|
الإكمال الثقافي في فكر أرنولد توينبي
محمد سمير عبد السلام
الحوار المتمدن-العدد: 2701 - 2009 / 7 / 8 - 08:27
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
التفاعل المنتج بين المبادئ الثقافية المختلفة ، و من ثم نمو المسارات الروحية ، و الفكرية في الوعي الإنساني العالمي ، و تشكيل الهوية الثقافية ، و تجددها ، من أهم الأفكار في دراسات أرنولد توينبي التاريخية ، و الحضارية ؛ فهو يناقش نشوء الحضارة انطلاقا من عملية اتصال إبداعية بين الأنا ، و الآخر ، و كذلك من لحظات التجدد الكامنة في العنصر الثقافي السائد نفسه . و أرى أن عملية تداخل العناصر الثقافية – عند توينبي – بما تحمل من دلالات الصراع ، و الاختلاف ، و الإكمال ، تتميز بأمرين : الأول : الامتداد في الزمان ، و المكان ؛ فالعنصر الثقافي يتميز بالتحول الداخلي في بنيته ، و يظل طيفا في الآخر المختلف ، و من ثم فهو يقاوم الحدود ، و البنى الثابتة من خلال عملية تفاعل معقدة بين الظروف السياسية ، و علاقة الوعي الإنساني بالقوى الروحية ، و التراث الثقافي الأدبي ، و الفني ، و أرى أن مثل هذه العلاقات – في شكولها اللامركزية – تنتج صورا بالغة النسبية من الأعمال الفنية ، و الممارسات الثقافية المعاصرة ، كما تمتد في الأبحاث الحضارية ، و الثقافية ؛ فإيهاب حسن يؤسس للعالمية الجديدة في سياق التسامح ، و تجدد الروابط بين النصوص ، و الأنساق الثقافية المختلفة ، و المتعارضة ، أما بودريار فيعيد قراءة الظواهر الحضارية انطلاقا من الجانب الإبداعي التمثيلي . إن مثل هذه القراءات المحتملة لتحولات العنصر الثقافي الزمكانية تؤسس للتجدد البنيوي من جهة ، و إحداث الطفرات الإبداعية ذات الطابع الإنساني في إشارات الاختلاف التي يكتسبها العنصر في سياقه الجديد من جهة أخرى في فكر توينبي . الثاني : الجانب الإبداعي المضاف للعنصر الثقافي ، و يتجلى في الكيفية التي تؤول بها الثقافة الطليعية تراثها الإنساني السابق ، و كذلك تأويل المؤرخ للتفاعل الخفي بين الثقافات ، و تبدو النزعة الأخيرة واضحة في أعمال توينبي ، و قراءاته للتفاعلات بين تراث البرابرة ، و الثقافة الهيلينية ، ثم الرومانية ، و العصور الوسطى . إن الروابط التأويلية تسهم في عملية الإكمال ، و التجدد ، و الإضافة للعناصر الثقافية ، و تعكس أهمية الوعي المبدع في إنتاج الحضارة ؛ إذ إن تكراره يدل على تجدد التجربة التاريخية ، و فكرة النشوء الاجتماعي ، و الفني . و قد قدم الفن تأويلات عديدة للعالم منذ النقوش الجدارية للطواطم ، و التمثيل المبدع للعناصر الروحية ، حتى اتجه للنسبية ، و تعقيد المنظور ، و إعادة تشكيل العالم الداخلي في اللون ، ثم تفجير المجاز في الواقع فيما بعد الحداثة ، و هي رؤى تتمتع ببكارة النشوء المتجدد للفكر الإنساني ، و كذلك قدرة العناصر الثقافية على التجاور المبدع بعيدا عن ثنائية السائد ، و الهامشي . و هكذا أسهم تأويل توينبي للحضارة الهيلينية في الكشف عن التأويل المتجدد للعناصر التي أعاد الوعي إنتاجها ، أو أبدعها ، و أكسبها بعدا إنسانية في سياقات مختلفة . يرى توينبي أن الحضارة الهيلينية كان عليها أن تبدأ حياتها ، بأن تعيش على تراثين خلفهما البرابرة ؛ هما ملاحم هومر ، و مجموعة الآلهة التي صنعت على صورة الإنسان البربري الذي يتميز بالقوة ، و سوء السمعة ، و قد تجاوزت