محمد علي ثابت
الحوار المتمدن-العدد: 2506 - 2008 / 12 / 25 - 05:01
المحور:
الادب والفن
رَهْبَة
---
تواتَرَتْ أنباء عن قُرب عودة راحِل منتظَر . وظُنَّ أنه قد لاحَ من وراء الغيوم – أخيراً – قُرص القمر . وباتَ أهل البلدة جميعاً يُمَنُّون أنفسهم بليال عامرة بالسَمَر . وشرعَ صاحب المقهى الوحيد فى البلدة يحسب أرباحه المأمولة إذا ما انصرف الناس من جديد إلى فعل السهر . أمَّا الحسناوات فَمَنَّيَنَ أنفسهن بنظرات وَلَه ماجن تقتحم تجاويف النوافذ المتربة وتُزيل ما تراكَم فى سنوات السكون من العجز والضجر . ومن بَعد قَحْط في غير أوانه، انهَمَر المطر . وهطلتْ البشارات المقذوفة من السماء على كل مَن صَبَر . واخْضَرَّتْ الأرض وأزْهر الشجر .. ومكثتُ أنا وحيداً من دون البَشَر . لا وجهي من الفرح انفطر . ولا قَوْل متفائل منِّى بَدَر . وكنتُ الوحيد بينهم الذى استشعر من رجوع الغائب أمارات الخطر . وأخذتُ أتساءل: كيف سيعود بعدما ظننتُ شرَّه للأبد قد زال وأندثر؟ . وكيف حماس الجمع للتصدى لشرِّه – متى شاء رجوعاً – قد تراجَع هكذا وفََتَر؟ . وكيف صاروا يقنعون أنفسهم – ضلالاً – بخطئهم حين ظنُّوا به السوء بالأمس البعيد, وكيف استساغوا العزف على أكْذَب وَتَر؟ . وسرعان ما تنامَت عندي المخاوف من الوشيك من تقلُّبات القَدَر . وصرتُ أتوجَّس خيفة من احتمال أن يؤلِّب العائدُ القومَ ضدِّي أو أن يوحي إليهم بأنه لأجل صالحهم برحيلي قد أمَر . وجعلني توجُّسي هذا لا أفصح لأيٍ منهم عما يدور في نفسي أو عن الحيلة التي قوامها في عقلي في إحدى الأمسيات اختَمَر
في البدابات
-------
ثم مَرَّ على البلدة يومان من النصف الأول من أمشير ملؤهما الهدوء الذي يُمَهِّد للعواصف . ثم لاحت في عقبهما مباشرة علامات رجوعه الكبرى . إذ غرَّدَت الطيور تغريداً ربيعياً يدغدغ العواطف . وقال واحد من الناس إنه سمع أهازيج باسم العائد أطلقتها عند الفجر فروع شجرة . وفي الصباح التالي كانت الجموع إلى مدخل القرية متجهة وكنتُ أنا على بوابتها المتهالكة أول واقف . ومن فرط فرحته – المزعومة – بصحة بشارة العودة، حرًّر عُمدة البلدة أغلب المجرمين والأسرى . وانتابني شك في ألًّا يكون تسريح كذلك مِن قبيل الأمر المصادِف . لكن كان عليًّ أن أكتم كل شَكّ وألَّا أنشغل بشئ عن لحظة التجلِّى الكبرى . فخطتى كلها ستُنَفَّذ فى دقيقة واحدة يتَعَيَّن علىَّ فيها ألا أكون بخائف . وبَعد أن أدحضَ إفكَه أمامهم سيوقن القوم من أننى كنت محقاً فى توجُّسى وأنني كنتُ أبْعَد منهم نظرة . وأظنُ أنه من بعد ذلك سيصعب – لكن لن يَستحيل – على المُجَرِّب التالى أن يوقعهم فى شباك كذبه بكلام مكرور زائف . وأظنهم لن يقنعوا أنفسهم بعد ذلك، وَهْمَاً، بأن الغائبين هم دائماً على حق أو بأن غيابهم من شأنه أن يطَهِّرَهُم أو أن يُنَقِّى فيهم الفطرة
أوان
---
