي كانت سنة 1994م حيث توارت عن الأنظار في منزلنا المكون من عدة غرف ومن بين كل تلك الغرف غرفة خاصة قديمة كانت ترفض استبدالها مكونة من الحجر القديم الأحمر وسقفها من القصيب ,وكانت تقول (ما بطلع منها إلا على قبري ) وفعلاً أخرجناها منها إلى قبرها على كتفي أنا حيثُ كنتُ أول من حملها وخرج فيها إلى الجامع للصلاة على روحها وبموتها شعرتُ بفراغ كبير أنا وشقيقاتي فقد كانت تملأُ المكان علينا بحسها وصوتها ولا أنكرُ حبي لها واستطيع القول أن حبي لها كان مثل حب أبي الطيب المتنبي لجدته.
وكان جدتي ذات عيون زرق وشعر أحمر وأبي نسخة كربونية عنها , أحضرها جدي من قرية (صمد) وهي قرية تبعد مسافة يوم كامل على ظهر الخيل ولم يكن باستطاعة أي رجل عادي أن يحصل على مثل تلك الجيزة (الزيجه) إلا الرجل الموسر الحال والغني فقد كانت المسافة بعيدة جداً عن قريتنا وكانت مواصفات العروس أيضاً نادرة وغريبة جداً ومن يرى الممثلة المصرية(أمينه رزق) في شبابها كأنه رأى جدتي ومن كان يراها وهي عجوز في التسعين من عمرها كان وكأنه أيضاً قد رأى جدتي ,وقالت لي بلسانها ذات يوم: كنت بس أطلع مع جدك تطلع الناس على الشوارع وعلى الشجر الطويل على شان يشوفوني وكانوا قرايب جدك يقولوله: لا اتخليها تمشي معك بين الناس, وجدتي طبعاً دفنت ابنتها الكبرى سنة 1978م ودفنت جدي قبل ذلك ودفنت أبي سنة 1984م وكانت تقول لي : بيتنا بيت المشاكل والحزن والهموم , وكلمة الهموم جمع لكلمة (الهم).
وكانت جدتي رحمها الله تعتبرني خط الدفاع الأول في كل شيء ولم تكن تعتمدُ على أحدٍ غيري وكانت تصفني ب (عامود الدار) فكانت تقول(جهادعامود الدار ..جهاد عامود البيت إذا انكسر عامود البيت البيت كله بقع ,جهادمُطيع وكويس مثل الحمير لا بناقش ولا بعارض ولا عُمرني طلبت منه أي شيء إلا يجيبه بدون ما يفتح ثمه..الله يحفظه ..الله يحماه ..يا الله أعيش وشوف مرته وولاده)وكلمة حمار هي تشبيه بليغ وجميل للطاعة .

