أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - تحسين كرمياني - بعل الغجريّة..(رواية)9















المزيد.....



بعل الغجريّة..(رواية)9


تحسين كرمياني

الحوار المتمدن-العدد: 2484 - 2008 / 12 / 3 - 10:13
المحور: الادب والفن
    


أنا..نوّار
آه..كدت أن أنسى نفسي،من أنا..؟؟.ياترى أنا من..؟؟.لا أحد يناديني بأسمي،يقولون عني:الحمّال..!!يقولون: العملاق..!!فيما بعد صار البعض يناديني،(بعل الغجريّة)،الأغلبية الغالبة لا تعرف أسمي الحقيقي،أنت تريد أن تعرف كل شيء عنّي،لابد من معرفة أسمي،جدي لم يعرف أسمه أحد،يقولون عنه:الحمّال..!!يقولون عنه:الحمّال المعجزة..!!فقط لك أبوح بأسمه،أسمه الحقيقي في زمانه(كسّار)،ناس نادته(جسّار)،الباشوات الأتراك،حين تعلموا مكاسير لغتانا،نادوه(ميسور ركبة)قصدوا(مكسور الرقبة)لكن لا أحد يعرف في البلدة سوى حكايات بعضها مصطنعة،حكايات خارقة عنه،أيها المتابع حكايتي بصبر والقابض بيد مرتجفة كومة جمر،في زمن يتغير حسب المزاج والرغبة،زمن لا يستقر،زمن يومض وينطفئ كالبرق،أرجو أيها الكاتب المتابع لإسطورتي،قد وفّيت لك بما حكيت عن(منار)و(عشتار)والزميل(حمار)،حسناً..عليك أن تذهب معي إلى زمن بعيد،زمن يتذكره الناس،اهالي بلدة(جلبلاء)هم أهل المحن الكبيرة،ناس الكوارث،فيضانات حصدت أرواح جميلة منهم،أوبئة قوّضت نفوسهم، أقوام غازية مروا بهم،نهبوا خيراتهم وسرقوا بناتهم،حروب سحقت الكثير من أجدادهم،بلدة أرّخت أزمنتها بالكوارث،تلك هي التواريخ المعروفة لكل مرحلة مهمة من مراحل المدن التي لا تنتصر ولا تزول،في بلادنا، الكوارث هي نقاط حاسمة تعكس مثل المرايا ما هو نقي وما هو مزيّف وقميء،لابد أنك قد سمعت ولو شيئاً هامشياً عن تلك الأزمنة العصيبة،أزمنة بلادنا البائسة،فتاريخنا يعرف بالكوارث،الناس حين تتحدث عن زمان بعيد،بعيد جداً:تقول زمن كذا..وزمن كذا..!!زمن الفيضان وزمن المجاعة أو القحط وزمن الملاريا وزمن الجراد وزمن الموت الجماعي وزمن الهجرة الجماعية،زمن غزو الفرس،زمن غزو آل عثمان،زمن غزو الروس،زمن (الأنكريز)يقصدون(الإنكليز)..ووووو..ألخ،لنكن أكثر دقة في تحديد الزمن،كي تتمكن من منح نفسك فرصة مقنعة لمواصلة ومتابعة ما أحكي لك،كي لا يتعثر قلمك،في تدوين أسطورتي الشخصية،تذكر ان اساطير الغرب بنيت على التهويلات غير المقنعة،بنيت على خرافات،(هرقل)محطم السلاسل،(كيوبيد)صاحب السهم العاطفي، (سيزيف)حامل آلام العالم،اساطيرهم تحكي بلا قيود أخلاقية عن العالم السفلي والعالم الفوقي،لا أحد يذكر أساطيرنا،فقط(كلكامش وأنكيدو)،لا أحد يكتب أساطير عن ملوكنا الكبار،ملوك البابليين والآشوريين والكلدانيين والسموريين،ملوك لهم حكايات فوق الخيال،من المسؤول عن عدم تخليدهم في أساطير،لابد أنك تلقي باللوم على الكتّاب،لابد وضعت نصب عينيك الكتّاب الذين لم يقرؤا أو لم يفهموا تاريخنا العريق،عليهم ستلقي اللعنة،لا تنسى للحكام دور بارز في تهميش وتقويض لمعان تاريخنا،لم يمنحو الكتّاب فرص لكتابة ما هو مفيد ونافع ومثير للذائقة الغربية،أريد أن نبدأ من مكان آخر،مكان الواقعية غير المهندمة،الواقعية الأسطورية، أريدها واقعية أسطورية،أنا أريدك أن تبني أسطورتي على الصدق،وحده الصدق يمهد المسافات الأمينة والمنيرة لمن ضلّ دربه أو يبغي المغامرة بحثاً عن مجوهرات غامضة ولو في أمكنة من سراب،الصدق مفتاح التغيير،مفتاح لا يصدأ،حسناً ركّز علي الآن،نحن في صيف العام(1950)،تصور نفسك،أنا مجرد كومة لحم في(قمّاط)،ناس تقول:جائحة غريبة لفت مدينتنا(جلبلاء)..!!هناك من يثبت بالدليل القاطع،أن تلك الجائحة السوداء كما يحلو للبعض كنيته،عصفت بالبلاد من شمالها لجنوبها،من شرقها لغربها،من فقيرها لغنيها،نفق كل رضيع هبط في ذلك العام المشؤوم،قبل أن تكتشف جدّتي لأمي الدواء،قيل أنها من مصادفات القدر،لكنها أصرت أنها تمتلك ميزة تخليص الرضع من أوجاعهم،كرامة توارثتها أم عن جدّة،لم تتورع من التصريح بخصوص طرقها في معالجة الأمور،مختصر مفيد،فلسفتها العلاجية تكمن في معرفة غريبة،توجزها في سطر واحد،(القذارة توقف زحف القذارة)،(المرض جراثيم تطردها جراثيم مضادة)،هكذا رددت أقوالها على كل امرأة تلوذ مترددة بها،لك أن تصدق أو تفند ما أرويه،حكايات شائعة في مدينة تجترح رقعة أرض عشوائية منسية،مدينة تحتفظ بخصوصيات نادرة،ناسها بسطاء ظرفاء ضعفاء الحال،تلمهم خصال العفوية والبساطة والتندر،قبل أن يزحف من القرى القصيّة فلاّحون أحدثوا خروقات تربوية في الطباع،جاءوا هاربين من الجوع،بعدما قامت الاقوام الغازية بحجب الأنهر لصالح مصالحها،أو محاولة(شوفينية)لترويض وترهيب الناس،لفك الأواصر وتضعيف البشر،كي يتواجدوا من غير مقاومة منهم،تركوا أراضيهم وزحفوا إلى البلدات القريبة،عملوا بيوتات من صفائح،جلبوا ممتلكاتهم الحيوانية،باعوها وصاروا اغنياء البلدة،قرّبهم الحاكم وصاروا خلصاءه،جدّتي لا تتردد من وصف أي شيء يطرأ بذهنها كلما تهرع إليها مكتوية بعلة رضيع أو رضيعة،كثيراً ما سردت لأمي أشياء لا معقولة،وصفات فوق العادة لكل علّة،على ما أظن حاولت أن تدرّس أمي،تعيد الخلطات العقارية،والأعشاب الغريبة،في محاولات تعليمية لمهنة أضحت مربحة في زمن المجاعة الكبرى،أرادت أن تورثها مهنة تدر ربحاً وفيراً،توصف إدرار الأطفال لعلاج(التراخوما)وبول الإناث ممزوجاً بزيت الخروع للرشح،ولا تتردد من اللجوء إلى براز الحاملات كي تخنق دمامل تستعمر الأجساد ،فهي تخزن كميات كبيرة من أدوية تعملها في البيت،مساحيق لحشرات جافة، كالسلاحف والسرطانات النهرية والقنافذ وعظام الطيور وبيوض(حيّة أم سليمان)،وتخليطات من أعشاب ونباتات وأزهار برية،ليس بوسعي أن أذهب أكثر من ذلك كوني أجهل من أين تعلمت كل ذلك الطب الشعبي الذي وفر لها سمعة نادرة ومالاً لا ينقطع،زد على ذلك أنها لا تتاجر بالعقاقير من أجل كسب المال الكثير،ترضى بالبيض واللبن والسكر والحنطة بدلاً من المال من قبل نسوة يأتين من القرى التي ظلّت تكافح وتقاوم رغبة الهجرة المتنامية،أمي لجأت إليها بعدما تدهورت صحتي وفشلت تجاربها في إسعافي،مضيت على حد قولها أجف،أتقيأ ما أشرب من حليب مع إسهالٍ شديد لا زمني،عملت أمي ما بوسعها كي تحتفظ بآخر ورقة من أوراق عائلة يائسة دفنت الرضيع تلو الرضيع بسبب فقر الحال،قالت أمي:لولاها لنفقت..!!