تقلبات الطبيعة القديمة ( راجع / أرنولد توينبي / تاريخ الحضارة الهيلينية / ترجمة رمزي جرجس / هيئة الكتاب المصرية 2003 ص 34 ) . يرصد توينبي النشوء الإبداعي للمبدأ الثقافي الإنساني ، و الذي يتخذ مظهر القوة الروحية الجديدة في وعي ، و لا وعي الإغريقي ، و ذلك من خلال أمرين : الأول : ولادة النزعة الإنسانية من القوى الغائمة المختلطة ؛ إذ يرصد صيرورة هذه القوى في بعدي القوة الخارقة ، و الانفعالات الإنسانية المتطرفة في آن . إن هيمنة القوى الغريزية على الوعي البشري كانت في طور التحول لحدود الأنا الإنساني دون أن تفقد الهيمنة المجردة الكامنة في تاريخها القديم ، و من ثم الثقافات ، و الفنون الأخرى ؛ فنظرة توينبي للعنصر الإنساني لا يمكن عزلها عن الثقافات القديمة جميعها ، و بخاصة تراث البرابرة . الثاني : امتزاج الفن بالقوى الروحية ، و الثقافة بحيث لا يمكن فصل أحدهما عن الآخر ، و كأن العنصر الخيالي الإبداعي كان من أهم أدوات تشكيل الوعي البشري ، و تطوره دائما حتى صارت الأحداث السياسية ، و السير الشخصية ، و علامات الحياة اليومية ممزوجة بالسرد ، و التأويل ، و التحويل المجازي الكامن في نسيجها نفسه الآن . و إن قراءة الإلياذة ، و الأوديسا تكشف عن الأدوار الديناميكية للقوى الروحية الإبداعية في وعي الإغريقي في مسار معركة طروادة ، و ما بعدها ؛ مثل زيوس ، و أبولو ، و أثينا ، و بوسيدون ، و غيرها . و لكن تلك القوى كانت منقسمة بين الجانب الفني ، و القوة المتوارثة من الثقافات الأخرى ، و درجات حضورها النسبي في الذات الإنسانية الوليدة . و أرى أن النزعة الإنسانية قد ولدت – طبقا لتوينبي – مختلطة بقوة جمالية كبيرة ، تمتص الفن داخل بنيتها الغامضة ، بينما يتجه الإبداع الآن لتفتيت العناصر الثقافية فيما وراء البنية نفسها ؛ إذ صار مجموعة من التكوينات اللامركزية . و ينتقل توينبي إلى وصف نظام المدينة الدولة عند الإغريق ، و من أهم سماته تقديس القوة الجماعية الإنسانية ، و إبراز المواهب الخلاقة ، و ارتباط المكان بعلامة روحية خاصة ؛ مثل أفروديت عند الكورنثيين ، و بوسيدون عند الكورنثيين الجوابين للبحار ، ثم يقوم بنقد ، و تفكيك منطق المدينة الدولة من الداخل ؛ إذ إن وجوده في صيغة الجمع يحمل بين ثناياه عنصر الحرب ، كما أن الفئة التي تتمتع بالخافز على العمل هي الذكور ، دون النساء ، و العبيد . و يجمع توينبي هنا بين المكان ، و النزعة الإبداعية ، و الميتافيزيقا في وعي الإغريقي ، و كأن الإشارات الثقافية كانت تمثيلا إبداعيا للمجموعات الفريدة من البشر في امتزاجها بالمكان . لم يكن – إذا – النظام السياسي عند توينبي معزولا عن الإبداع ، و دوره في تشكيل الإنسان في صوره المختلطة بالقوى البربرية الملتبسة ، أو في نشوء الخصوصية الثقافية للمجموع الجزئي ؛ فالوعي بالوجود في العالم أسهم في تكوين طبيعة النظام السياسي ، و من ثم الانتماء إلى إشارات ثقافية ، و جغرافية بعينها . و قد فكك توينبي المركزيات المتنوعة عن طريق الصراع الداخلي في بنية المجموع ، و كذلك في المركزية البنيوية نفسها للمجموعات الجزئية ، و كأنه يستشرف نوعا آخر من الفردية يقوم على تجاوز البنى الصلبة عن طريق الإكمال ، أو الإبداع المستمر للآخر . و يقرأ توينبي نشأة الدراما الإغريقية انطلاقا من اتساع المبدأ الإبداعي الكامن في طقوس ديونسيوس ، و مدى تفاعلها مع الثقافات الأخرى ؛ إذ يرصد بدايات المسرح في طقوس زواج ، و موت ديونسيوس ، و الاستعراضات الجماعية التي تشبه مسرح النو الياباني ، و ما فيها من امتزاج الشهوة بالتقديس ، ثم تطور التراجيديا عند إيسخيلوس ، و سوفوكليس ؛ فقد استخدما أساطير متنوعة ، و عددا أكبر من الممثلين . و نلاحظ نقطتين في حديث توينبي عن نشوء الدراما : الأولى : اختلاط الممارسات الثقافية ، و التمثيلية بغرائز الحياة ، و الموت ، طبقا لفرويد ، و لكن دون أن تتبلور في العالم الداخلي للفرد ، أو تتميز في عمل فني مستقل . إنها تعيد تشكيل اللاوعي الإنساني في صور ، و علامات عديدة بين الثقافات المختلفة ، و من ثم قارن توينبي بين ممارسات الرقص عند الإغريق ، و مسرح النو فيما يخص الغرائز الجماعية ، و البدايات الثقافية الغامضة للعمل الفني . لقد امتزجت الممارسات الثقافية هنا – على نحو أصلي – بالنزعة التمثيلية الإبداعية التي تجلت بوضوح في علامة القناع ، و ما يحمله من خصوصية مفككة ؛ إذ تجمع بين عواطف الجنس البشري ، و الجانب الدرامي الفني معا ، و كذلك تحمل دلالة الاستعراض التمثيلي داخل الممارسة الثقافية نفسها . الثانية : تأكيد مبدأ الإبداع المضاعف ؛ أي اتساع النزعة التمثيلية تدريجيا داخل الطقوس ، و مظاهر الحياة ؛ فاللحظة الإبداعية تتكاثر أفقيا ، و رأسيا من داخل تطرف الغرائز ، و الممارسات الثقافية ؛ إذ تتداخل مع أزمنة ، و ثقافات أخرى ، و كذلك تتوسع بالجانب التمثيلي في الثقافة الإغريقية على نحو خاص ، حيث تتكاثر الأساطير ، و أدوار الممثلين ؛ لتبدو الدراما في صورة فريدة ، و متغيرة ، و أكثر قربا من النزعة الإنسانية . و تشير الأقنعة في هذا السياق إلى الجدل القديم بين الذات ، و الوظيفة ؛ إذ تشير إلى القوة الجمعية اللاواعية ، ثم التفرد التمثيلي الدرامي ، بينما تنتشر الوظائف في التفكيك المعاصر ؛ لتتجاوز البنية ، و تاريخها في الفن ، و إن جاء هذا التجاوز من تاريخ الذات الإبداعية ، و خصوصيتها المفرطة طوال مراحل الحداثة . و يرصد توينبي مبدأ المدينة الدولة ، و اتساعه بشكل مختلف عند الرومان ، فيما يشبه الإكمال الثقافي ؛ فقد مثلت الهوية الرومانية عنصرا مضافا عند بعض الشعوب ، فأحدثت ازدواجية في الهوية . إن اتساع الهوية في فكر توينبي يدل على امتداد العنصر الثقافي الهيليني كمكمل مختلف لا يمكن تكراره ، أو نفيه ، و إنما يظل في مسافة طيفية بين الثقافات ، و الأزمنة المختلفة ، مثلما يمثل التسامح الحضاري عنصرا مولدا من تكاثر المكملات الثقافية التي رصدها توينبي ، و ديورانت ، و إيهاب حسن ، و غيرهم . و قد لاحظ فريدريك نيتشه أن الفيلسوف وجد عند الإغريق بشكل شرعي ، و غير مذنب ، و كذلك ابتكارهم للعناصر الوافدة بصورة أكثر نقاء ( راجع / نيتشه / الفلسفة في العصر المأساوي الإغريقي / ترجمة سهيل القش / المؤسسة الجامعية للدراسات و النشر ببيروت 1983 ص 41 ) . و تصب أفكار نيتشه في مبدأ إعادة الإنتاج ، و قبول الثقافة السائدة للمبدأ الإبداعي في الفكر ، و الثقافة ، و الأدب . إن عملية التحول تكمن في الأبنية الكبرى للوعي ، و الحياة عند نيتشه ، و هو يقوم على إعادة قراءة لعنصر ثقافي داخل البنية ، أو خارجها ، مثلما أسس توينبي الحوارية الحضارية المختلطة بلحظة اختلاف أصيلة لا يمكن عزلها عن المبادئ الثقافية الأولى .