وماتت جدتي دون أن ترى زوجتي وأولادي وفي كل عيد من أعيادنا الدينية أزور قبرها وآخذ معي علي لكي تشاهده فيسألني ولدي مين هاي ؟فأقول له: هذه جدتي .
ومات والدي قبل موت جدتي بعشرة سنوات وكانت أمي تذهب للعمل في المدرسة المجاورة لحارتنا وجدتي تبقى في المنزل لوحدها وحين كنا نعود من المدرسة كنا نجدها في انتظارنا ولكن زيادة وزنها كان يجعل حركتها ثقيلة عليها فلم تكن تفعلُ لنا شيئاً ولم نكن عليها ثقال الدم بل على العكس كنا نحن من يقوم بخدمتها , وكان لجدتي حضور مميز في المنزل فقد اعتدنا على سماع صوت المهباش وهي تدق القهوة وتطحنها فيه في كل يومولم تكن ترضى بأن تنقطع القهوة من بيتها فما زالت حتى وفاتها محافظة على أناقة جدي وحسن ضيافته للناس بإعتباره أحد وجهاء المنطقة القدامى , والمهباش عصاة مصنوعة من شجر البلوط تدقُ بواسطتها حبوب القهوة السادى بعد أن تقوم بتحميصها على النار في محماسة وسيعة ولها يد طويلة فكان المنزل يمتلىُْ منها برائحة البهار (الهيل) والقهوة .
ولا أنسى دخان الميرميه فقد كانت جدتي تلف سيجارة الميرمية وكانت لي في ذلك العهد بداية المعرفة بالتدخين الذي تركته بعد 16 عاماً من مزاولته ,فكنت حين لا أجدُ سيجارة أذهب إليها لتلف لي سيجارة ميرمية بتسطّل المخ وبتدوخه .
وبعد أن ماتت جدتي هدمتُ غرفتها الكبيرة التي كانت ترفضُ الخروج منها معللة ذلك بالذكريات الجميلةمع جدي والناس وكان يأتيها بين الحين وال آخر بقايا ذكريات من نساء ورجال كبار في السن يستذكرون ماضي جدي (الواعي) وأحياناً أو غالباً ما كانت جدتي تبكي بصوت عالي عندما تسترجع الذكريات الخانقة والمؤلمة فكانت تقول :هون طبخت كروش وهون طبخت المعاليق وهناك كان علي الله يرحمه يلعب وهي تقصد أبي وهناك كانت عمتك الله يرحمها تقعد وعمك(ناظم) الله يرحمه على هذي الفرشه شرب إبريق الشاي وطلع في يوم وقفة عيد الأضحى عشان يزور أخته ومات في حادث سيارته و..و...
وبنيتُ في محلها في نفس العام الذي ماتت فيه غرفة حديثة من الباطون والاسمنت أضفتها لمنزلي المجاور لها وهدمتُ بذلك آخر ذكريات العائلة عائلة (الوعيان) الشُطار ,فقد كانت هذه الغرفة هي المضافة التي وفد عليها كبار السياسيين وناموا فيها أمثال الزعيم الفلسطيني الراحل (ياسر عرفات) وأخيه الدكتور فتحي عرفات الذي كانت له عيادة طبية بجانب تلك المضافة من الناحية الشرقية.
وكانت أمي تعمل وتتألم ولم أكن أقبل أن آخذ من أمي العظيمة مصروفي المدرسي فقد بدأت أمي في العمل عام 1983 ميلادي شغالة في إحدى المدارس الثانوية وهي السنة نفسها التي اشتد فيها المرض على أبي وبقي مريضا لغاية عام 1984 ميلادي حيث وافته المنية وهو يحتضنني بين جوانحه في تمام الساعة 1 الواحدة ليلا من آخر ساعات يوم الجمعة من عام 1984 .

وأذكر كلماته الأخيرة والرائعة التي ما زالت إلى اليوم تحفر في وجداني آبارا من الدموع وكان كلما نطق بحرف منها رفع رأسه ليقبلني وكلمه كلمه وحرف حرف وقد بلغت عدد القبلات التي قبلني إياها أكثر بكثير مما تكلم معي وكان يتكلم ويقبلني ويبكي وأنا أبكي ودموعي لا تظهر حياء من كبار السن الذين كانوا يقولون : عيب والله عيب الزلمه يبكي ولكن أبي كان يبكي أجل يبكي ويقول : يا جهاد أخوتك في رقبتك وقد دعوت الله أن ينصرك على كل معتدي يا جهاد لا تخف ألله سيكون معك أينما ذهبت وأنا سأتابع أمرك من علياء الله يا جهاد أمك صبوره وحنونه وتستحق الاحترام يا .....وانقطعت أنفاسه الأخيرة وشهقنا بالبكاء وصرت أحس بيدي ترتجف وكان الزبد يخرج من فمه أما أختي الكبيرة فقد تعلقت في الحائط من الخوف والرهبة حين مدت أظافرها على جدران المنزل والكل يسبح ويقول : الله أكبر مات في آخر ساعات يوم الجمعة!!!يوم الجمعة .

وعلى فكره كل الناس في بلدتنا يجعلون من موت آبائهم وأقربائهم موتاً إدرامياً ويؤلفون السيناريوهات وهم يحكون عن حوادث موت آبائهم وأقربائهم وينقلون قصص عبر (إسكتشات) و( (فلاشات) من الذاكرة ويجعلون للموت قداسة أكثر من الولادة ,فولادتهم لا يجعلون لها قصصاً مثيرة بل يجعلون للموت صلة بإثارة روح المشاعر الدينية مثل (مات يوم الجمعه أو مات وهو يصلي ,أو مات وهو يمسك إبريق الوضوء أو مات وهو يريد الذهاب للصلاة أو مات وهو يرفع بيديه ويقول أشهدُ ان لا إله إلا الله ).
واليوم يقولون :سبحان الله قال السنه هذي بدي أحج ,أومات وهو يقف على المغسلة للوضوء أو يقولون مات وهو يستحم أو بعد الحمام يوم الجمعه وكان طالع للصلاه أومات في ليلة القدر أو أول أيام رمضان أو في العشرة الأواخر من رمضان .