،تقول أنها ظلّت تدلق في فمي حليب الحمير ممزوجاً بمسحوق الثوم،حتى استعدت كامل صحتي،بل غدوت ما أنا عليه من جسدٍ ممتلئ عافية وقوّة،ذلك العلاج صار شعلة الشفاء لجيلٍ كامل،تناقلتها الألسن من أمي وراحت تنتشر وتؤرخ الزمن الذي صار زمناً تعيساً إلتهم آلاف الرضع،زمن حليب الحمير،لا تستغرب أيها العزيز،أكتب كل هذا، أكتبه على لساني،أنت فقط ناقل أمانة،الحكاية أمانة ثقيلة،لا تحرّف أو تغيّر كلمة واحدة،أكتب ولا تخف،لا أحد يحاسبك على ما تكتب،الحكومة مشغولة بمعالجة الأسلحة المشهورة عليها،لا تهتم بالأقلام المشهورة عليها، الأسلحة تقتلها،الأقلام لا تقتل،الأسلحة ترمي رصاص قاتل،الأقلام ترمي رصاص غير قاتل،أكتب ولا تخف،إن لم تكتب،أنك خنت الحكاية،لا أخفيك سراً،إن قلت لك أنني أحمل في بدني قوّة هائلة،قوّة تؤهلني أن أمشي كثيراً أو أنوء تحت أحمال ثقيلة،وأأكل بلا شبع،وأن أتحمل الجوع أيضاً،ترعرعت على يسر الحال،من بيت لبيت،أمّي تنتقل للعمل كخادمة،دائماً تطرد بسبب أبنها،أعني(أنا)كثير الأكل،أيام كثيرة نبقى في حدائق البلدية،قبل أن نتفاجئ برجال أمن يطردوننا،يشبعونها،يشبعون مسامع أمّي تقريعاً،يخالونها،يخالون أمي امرأة سوء،امرأة تنام في الحدائق مع السكارى،ماتت أمّي وأنا في العاشرة من عمري،أخذتني عجوز صديقة لجدّتي التي ماتت قبل موت أمي بسنة ونصف السنة،قيل إنها أنقذتها من داءٍ استشرى تحت سرّتها،امرأة لا تنام الليل وليس بوسعها المشي في السوق،امرأة مشغولة بتهدئة ذلك المكان الأثير بأناملها،شيء لا يسر الأنثى بطبيعة الحال،فالعيون قنّاصة،تبحث عن منافذ الشهوة بعدما ماتت الرغبات ونامت الشهوات جرّاء العولمة،نعم يا كاتب العولمة جعلت من الرجال مخانيث ومن النساء(نمرات ضاريات جائعات خفيفات)،ظلّت جدتي تغسل مملكتها المحرّمة ببول الشباب مخلوطاً بمساحيق تهيئها من دق عظام تلتقطها من القمامات،تأتي بالبول وتقوم بغليه على النار،تخلطه بالمسحوق،تضيف أشياء أخرى،أشياء لا تعلن عن أسماءها،(سر المهنة)،يقولون جدتي أوان العمل،تتمتم بكلمات غريبة ومبهمة، تمتمات ظلّت(أسرارها الكبرى)،لم تبح بها،تلك هي أسرار مهنتها،خشت أن تتفشى أسرارها،ستجد من ينافسها في العمل،رفضت إعطاء التمتمات حتى لإبنتها الوحيدة،أعني أمّي،جدّتي تقوم بغسل مملكة تلك المرأة والتي صارت فيما بعد لردحٍ من الزمن مثل أم رؤوم لي،ثلاثة اغتسالات في اليوم،شفيت تلك المرأة وصارت خير أنيسة وصاحبة لها،يقيناً ستسأل من أين تأتي جدّتي ببول المراهقين على أدق تعبير،جدّي لأمّي فرغ لها وصار ذراعها اليمين الأمين ،يذعن لرغبتها،طالما المال في البال،ذهب إلى(مختبري)له صلة سلام بينهما،(مختبري)جاء غريباً إلى البلدة،بحث عن مسكنٍ،ساعده الجد في حصوله على بيت مناسب،طلب منه قارورة(بول)كل مساء لمدة سبعة أيام،لم يستغرب المختبري ولم يسأل،كونه طلب شاع في ذلك الوقت،بعدما تفشى مرض(التراخوما) لدى أطفال البلدة،وجدوا(البول)الذي وصفته جدّتي خير علاج لمرض وجد عيون أطفال العالم الثالث،العالم المحتل،وجدها خير موطن،راح(المختبري)يطلب من كل عليل إدراره بغية الكشف والتحليل،في البدء واجه اعتراضات روتينية طبعاً،إذ ليس من المعقول أن يدفع كل زبون مبلغاً من المال مقابل شيء لا يريده أو خارج حساباته المرضية،(المختبري)أشعرهم بعدم أخذ ثمن مقابل ذلك،كل مساء يعود جدي حاملاً قارورة(بول)مراهق لجدّتي،على أية حال،تلك العجوز جعلتني ولداً لها،بعد رحيل أمّي من بعد موت جدّي وجدّتي،طبيبة المدينة الأعجوبة،سردت لي حكايات كثيرة عن جدّي العاشر،أقصد(كسّار)أو(جسّار)أكتبها كما يحلوا لك،أو بالأحرى أكتب الأثنين معاً،نعم معاً أكتبها،جدّي الذي شغل المدينة في زمنه،أقصد(جلبلاء)،الرجل الذي أسس أوّل عربة يجرها بغل،وصار ذو نفوذ لدى الرجال المهمين،صار الحاكم بعدما قتل بمديته الحاكم الدكتاتور،قبل أن يغدوا فقيراً مسكيناً،مرآه يجلب الأسى لدى محبيه،ناس تقول:تعلّم من الأغنياء لعب القمار واحتساء الخمور واللعب مع نساءهم،ويوم أفلس أنكروه وصار مدمناً يجوب الشوارع قبل أن يموت على قارعة الطريق،ظلّ لأيام مطروحاً،لا يقترب منه أحد،حتى الكلاب الجائعة والقطط رفضت ان تقترب منه،خشوا من كونه نائم،قبل أن يتبخر جيفة جسده،تقدم رجال البليدة ودفنوه في مكان دارس ضاع عنه الشاهدة،كلام يردده الناس عن النهاية التي لا تسر،سيرة رجل صار مضرب الأمثال وملصقات رائجة للرسّامين والحمّالين لوقت طويل،صرت في الثاني عشر من عمري يوم ماتت العجوز ولم أقضِ سوى أسبوعين في الدار بعدما تيقنت أن البيت صار ملكاً لي،بيد أن أناساً كثيرون برزوا من العدم وصاروا أحفاداً لتلك العجوز التي أتخذتني ولداً لها،كلهم خرجوا من عالم النسيان طمعاً بالإرث المتواضع،بيت طين،طردوني ووجدت مهنة جدّي العاشر خير منقذ من غلواء الزمان..!!
***
سمّوني(نوّار)لسببٍ قد أقنعهم لحظتها،سمعت مرة أن أسم كل مولود منحوت في ذاكرة أهله قبل مجيئه،أسم قد يفرض نفسه في وقت متأخر،تجد أن الناس تكنى أنفسها بأسماء سرعان ما تتبدل تلك الأسماء عند ولادة مولود لهم،(نوّار)أسم غير مألوف في مدينة لا تعرف من الحياة سوى الأكل العادي والنكاح الروتيني والنوم المتوارث، الثرثرة والجدال والخصومات التي لا تنتهي،هذا في زمن قبل التغيير،قيل ـ الناس تردد هذا ـ أنني نوّرت بيت أبي وأمي بعد تضحياتٍ جسام،قيل ـ الرجال يقولون ـ أن أبي هو الذي سمّاني،وقيل ـ النساء يقلن ـ أن أمّي هي من طرحت أسمي على طاولة السعادة،ثمت من يذهب ـ كلام متفق عليه بين الرجال والنساء ـ أن جدّتي أعجوبة وقتها هي من قامت بتسميتي،سارت أيّامي على وتيرة لا تتغير،العمل في النهار والمنام في فندق البلدة الوحيد،حدث هذا بعد موت أبي وأمّي،وموت الجدّة التي نشرت أسطورتها إلى أصقاع كثيرة باعاجيبها الفريدة في معالجات الحالات العرضية والمرضية النادرة..!!
