أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عادل الخياط - تحت معبد الضباب















المزيد.....

تحت معبد الضباب


عادل الخياط

الحوار المتمدن-العدد: 818 - 2004 / 4 / 28 - 07:19
المحور: الادب والفن
    


سوف نبحر مع ثامر طلول ذي اللون الجنوبي , ذي العينين المرتبكتيــن , والشعر الفاحم من على ساحل - دجلة - لنلقي مراسينا على ساحل - التايمز حـــيث الأضواء القزحية تخبو وسط فضاء الضباب الذي يُخيم على معالم عاصمــة السكسون الأزليـــــــــة .
كان ليل الخامس عشر من ديسمبر في هزيعه الأول حين أخذ الزمهرير يُحيل الموجودات نثارا جليديا كافرا ! وكانت حركة الخلق قد إنبرت معه تـــــزداد سرعة أكبر , وهُم ينزوون في النوادي الليلية والمقاهي طلبا للدفء . ومن داخل الحانة الداكنة , ومن خلف الحاجز الزجاجي كانت سادنة الــــــرؤوس المخمورة تُراقب إنزواء الخلق .. حتى أمسى الشارع قدام ناظريها خاويــــا تماما . لكنه الوحيد الذي لم يبرح مكانه !! أثار فضولها ذلك الماسوشـــــي المتمرد! أطالت التحديق إليه .. ثم همست : " إنه برومثيوس إله النار , هل حقا لم يهزه هذا الزمهرير الحاقد قيد شعرة , والغريب إنه في واجهة النسيم ويلقي بمعطفه جانبا !؟
كان ثامر يجلس ساهما بين جذوع الشجر العاري الممتد على ضفاف التايمز , وقبالة الموج المُتهدل كشعر حسناء سكسونية , كان يُحدق ولا يرى : برج لندن الذي يُعانق السماء , دير وستمنستر وكنيسته القوطية , كاتدرائيـة القديس بولس وقبور ملوك الإنكليز ورجالاتهم , القصر البرلماني والكنائس المخروطية الشبيهة بشجر الصنوبر .. لكن ثامر , كانت تتراءى قبالته في خضم تلك المعالم المُغطاة بالضباب والدخان الأسود , معالم جذوره الضاربة في الأعماق : الأبراج الشاهقة والمسلات , القباب والمآذن , النُصب الفنية ومدارس الأولين وأسوارهم و.. و .. و .. تمتمَ وهو يُحدق : كان لا بــد أن يحدث هذا , المرء لا يُلدغ من جحر مرتين .. " فجأة أجفله - جرس بيغ بن - وهو يُدوي في فضاء المدينة الغائمة .. زفرَ حسرة من أعماقه , أخــــــرج سيجارة شعلها , ثم تناول صحيفة جنبه وأخذ يتصفحها .. وبعد برهة وهو يتصفح , مدَ عنقه وقرَّب الصحيفة إليه , ثم همس وهو يقرأ : رحلـــــــــــة إستكشافية نحو آثار بلاد ما بين النهرين ." .. ثم وبعد هُنيهة قال مُعقبـــــاً بصوت خفيض : " المفروض أن يُنقبوا عن أشياء أُخرى . " وصمت , وقد زاغ فكره بعيدا .. أخيرا وجدَ نفسه في بيت ذي باحة مكشوفة وهو يُخاطــب أهله :" لن أكون كبش فداء هذه المرة أيضا , في المرة السابقة حدثَ هــذا للاشيء , فكيف هذه المرة وقد وجدوا قسيمة ترشيح أكلَ الدهر عليها فــي مِجر طاولتي ؟! إزاء هؤلاء القوم ماذا بوسع المرء أن يفعل ؟ وليس ثمــة لغة في هذا الكون يستطيع الإنسان التفاهم بها معهم .." فززه هذه المــــرة لسع سيجاره , فرمى عقب السيجار بقوة ودعكَ أصابعه وتناولَ معطفــــــه المركون بجانبه , نهض وقد إرتسم الغيض على وجهه .إنه الآن في واجهة الطرف الآخر , تحرك بخطوات ثقيلة حاملا معطفه بساعده الأيمن في إتجاه الشارع الإسفلتي الذي يفصل الرصيف الآخر عن منخفض الضفة الأخضــر .
وقفَ ينظر في أسماء الملاهي والحانات , فأثاره إسم حانة بعنــــــــــــــوان