وصدقوني أنها مبالغات ونفاق ودجل وأنا أقول الحقيقة فقد مات أبي في الهزيع الأول من يوم السبت في الساعة الواحدة ليلاً ولم يمت وهو يصلي ولم يمت وهو يمسك بإبريق الوضوء ولم يكن خارجاً من منزله للصلاة بل مات وهو يحتضن في حضنه أبناءه جهاد وشقيقاته وكنا ونحن في حضنه مثل صيصان الدواجن الصغيرة أوالجراء اللطيفة أو الزغاليل كانت أحجامنا جميعاً أقل من حجم أصغر واحد فينا اليوم وكان ذلك يوما مشئوما بالنسبة لي وحتى هذا اليوم لدي مبررين كي أكره يوم السبت :
أولا بسبب وفاة أبي في صبيحته والثاني بسبب نظام التعليم القهري حيث كان أستاذ الرياضيات والحساب يخرج أقلاما من جيبه ليضعها بين أصابعي لأتفه الأسباب فقد كانت حصته الدراسية في يوم السبت لذلك كرهت أيضا المدرسة والدراسة وأصبحت متمردا على نظام التعليم النمطي ومحبا لنظام التعليم القهري ومما زاد كرهي للنظام التعليمي أن أسلوب التدريس كان فيه نوع من الجهل فقد كان أستاذ اللغة العربية يفرض على الطلاب حفظ القصائد الشعرية وكنت أنا دائما ما أحفظ الأشياء غير المطلوبة مني وغالبية الأشياء المطلوبة كنت أترك حفظها لأنها لا تناسبني ولا تقع من نفسي موقعا أستلذ فيه فعندي أن الغاية الأولى والأخيرة من الأدب هي تحقيق المتعة واللذة .
ومنذ تلك اللحظة عرفت ما هو معنى القمع والإرهاب وما هو طعم اللذة فأنا أحفظ القصائد التي أتلذذ فيها وكانت لديّ أيضا نفس الرغبة في حفظ آيات القرآن فالذي لا أستسيغ فهمه لا أحفظه رغم أنه منهاج مقرر لذلك رسبت في المدرسة في المواد التي كنت أحبها فعلا رسبت في اللغة العربية والتربية الإسلامية والتاريخ والجغرافيا واللغة الإنكليزية وتلاحقت السقوطات الواحدة تلوى الأخرى حتى جاءت سنة 1987 م وهي السنة التي تركت فيها آخر صفوف الدراسة الإعدادية بدرجة راسب 100% .

وقد كانت لثقافة العيب في المجتمع الأردني والعربي أثرا كبيرا أيضا في كرهي لنظام التعليم وأذكر أنني كنت بارعا جدا في كتابة المواضيع الإنشائية وخصوصا عن الأيتام وكنت أتفلسف كثيرا في شرح القصائد الأدبية وأشطح بخيالي وأرتجل العبارات ارتجالاً وكان أستاذ اللغة العربية يضع يده على خده وينظ ر لي وأنا أشرح أي قصيدة مطلوبة مني وكان ينظر لي بنظرات غريبه ويقول لي بعد أن أنهي الشرح :
-إنت ولد رائع بس ليش في بعض أو غالبية مواد الدراسه راسب؟! والله إنك ظاهره غريبه .
وكنتُ أعجز عن البوح أوالإجابة فأنزل يدي الإثنتين على جوانبي وأنزل رأسي للأسفل وأخجل من رفع عيوني في عيون الأستاذ فيصمتُ هو قليلاً ثم يأمرني بالجلوس ليستأنف هو إعطاء الدرس كما يجب أن يعطيه للطلاب أما الطلاب الغيورين من شرحي وتعليقاتي فكانوا يمسكونني بعد الدوام وبين الحصص بقولهم :
انت مش زلمه بتشرح القصائد الشعريه وأمك بتشتغل وبتصرف عليكوا والله ما انت زلمه ..ما في زلمه أمه بتشتغل , لذلك كنت أشعر بنوع من نقص عام في مظاهر الرجولة وبأنني إنسان ناقص تنقصني الرجولة لذلك عزفت عن الانخراط في اللعب مع الطلاب لأنني لستُ مثلهم بل أنا أقل منهم فكنتُ أكبُ بوجهي على الأرض هائماً على وجهي كأسدٍ عاجز طردته الأشبال من زمرتها الملكية.

