أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أحمد الخميسي - نظرة واحدة إلي روسيا














المزيد.....

نظرة واحدة إلي روسيا


أحمد الخميسي

الحوار المتمدن-العدد: 2419 - 2008 / 9 / 29 - 08:30
المحور: الادب والفن
    



لمن عاش في روسيا وقتا فإنها تشبه " النداهة " ، ساحرة ، وفاتنة ، وذات جمال طاغ ، عليك وأنت ترحل عنها ألا تلتفت خلفك ، لأن نظرة واحدة إلي عينيها قد تقيدك في مكانك إلي الأبد . هذه الأغنيات الشعبية الروسية بمقاطعها الممتدة ، المستقيمة ، التي تضرب في سماء كل غرفة وكوخ ، بحزن وقوة ووحدة الجماعات القديمة في الكهوف ، كل أولئك البنات السائرات البديعات الجمال كأنهن إعلان عن الحياة ، وسحرها ، وأملها ، الأشجار العالية ، التي تنعزل قممها بعيدا في الفضاء في كبرياء وسكينة، ودعتها ونجوت بنفسي من هذا الجمال الذي يغمرك بلا نهاية . شيء ما في روسيا يشبه قلبا كبيرا يتنفس طيلة الوقت ، يزفر أنفاسه الدافئة في الضباب ، وفي الطقس المشمس ، وفي الليل ، شيء تحسه طيلة الوقت، يتنهد منزلقا إليك من فوق قباب الكنائس المذهبة ، سفرة الأكل الروسية ، التي لا مثيل لها في العالم ، ففي كل مكان يأكل الناس ثم ينفضون من حول السفرة ليواصلوا الجلسة ، إلا عند الروس ، يفرشون مائدة كبيرة بكل أنواع السلاطة واللحوم والمزات والخمور، ويجلسون لا يفارقون المائدة ، يأكلون ويثرثرون ويضحكون ، تبدأ الجلسة من المائدة وتنتهي عندها . فإذا لم تستطع النداهة أن تجعلك تلتفت إلي نظرة عينيها ، فسوف تجذبك بنكاتها اللاذعة ، وفي هذا الصدد ثمة نكتة بشأن حقيقة أن بوتين –الرئيس الروسي السابق– هو الذي يحكم روسيا حاليا من موقعه كرئيس للوزراء ، تقول إن بوتين حين كان رئيسا صرح منذ عام بأنه بحلول عام ألفين وثمانية سيحكم روسيا " شخص آخر " وأضاف مساعده على الفور : وقد أصبح بوتين خلال سنوات حكمة الماضية " شخصا آخر " ! فإذا لم تجذبك النكات الحادة ، والطبيعة التي تمتد بلا نهاية في بلد هو الأكبر مساحة في العالم ، فسيشدك الوجدان الفريد للشعب الروسي ، الخشن من الخارج ، الطيب جدا من الداخل ، الذي يشرب الفودكا كثيرا ، لكن ليس بسبب البرد كما تعتقد الغالبية ، ولا بسبب الإدمان ، لكن لأن ذلك الشعب يعشق الصراحة ، وهو شعب متحفظ ، يحتاج إلي الكحول ليطلق لسانه بالتعبير عما تجيش به نفسه ، إنه الوجدان الروسي الذي اخترع عبارة " ما من ألم غريب " ، أي أن كل فاجعة في العالم هي فاجعة الإنسان الروسي ، شعب يظل يبحث عن الحقيقة والعدالة ، كأنه مفطور على ذلك، نشأ الأدب لديه منذ بداياته ، مع جوجول ومسرحيته "المفتش العام" ثم " نفوس ميتة " وهو مرتبط بدوره الاجتماعي ، حتى دوستويفسكي الذي قال : كل أدب هو عظيم بمقدار ما هو عصري ، وممتع ، ومفيد . إذا لم تشدك النداهة بجمالها ، وأغنياتها المديدة المقاطع ، وأشجارها ، وقلبها الذي يتنهد ساخنا في كل الفصول ، فسوف تناديك بأمطارها وحزنها الغامض الذي يشيع في ضباب خفيف بلون الطباشير ، تقف في مدخل محطة مترو لتحتمي من المطر ، فيهبط من سماء الشارع الحمام ، منزلقا إلي داخل المحطة ، ينفض ريشه من رذاذ الماء ، ثم يعاود الرحلة . ترى من مكانك امرأة روسية عجوز واقفة محنية الظهر شبه عمياء ، تمد كفا ، وتمسك بيدها الأخرى ورقة صغيرة كتب عليها بحروف كبيرة : ساعدوني لأجل المسيح ! وتفكر في سمة أخرى من سمات هذا الشعب ، ألا وهي التطرف ، والانتقال الحاد من جانب إلي آخر ، من الدعوة لتغيير العالم بالمحبة عند تولستوي إلي المدافع واغتيال القياصرة ، ومن المسيح إلي ماركس ، ومن الشيوعية إلي الابتهالات الدينية . في حديث مع مواطن بسيط قال لي وهو يضرب فخذه بيده : لقد أعطتني الشيوعية سروالا واحدا ، يالها من مأساة ، لكن الأكثر إيلاما أن الديمقراطيين حين جاءوا انتزعوا مني ذلك السروال !
حاول أن تنجو من كل ذلك ، لكنك لن تنجو أبدا من ثقافة روسيا وقصائدها ، من بوشكين وتشيخوف وأندريه بلاتونوف وبلجاكوف، من جوجول الذي مات ملتاثا لأنه كلما أراد أن يصور مجتمعا مثاليا ليرضي القيصر والكنيسة خرجت روسيا الحقيقية من بين يديه ، فقال عنه تولستوي متأسفا : " لم يستطع عقله الخجول أن يرتقي إلي عبقريته الفنية الحدسية المذهلة " . ودعت كل هذا الجمال الطاغي الفاتن ، وسرت في أرض المطار ، تناديني ، ولا ألتفت خلفي ، لأن نظرة واحدة إلي عينيها قد تجمدك أمام جمالها ، تتبعها مأخوذا ، إلي كهفها الغريب المتوهج المشبع بالأساطير والبحث عن معنى وراء الحياة ووراء الموت .