***
أبي شقّ لنفسه إسطورة في ذاكرة التاريخ،أقصد تاريخ(جلبلاء)تقول إسطورته،عندما شبّ عن الطوق،عندما صار في الثانية عشر من عمره،سرق أمي من بيت أهلها،أبي رغب في كسب ودّها،أمي رفضت محاولته،صدته لمرات قبل أن تجد نفسها بين أحضانه في مكان غريب،أمّي تسرد حكاية زواجها للنساء وهي تتباهى بينهن،هكذا قالت لي تلك العجوز التي صارت بمثابة أمّي لفترة من الزمن،تلك العجوز التي عالجتها جدّتي وانقذتها من الحكّة المستشرية تحت سرّتها،قالت لي ماقالت أمّي أمامها،ذات صباح خرجت إلى النهر،خرجت تحمل دلوها لتجلب الماء،جلست على حافة النهر،زلق قدمها،صرخت ونادت،لم يسمعها أحد،أمّي مصيبة جيلها،تعرف السباحة كما يعرفها الشباب،ظلّت تصارع الموج،موج عرمرم جارف،إنتبهت لولد يركب حصان،لم تلمح ملامحه في البدء،ظلّ الفارس يمشي مع الموج الدافع للبنت الصغيرة،صارا خارج حدود القرية،هبط من حصانه،نزل ودخل الماء،رفع البنت الصغيرة،لحظتها عرفته،الولد العملاق،الولد الذي يجيء كل يوم وهو يركب الحصان،يجيء ويقف على حافة النهر،يقف في الضفة المقابلة للضفة التي تجلس عليها،ينظر إليها نظرات غريبة،خشت أن تنظر إليه مثلما هو ينظر إليها،هو طويل..طويل جداً،كما تقول أمي للنساء،رفعها الولد الطويل،أخرجها من النهر،مددها وجفف ثوبها،جلب من فوق حصانه شكوة اللبن،أدلق في جوفها لبن طازج،أمّي ظلّت تردد أنها ما ذاقت مثل ذلك اللبن قط،نساء أجبنها:ربما عطشك وخوفك زرعا مذاقه في ذاكرتك..!!نساء قلن لها:لبن الحبيب زبيب..!!رفعها ووضعها على حصانه،أمّي فقدت حواسها تماماً،مغشية عليها تماماً،لا تعرف ما الذي يجري لها،لم تطرح كلاماً،راح والدي يخترق البراري والجبال،حل الغروب عليهما،وجدا منزل يكاد أن يبين،تقدما من البيت الوحيد،نزل أبي من الحصان،في تلك اللحظة وجدت البنت الصغيرة فرصة نادرة ـ بعدما أستردت وعيها ـ أن تهرب،انتظرت الموقف الملائم،تقول أمّي للنساء:فكرت مع نفسي،وجدت الغروب يتخثر،أنا أركب على الحصان،اللجام بيدي،الولد العملاق صار قرب البيت الطيني،خلت البيت بيته،هو طوال المسافة لم يتكلم،فقط ينظر إلي،خشيت أن يفعل بي ما يفعل البعل بإنثاه،صار بيني وبينه مسافة حجرين،حجران ملقيان من يد شاب يافع،قلت أهرب سوف لن يلحق بي،(ها..ها..وأنطلقت..!!نساء قلن لها:ألم تخشي من الليل..!!نساء قلن لها:وكيف عرفت طريق العودة..!!أمي ظلّت تتباهى بأسطورتها،ساقني الحصان في طريق خلته طريق مجيئنا ،وجدت الشِكوة مليئة باللبن،أشرب وأقود الحصان،مشيت كثيراً،وجدت كوخ صغير في حقل كبير،قلت الكوخ ليس فيه أحد،الفلاحون يغادرون الحقول قبل الغروب،اتجهت إلى الكوخ،نزلت وربطت الحصان، وجدت ثمار الطماطم والخيار في صناديق خشبية،عرفت إنهم غادروا وفي الفجر سيأتون لنقل محاصيلهم إلى الأسواق،لا أعرف أين أنا،مكان غريب،حقل مترامي أخضر اللون،أسمع عواء كلاب،أكاد ألمح نيران بعيدة تتراقص،وجدت الكوخ خير مأوى لي،قرب الكوخ جدول ماء يمشي،شرب الحصان حتى إرتوى،شربت وغسلت يدي ووجهي،بحثت في الخرج،وجدت خمس أقراص خبز شعير،وكيس من خام أبيض فيه حفنة تمر،ووجدت مدية،سحبت الخرج وأنزلته إلى داخل الكوخ،خشيت أن أنام فيه،قذفت بكيس الخام الذي فيه تمر إلى سطح الكوخ،رميت ثلاثة أقراص خبز إلى السطح بعدما وضعت قرصين منه أمام الحصان،تسلقت الكوخ وتمددت وأنا أتسلح بالمدية،بقيت الليل كله أفكر بأمّي وأبي،كيف هو حالها،حال أمّي،كيف هو حاله،حال أبي،ستموت من الحزن هذه الليلة،أمّي ستموت،سيموت من الحزن هذه الليلة،أبي سيموت،أمّي وأبي سيحزان علي كثيراً،جاءا من مكان بعيد،أمّي تحب أبي،أبي يحبها كثيراً،يتعاونان معاً،أمّي وأبي يعرفان أمور طبيّة،يعالجان حالات خطيرة،يعملان أدوية من الأعشاب والعظام والحشرات،غادرا قرى كثيرة،طردونا من القرى،ناس قالت:يعملون السحر..!!سيحزنان علي كثيراً،أمّي تحبني،أبي يحبني،دمعت عيناي،وغادرني النوم،الليل لا يريد أن ينتهي بسلام،ظلّ يطول ويطول،عواءات الكلاب تشعرني بالأمان،أسمعها وأتخيل أنني في البيت،منتصف الليل سمعت حركة غير طبيعية،قبضت على المدية وتهيأت لمفاجأة متوقعة،حمحم الحصان،نتر الحبل الذي في رقبته،دوى عويل لإبن آوى،تراشقت من حولي عواءات،قلت لابد من ذئاب أو بنات آوى في الجوار،جاءت لتلتهم الحصان المسكين،رأيت اشباحاً تتحرك،أشباح لا أعرف أ..لذئاب أم لبنات آوى،ظلّ الحصان يقاوم،يرفس بقوائمه الأربعة،تمكن بعد مقاومة ضارية،أن يخلع العود المربوط به،فر الحصان وهو يصهل،سمعت صوت أقدامه،سمعت صوت صهيله حتى مسافات نائية،إنسحبت الأشباح من حولي،كدت أن أفقد صوابي،بقيت فاتحة عيني،وأنا ألعن الولد الطويل الذي سرقني،أنا لعنته فقط في تلك اللحظة،لم ألعنه فيما بعد،لعنته فوق الكوخ الطيني في تلك الليلة،لففت نفسي بالخرج،بقت المدية رهن الطعن بين يدي،خشيت أن تشم رائحتي بنات آوى،أو ذئاب جائعة،لا أعرف كيف جاء الفجر،أفقت من أصوات بشرية قريبة،فتحت عيني،رأيتهم يقتربون ،بعول ونساء، بنات وأولاد،ومعهم رهط حمير،وقعت في حيرة من أمري،ليس لدي فرصة لإخفاء نفسي،بقيت متمددة على ظهري،تقدمت الجموع،رأوني،شعرت برأس صبي يمتد متطاولاً نحوي،صاح:
ـ بنيّة يابا..!!
تقدمت الجموع وصعد(بعل)،سحبني..قال:
ـ من أنت يا بنت..!!
بكيت،حملني(البعل)ووضعني على حصيرة،جلب أحدهم ماء وأسقاني، تقدمت امرأة وقالت:
ـ بنتي من أنت،من أين جئت..!!
شجعتني ان أتكلم،قلت كاذباً:
ـ ضيّعت طريقي..!!
ـ من أي قرية أنت..!!
ـ من قرية بعيدة..!!
ـ هل تعرفين الطريق..!!
قلت:
ـ أعرف الطريق..!!
رأيت الوجوه تتسائل في حيرة..قال(البعل)الذي سحبني من فوق الكوخ الطيني:
ـ يا امرأة خذيها إلى البيت،قبل أن نعرف بنت من هي..!!
تشجعت وقلت:
ـ أعرف طريقي،تأخرت عند الغروب وقلت أنام فوق الكوخ..!!
سمعت(بعلاً)آخر يقول:
ـ ألم أقل لكم شيء غير عادي يحصل في الحقل..!!
أجابه بعل قصير القامة هازاً رأسه:
ـ الذئاب ظلّت تحوم في الحقل،سمعت عواءاتها ..!!
قلت لهم:
ـ الذئاب أخذت حصاني..!!
قال(البعل)الذي أنزلني من فوق الكوخ:
ـ لولا حصانك لأخذوك ..!!
أنهضتني المرأة..قالت:
ـ هيّا رافقيني إلى البيت قبل أن نجد أهلك..!!
قلت لها:
ـ أعرف طريقي أنا أريد أن أذهب..!!
مسكتني المرأة من معصمي،مضيت أرافقها على مضض،وصلنا بيتها،أدخلتني إلى غرفة،وجدت بناتها جالسات، ثلاث بنات يكبرنني،إستقبلنني بترحاب،وجدت نفسي في بيت آمن،قلبي يكاد أن يتفطر على أمّي،يتفطر على أبي،لم ابح بالسر لهن،أصررت على ما قلت لـ(لبعول)في الحقل..قلت لهن:
ـ فقدت طريقي..!!
وجدت نفسي أكذب عليهن،خشيت أن أقول لهن سرقني ولد عملاق،(قلت في نفسي)،ماذا سيقولون عني لو قلت لهم سرقني ولد عملاق،سيظنون بي الظنون،سيطردوني من بيتهم،سيقولون بنت صغيرة وفاسدة،وجدتهم يعتنون بي،جلبت المرأة لي ثوباً جميلاً،ألبستنيه..قالت:
ـ كبرت يا بنت بهذا الثوب..!!