وكانوا أخوالي يقولون مثل هذا الكلام وكانوا في كل يوم يفكرون بسحب وتصدير أمي من منزلنا بحجة أنها تعمل والعمل عيب للنسوان وكانوا يقولون : كل الناس ابتضحك علينا كيف بنخلي بنتنا تشتغل موظفه يا عيب العيب يا خجل الخجل !!.

وهذه أمور كانت تنكد علينا أنا وأخواتي وأخي الوحيد حياتنا وكنا نبكي وتدمع عيوننا حينما نرى الناس يقولون مثل هذا الكلام أما جدتي أم أمي فقد كانت هي المحامي القانوني والاجتماعي عن قضيتنا أمام أخوالنا ولولاها لتشردنا بالشوارع أكثر من هذا التشريد القمعي , وماتت جدتي أم أمي قبل جدتي أم أبي تقريباً بعام واحد أو بعامين على أثر موت خالي الصغير الذي قضى نحبه في الجيش برصاصة طائشة من أحد زملائه , وذهب خالي للجيش بعد صراع طويل مع جدي ومناكفات طويلة وقد ترك خالي الصغير المنزل والتحق في الجيش سنة 1985م تقريباً وحزنت جدتي عليه لتركه المدرسة وذهابه للجيش فكان يقول بدي :أخلص من الختيار , ولم تدم خدمته في الجيش لأكثر من ثلاثة أشهر ,عاد بعدها محملاً في سيارة إسعاف , وعاشت جدتي بعده أقل من عام واحد في صراع مع المرض مثل ارتفاع الضغط والسكر وتبعها جدي أيضاً في عام آخر وبعد أن مات جدي أب أمي شعرتُ وقتها فعلاً أن أمي أصبحت يتيمه مثلنا , علماً أن أمي شعرت بنا كأيتام قبل أن نشعر فيها .
.
وهذه الأمور جعلتني أيضا محبا للمرأة العاملة ومحبا للحرية الفكرية وأكبر نصير للمرأة وحينما كبرت وصرت أقرأ لنوال السعداوي كنت أشعر أنها طفلة أمام قدرات جدتي أم أمي أمي الدفاعية عن المرأة وكانت حينما تتحدث جدتي أشعر وكأنها المتنبي أو قس بن ساعدة لفصاحتها التي كانت تصدر من دوافع الحزن والألم.

ومضت بي وبإخوتي السنون والأعوام وتركت مراكز التعليم وذهبت للعمل مع العمال والشغيلة وكنت أقطع من أجرتي بما يعادل 10 % منها لأشتري كتبا أحبها وروايات وكنت أعمل بنشاط وكد وتعب وكنت أقرأ بنهم وشغف كبيرين ولم يكن حبي للقراءة هروباً من الواقع المؤلم بقدر ماكانت القراءة نفسها عندي كجين ثقافي ولا أقرأ إلا ما يعجبني وما لا يعجبني لا أقرأه من هنا استحدثت لنفسي مدرسة من مدارس المقهورين فقرأت سارتر وطه حسين والعقاد والمعري ومما كان يدفع بي العزيمة هو أنني قرأت عن سارتر أنه رسب في المرحلة الثانوية في مادة الفلسفة ومع ذلك أنشأ مدرسته الوجودية الخاصة فيه وكنت أعلق في غرفتي الكبيرة صورا لفنانين ومبدعين وكتاب فمن بين المطربين : محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش وكارم محمود وأم كلثوم وشاديا وسعاد حسني ومن بين الأدباء : العقاد وطه حسين وتوفيق الحكيم والشاعر الأردني عرار .والفيلسوف الألماني هيغل...إلخ