( كليوباتره ) فإبتسم وقال :" حسن , فلنسكر في حضرة - كليوباتره - . إجتاز الشارع ثم دخل البار , واجهته عتمة حمراء : ضوء أحمر يصب أشعة حمراء خافتة فوق أفراد مبعثرين على طاولات متفرقة .. جال ببصره فــــي أنحاء المكان : رسوم كهوف ومعابد قديمة وأزقة ضيقة , تحفيــــــــــــــات ومنحوتات لشعراء إغريق ورومان : أسخيلس, فرجيل , أوبيدس.. وغيرهم ومنحوت لـ " زفس " إله اليونان , وآخر لـ " فينوس " آلهة الجمـــــــــال
الرومانية , وثمة طرازات معابد الآسيويين الصُفر : مقوسة مثل أجنحـــــة الغربان .. ذُهل لذلك وقال :" غريب , هل حقا هذه الحانة في قلب بــــــــلاد الصقيع ؟" . قالت البرونزية بصوت مسموع , وبعد طول نظر إليه :" ربما تصور نفسه في متحف ." فجاء رنين كلماتها في أذنه . فقال :" وربمـــــــا في معبد , أجل كنت على وشك الإنصراف ." . دعته إلى طاولتها , فلــــــــم يُمانع . إستدعى النادل , فنهضت هي , فرأى قميصها الصارخ الحُمــــــــرة ينحسر على صدرها المتموج , كذلك بنطلونها الأبيض يُضيق الخناق على ردفيــــن مكتنزين !! جلبت له زجاجة كونياك وقالت :" أنه مصنوع خصيصاً لأهــــل الأسكيمو ! فزاغ بعينيه عنها وقال :" وأين هو البرد ؟" . زادها شغفــــــــاً فهتفت في سرها :" هل حقا لا يؤثر فيه الزمهرير ؟" . ثم صبت له ولهــــا وشربا نخب اللقاء . لكنه دارَ كأسا آخر وشربه ثم قال :" أناعاشق قبل أن أولد للخمر !! بعدها سحبَ كرسيه وإتكأ بكوعيه إلى الطاولة وسألها :"هـل تعملين هنا ؟ " .
:" أنا صاحبة البار , قالت " رجعَ سائلا :" هل أنتِ إنكليزية ؟"
:" أجل من سواحل بحر الشمال , إسمي كليوباتره ."
آه , يعني كليوباتره ليس مجرد إسم للبار ." ثم حدقَ فيها بشيء مـــــن الإستغراب وأردف سائلا :" لكن هذا الإسم غريب على الإنكليز ؟"
:" أنا إسمي الحقيقي ماريا , لكني سميت نفسي بهذا الإسم ."
:" لماذا , هل أنتِ من أصل هلنستي ؟" . ضحكت ثم قالت:" لا , ولكنــــي أعشق الرموز القديمة , وعلى الأخص الإغريقية والشرقية ." . إبتسم وقال
:" ولهذا كونت حانتك على هيئة معبد شرقي ."
:" نعم , وربما لأنني أعشق الغموض والتصوف أيضا .". ثم أسندت حنكها على راحة يدها وإستدركت سائلة :" الآن أجبني , وأنت من أين ؟"
:" عربي , من بلاد النهرين ."
:" ما سبب مجيئك إلى هنا , للدراسة ؟"
:" أوه , دعك عن هذا , ولكن لا بأس لنقل للدراسة ."
:" ولكن ألم يؤثر فيك البرد , تابعت مكوثك على ضفة الشط ؟ "
:" أنا إبن الأرض الملتهبة , وقبل ذلك ثمة أشياء إذا دارت في الرأس تبطل الحواس !! " ثم أردف سائلا :" لكن قولي لي , هل حقا تعشقين التصوف؟"
فضحكت أيضا وقالت :" أجل ." . حدثَ نفسه :" ربما يرجع نسبها إلى - إبن جنيد - ." ثم قال لها :" التصوف من إختصاصنا , فهات ما عندكِ ." فقالت :" التصوف , فِعل وليس كلمات ."
:" أجل غير إن الفعل في النهاية ينعكس في أقوال مأثورة , كما نقله لنا أشياخنا .". فسألته :" نعم , وماذا قال أشياخك ؟" . فلحِّقَ نفسه :" لا بإلله عليك , أنا أسحب كلامي , دعك عن هذا الموضوع ." . ثم تناول كأســــــاً ممتلئاً أمامه .. فقالت هي :" على أي حال , هناك تصوف من نوع آخر ؟" وإتكأت على كرسيها , ثم أخذت تحدق في عينيه مع فتور في عينيهـــــــــا وإبتسامة خفيفة ترتسم على شفتيها الإرجوانيتين !؟ .. لم يفهم شيئا , لكنه أخذ هو أيضا يتطلع في عينيها الزرقاوين .. وبعد هُنيهة حدثَ نفسه :" هاتان العينان أجمل من عيني زينب السوداوين , لكني لا أرى فيهما كما في عيني زينب - طيف الشرق الساحر - !! " .. ثم شعل سيجارة وسحب نفسا عميقا ليوغل الإبحار في عالم زينب وهو يُتمتم :" طيف الشرق .. الشرق الساحر .. الساحر..