وبينما نحن فى سكون الإنتظار هَبَّتْ عاصفة قدومه العاتية . وقالت الجموع: "إنه اللقاء،، فجنود ريحه من فوق صفحة اليَمِّ إلينا آتية!" . وأخذَ صاحب مقهى البلدة يرَتِّل تراتيل مهنته البالية . وراحت الرياح – أو بشائر جيش المنتظَر – تداعِب ما بين سيقان الحسناوات العارية . وأخذَ تغريد الطيور فوقنا يتصاعَد, وحَمَل واحد من القوم فرع الشجرة المتكلِّم بيَدٍّ مبالية . ثم, بغتة, هدأتْ العاصفة . وهبط العائد علينا من السماء ومعه من المساعدين والياوران ثمانية . وأُغْشِي على البعض – كذباً – من مهابة اللقاء, فى حين تفَحَّصَه البعض الآخر – ومنهم أنا – بنظرات وافية . ثم اعتلى عرشاً جَلَبَه جنوده معهم, وصاحَ بصوت راعدٍ زلزَل الأرجاء: هَاكُم أنا قد عدتُ إليكم بعد أن رحلتُ عنكم مغاضِباً لكثرة عصيانكم أوامرى ونواهيَا . ثم سأل: والآن, وقد صفحتُ - لحكمة أواريها - عنكم وصار أمركم بيدِّى وحدي من جديد, فهل فيكم من يطمع فى سؤاليا؟
أيْنَ هَام؟
-----
وكانت تلك بالنسبة لى هى اللحظة المأمولة . وكنتُ أنا أول المتقدِّمين إلى عرشه وطارحى الأسئلة عليه . وأخذتُ – وأنا أتقدَّم – أصيغُ سؤالى إليه فى صيغة معقولة . ولم تُشَتِّت انتباهى نظرة الضيق منِّى، ومن أسئلتى، التى طالما لمحتها فى عينيه . وحين لامستُ عرشه مباشرة, متظاهراً بالتبرُّك الحسِّي به, ألقيتُ عليه نفس الخطبة التى نافقته بها فى مقابلتنا الأولى . وبعد أن فرغتُ من كلمتى المختصرة وأذِنَ المليك المؤقَّت لى بتقديم مطلبى إليه . طرحتُ عليه سؤالى المزدوج، المختمِر: مليكنا ذا الصفح، ألنا أن نعرف كيف كانت رائحة أوراق شجر التوت فى البلاد التى بيننا وبينها مسافة جد مهولة؟ وبأي مفردات كان عشاق تلك البلاد يتغزَّلون في وصف الحبيبة وكيف سبيلهم إلى إبراز الرجولة؟ . ولم يستغرق سؤالى أكثر من دقيقة, و بعدها – لما تأكَّد فشله فى الإجابة عن أبسط سؤال غير حسِّى يستطيع أي امرئ قادمٍ من بعيد، بَعد طول مكوث، أن يكتب صفحاتٍ وصفحاتٍ فى إجابته – راحَ كل واقفٍ أمام عرشه يسُبُّه بوالدته ويرشقه بما فى يديه
نُبُوغ
---
ومن يومها اكتسبَ أغلب أهل البلدة القدرة على رَصْد الزيف فى نظرات العيون . وعادوا جميعاً – مؤقتاً – لممارسة الحياة من جديد, ولَعِب النَرْد على المقهى، وقَذْف الرسائل الغرامية الملتهبة المفردات إلى الحسناوات اللائى من النوافذ ينظرون . وأدركوا – جُمْلَة – أن: النبات لا يتكلِّم في حضرة البشر، والمطر لا يفارق السماء تبشيراً بمَقْدَم أحد منهم, والطير لا يغرِّد إلا مغازلة وحباً فى طير آخر, والرياح لا تُجَنَّد فى جيش جنس ملعون . أما العائد المخادِع, فبعد أن فشلتْ محاولته الهرب عبر بوابة البلدة وتم إيداعه سجنها مع الخاطئين الذين أعيدوا إلى الأَسْر من جديد, تكَوَّنَت لجنة للبَتِّ فى أمره وتأكد لأعضائها أنه مصاب منذ الصِغَر بضَرْبٍ من الجنون . وفى خِضَم ذلك كله, وبينما كانت أخبار البلدة تصلني من بعيد مع إحدى المومسات، كنتُ – نَعَم، أنا – أستعدُ لأكون العائد التالى إلى بلدتى بعد أن بِتُّ، عبر مفعول التجربة الناجحة ونشوتها، أكثر الناس دراية بسهولة خداع أهلها وبهشاشة المنطق الذي به يفكِّرون
#محمد_علي_ثابت (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