أما أكبرعوامل القهر الإحتماعي فقد كانت تتشكلُ لي عبر ما أراه من أبناء الجيران وهم يحتضنون آباءهم ويضحكون وما يعطيه الآباء لأبنائهم من هدايا وخصوصاً القادمون من مواقع عملهم ولذلك كنت وأنا ألعب مع أولاد الجيران كنت كلما شاهدت مشهدا من هذا النوع كنت أذهب إلى المقبرة لأحتضن قبر أبي وأقرأ عليه سورا من القرآن وكنت أحتضن القبر وأبكي بكاء عاليا لأنه لا يراني أحد ففي ساعات الحر الشديد لا يأت أحد للمقبرة وكنت أطمئن لعدم وجود الناس فأنا أخجل من أن يرى أحدٌ ضعفي ودموعي وانهياراتي فالبكاء ليس للرجال وإنما للنساء وذات مرة حضرت سيدة من نساء البلدة إلى قبر أبيها ولم أنتبه لحضورها وكنت أبكي بصوت عالي حتى سمعت صوتا يبكي بمثل بكائي فأدرت رأسي وإذا فيها لا تبعد عني عشرة أقدام فقلت لها أنا لا أبكي لأني يتيم أنا ابكي لأنني قد وطأت هنا على شوكة ومسمار أنا ابكي لأنني مجروح جرحا طبيعيا .
فزادت المرأة من بكائها بعد أن تفقدت قدمي ولم تجد فيها أي جرح وبدل أن أتوقف عن البكاء عاودت أبكي فاحتضنتني المرأة وذهبت بي إلى أمي وقالت لأمي ما جرى وكان ذلك يوما مشئوما فأصبحت جدتي أم أبي تبكي وكأن أبي مات اليوم وصرخت بصوت عالي وشقت ثوبها وتبعتها أمي وارتجفت شقيقاتي وحضر الجيران ليسألوا عن السبب وتدافع الأقرباء جميعهم من كل حدبٍ وصوب ومن هول المشهد شعرت بخجلي فهربتُ من البيت بمنظر اتراجيدي محزن وعاطفي طفولي واختبأتُ خلف الدار في الحاكورة ونمتُ حتى المغرب وأنا أبكي لوحدي ولم أنهض من النوم إلا بعد أن سمعتُ جدتي تقول :هو وينه ؟ وين راح الولد؟! علما أنه لم يمض على وفاة أبي بضعة أشهر ومن يومها وأنا أذهب إلى المقبرة كل يوم سبت سراً علما أن الناس تذهب في يوم الخميس ولكنني كنت أذهب يوم السبت كي لا أصادف من أقربائي أحدا فيحكي لجدتي وأمي فقد حذرني الجميع من الذهاب للمقبرة , وكنتُ أبكي لوحدي وأسكتُ لوحدي دون أن يشعر أحد في أسباب بكائي لأن البكاء عيب للرجال . ومع ذلك كانت عواطفي أكبر من قدراتي التحكمية فيها لذلك ازداد قلبي رقة وشاعرية حتى أصبحت أعد عند أهلي من أنني حنون جدا أكثر من النساء وعاطفي جدا وحساس فهذه الأمور رفعت من درجة حرارتي العاطفية وغذتها بالحنان قبل أن أعرف ربات الفنون الأثينية وقبل أن أعرف تمثال : ربة الينبوع الشرقية .

وبما أن أبي لم يكن مصليا لله كثيرا حتى وبصراحة نادرا ما كنت أراه يقف خلف مصلوة للصلاة وهو يتوجه بوجهه إلى القبلة وكنت أسأله لماذا لا تصلي يا أبي كان يقول لي :
الله لا ينظر إلى وجوهنا ولا إلى أجسامنا ولكنه ينظر إلى قلوبنا وأفكارنا وعواطفنا لذلك نشأت نشأة غريبة حيث أنني لم أكن أميل للطقوس الدينية ولم أكن أهتم بالصوم وكنت أشعر دائما أنني في حالة صوم أبدي لأنني كادح ودائما في حالة جوع ويأس من الناس.

