أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - حقوق الانسان - فاطمة ناعوت - سور في الرأس، سأسرق منه قطعةً














المزيد.....

سور في الرأس، سأسرق منه قطعةً


فاطمة ناعوت

الحوار المتمدن-العدد: 2846 - 2009 / 12 / 2 - 12:04
المحور: حقوق الانسان
    


في كلِّ بلدٍ زرتُه، أحرصُ الحرصَ كلَّه على أن أحصلَ على حجرٍ صغير أو حصاة أو حفنة رملٍ أو شيء من تربة ذلك البلد. وإذا سألني صديقٌ قادمٌ من بلد بعيد: "ماذا أجلبُ لكِ معي؟" أُجيبُ من فوري: "حجرٌ صغير!" ثم أوهمُ نفسي أن بلدًا جديدًا صار في حوزتي. أليس البلدُ تربةً وحصوات؟ أوَليس معي حجرٌ "كريم" من تلك التربة؟ وإذًا فالبلد بكامله لديّ. وأما كَوْنُ الحجرِ "كريمًا"، فلأن كلَّ ما خلقَ اللهُ، ولم يفسده الإنسانُ، هو بالضرورة كريمٌ! حصّلتُ العديدَ من الأحجار الكريمة، وأخفقتُ في الكثير من البلدان أن أجدَ حجرًا، خاصةً من مدن أوروبا، حيث النظافةُ هناك عمادٌ ونهجُ حياة، ومن الصعب أن تجدَ، في مدينة أوروبية، ما لم تخرج إلى حدودها وأحراشها، مجردَ حصاةٍ صغيرة في تلك الطرق اللامعة المصقولة. تبًّا للنظافة!
أما أجملُ وأهمُّ ما أمتلكُ من بلاد الله، فحجرٌ صغير، وقنينةُ زجاجية ملأى بحفنة رمال من "رام الله". كان جلبها لي قبل أعوامٍ صديقي الشاعرُ الفلسطينيّ عبد السلام العطاري. أضعهما في أهمِّ موضع من مكتبة التذكارات في بيتي، جوار سمكة براكودا شرسة بارزة الأسنان، جلبتُها من فنزويلا، كأنما هي حارسٌ يسهرُ على حماية كنزي الفلسطينيّ الثمين من دنس صهيون. ومازلت أُمنّي النفسَ بالحصول على حفنةِ رملٍ من أرض القدس الشريف.
وظلَّ أحدَ أحلامي الحصولُ على قطعةٍ من سور برلين الذي بُني بمعرفة السوفييت عام 1960، وهدمه الألمان عام 1989، بعدما ظلَّ شاهقًا قاسيًا عقودًا ثلاثة يشطرُ بلدًا واحدًا ويُفرّق بين شقيقين، إلى أن قرر الشقيقان، ذات لحظة وعي وثقافة، أنْ آنَ الأوانُ الآنَ لإزالة فُرْقةٍ صنعتها يدٌ باردةٌ تخصُّ حربًا باردةً أشعلتها عقولٌ باردة، ومعاولُ اقتتالٍ كونيٍّ بارد دمّرَ الدنيا.
سقطَ من الوجود سورُ الأسلاك الشائكة والحجارة، الذي بنته حكومةُ ألمانيا الشرقية الشيوعية لمنع فرار أبنائها إلى القسم الغربيّ، بجهد أربعين ألف جنديّ. سقط أخيرًا قبل عشرين عامًا، لكنَّ السورَ باقٍ في الرأس. مازال القسمُ الشرقيّ يشعرُ بالغُبن من سيادة القسم الغربيّ المُدلَّل اقتصاديًّا وسياسيًّا وثقافيًّا، وأما الغربيون فضجّوا من حنين الشرقيين لأيام المجد الشيوعيّ الذي قُصِفَت شوكتُه على يد أمريكا، فقالوا إن الملاكَ الذي بُني في القرن 19، ويتوسط أحد ميادين القسم الغربيّ، إنما يرمي بصرَه صوبَ القسم الشرقيّ حنينًا وتوْقًا لإعادة الوحدة السليبة. لكن كليهما، سكّانَ شرقِ السور وسكّانَ غربِه، يأسفون لأنهم لم يتركوا أجزاءً أكبرَ من السور قائمةً لتشهد على لحظة تاريخية فارقة صنعها الإنسانُ برعونته وجنوحه المَرَضِيّ نحو السطوة والسيادة.
السورُ كامنٌ في الرأس. هَدْمُه لم يَمْحُه من كتاب التاريخ! هذا ما انتبه إليه الألمانُ الآن. مثلما شطْبُنا، نحن المصريين، صورَ الملك فاروق من أفلامنا القديمة، التي أعقبت الثورة، لم يمحُ مرحلةَ الملكية المصرية. هذه "الشخبطة البيضاء" على صور الملك، التي كانت تتم لمغازلة جمال عبد الناصر ومجلس قيادة الثورة، تشبه عندي لعبَ الأطفال الساذجة. ذاك أن شطبَ تصاوير الملك، لم يشطبه من الوجود، ولن يشطبه من كتاب التاريخ. وتظل مرحلةُ الحكم الفاروقي محلَّ خلافٍ، ما بين مُحبٍّ ومُعادٍ، حتى لحظتنا الراهنة. لكن الأصلَ في الأمر أنها قطعةٌ من جسدِ مصرَ وتاريخها، لن يقطفَها من الجسد خدْشٌ ساذجٌ بنصلٍ بارد على شرائط الأفلام الأبيض والأسود.
ولأن الألمان يستعدُّون هذه الأيام للاحتفال بالذكرى العشرين لسقوط السور، الذي محته المعاولُ ولم تمحُه ذاكرةُ العالم، ولأنني كنتُ في برلين قبل أسبوع، فقد خطَّطَ شيطاني الأشِرُ أن أحصلَ بنفسي على قطعة من هذا السور، وإن هدمتُها بنفسي، ويحصل الذي يحصل. هم، الألمان أولئك، سرقوا منّا النسخةَ الأصليةَ الوحيدةَ من تمثال نفرتيتي الفاتنة، التي لن يجود الزمانُ والتاريخُ بمثلها من فرائد الفنِّ والجمال والحضارة، فهل أقلُّ من أن أسرقَ منهم قطعةً صغيرةً من سور هشٍّ سيء السمعة، هدْمُه كان في سهولةِ بنائه؟ لكني في الأخير اكتفيتُ بشراء حجر من السور المهدّم، من محل تذكارات، بعدما قلتُ لنفسي: الطيب أحسن! - جريدة "الحياة" اللندنية - 28/9/09