وقالت أيضاً:
ـ لو لدي ولد كبير لزوجتك إليه..!!
أفرحت نفسي معهم،بقيت يومين في بيتهم،في اليوم الثالث،جاء الولد الصغير الذي تسلّق الكوخ ورآني،جاء يركض،قال وهو يلهث:
ـ أخوك جاء يبحث عنك..!!
فرحت وكدت ان أقبله،أنا أعرف أنه ليس بأخي،فقط رغبت أن أتركهم،قمت من بين البنات الثلاث،هربت إلى الخارج..قلت لهم:
ـ أستقبل أخي الذي يبحث عنّي من يومين..!!
تجمدت أوصالي،تبخرت الفرحة مني،الفرحة المصطنعة،وجدت الولد العملاق يقف أمامي،ماذا أقول،وقفت أمامه،ولد عملاق طويل،تقدمت منه المرأة،حيّته ورد تحيتها..قال الولد الطويل:
ـ بحثت في كل مكان عنها..!!
تقدم مني،مسكني ووضعني على حصان جديد،سلّم على المرأة وبناتها الثلاث ومضى بي من جديد،لم يعاتبني،ظلّ يبتسم بوجهي،وصلنا جدول ماء،أنزلني من فوق الحصان،سحبني إلى حافة الجدول،أجلسني قربه،في تلك اللحظة وجدت نفسي أحبه،قلت هو يحبني،كل يوم يأتي إلى حافة النهر ويقف لينظر إلي نظرات غريبة..قال:
ـ لم فعلت ذلك..!!
خجلت أن أردّه،بقيت انظر إلى الماء الماشي..قال:
ـ ماذا لو فتكت بك الذئاب..!!
بقيت لا أعرف ماذا أقول..قال:
ـ أين هو الحصان..!!
تشجعت وقلت له:
ـ صار قربان لمن تنظر إليها..!!
مدّ كفه اليمين ورفع ذقني،صارت عيوني في عينيه،كدت أن أفقد حواسي،كدت أن أفقد نفسي وأقع بين أحضانه،خشيت أن يفعل شيئاً معي،بقى ينظر إلي..قال:
ـ أحب أن أنظر إليك..!!
تبدّلت مشاعري نحوه،بدا أنه ولد مؤدب جداً رغم طوله..قلت:
ـ أحقاً تحب النظر إلي..!!
قال:
أحب النظر إليك كل يوم..!!
قلت:
ـ لم تحب النظر إلي..!!
قال:
ـ أشعر براحة في قلبي كلما أراك فوق النهر وأنا أنظر إليك..!!
أحمّر وجهي،وأطرقت بعيني إلى الماء ثانية..قال:
ـ هيّا..!!
رفعت عيني ونحتهما في عينيه،بدا له أنني لم أسمع جيداً ما قال،كرر كلامه:
ـ هيّا..!!
قلت:
ـ ماذا..!!
قال:
ـ لنرجع إلى البيت..!!
لم أصدق ما قال،عيناه في عيني،عيناه جميلتان،تقولان ما في قلبه،قمت ورفعني على الحصان،لم يصعد هو ظلّ يمشي جنبي،شعرت بحزن وغم حين تذكرت هروبي بالحصان،(قلت مع نفسي)،ولد مؤدب،لم هربت يا بنت،هو لم يفعل شيئاً معي،فقط يحب النظر إلي وأنا فوق النهر،قطعنا مسافة طويلة،لم اشعر بالزمن الذي أسغرقته الرحلة،ظلّ يمشي أمامي،أنا على الحصان وهو يمشي على قدميه،(قلت مع نفسي)ولد يستحق أن أنظر إليه،طالما أخرجني من النهر،طالما أرجعني إلى البيت،دون أن يفعل معي شيئاً..!!وصلنا عند الأصيل،وجدت أمّي غارقة في البكاء،أبي خرج يبحث عني،رافقني الولد العملاق..قال لأمّي:
ـ كفّي بكاؤك،هذه بنتك ردّت إليك..!!
لم تصدق أمّي،مسحت دموعها،قامت وأحتضنتني،بكينا معاً،ظلّ الولد واقفاً ينظر إلينا،إنتبهت أمّي لوقوفه..قالت له:
ـ أجلس يا سيد..!!
جلس الولد..قالت أمّي:
ـ وجدنا دلو الماء على حافة النهر،قلنا أخذك السيل..!!
قلت:
ـ زلقتا قدماي وأنقذني السيد..!!
شكرته على فعلته..قال الولد:
علي أن أغادر،لدي شغل كثير..!!
غادرنا الولد وبقيت افكر فيه،حكيت القصة لأمّي..قالت:
ـ أبن حلال يحبك..!!
وقالت أيضاً:
ـ لو طلبك لوهبتك إليه،طالما يحبك..!!
فرحت من كلام أمي،عاد أبي ووجدني في البيت..قال:
ـ رافقت النهر حتى مسافات طويلة،قلت ضاعت إبنتنا الوحيدة..!!
قلت لأبي:
ـ بنتك لا تضيع،بنتك محظوظة..!!
عاد الولد من جديد يقف على النهر،مزهواً بطوله،مزهواً فوق حصانه،حصان جديد،الحصان القديم أخذته بسسبب هروبي الذئاب،(قلت مع نفسي):يبدو أنه إبن غني..!!كل يوم يقف وينظر إلي،يعرف أوقات وجودي على حافة النهر،يأتي ويقف وينظر،أطيل غسل الصحون،أطيل غسل الملابس،أقول مادام يحب النظر إلي،لأجعله يشبع من النظر إلي،بعد مضي عام تقريباً من قصتنا،جاءنا يخطبني،أنا فرحت،أمي فرحت،أبي شاركنا الفرح بعدما سردت لأمي حكايتنا يوم زلتا قدماي وقادني النهر،تزوجنا،وغادرنا القريّة التي جمعتنا،انا احبّه وهو يحبّني،مشكلتنا الكبيرة،كلما نرزق بطفل يموت،ندفن الطفل تلو الطفل وننتظر الطفل،يأتي ليموت،تذكرت أمّي العارفة بشؤون الطب،لجأت إليها،أنقذت لي طفلي الوحيد..(نوّار)..!!
***
أبي لم يعر لهروب البنت الصغيرة أهتماماً،قال لنفسه:أين تروح..!!وقف أمام باب البيت الطيني الوحيد،طرق الباب لمرات،دفع الباب،وجد رجلاً نائماً،رجل يحتضر،نسى قصّة البنت،وجد من يستحق العناية،تقدم من الرجل المحتضر،جلس قرب رأسه،وجده يهذي،حاول أن يعرف من هو ومن هي عائلته،وجد طاسة ماء أمامه،رشق وجهه رشقات إستفزته،إنتبه إليه،وجده مقيّد المعصمين،مقيد القدمين،مد يده إلى جنبه،تذكر إن مديته ظلّت في الخرج على ظهر الحصان،فك قيد الرجل بأسنانه،إستعاد الرجل بعض ذاكرته،نظر إلى ولد طويل يقف أمامه،بدأ الرجل يخاف،طمأنه،استرد الرجل وعيه،قال لأبي ما جرى له،فهو لم يذق الطعام من يومين،جلبته زمرة شباب،اقتحموا منزله وقادوه إلى هذا المكان الغريب،لم يحكي الولد العملاق حكايته للرجل،قال للرجل انه في مشوار خاص بين قريتين،سمع هذيانات قريبة،هذيانات تخرج من كوّة بيت طيني منفرد،تقدم واقتحم الغرفة،أبي سرد لأمي حكايته:بعدما لذت بالفرار،وجدت صوتاً هاذياً من داخل الغرفة،طرقت الباب،انتبهت لمفتاح يقفل الباب من الخارج،وجدت القفل مفتوحاً،يبدو أنهم نسوا غلقه،وجدت رجلاً فاقد الأحساس،مقيداً،في البدء لم أنتبه للقيد في قدميه ومعصميه،بحثت عن المديّة،تذكرت أنني نسيتها في الخرج على ظهر الحصان،استعنت باسناني،وجدته رجل حسن الوجه،طيب اللسان،عارف بأمور الدنيا وشؤون الناس،مختطف من قبل ناس غرباء،زمرة شباب كما قال لي،داهموا بيته وكمموا فمه وعصبوا عينيه ووضعوه على حصان وقادوه إلى مكان بعيد،فتحوا عينيه وجد نفسه في غرفة طينية،في بيت مهجور،قصّ علي حكايته،قال:بني انا صاحب إثم كبير،احببت بنت شيخ عشيرتنا،لاحقتها أينما تذهب،حكت لأبيها ملاحقاتي لها،طلبني أمامه،خشيت من عقوبة تنتظرني،وقفت أمامه في الديوان،هو شيخ كبير صاحب نفوذ معروف،أنا أبن راعي أغنامه،وقفت ارتجف،رجال كثيرون يجلسون في ديوان كبير،ينحتون نظرات مخيفة في وجهي،أبي واقف محني رأسه،واقف عند باب الديوان،الرجال بعضهم يداورون خرزات مسبحاتهم بأصابع خشنة،بعضهم يفتل شاربيه،صاح الشيخ بوجهي:
ـ ولك جرو ابن الكلب،ليش تنظر إلى سيدتك..!!ماذا أقول،قال عنّي(جرو) وقال عن أبي الواقف بخشوع ودموع في الباب،باب الديوان(كلب)،وقفت أرتجف ،شخت على نفسي،أقولها بصراحة،شخت على نفسي،شعرت بالبول ينزل على سروالي،البول لم يره أحد،شعرت بقوة البول يدفعني أن أكن شجاعاً،قلت:يا شيخ،يا طويل العمر،نحن نحرسكم،أبي يحرس أغنامك،وأنا أحرس بيتك..!!رمقني الحضور بنظرات غريبة،رأيت رؤوسهم تهتز،أحمّر وجه الشيخ،قال رجل كبير السن:ولد له شأن ..!!أجاب رجل آخر:من علمّك هذا الكلام يا كلب..!!الشيخ قال عن أبي(كلب)وقال عني(جرو)،هذا الرجل قلب كلام الشيخ،قال عني(كلب)،تشجعت وقلت:الشيخ طويل العمر سمّاني(جرو)انت كسرت كلام الشيخ طويل العمر وسميتني (كلب)..!!ضحك الجميع،ضحك الشيخ أيضاً،ضحك والدي أيضاً،تشجعت،قلت أيضاً،قلت بعد أن توقفوا من الضحك،قلت لهم:أنا لم يعلمني الكلام أحد،أنا أعرف نفسي،أنا أحرس بيت سيدي طويل العمر كما يحرس أبي أغنام بيت طويل العمر..!!حمحم الشيخ وقال:ولم تحرس سيدتك يا كلب..!!قلت:واجب الكلاب حراسة سادتهم،لا يتوجب على سيد الكلب أن يسأل كلبه ويقول له لماذا تحرسني يا كلب،ولماذا تحرس أفراد عائلتي وأغنامي أيضاً..!!بهت الحضور وساد لغط طويل،وجدت أبي يرتجف،ربما فكّر أننا مطرودون من فردوس الحياة،سنعود لحياة التنقل والبحث عن صاحب أغنام كي نرعى أغنامه،أشار الشيخ،سكت الجميع،قال:أنت ولد عاقل،أنت ولد تستحق العناية..!!خرجت من محاكمتهم وأنا فرحان،صار الشيخ يطلبني في مجلسه،أبي ينظر إلي،أنا أبادله النظر،يمازحني الشيخ،صارت إبنته تنظر إلي نظرات مختلفة،لا تحكي للشيخ ما أفعله،أقف وأنظر إليها،يبدو أنها سمعت قصة محاكمتي وانتصاري في تلك الليلة،صرت اقترب منها،سألتني يوماً أن أحمل دلو الماء بدلاً عنها،شعرت براحة وأنا أمشي وراء كوكبة فتيات جميلات،انظر إلى مؤخراتهن، مؤخرات ترتج وتهتز،كركراتهن جميلة،قالت لي يوماً:لم تحرسني يا ولد..!!قلت:أخاف عليك..!!تخاف علي من ماذا..!!أخاف عليك من..من ..من..!!قاطعتني:من ماذا..!!قلت:من الشباب..!! ضحكت وفرحت لضحكتها،قالت لي ذات يوم:عيونك فيها شيء مخيف ياولد..!!قلت:هو الخوف عليك يا سيدتي..!!مضت أيامنا،أنا فرحان بحياتي،أتابع السيدة،الشيخ يقربني منه،أبي يحرس أغنامه،أمّي غير موجودة،ماتت بداء غريب،بقى والدي من غير زوجة،مضت أيامنا وسنواتنا على تلك الوتيرة،أنا أتعلق بتلك السيدة،هي تراقب تصرفاتي،وفي ليلة لن انساها،وصل ضيوف إلى بيت الشيخ،وصلوا بعد اسبوعين من حادثة قتل جرت في المنطقة،قتل إبن الشيخ شيخي إبن شيخ قبيلة مجاورة،قتله بعد نزاع جرى بينهما،قيل من أجل طير الحر،كلاهما رأى الطير،اتفقا على مطاردته،لكن ابن ذلك الشيخ نكث بالعهد المتفق عليه،اخذ الطير بعدما وقع أمامه،سحب أبن شيخي(البرنو)ووضع رصاصة في رأسه،رصاصة واحدة دخلت رأس ابن ذلك الشيخ،دخلت و(طشرت)مخه،جاء الشيخ ومعه شيوخ عشائر طالبين الفصل،شيخي رحّب بهم،قال لهم:إبني أمامكم أفعلوا به مثلما فعل بابنكم..!!خرست ألسنتهم،أضاف شيخي:المرحوم نكث بالوعد المبرم بينهما،الشهود أكدوا ذلك،لكنني مصر على أن تفعلوا بأبني مثلما فعل بابنكم..!!قام شيخي من مكانه ،سحب(البرنو)المعلق على حائط الديوان،وضعه أمام الشيخ الذي قتل ابنه،صاح شيخي:اجلبوه..!!دلف ابن الشيخ القاتل وأمتثل لكلام أبيه،أمره الشيخ أن يجلس منتصف الديوان أمام الحضور،قال لهم شيخي:بهذا(البرنو)قتل إبنك،به اقتله،العين بالعين والسن بالسن والبادئ أظلم..!!خجل الشيخ أبو المقتول،قال:لا..لا..يا شيخ لن ألوث يدي بقتل إبن رجل صادق..!!قال أحد الحضور،يبدو أنه شيخ آخر:يا جماعة الخير،العفو عند المقدرة،من أخطأ لا يجب أن نرد خطأه بخطأ مماثل،لكن الفصل واجب ومطلب،شيخنا أب المرحوم جاء لتسوية الأمر بسلام،مطلبه غير مكلف،وغير مخالف للشرع والأصول،هو لا يرضى إلاّ بتزويجه إبنتك..!!دمدم الحضور،شيخي ظلّ متماسكاً،هز رأسه،قال الشيخ الذي تكلم:أنا أطلب من الولد أن يقوم من مكانه ويجلس خارج مجلسنا..!!أمر شيخي إبنه،فقام وخرج،قال شيخي:مطلب يسير،لكن الواجب يتطلب مفاتحة البنت،ومع ذلك،سأهبها له،وليشهد الحضور الكرام على ما أقول،أقرأوا الفاتحة..!!وحدي من لم يقرأ الفاتحة،وجدت الأيدي مبسوطة،الأفواه تتمتم،أمتدت الأكف لتمسح الوجوه،وحدي بقيت فاغراً فاه،كما لو طلقة نافذة أصابتني في موقع غير قاتل،سقطت جريحاً،غير مصدقاً أنا أنزف،بارح الموكب الديوان، خرج الرجال جميعهم،بعد وجبة عشاء،تم نحر الخراف فيها،نادى الشيخ إبنته،فاتحها بالأمر،قلبي يكاد أن ينفطر من كلامه،لم تتكلم البنت،قلت مع نفسي،كيف تساق هذه الغزالة اليانعة ليركبها شيخ يكاد أن ينفق،تلك الليلة لم أنم،جاء الصباح،رافقت البنت إلى الماء،وجدت في عينيها دموع الحزن والرفض،قلت لها:سأدافع عنك يا سيدتي..!! نظرت إلي،في عينيها أسئلة كثيرة،قالت:كيف..!!قلت سأقتله أنا..!!قالت:أبي يحبك،قل له يبدّل كلامه..!! قلت:الشيخ لا يبّدل كلامه..!! قالت:ماذا أعمل..!!قلت:تعالي نهرب..!!وقفت..كأن طلقة اخترقت جمجمتها، قالت:ماذا..!!قلت:أريد أن أخلّصك من العجوز الفاني..!!قالت:أنت ولد شجاع ..!!قلت:سأأخذك إلى مكان بعيد وحين يموت الشيخ العجوز أرجعك..!!ضحكت البنت،بعد يومين قالت:هل حقاً قلت ذلك أم مزحة..!! قلت:تعلمت من الشيخ أن لا أبدّل كلامي..!!قالت:أين نهرب..!! قلت:لدي أقارب في مكان بعيد..!!بدت الفكرة تشغلها،قالت لي ذات يوم:لم يبق سوى أيام ليأخذني الشيخ العجوز..!!قلت:أنا حاضر يا سيدتي أن انقذك..!!قالت:هل حقاً تقدر على ذلك..!!قلت:نعم..!!في تلك الليلة،شعرت بيد تجذبني من نومي،فتحت عيني،وجدت البنت جادة فيما طرحت عليها من فكرة الهرب،قمت وهي تسحبني،وصلنا مكان آمن،قالت:هيّا نهرب إلى أقاربك..!!قلت:كيف..!!قالت:أعددت حصاناً وزاداً..!!امتثلت لرغبتها،في الطريق خلت نفسي أمزح،شعرت انني وضعت نفسي في ورطة،قلت لنفسي،ماذا عملت أيها الولد عديم الشرف والأخلاق،الشيخ صار بمثابة أبيك،صار يحبك ويقربك،كيف تخون الأمانة،أنت ارتكبت حماقة يا ولد،سيلحق بك،سيجدك أينما تذهب،سيجدك ويقطع رأسك ورأس المسكينة،انتبهت البنت لي،قالت:أنت متردد..!!كيف عرفت..!!أنت تهز يدك وتتمتم مع نفسك..!!كلا..أريد أن اخرجك من الورطة..!!مشينا حتى طلع الفجر وحتى غربت الشمس،وصلنا قرية،تقدمت من عجوز واقفة،قلت لها:حلّ علينا الليل يا أم..!!قالت:بيتكم يا أولادي..!!