وقد بقيت على هذه الحالة حتى عام 1988م فقد بدأت في هذه المرحلة من العمر التعرف على المسيحيين الذي يعمل عندهم خالي بيوتا من حجر وكنت أعمل مع خالي وبدأت أتعرف على النصارى الطيبين جدا سواء أكانوا كاثوليك أو ابروستنت أو ارثوذكس وبدأت أقارن بينهم وبين حياتهم العامة وحياتنا نحن المسلمين العامة وكنت لا أرى منهم إلا طيبا وكانوا ودودين معي لأبعد الحدود وكنت أشعر بغربة إذا أرسلني خالي للعمل عند المجتمعات الإسلامية فقد كانت تعجبني طريقة تقديمهم للطعام والشراب والشاي والقهوة والغداء والفطور وكانت نساؤهم بصراحة أكثر شيء زرع في نفسي حب الجمال فكانت غالبية نسائهم وبناتهم جميلات جدا ومتمدنات وهذا ما جعلني أتعرف على المجتمع المدني الحديث لقد كانت لحياتهم طعم لذيذ في جسدي وما زلت أشعر باختناق عاطفي كلما نظرت إلى مسيحية جميلة .

وكانت سماحتهم وودهم ودماثة خلقهم يدفعاني للإيمان بمقولة أبي : إن الله لا ينظر إلى وجوهكم بل ينظر إلى قلوبكم.

وقلوبهم بجد طيبة وممارستهم للحياة بجد ممتعة ولذيذة فلا يوجد عقد بينهم مثل العقد النفسية ورغم أنهم شرقيون فإن ما يميزهم هو الجمال الذي ينتشر بين النساء وأطباق الطعام اللذيذة وكنت أقارن سلوكهم معي مع ما تعلمته في المدرسة عن النصارى من أنهم أهل النار وكفار وضالين لذلك كانت هذه الفترة من حياتي بداية المرحلة الأولى من التمرد على الموروث الديني غير الصحيح وبدأت أميز حقا بين المجتمع المدني وبين الدين وكيف تتشابه الحياة في المجتمع ألإثنى الواحد رغم اختلاف الديانات لأنني رأيت أيضا في مدينة الحصن المسيحية عائلات مسلمة متأثرة بعادات وتقاليد المسيحيين وهذا ما جعلني محبا للحرية الفكرية والفصل بين الدين والعادات قبل أن أذهب للجامعة وأتعلم العلمانية سنة 1992م

وكانت تمتد فترة عملي مع خالي عند المسيحيين أكثر من 4 سنوات وكنت أشاهدهم وهم يحترمون الرأي والرأي الآخر فقد كان خالي رجلا ملتزما بالدين وطقوسه وكانوا في رمضان لا يطبخون طعاما تخرج منه الروائح علينا ولا يشربون الماء أمامنا وكانوا يحضّرون لخالي إبريق الوضوء كي يتوضأ ويصلي وكانت هذه المشاهد قد زرعت في نفسي احترام الرأي والرأي الآخر وعلمتني هذه المشاهد ما هي الديمقراطية قبل أن أتعلمها في الأحزاب السياسية سنة 1993 م
وقد وهبتني الحياة العامة عندهم التعددية الفكرية قبل أن تهبها الحكومة الأردنية للشعب الأردني سنة 1989م.

فقد كنت أتحدث مع غالبيتهم وكنت أشاهد في المنزل الواحد أكثر من رأي سياسي وثقافي وهذا ما جعلني ديمقراطيا في المنزل مع شقيقاتي ومتسامح جدا مع الاتجاهات العاطفية لهن وكانت الناس في حارتنا الضيقة وعماتي وجاراتنا يقلن عني : مش زلمه جهاد مش زلمه ليش ما بضرب خواته زي الزلم لازم يورجيهن إلعين الحمرا لا زم بس يفوت على إلدار يرجفن منه خوف لا زم يكتلهن عشانه هو إلزلمه ....إلخ
ولم أكن أعير لمثل هذه الهرطقات أي اعتبار وكنت وما زلت سموحا وودودا جدا معهن حتى اليوم ما زلت احتضن أطفالهن أكثر مما أحتضن أولادي : علي وبرديس ولميس وأذكر مرة في يوم شديد الحر أنني وجدت في إحدى غرف المسيحيين إنجيلا فأخذته دون أن يعلموا وقلت في نفسي : سامحني يا رب عشان هاي سرقه ... وبدأت أقرأ في الإنجيل وتعاليم المسيح وحفظت منه كما كنت أحفظ من القرآن حيث وجدت نفسي تحفظ كل كلام جميل وكل ما هو جميل .