بدءا رآها من بعيد تلج الزقاق وهي تمشي على مهل : لون حنطي , عيون غافية , وشعر طاعن السواد , مشاكس , كأنها تقول له : ما أشد إزعاجك ! ! تتلصصها العيون من فوق السطوح ومن خلف النوافذ وفتحات الأبواب.. وتتدفق وجوه العابرين شبقا قاتلا وهم يحدون النظر فيها !! وحين إنتهـــت إليه قالت :" أتعبني المسير والزحام والعيون , لكن كل شيء ذاب في حُرقة شوقي إليك !!! " . فأجابها :" وأنا شوقي لا ينضب إليك . . " لكن فـــــــي خضم ذكراه نادته صاحبة الحانة :" هيه .. أين رحلت ؟" . فإنتبه إليها ثم قال :" رحلت إلى حيث أنا ؟ "
:" ماذا تعني ؟"
:" لاشيء , لعلي أبحث في عينيك عن شيء ما ."
:" وماذا وجدت ؟ "
:" لم أجد شيئاً غريباً , عيناك معالمها واضحة , نقيض عشقك للجنون !"
فقالت :" لكن كيف يحدث هذا ؟ "
إذ ذاك قال :" يحدث هذا لأن شموسنا أزلية , بينما شمسكم طارئة . نمــــل نحن الضوء فنلجأ إلى المعابد المعتمة , والحانات الخافتة , ونشتاق إلــــى السجون المظلمة , ولذلك نتأقلم معها سريعاً .. وهكذا نتواصل مع الظـــلام حتى يصيغ أرواحنا , فتصير سوداء مثل طائر الخفاش , لكن لها جذبــــــا رداريا مثل الخفاش أيضا !! أما أنتم , فسماؤكم ملبدة أبدا , فتلجأون إلـــى الأضواء , وتملأون عالمكم بشعاعها وتتفننون بها , وتظلون مع الضـوء حتى يُكون كياناتكم , ربما لهذا السبب إخترعتم المصباح الكهربائي , وبذلك تصيرون واضحي المعالم , ولكن في نفس الوقت تحنون إلى الغموض !!"
فأطلقت ضحكة قوية , وإسترسلت تضحك .. وضحكَ هو أيضا .. ثم قالــت هي :" ما أغرب هذا التفسير !" فقال هو في سره :" هذه المرأة تضحـــك كثيرا , وهي تصلح لهذا العالم - إمرأة جميلة وغبية لهذا العالم - .. لكنها وجدته نجما ساطعا وطارئ الحدوث في سمائها الملبدة حسب وصفـــــــه .
سألها :" وأنت ماذا رأيت ؟"
فصمتت برهة .. ثم قالت :" رأيت بوحا بلا حدود من الأسرار , حتى رموزك الواضحة أوقعتني في شرك ألغازها , فحيرني قوس قزح الممتد في عينيــك أي الألوان أختار ؟ " ثم فترت عيناها وإستدركت تهذي بصوت خفيــــــض وكأنها تردد طقوسا دينية مبهمة :" رأيت صدورا عارية سمراء تتراقـــص فوقها على وقع الطبول وتحت لهب المشاعل أفاع سامة , فوددت لو سرَت سمومها في شراييني .." ومدت كفيها ومسكت بكفيه .
الآن أدرك أي نوع من التصوف عنت هذه المرأة ! تناثرت الأصداء فــــــي رأسه , تفحصها وهي أشبه بالمُستلقية على الكرسي , فار الدم في عروقه وهو يُحدق في نهديها المتأهبين أبدا !! فجأة شخصت زينب وهو يقول لها :" أنتِ ومض من السحر تضطرم لوهجه النزوات الصبيانية !! "
فتُجيبه بخشوع قديس معتزل :" وأنت من لا يراك ولا يتيه في سُكـــــــرة الشهوات الجنونية !!.." وها هي , ها هي آلهة الجليد تذوب تحت وطــــأة جمره المُلتهب !! ضغطت على كفيه , فنظرَ إليها وقال يُحدث نفسه :" أي بون ! لكن لا بأس من الخوض في بحورها الجليدية ." . ونهضا , وقبل أن يبرحا المكان أطلق نظرة بعيدة .. كانت أدخنة الوقود المحترق تنساب فـــي جسد المدينة المُنهك , وكان أزيز المُحركات مع رقاص بيغ بن يخطان على جبين الجزيرة العائمة بتواصل أبدي روبوت التداعي البشري !!
مشيا نحو ممر ضيق .. وولجاه , ورويدا رويدا .. حتى ضاعا في لُجة عالم الصقيــــــــع ..