ضيفتنا العجوز،تعشينا عندها،وفي الليل فرشت لنا فراشاً واحداً،وجدت الأمر محرجاً،ليس من المعقول أن نكشف سرّنا،وليس من المعقول أن نرفض الفراش الواحد،نظرت في عيني البنت،ونظرت في عيني،وجدت فرصة لمهامستها:نامي أنت وأنا سأحرسك..!!وجدت في عينيها دموع الندم ودموع الحيرة،دخلت العجوز،قالت: اعذراني فراشي قليل،أنا غريبة من ديار بعيدة،يتقاذفني مركب الحزن من موج لموج..!!قلت:يكفينا فراش واحد يا أم..!!تمددت البنت،تمددت قربها،عالم ساحر أن تتمدد قرب امرأة هي في منزلة اجتماعية راقية،وأنت من طبقات معدومة،هي كريستال شفاف وأنت من حجر خشن،هي تبث عطر أنفاس كالرحيق،أنت تنشر نتانة أزمنة الفقر والجوع والنوم في إسطبلات الخيول والحمير،عالمان متناقظان في كفي ميزان قدري،هي..هي..وأنا..أنا..قلبي بدأ يشتد،يضرب ضربات عنيفة،وجهي يفضح قلبي،رعشة تستفز جسدي،وأنفاسي بدأت تصوّت،تحشرج إيقاعات نافرة،تخرج بحرارة واضحة،وجدتها ترتجف،اجفانها ترتعش،بدت كما تبدو العروس ليلة الدخول عليها،بدوت كما عريس لم يعرف كيف يفتح مملكة العالم المطروحة أمامه في غرفة مظلمة،خارج الغرفة عيون وأحاسيس العالم تستحضر المشهد الكوني الكبير،أفراح تتواصل،أفراح العالم المنسي،العالم النائي،بدأت العجوز تشخر،في الخارج الكلاب تنبح ،بنات آوى في عرس دموي،نامت البنت،وجه يتلألئ في ضوء فانوس كابي،خلد جسدي وفقد الرغبة المصطلية،رغبة الخوف والمصير الذي رسمناه في لحظة مزاح،لا أعرف كيف نامت وكيف نمت،منتصف الليل،وجدتها تعانقني،وجدتها تدس راسها بين صدري،أردت أن أدفعها،رفضت ذلك،قالت:أنت ولد شجاع،سأرافقك إلى آخر الدنيا..!!قلت:شيخنا سيلاحقنا حتى آخر الدنيا،هو أبوك،وأنت إبنته الثمينة،وأنا بمثابة خائن نعمته..!!حل الفجر،قالت العجوز:ليس لي أحد،أبقيا ليلة أخرى،طريقكما على ما أظن بعيدة..!!وجدنا الفكرة مناسبة،وفي الظهيرة،جلسنا حول مائدة الغداء،جرى حديث بيننا،حديث عن أمور الدنيا والحسب والنسب،عن الظروف التي أوجدتنا في أمكنة نائية، بعيدة كل البعد عن الأسواق والناس،سردت العجوز قصّة وحدتها،بعدما دعاني الفضول لسؤالها،قالت:لي بنت وحيدة،متزوجة من رجل أخذه(العثمانيون)إلى حرب بعيدة،أخذوه وانقطعت أخباره عنّا،اخذوا شباب كثيرون،بقينا من غير رجل بيت،زوجي أيضاً أخذوه من الحقل،ضاقت بنا الدنيا،(العثمانيون)أخذوا الحلال وغلال الحقول،أخذوا بنات شابات أيضاً،آه..لذلك اليوم الأسود،بنتي قررت أن تبحث عن عمل،ليس لنا أرض نزرعه،الأرض كله لشيخ كبير،الناس تشتغل عنده،ذهبت بنتي ترجوه أن يقبلها عاملة في حقله،وافق الشيخ،جاءتني مرتان فقط،مرتان فقط رأيت ابنتي،جلبت لي طعام وثوبين،بنتي لم تجيء بعد،من يومها بقيت أنتظر،قلت لابد أن(العثمانيين)أخذوها،هي جميلة،راحت بنتي وبقيت غريبة في هذه الديار،بعدما جئت إليهم بحثاً عنها..!!سكتت العجوز،توقف لساني عن الكلام،وجدت البنت واجمة،تنظر غير مصدقة مما تسمع،كفكفت دموعها،هزّت رأسها،قالت:كلوا يا أولادي..!!توقفت أيدينا عن الأكل،قلت:هل تعرفين أسم طفلة بنتك..!! هزّت رأسها صامتة،كررت سؤالي عليها،قالت:نسيت أسمها،ربما عشرين عاماً مر على نسيانها..!!رأيت البنت دامعة العينين،مسحت دموعها،قالت العجوز:لم تبكين يا بنتي،كلي،أحزاننا لن تنتهي..!!قالت البنت بصوت ذبيح:أسمها (مـ..ـر..ـيـ..ـم)طفلة بنتك..!! توقفت العجوز عن الأكل،رفعت عينيها،بدت كأنها تنقب ذاكرتها،قالت: ربما..نعم..نعم..مـ ..ر..يـ..م..مريم..مريم..!!وجدتها تفرح،قالت العجوز:من أين عرفت ذلك يابنت..!!قالت البنت:أنا بنت شيخ كبير،الناس تعرف ذلك،ربما سمعت به،هو الشيخ(عارف أبو العرفان)هذا كنيته..!!قالت العجوز للبنت:هل حقاً أنت إبنة ذاك الذي تحترمه حكومة العثمانيين..!!قالت البنت:هل أسم إبنتك(فاطمة)..!!صاحت العجوز:أرجو أن يكونا في بيتكم يا بنت شيخ المشايخ..!!قالت البنت:هي موجودة مـ..ـو..ـجـ..ـو...ـد..ه..هي..هي..هي..أنا..أنا..أنا..!!اجهشت البنت في البكاء،وقفت فاغر الفم،ما الذي يجري أمامي،ما الذي تتفوه بها البنت التي ورطتني في عملية اختطاف،توقفت البنت عن البكاء،ألقت برأسها في حجر العجوز،ظلّت العجوز مستغربة،دفعت سفرة الطعام جانباً،قلت:خبرونا يا نساء،ماذا يجري..!!رفعت البنت رأسها،قالت:أنا لست إبنة الشيخ،أنا..(مريم)أنا بنت(فاطمة)ماتت أمي وأنا في الخامسة من عمري،استبقاني الشيخ عنده بمثابة ابنته..!!دمعت عينا العجوز،رفعت يديها إلى السماء وقالت:لك الحمد يا رب السموات السبع،لك الحمد يا رب الناس،لك الحمد يا الله..!!تعانقتا وبكتا،سردنا قصّة ما جرى بيننا وماذا نوينا،قالت:ابقيا عندي،هي بنتي وأنت ستصير بعلها..!!،بقينا عندها،ماتت العجوز بعد مرور عامين وشهر على لجوئنا الغرامي إليها،بقينا وحدنا،متسترين في قرية تبعد مسافة نهار كامل جرياً على حصان نشيط،قضينا ثمانية اعوام معاً،لم نرزق بطفل،عرفنا أخبار ما جرى وراءنا في بيت الشيخ(عارف أبو العرفان)الشيخ أبو المقتول مات،أولاده طلبوا إعادة جلسة الفصل،اتهموا الشيخ(عارف)بتهريب إبنته إلى مكان آمن،وناس قالت ربما زوجها من ضابط(عثماني)ورافقهم الولد الذكي كما يحلوا لهم وصفي منذ تلك الليلة التي انتصرت في محاكمتي وصرت الولد المقرّب للشيخ،حدثت خصومات كثيرة بين القبيلتين،وسمعنا أنهم،أي أولاد الشيخ الذي قتل ابنه،تمكنوا من نصب كمين للشيخ(عارف)وقتلوه،قالوا أن الشيخ ذهب لتلبية دعوة لباشا (تركي)،ناس قالت:أولاد الشيخ أبو المقتول دفعوا مبالغ كبيرة من الليرات والذهب للأتراك ورتبوا عملية إغتياله..!!يا ولد،اعلم أن عاقبة كل مكروه مكروه،من يزرع بذرة ورد يحصد الورود ومن يزرع بذرة شر يحصد الشرور،جاءت لحظة عقابي الذي طال،صحيح اننا سررنا،وعشنا أياماً طويلة وحلوة،لكن(مريم)مثلما هربت معي،هربت مني،تلك هي صفات البنات العاقات،ضحيت من أجلها،وعملت من أجلها،وأنا سبب وصولها إلى جدّتها،وجدتني غير لائقاً بها،قالت قبل أن ترحل عني:أخرجتني من الفردوس وألقيتني في الجحيم..!! قلت لها:أنت اخترت الجحيم وأخرجتيني من النعيم..!!قالت:علينا أن نغير مسارنا في الحياة..!!قلت:ضحّينا معاً،أنا من أجلك وأنت من أجلي،كيف بنا أن ننهي مسيرة شاقة اخترناها ولم نصل النهاية بعد..!!قالت:أنا ذاهبة معهم،هم يريدون نساء للعمل،سأمت الجوع،والكد والعمل المزري في البيوت..!!