#محمد_سمير_عبد_السلام (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الاندماج الأول بالعالم .. قراءة في تفاصيل ، و تفاصيل أخرى ل
...
-
سرد في نسيج الحجر .. تأملات في طبعات الأيدي القديمة
-
امتداد التجارب النسائية .. قراءة في نساء طروادة ل يوريبيدس
-
سياق شعري يشبه الحياة .. قراءة في تجربة فاطمة ناعوت
-
تأملات جمالية في الأنا الأعلى
-
تجاوز الذات التاريخية .. قراءة في أحب نورا .. أكره نورهان ل
...
-
العولمة ، و الاختلاف
-
شهوة الكتابة ، و نشوة الغياب .. قراءة في الرغام ل علاء عبد ا
...
-
الأنا ، و إيحاءات الأشياء الصغيرة .. قراءة في اسمي ليس صعبا
...
-
التأويل الإبداعي ، و دراسة التاريخ .. قراءة في دروس التاريخ
...
-
الانتشار الإبداعي ، و التناقض في قضايا النوع
-
تجدد الحياة في صمت النهايات .. قراءة في مواسم للحنين ل محمد
...
-
صراع ضد الحتميات السائدة .. قراءة في نقطة النور ل بهاء طاهر
-
دراسة الهوية الثقافية تتميز بالتعقيد ، و التداخل
-
وهج البدايات النصية .. قراءة في حجر يطفو على الماء ل رفعت سل
...
-
انطباعات حسية تقاوم العدم .. قراءة في نصوص منى وفيق
-
الصوت في نشوء متكرر .. قراءة في إلى النهار الماضي ل .. رفعت
...
-
مرح الغياب .. قراءة في كزهر اللوز أو أبعد ل .. محمود درويش
-
السينما .. فن الأشباح
-
الأخيلة المجردة للجسد .. قراءة في الطريق إلى روما ل شريفة ال
...
المزيد.....
-
مصدر يوضح لـCNN موقف إسرائيل بشأن الرد الإيراني المحتمل
-
من 7 دولارات إلى قبعة موقّعة.. حرب الرسائل النصية تستعر بين
...
-
بلينكن يتحدث عن تقدم في كيفية تنفيذ القرار 1701
-
بيان مصري ثالث للرد على مزاعم التعاون مع الجيش الإسرائيلي..
...
-
داعية مصري يتحدث حول فريضة يعتقد أنها غائبة عن معظم المسلمين
...
-
الهجوم السابع.. -المقاومة في العراق- تعلن ضرب هدف حيوي جنوب
...
-
استنفار واسع بعد حريق هائل في كسب السورية (فيديو)
-
لامي: ما يحدث في غزة ليس إبادة جماعية
-
روسيا تطور طائرة مسيّرة حاملة للدرونات
-
-حزب الله- يكشف خسائر الجيش الإسرائيلي منذ بداية -المناورة ا
...
المزيد.....
-
الانسان في فجر الحضارة
/ مالك ابوعليا
-
مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات
...
/ مالك ابوعليا
-
مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا
...
/ أبو الحسن سلام
-
تاريخ البشرية القديم
/ مالك ابوعليا
-
تراث بحزاني النسخة الاخيرة
/ ممتاز حسين خلو
-
فى الأسطورة العرقية اليهودية
/ سعيد العليمى
-
غورباتشوف والانهيار السوفيتي
/ دلير زنكنة
-
الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة
/ نايف سلوم
-
الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية
/ زينب محمد عبد الرحيم
-
عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر
/ أحمد رباص
المزيد.....
|