#عادل_الخياط (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- صفقة من لحم !
- إغتيال الرنتيسي وإشكالية الجنة والنار .. دعوة إلى جميع الإسل ...
- سين - عين .. تذكير إلى حازم جواد .. نص قصير جدا مُهدى إلى رو ...
- التاسع من نيسان ونهاية الفوهرر العروبي - 5
- التاسع من نيسان ونهاية الفوهرر العروبي --- 4
- ميكافيلية فوهرر العروبة القزمْ !؟ .................. --- 3
- ميكافيلية فوهرر العروبة القزمْ !
- ميكافيلية فوهرر العروبة القزمْ !؟
- حمدان الحسني ورحلة العذاب والإنفصام
- النفط أخصبَ المُخيلة العروبية بعد نضوبها !؟
- رؤيا الخراف الوحشيه
- قوميو البترول المعاكس
- هل أصبح سعدي يوسف قوميا ؟ رد على موضوع سعدي يوسف : بم نباهي ...
- على خلفية القرار 137 المجتمع السليم نتاج لدولة القانون والحر ...
- الإرهاب .... نظرة تاريخية موجزة
- أُسطورة بلاد الثلج
- حكاية رجل الأنترنت الذي فقد عقله
- شجرة السلطان


المزيد.....




- وفاة الفنان العراقي عامر جهاد
- الفنان السوداني أبو عركي البخيت فنار في زمن الحرب
- الفيلم الفلسطيني -الحياة حلوة- في مهرجان -هوت دوكس 31- بكندا ...
- البيت الأبيض يدين -بشدة- حكم إعدام مغني الراب الإيراني توماج ...
- شاهد.. فلسطين تهزم الرواية الإسرائيلية في الجامعات الأميركية ...
- -الكتب في حياتي-.. سيرة ذاتية لرجل الكتب كولن ويلسون
- عرض فيلم -السرب- بعد سنوات من التأجيل
- السجن 20 عاما لنجم عالمي استغل الأطفال في مواد إباحية (فيديو ...
- “مواصفات الورقة الإمتحانية وكامل التفاصيل” جدول امتحانات الث ...
- الامتحانات في هذا الموعد جهز نفسك.. مواعيد امتحانات نهاية ال ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عادل الخياط - تحت معبد الضباب