خلته كلام ليل،قلت النهار سيمحيه،عشنا معيشة شاقة،متسترين من أعين الوشاة وعيون الصدفة،جاءت خيّالة ومعها عربات جميلة،معهم فتاة تتكلم مثلنا،طلبت بنات يخدمن في القصور،يلبسن الحرير،يلبسن الذهب،فتيات وافقن على الرحلة،في الصباح اكتشفت(مريم)ذاهبة إلى حيث المجون،بقيت وحدي،اتجول،أبحث عن حل،عن مكان بعيد،عرفت أن والدي قد مات مع الشيخ،أصابته رصاصة في ظهره،ظلّ طريح الفراش،قصّة شاعت بين الناس فيما جرى بين القبيلتين،ذات ظهيرة،وجدت نفسي أمام رجل ظلّ ينحت بصره في،رجل يبدو على هيئته سكن في ذاكرتي،رجل يبيع الحاجيات على حمار،بقيت غير مهتماً بما جرى بيني وبين الرجل من نظرات،حتى عاد لذهني منظره،قبل أن تأتي إلي زمرة شباب ملثمين بيدهم أسلحة،فقط تذكرته،ذات يوم اشتريت منه مرآة صغيرة ملونة ومشط شعر نسائي واهديتهما للبنت (مريم)،حكاية قديمة،هو من وشى بي،فهو رجل يتنقل بين القرى،داهمنتي زمرة شباب وكمموا فمي وقيدوا معصمي وقدمي وساقوني إلى هذه الغرفة،قلت للرجل:ولم تركوك هنا..!!قال لي:سمعت أن أولاد الشيخ(عارف)أعلنوا عن جائزة كبيرة لمن يجدني،أنا والبنت طبعاً،سمعت الشباب يتحدثون حول مصداقية المال الذي أعلنوه،وضعوني هنا وذهبوا لأستلام المال قبل تسليمي لهم،على ما يبدو(ثمت)أمر هام قد حصل،ربما مازالوا يتساومون على المال..!!قال أبي لأمي:أخرجت الرجل وقدته معي،أخذته إلى مكان بعيد،سرنا يوماً كاملاً،في قرية حدودية،تركته عند رجال مهمتهم تهريب الناس بين البلدان،أخرج الرجل من جيبه حفنة ليرات،قال لهم:هذا كل ما أملك..!!قبلوا تهريبه إلى مملكة(إيسان)،عدت ألتمس طريقي،مشيت اليوم الثاني،مر بي شابان،رأيت في عينيهما شرر،سلّما علي،رديت سلامهما،سألني أحدهم إن رأيت في طريقي رجل يلبس كذا وكذا،كذّبت عيهما،قلت لهم:أتيت من مكان بعيد،وصلت في التو،غادراني،وصلت حقلاً وجدت ناس يعملون،تقدمت وطلبت ماء،سألت طفلاً صغيراً:هل رأيت فتاة صغيرة مرت من هنا..!!قال:هي في بيتنا..!!تقدم يركض أمامي،مشيت سريعاً خلفه،ظنّ الطفل أنني أخوك،وجدتك وفرحت وقررت أن أعود بك،من أجل شيء مهم جداً،فقط أريد أن أنظر إليك وأنت جالسة على النهر..!!
***
سكنت في غرفة تقع في نهاية الممر الوحيد الذي يتوسط صفي الغرف لفندق البلدة الوحيد،فندق قديم البناء،يقع على رؤوس محال الأقمشة،منتصف سوق البلدة،في ذلك السوق حدثت كارثة غريبة،كل الناس القدماء يتذكرون ذلك الحدث،ناس قالت: العثمانيون جلبوا الفئران للبلدة لتذليل ناسها..!!ناس قالت:رجل غريب الأطوار جاء من مملكة(إيسان)يقود مجموعة حمير ضخمة الجسم،الحمير على ظهورها صناديق خشبية كبيرة،سكن في الفندق،صبي(وكح)تسلل إلى الفندق،احدث فتحات في الصناديق،تسللت فئران بييض وأتت على سوق الأقمشة..!!كارثة قديمة،أدت إلى تهديم الفندق،وتشيد بناية جديدة على أنقاضها،تلك الفئران ظلّت تتكاثر بشكل لافت للنظر،فئران ساحرة،تختفي وتظهر،قبل أن يتم جلب دواء قاتلاً من قبل لجنة أجنبية جائت تمسح الأراضي لعمل سكك حديد لقطار سيمر في البلدة،ناس قالت: يهود..!!ناس قالت::إنكريز..!!ناس قالت:يهود وأنكريز..!!تلك اللجنة رأت كيف الفئران تلعب في الهواء الطلق وكيف تتكاثر وتمزق كل شيء،جلبوا دواءهم السحري وقتلوا الفئران،ناس قالت:أجدادنا هم قتلوا الفئران في حملة شعبية كبيرة..!!ناس قالت:سبب إبادة الفئران يعود لدواء الغرباء العجيب..!!لم أرغب السكن مع نزلاء آخرين يدفعون أقل مما أدفع من أجرة،عشقت الوحدة،قلت:الدنيا تريدني وحيداً،ليس من المعقول أن أخالف أمر دنياي..!!الوحدة راحة،الوحدة في زمن الفوضى أمان،الوحدة مطلب العالم الثالث،الوحدة توفر لصحتي النوم الكافي،تنشط خلايا مخي،عملي يتطلب الوحدة،كي أبدو نشيطاً عند الصباح،أحمل ما لا طاقة لحمّالٍ حمله،صار لدي(معاميل)أقصد(زبائن)كما يحلوا لنا القول،قبل أن تفاجئنا ذات ليلة قوّة أمنيّة وتسوقنا إلى غياهب سجن مظلم وخانق،مكثت في ذلك السجن لسنينٍ خمس،للحق أقول جهلت سبب سوقي للسجن،ليس بوسع المسجون أن يسأل لم هو في السجن،المسجون يلقي أمره إلى الخالق ويقبل بما أعدّ له من ولائم يومية،تعليق في الصباح والمساء،تعليق بالمقلوب،ربط القدمين بحبل متين،الرأس إلى الأسفل،القدمان إلى الأعلى،ضرب بالهراوات واسلاك تكهرب تنتهي بقرّاصات تقرص الأذنين،افواه تصرخ،أفواه تدلق سوائل صفراء مخلوطة بدماء،رجال بلا رحمة يضربون ويضحكون،ضرب وضحك،ضحك وضرب،تمشي الأمور،يتم خلع الأجساد من ملابسها،يخرجون الأعضاء الضامرة،يداعبونها ،أعضاء تتوتر،يضحكون،أحدهم لا يستحي،يداعب العضو المتوتر،عضو سجين معلق،يداعبه بقوة،يعصره ويرخيه بكفه،(تف)يبصق كومة بصاق في كفه،يغسل العضو المتوتر ببصاقه،يدلكه بقوة ورغبة،الجسد المعلق يلهث،فجأة تند صرخة كبيرة،صرخة لذة،احدهم دلق سائله،ضحك يتعالى،ضحك يقود إلى ضرب جديد،السائل يسيل على الجسد(المدندل)يسيل هابطاً من العضو إلى منطقة العنق،الضحك والضرب يمتدان لساعات في الصباح،في المساء يتكرر السيناريو،يعود السجناء أذلاّء،دالقين ألسنتهم،دماء تلوّث أجساد تتراقص،تسقط،(طراق)حزام جلدي يشرخ لحم الجسد،(شراق)كف غليظة تصفع السحنات الدامية، (آآآآآآآخ)فم يصرخ بعد سقوط جسد معصوب العينين في حفرة،يقحم السجناء في زنازينهم الإنفرادية،أنين عازف،حشرجات،تأوهات،نشيج،أنين،أجساد متهالكة تتلوى،تهيأ إراداتها لولائم كونية لا تنتهي،ولائم في عالم لا يريد أن يتحرر من العذاب،من شريعة الغاب،ولائم عالم لا يعرف الفرح،فرحهم التعذيب والتغريب والتخريب، خمس سنوات أيها الكاتب،خمس سنوات ضرب وضحك،خمس سنوات بلا ماء صالح للشرب البشري،بلا طعام مفيد،بلا طعام غني بالفيتامينات التي نسمع أنها تفيد الجسم وتكسبه مناعة ضد الأمراض،أجساد العالم الثالث لا تحتاج إلى مواد غذائية غنية بالفيتامينات،أجساد العالم الثالث،العالم المحتل،أجسادهم عنيدة،تعيش على طعام البؤس والحرمان،اجسادهم صخرية،الفيتامينات تبعث الصحة والعافية في الأجساد،تجعلها رخوة،مائعة لا تناسب الطبيعة في العالم الثالث،الأجساد الرخوة لا تتحمل أحزان العالم الثالث،عذاب يتواصل،موت يتواصل،ضحك يتواصل،بكاء يستمر،جاءنا عفو مفاجئ من لدن الحاكم الجديد الذي تقلّد مقاليد الحكم،ناس قالت:خان ولي نعمته..!!