شاهدنا صوراً من النمط القروي ومن النمط العاطفي الحزين , لم يمت أبي وهو يصلي بل وهو يحتضن أبناءه في مشهد مثير للشفقة على رجل أضاع نصف عمره كما سنرى لاحقاً في السراب وفي الأوهام , كان من الناحية الدينية ضعيفاً ولكن مثله مثل أي رجل قروي وجدناه يتشدق بكلمات دينيه لولده حين حضرته الوفاة وكأنه واحدٌ من الرسل والأنبياء كان يتحدث عن صلته القوية بالله الذي أوصى عليه أولاده وعلى رأسهم جهاد , الطفل الذي كان يبكي لأتفه الأسباب والذي كان يستحي أن يراه الطلاب والذي كان يخجل من مد يده إلى امرأة ليأخذ مصروفه منها , هذا الطفل الذي رسب في كافة المواد الدراسية معللاً ذلك بأسباب خارجة عن إرادته , إنها إرادة الحياة حين تفتح عينيك على زمن ليس بزمنك وعلى أصوات غريبة تناديك وعلى آلام حزينة ومشاكل لها أول وليس لها آخر , سنجد كل ذلك يتكرر في مشهد من مشاهد بؤس الفلسفة والحياة البائسة والكئيبة , في عالم تحكمه النزعة الدينية القديمة والتي تتسلط على كل شيء في الحياة وتجعل الحظ التعيس رفيقنا ورفيق دربنا طوال العمر, وعلى أصوات تنادي بكرامة المرأة وحمايتها من سوق العمل وهي بهذا تؤدي إلى إهانة المرأة وإضاعة فرصتها في أن تصبح كائن حي طبيعي تشرب الماء وتأكلُ الطعام وتمشي في الأسواق.







#جهاد_علاونه (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ضك الجينز
- المرأة مصنع الرجال
- المخلوق العجيب
- تحديد النسل من وجهة نظر سياسية
- أسئلة الأطفال
- نقاش عام عن المرأة
- الملابس الإسلامية
- الشخصية المثقفة والشخصية العادية
- الاسلام لا يصلحُ لكل زمانٍ ومكان
- اعصابي هادئة
- طز يا حمد
- هيغل1
- ضمانات البنوك الإسلاميه
- على قد السمع
- رسالة إلى المفكر الكبير طارق حجي
- حقيقة المناضلين ضد الاستعمار
- حين أكتب1
- الأبوة الروحية المسيحية
- كيف فقد الإنسان الفردوس الدائم؟
- نساء متمردات1


المزيد.....




- القوات الإيرانية تستهدف -عنصرين إرهابيين- على متن سيارة بطائ ...
- الكرملين: دعم واشنطن لن يؤثر على عمليتنا
- فريق RT بغزة يرصد وضع مشفى شهداء الأقصى
- إسرائيل مصدومة.. احتجاجات مؤيدة للفلسطينيين بجامعات أمريكية ...
- مئات المستوطنين يقتحمون الأقصى المبارك
- مقتل فتى برصاص إسرائيلي في رام الله
- أوروبا.. جرائم غزة وإرسال أسلحة لإسرائيل
- لقطات حصرية لصهاريج تهرب النفط السوري المسروق إلى العراق بحر ...
- واشنطن.. انتقادات لقانون مساعدة أوكرانيا
- الحوثيون: استهدفنا سفينة إسرائيلية في خليج عدن وأطلقنا صواري ...


المزيد.....

- سيرة القيد والقلم / نبهان خريشة
- سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن / خطاب عمران الضامن
- على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم / سعيد العليمى
- الجاسوسية بنكهة مغربية / جدو جبريل
- رواية سيدي قنصل بابل / نبيل نوري لگزار موحان
- الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة / أيمن زهري
- يوميات الحرب والحب والخوف / حسين علي الحمداني
- ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية / جورج كتن
- بصراحة.. لا غير.. / وديع العبيدي
- تروبادورالثورة الدائمة بشير السباعى - تشماويون وتروتسكيون / سعيد العليمى


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - جهاد علاونه - مثقف أردني يتحدث عن نفسه2