***
أحمد الخميسي . كاتب مصري
[email protected]



#أحمد_الخميسي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مدرسة تولستوي لتعليم الكتابة
- إسرائيل من غزة لأوسيتيا الجنوبية
- مارينا تسفيتايفا .. الشعر والموت
- فالنتين راسبوتين .. بحثا عن الحقيقة
- المعلمون في مصر يطالبون بحق الحياة
- محاسبة المطبع مع إسرائيل جورج البهجوري
- محمود درويش .. والعابرون في كلام عابر
- رحيل سولجينتسين .. أسطورة المواجهة
- ثورة يوليو والثقافة
- الفن والكرامة
- ماذا كسب جورج البهجوري بزيارته لإسرائيل ؟
- د. محمد غنيم .. من أحلام مصر
- النقاش والطفلة
- وداعا أيتماتوف !
- دمياط تواجه حملة - أجريوم - الكندية
- رواية العمامة والقبعة لصنع الله إبراهيم .. زمن الغزو
- الآخرون .. ترف أم ضرورة ؟
- مصر .. أكواخ وقصور
- فلسطين في القاهرة اليوم
- كيف صارت أمريكا شيوعية ؟


المزيد.....




- فنانة مصرية شهيرة: سعاد حسني لم تنتحر (فيديو)
- وفاة المخرج ميشائيل فيرهوفن وساسة ألمانيا يشيدون بأعماله الف ...
- -الماتريكس 5-.. حكاية المصفوفة التي قلبت موازين سينما الخيال ...
- -باهبل مكة-.. سيرة مكة روائيا في حكايات عائلة السردار
- فنان خليجي شهير يتعرض لجلطة في الدماغ
- مقدّمة في فلسفة البلاغة عند العرب
- إعلام إسرائيلي: حماس منتصرة بمعركة الرواية وتحرك لمنع أوامر ...
- مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز ...
- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أحمد الخميسي - نظرة واحدة إلي روسيا