ناس قالت:عندما يستلم يتيم مقاليد الأمور في بلاد ما،على ناسها أن تهيـأ قبورها بأيديها..!!ابتهجنا بسبب العفو الصادر،غير مبالين من يحكمنا،سواء(شعيط أو معيط)حالنا هو..هو..الحاكم في العالم الثالث لا يجر وراءه عربة الأمل،لهم نظرات ثاقبة،لهم أرواح شيطانية،لكنها تعمل للصالح الخاص،لا تعمل للناس،حاكم العالم الثالث،لا يثق بأحد،يدرك جيداً العالم الثالث عالم الثورات والفتن والإنقلابات العسكرية،عالم السلب والنهب، عالم الحروب والمجاعة ،عالم الأوبئة الكارثية،مختصر مفيد العالم الثالث مديون على طول الخط،خرجنا من دون أن نعلم أو نسأل سبب سجننا،ناس قالت:الطغاة يبدؤون فترات حكمهم بزج الناس إلى السجون،ثم يتم إطلاق سراحهم في مهرجانات فرح ومواكب إستعراضية،يعرضون ذلك في شاشات التلفزة،هي شيطنة الطغاة الترويضية للرعية،تخويف وترهيب وتفريح..!!،شاعت بين الناس أسرار متفاوتة،كلام تناثر من فم لأذن،قيل أنّ غرباء سكنوا الفندق الوحيد للبلدة(جلبلاء)،ذلك الفندق الذي سكنه الغريب القادم من(إيسان)الغريب الذي جلب الفئران البييض،جاءوا بهيئة عمّال وكسبة،غرباء كثروا في السوق،يعملون بهمة ونشاط،شيء عادي بالنسبة لنا،فالبلدة تفرش وتبسط أجنحتها على قرى كثيرة،تبين فيما بعد انهم ـ على حد زعم مروّجي السر ـ معارضين لسياسة البلد الجديدة،يعملون لصالح أحزاب لها صلات ببلاد(إيسان)تجاهد بشتى الوسائل لقلب الأمور واستلام دفة الحكم من الحاكم الجديد،شيء ليس بذي أهمية بالنسبة لي،أنا حمّال أبن حمّال أبن حمّال إبن حمّال إلى أبد الآبدين،الرعاة حكموا،الأيتام حكموا،أولاد الزنا حكموا،العقلاء حكموا،النساء حكمن،فقط الحمّالون لم يظهر فيهم حاكم واحد،جدّي وجده الناس في زمانه مؤهلاً لحكم البلاد،لكن سيرته إنتهت عند حكم بلدة،أنا حمّال،لا أجيد لغة كونية غير لغة الأوزان وطرق التعامل معها،لم أتهن كثيراً بحريتي،مذ صرت خارج أسوار السجن،لفّت البلاد رياح حرب خاسرة،أقول خاسرة،أكتبها كما أقولها،خاسرة.. خاسرة ..خـ..ـاـ..ـسـ..ـر..ة،وفق نظرتي لها،كل من سبقني الذهاب إلى أتونها لا يعود إلاّ بعوق أو محمولاً إلى مثواه الأخير،ناس فرحت بالحرب،ناس تنتظر الحروب،ناس العالم الثالث لا تخاف من الحروب،الناس تندفع صوب الجبهات وهي تغني،فرحانة بالحرب،جلود الناس مدبوغة على الصعاب والمشقّات،الحروب تخلّص ناس العالم الثالث من السأم والهذيان والملل الدائم،تجد في الحروب منافع شخصية،تجد فرص ذهبية للسلب والنهب،الجيش يدخل المدن،يخرب ويمشي،الناس تزحف لنقل الموجودات إلى منازلهم،أفراح العالم الثالث تنتهي حين تقف الحروب،تبدأ مرحلة شاقّة عندهم مرحلة الهذيان والتغيير،حرب كبيرة بدأت،ساقونا إلى غمارها،أسعفتني قوّتي الحمارية وعقلي البليد أن يختاروني(جندي شغل)لا يمل أو يكل،بعدما أخرست المدافع،راقبت وجوه صغيرة،وجوه بريئة تأتي،تأتي لأيام وتختفي،بلد يتدحرج،ناس تتشتت،أيام تمضي،أشهر تنقضي،ثقيل هو الزمن في العالم الثالث،تحولت الحرب من جبهة القتال،تحولت إلى ضرب المدن،ناس تمشي في الشوارع فرحانة،تهزج وترقص،ناس تمضي إلى المقابر حزنانة،تدفن وتلطم،افراح وأحزان،أحزان وأفراح،تلك هي فلسفة الحياة في العالم الثالث،توقفت الحرب الطويلة،توقفت فجأة،خرجت الناس سكرانة،رقصت على جثث أبناءها،رقصت على ويلاتها،أفراح دامت لأيام،وعادت الأمور من جديد تبحث عن مجاريها،الحياة هي الحياة،الجوع ما زال يرقد في كل بيت،السأم نهض من غفوته العملاقة،الغرب هو الغرب،الشمال هو الشمال،الجنوب هو الجنوب،الشرق ما زال نائماً في حضارة الخراب،القمر ما زال يخرج في الليل، والشمس ظلّت تشرق من الشرق،الحاكم فرحان،سالماً غانماً خرج من الكارثة،صحته قوية،رغبته ضارية لمواصلة تغير الحضارة،في العالم الثالث حين تنتهي الحروب،تعمل خطط خماسية للبدء بترتيب الأمور،التقشف واجب وطني،الترشيد الإستهلاكي عقيدة ثورية لمواجهات التحديات الغربية المستمرة كما يصرّح الحاكم في العالم الثالث،توقيف الإستيراد الخارجي يوفر عملة صعبة لميزانية البلد،الكماليات هدر لأموال البلد،تحديد النسل يضمن عيش أفضل للعائلة،اللون الواحد للناس يساوي بين الطبقات،الكفاح والجهاد والنضال هو ديدن الناس في العالم الثالث،أنا غير مهتم بما يعلن عبر الشاشات من فرص عمل وحياة أمثل،أنا أبحث عن عمل يدفع عنّي غائلة الجوع،وجدت نفسي من جديد أبحث عن مهنة،وليس للحمّال من مسعى سوى اللجوء إلى عالمه،عالم الأسواق والزبائن،لقد شاعت البطالة مع خرس المدافع،تم تسريح آلاف الجنود،تم تقليص الدوائر الحكومية من باب الفائضين عن العمل،وجدت لا محيص من العربة..العربة في(جلبلاء)..(سيد)المنقذين..!!
***



#تحسين_كرمياني (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- بعل الغجريّة..رواية)8
- بعل الغجريّة..(رواية)7
- بعل الغجريّة(رواية)5
- بعل الغجريّة..(رواية)6
- بعل الغجريّة..(رواية)3
- بعل الغجريّة..رواية/4
- بعل الغجريّة..رواية(2)
- بعل الغجريّة..رواية(1)
- حكاية عبّاس
- ثلاث قصص قصيرة
- السكن في البيت الأبيض
- ونثرنا ضمائرنا على الجدران//قصة قصيرة
- بجلطة شعريّة..مات بطل رواية(نافذة العنكبوت)
- الأتفاقية الأمنية بين مطرقة أمريكا وسندان الفوضى
- أنا كاتب تلك الفصة
- شيء ما يحدث
- لحظة فقد ذاكرته
- أنا كاتب تلك القصة
- في حدثين منفصلين
- حفيد العاشق محروس


المزيد.....




- في شهر الاحتفاء بثقافة الضاد.. الكتاب العربي يزهر في كندا
- -يوم أعطاني غابرييل غارسيا ماركيز قائمة بخط يده لكلاسيكيات ا ...
- “أفلام العرض الأول” عبر تردد قناة Osm cinema 2024 القمر الصن ...
- “أقوى أفلام هوليوود” استقبل الآن تردد قناة mbc2 المجاني على ...
- افتتاح أنشطة عام -ستراسبورغ عاصمة عالمية للكتاب-
- بايدن: العالم سيفقد قائده إذا غادرت الولايات المتحدة المسرح ...
- سامسونج تقدّم معرض -التوازن المستحدث- ضمن فعاليات أسبوع ميلا ...
- جعجع يتحدث عن اللاجئين السوريين و-مسرحية وحدة الساحات-
- “العيال هتطير من الفرحة” .. تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- مسابقة جديدة للسينما التجريبية بمهرجان كان في دورته الـ77


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - تحسين كرمياني - بعل الغجريّة..(رواية)9