#فاطمة_ناعوت (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- التواطؤ على النفس
- حاجات حلوة، وحاجات لأ
- التخلُّص من آدم
- بلال فضل، وزلعةُ المِشّ
- الثالثُ -غير- المرفوع
- كريستينا التي نسيتُ أنْ أقبّلَها
- أعِرْني عينيكَ لأرى العالمَ أجملَ
- أنا عيناك أيها الكهلُ
- التردّد يا عزيزي أيْبَك!
- قطارُ الوجعِ الجميل
- بوابةُ العَدَم
- الشَّحّاذ
- الإناءُ المصدوع
- الملاكُ يهبطُ في برلين
- ناعوت: الإبداع العربي الراهن فرسٌ جموح والحركة النقديّة عربة ...
- تحيةٌ للشيخ طنطاوي
- بالأمس فقدتُ مَلاكيَ الحارسَ
- مينا ساويرس، موحِّد القطرين!
- شوارعُ تُغنِّي بالفرح
- ذاك الذي غبارٌ عليه


المزيد.....




- مسؤول في برنامج الأغذية: شمال غزة يتجه نحو المجاعة
- بعد حملة اعتقالات.. مظاهرات جامعة تكساس المؤيدة لفلسطين تستم ...
- طلاب يتظاهرون أمام جامعة السوربون بباريس ضد الحرب على غزة
- تعرف على أبرز مصادر تمويل الأونروا ومجالات إنفاقها في 2023
- مدون فرنسي: الغرب يسعى للحصول على رخصة لـ-تصدير المهاجرين-
- نادي الأسير الفلسطيني: الإفراج المحدود عن مجموعة من المعتقلي ...
- أمريكا.. اعتقال أستاذتين جامعيتين في احتجاجات مؤيدة للفلسطين ...
- التعاون الإسلامي ترحب بتقرير لجنة المراجعة المستقلة بشأن الأ ...
- العفو الدولية تطالب بتحقيقات دولية مستقلة حول المقابر الجما ...
- قصف موقع في غزة أثناء زيارة فريق من الأمم المتحدة


المزيد.....

- مبدأ حق تقرير المصير والقانون الدولي / عبد الحسين شعبان
- حضور الإعلان العالمي لحقوق الانسان في الدساتير.. انحياز للقي ... / خليل إبراهيم كاظم الحمداني
- فلسفة حقوق الانسان بين الأصول التاريخية والأهمية المعاصرة / زهير الخويلدي
- المراة في الدساتير .. ثقافات مختلفة وضعيات متنوعة لحالة انسا ... / خليل إبراهيم كاظم الحمداني
- نجل الراحل يسار يروي قصة والده الدكتور محمد سلمان حسن في صرا ... / يسار محمد سلمان حسن
- الإستعراض الدوري الشامل بين مطرقة السياسة وسندان الحقوق .. ع ... / خليل إبراهيم كاظم الحمداني
- نطاق الشامل لحقوق الانسان / أشرف المجدول
- تضمين مفاهيم حقوق الإنسان في المناهج الدراسية / نزيهة التركى
- الكمائن الرمادية / مركز اريج لحقوق الانسان
- على هامش الدورة 38 الاعتيادية لمجلس حقوق الانسان .. قراءة في ... / خليل إبراهيم كاظم الحمداني


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - حقوق الانسان - فاطمة ناعوت - سور في الرأس، سأسرق منه قطعةً