|
صراع ضد الحتميات السائدة .. قراءة في نقطة النور ل بهاء طاهر
محمد سمير عبد السلام
الحوار المتمدن-العدد: 2454 - 2008 / 11 / 3 - 06:46
المحور:
الادب والفن
تتميز بعض الكتابات الإبداعية الجديدة بمحاولة القبض على الظواهر الروحية ، و استعادتها في شكول عديدة مختلفة تؤكد ثراء التجربة الإنسانية ، و قدرتها على تجاوز المنطق الثقافي الشمولي الذي يهمش مثل هذه الظواهر ، و يؤجلها ، و لكنها تظل فاعلة من خلال التمرد ، و الاختلاف ، و الحب ، و التصوف ، و الحلم ، و الفن ، و الارتقاء المعرفي بالذات ، في توحدها باللاوعي ، و تداخلها الثقافي ، و الروحي مع الآخر . و قد رصدت الدراسات الثقافية المعاصرة ، أهمية هذا التحول الروحي في الكتابات المعاصرة ، و أرى أن بروز هذه الظاهرة يدل على ثلاث نقاط : الأولي : أن الحياة الروحية تنمو كظواهر لها خاصية التكرار الأول في الوعي و اللاوعي ، مما يؤكد أصالتها ، و قدرتها على تحريف المسار الحتمي للشخصية ، و سياقها الحضاري . الثانية : قدرة الظواهر الروحية على تجاوز منطق السوق ، و سيادة القيم الحتمية ، و المادية مما يؤكد وجود عمليات استبدال و صراع بين أكثر من مبدأ ثقافي ، و يذكرنا هذا المبدأ بدراسات رايموند ويليامز ، و إيجلتون ، و دريدا حيث يفقد المركز الثقافي الهيمنة على الواقع ، أو النص . الثالثة : التداخل بين عناصر ، و أشكال الحياة الروحية ، و من ثم التطور الخلاق دون نهاية لتجليات هذه الحياة . و بهذا الصدد يرى كارل يونج في المبادئ الأساسية لعلم النفس التحليلي ، أن تداخل المصادر المادية ، و العقلية المنتجة للحقائق الروحية سينهي قضية النزاع بين الروح ، و المادة ؛ فالصور الذهنية التي تخلفها النار تشبه الخوف من الأطياف المجردة ، كما يرى أن كلا من ثقافات الشرق ، و الغرب يمكنها ولوج الروح الإنسانية الغامضة ( راجع – Carl Jung - The Basic Postulates Of Analytical Psychology ) . إن كشف يونج عن أهمية الحقائق الروحية و ولوجها لبنية المادة ، و أخيلتها يدل على فاعلية هذه الحياة الخفية ، و تجلياتها الفريدة ، و مظاهرها التي تؤكد ثقافة الاختلاف مقابل سيادة قيمة ثقافية واحدة ، و لكن بروز الكتابة عن هذه الظواهر مرة أخرى في الأدب المعاصر يعكس قوة مضطربة خلاقة ، و مجهولة تصارع الحتميات السائدة ، و تحاول استبدالها . و من أهم النصوص التي تؤكد هذا التوجه في الكتابة " نقطة النور " لبهاء طاهر ، و قد صدرت عن هيئة الكتاب المصرية ، و دار الهلال . لقد حاول بهاء طاهر القبض على الطاقة الروحية القوية ، و المنقسمة من خلال شخصية سالم ؛ فهو نقطة التمرد في نشوئها ، و تطورها المضاد لمنطق الأبوية الثقافية ؛ فالشتائم التي كان يطلقها ضد أفراد عائلته ، ثم الأصوات التي كان يعايشها عقب فراق لبنى ، تدل على التنازع بين ارتقاء الوعي عن طريق التوحد بالظواهر الروحية الأعلى ، و السقوط في آلام الحتميات الشمولية التي تجعل من هذه الظواهر طاقة مدمرة تؤكد اختلافا لا يمكن القبض عليه ، أو تحديده ، و لكن المسار الروحي لسالم ينتهي في الزهد ، و تفكيك منطق السوق من خلاله ؛ فقد استغل عمله كمحاسب متفوق في شركة في احتقار قداسة المال السائدة ، فخصص دخله لمساعدة أخته فوزية ، و أبيه شعبان . لقد حول سالم دورة المال الإيجابية في اتجاه سلبي قوامه استعادة الحب ، و الرغبة في التوحد ، بالعوالم الروحية ، التي بدأ تكوينه المادي / الإبداعي في إنتاجها خارج الذات بمدلولها الضيق . هل كان سالم هو الروح الإنسانية القلقة في مسيرتها نحو العناصر الكونية الفريدة الكامنة في اللاوعي ؟ هل كان انحرافا عصابيا للمادة ؟ إن سالم يعبر ذاته في ذلك الآخر المتمرد ، و تجلياته الروحية الكامنة في رغبة الانفصال ، و في احتقار الجد الأخير للجسد ، و انهيار المنزل الذي يخلف وراءه أشباح الذكرى ، و سقوط المادة في نقطة النور الغائمة ، التي تقاوم التحديد. تقوم رواية " نقطة النور " على تطور العلاقات الروحية في ثلاث شخصيات ؛ الجد توفيق ، و سالم ، و لبنى ، و كل منهم يحمل رغبة لا واعية في معرفة ذاته من خلال الآخر ؛ فالجد يحمل أطياف زوجته الأولى سمية ، و نصائح زميله أبي خطوة المتصوف ، و سالم يرغب في التوحد بالقوى الروحية المجهولة ، و كذلك لبنى ، و الأخيرة تبحث عن التوحد بين المادة ، و الروح معا في سالم . و قد جمع السارد بين تداخل وعي الشخصيات الثلاث من خلال الحوار ، و كذلك استبطان كل منهم ؛ ليكشف عن الرغبة في المعرفة بتلك النقطة التي تلتقي عندها الذات بالروح الإنسانية المفقودة . و تكشف الإشارات الثقافية – النصية عن تحول المجتمع باتجاه قيم المنفعة وحدها ، و إهمال المبدأ الإنساني ، و من ثم صارت الرواية بحد ذاتها استعادة للعنصر الروحي الكامن في هذا المجتمع ، و قدرته على التطور من خلال هذه الشخصيات ، و غيرها ، دون نهاية . إن بهاء طاهر يؤرخ لولادة مبدأ الروح منذ كانت طاقة غائمة في سالم حتى انشطارها إلى تجاوز الجسد في الجد ، و ولوج طاقة الحب للمادة في كل من سالم ، و لبنى ؛ و كأنه يؤكد تشابه البدايات ، و النهايات الغامضة لهذا المبدأ . هذا الغموض يدل على قداسة روح الإنسان في مقابل آلية السلطة الثقافية ، و هنا تظل نقطة النور معلقة مرة أخرى ؛ لتكمل عمليات التطور ، و الاستبدال دون الإحاطة المعرفية بها . إن نقطة النور في رواية بهاء طاهر ترتبط بالمعرفة ، و الكشف لا الوجود ، و الكينونة المتعينة في الزمان ، و المكان ؛ فالوجود التاريخي يعني التحقق ، و البداية ، و النهاية . و رغم تداخله مع الغياب ، فإن النقطة تمثل الوجود قبل حالتي الحضور و الغياب ؛ فهي مجال توليدي للإبداع و المعرفة معا ، و يظل البحث عنها دائريا بينما تتجلى هي في التداخل الروحي بين الأصوات ، و الشخصيات ، و مفردات الواقع ، و تظل مع ذلك مؤجلة في أخيلة المادة ، و المستويات العميقة من الأنا . تتجمع إذا الوحدات السردية في نص بهاء طاهر حول حدث خفي يقوم على لقاء الشخصية بالظاهرة الروحية ، و من جهة أخرى التجليات المختلفة التي تبدو من خلالها هذه الظاهرة بصورة كونية تتحدى الزمكانية . و نستطيع أن نرصد بعض المستويات الدائرية لهذه الظاهرة من خلال بعض المقاطع السردية في النص . أولا : بكارة التعرف على الآخر الطيفي ، الذي يظل وجوده معلقا في العوالم الروحية المتخيلة ، و فيها يسود الإحساس بالغربة ، و الانفصال ، و القلق ، و هو ما شعر به سالم عندما وصف للجد الكائنات ، و الأصوات التي كان يراها في مرضه ؛ فقد كانت تتجلى في صور غزلان ، و خيول ، أو ترتدي فساتين ، أو لباس العسكر ، أو المعاطف البيضاء ، أو في هيئة أحجار ، أو أشجار ، كما كانت تحدث ضجة كبيرة . إن سالم هنا يعاين لحظات التكوين الأولى دون أن تتحقق في مادة بعينها ، و كأنها تجارب للتحول الإبداعي الكامن في اللاوعي ، و لكنه تحول يتميز بالانفصال ، و العصابية ؛ لأنه يصارع المادة ، و يحاكي صخبها الأول في مواجهة الوعي . هل هي دهشة اللقاء الأول بالعالم ؟ أم أنها تحاكيها من خلال ما يتجاوزها و هو العالم المتخيل الذي يجسد القوة الغريبة في مستوى التحول لا الوجود ؟ و رغم خفوت لقاء سالم بهذه الكائنات فقد ظلت الظاهرة الروحية تراوده ، و لكن في مستوى النور ، و التصوف الذي يدفعه لاحتقار المال . ثانيا : التفاعل الخلاق مع الأطياف ؛ و قد يكون للأطياف أصل في الذاكرة ، و لكنها تتخذ موقع العارف ، الذي يعيش عالما جديدا ضمن السياق الروحي ، و يوشك ذلك السياق أن يمتص من يراه ، أو يتجاوز الأخير من خلاله آلام الجسد ، و هذا المستوى من التجربة الروحية يستعيد عناصر ثقافية عديدة كامنة في اللاوعي الجمعي مثل التراث البوذي ، و استبدال الجسد بالروح عند القديس بولس ، و كذلك كتابات النفري ، و لكن بهاء طاهر لا يكتفي بهذا المستوى من التصوف الذي تجلى بصورة أوضح في شخصية الباشكاتب عقب مرضه ، و بحثه عن ذاته ، و لكنه يؤكد أيضا مستوى الحب ، و فيه يستعاد الجسد مرة أخرى ، و تظل نقطة النور تتراوح بين تحولات الجسد ، ثم غيابه ، ثم استعادته ، أو تأجيله . لقد رأى الباشكاتب حلما يقف فيه طيف سمية في الصحراء ، و تشير له بيدها نحو الخلاء ، و فيه يرى وجوها كأنه يعرفها ، و لا يتذكرها . هل هي نبوءة التحرر ؟ أم الغياب ؟ إنه العالم الروحي الذي يغوي الجد بالتفاعل معه ، و التحرر من المرض . هل كان هذا العالم كامنا في الذاكرة ، و ينمو داخليا في و عي ، و لا وعي الجد ؟ إن أطياف أبي خطوة ، و سمية تشير إلى الاتساع الكوني للروح ، في مقابل مرض الجد ، و انهيار منزله الواقعي ، و من ثم بدأ يكتشف الحياة الإبداعية للغياب . ثالثا : بهجة الحب ، و الخلاص المتخيل معا ، و في هذا المستوى تتجلى نقطة النور من خلال رؤية سالم ، و قد التقى بلبنى في ممر مظلم ، و حلق فوقهما طائر أبيض ضخم له مخالب ، و فهربا ثم وجدا نقطة النور في نهاية الظلمة . و يشير المقطع السردي السابق إلى خلاص سالم من الشعور بالغربة أمام الكائن الروحي القوي الذي يشبه الطوطم الأول في الأرض ، و هو خلاص يختلط بالحب ، و التباس المجال الإبداعي لنقطة النور . محمد سمير عبد السلام – مصر
#محمد_سمير_عبد_السلام (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
دراسة الهوية الثقافية تتميز بالتعقيد ، و التداخل
-
وهج البدايات النصية .. قراءة في حجر يطفو على الماء ل رفعت سل
...
-
انطباعات حسية تقاوم العدم .. قراءة في نصوص منى وفيق
-
الصوت في نشوء متكرر .. قراءة في إلى النهار الماضي ل .. رفعت
...
-
مرح الغياب .. قراءة في كزهر اللوز أو أبعد ل .. محمود درويش
-
السينما .. فن الأشباح
-
الأخيلة المجردة للجسد .. قراءة في الطريق إلى روما ل شريفة ال
...
-
عن الفوتوغرافيا
-
الرغبة في تخييل العالم .. قراءة في قارورة صمغ ل فاطمة ناعوت
-
القوة الخلاقة للرعب و التمرد في كتابة هنري ميلر
-
سحر توفيق تستعيد الرجل بلغة أنثوية
-
هارولد بلوم .. و إعادة إنتاج الأثر الشعري
-
تجدد الثقافة الشعبية
-
تعدد الدلالات و الأصوات .. قراءة في اخلص لبحرك لمسعود شومان
-
السياق الجمالي للعقاب .. قراءة في أقلب الإسكندرية على أجنابه
...
-
الآلية .. و العمل الإبداعي
-
إعادة اكتشاف روح الأشياء .. قراءة في بريق لا يحتمل لسمر نور
-
الصيرورة الإبداعية للزمن .. قراءة في فوق الحياة قليلا ل .. س
...
-
الشخصية في تحول .. قراءة في عمرة الدار ل .. هويدا صالح
-
العابرون ، و تبدل حالات الوعي
المزيد.....
-
نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم
...
-
هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية
...
-
بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن
...
-
العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
-
-من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
-
فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
-
باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح
...
-
مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل
...
-
لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش
...
-
مغنية تسقط صريعة على المسرح بعد تعثرها بفستانها!
المزيد.....
-
صغار لكن..
/ سليمان جبران
-
لا ميّةُ العراق
/ نزار ماضي
-
تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي
/ لمى محمد
-
علي السوري -الحب بالأزرق-
/ لمى محمد
-
صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ
...
/ عبد الحسين شعبان
-
غابة ـ قصص قصيرة جدا
/ حسين جداونه
-
اسبوع الآلام "عشر روايات قصار
/ محمود شاهين
-
أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي
/ بدري حسون فريد
-
أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية
/ علي ماجد شبو
المزيد.....
|