أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - تحسين كرمياني - خوذة العريف غضبان//مونودراما//















المزيد.....



خوذة العريف غضبان//مونودراما//


تحسين كرمياني

الحوار المتمدن-العدد: 2406 - 2008 / 9 / 16 - 05:52
المحور: الادب والفن
    


***
المتحدث : خوذة حربية رومانية منسية غير(مجنفصة).
المكان : حذاء شارع عام منخور التبليط يفضي إلى بلدة شعبية،أمام موقع عسكري مقصوف مهجور.
الموجودات : [بقايا ملاجئ مهدمة../بقايا ساتر ترابي دائري متآكل../ قذائف مدفعية متنوعة ملقاة بعشوائية../إطارات مركبات متنوعة مستهلكة متناثرة،بعضها نصف مطمورة../هياكل سيارات عسكرية محطمة بعضها مقلوبة../سبطانات مدافع تبرز من الأرض../دبابتان محروقتان../صفائح ماء ووقود صدئة../أكياس نايلون تتعلق بأشواك متوحشة../أكياس خيش مهترئة../ علب وزجاجات مشروبات روحية وغازية صدئة../حجارة../حفر../أحذية جنود متحجرة ملقاة بعشوائية../أنطقة عسكرية../ملابس ممزقة../أكوام براز بشرية يابس../علب سجائر متنوعة../نثار أوراق حائلة اللون../صحف ممزقة..]
الوقت : العاشرة صباحاً..
اليوم : الثلاثاء..
الشهر : مايس..
السنة : 1991..
***
(صمت رهيب،شيئاً فشيئاً ضربات أقدام منتظمة تتصاعد كإيقاع موسيقي منضبط) ..يااااااااااه..يبدو أن أحدهم قد جاء،أخيراً جاء،جاء الذي أبحث عنه،جاء الذي سينقذني..جاء من سينتشلني من وحشتي،هللويا..هللويا يا عالم ..هللويا..أنا..أنا..أ..أأأأنا..لم أيأس،لم..لم..لم أفقد رغبتي في النجاة،صمدت كثيراً،صمدت كما كنت أصمد بوجه الشظايا والرصاص،صمدت صمود الحجر بوجه الرياح..صبرت،صبر الصخور العظيمة أمام المقالع،الصخور التي لم تزحزحها الطوفانات،صبرت صبر المياه التي تمضي وتمضي وتمضي،بلا تذمر بلا تكاسل..بلا..بلا..بلا محاولة تمرد،من مكان لمكان،زحفاً تسافر..من جدول لنهر،ومن نهر لبحر ومن بحر لمحيط قبل أن تعود غيمة وترجع مطراًً،ومن جديد تبدأ رحلات لا تنتهي،صبرت صبر نساء هذه البلاد وهن يقدمن فلذات أكبادهن قرابين رخيصة لحروب رعناء،تمجيداً وتعظيماً لأصنام بشرية بغيضة،انتظرت حتى..حتى ظفرت،أرجو أن..أن..أنننننن..(ظفرت)هذه المرة،رغم طول الانتظار وبلاغة الصمت لم أفقد شيئاً من صبري،متماسكة.. قنوعةً..صامدة..بقيت،ولم اليأس،لم التذمر والتشكي،لم القنوط،في بلاد قررت أن لا تنام،بلاد تعاهدت أن تظل تلهث،أن..أن..آه.. بلاد..بلااااااااااد..آه..يا لها من بلاد..!!بلاد قدّت من حركة ويقظة واللهاث من غير بوصلة هادية أو..أو..أو..راشدة ـ لا فرق ـ بلاد تمشي وفق سرابات عقول القائمين..أو..أو..أو..الساهرين ـ لا فرق ـ من غير ملل أو كلل على تيسير شؤونها..أو..شجونها..آه..يا لمصيبتي،دائماً يأخذني حديث ذي شجون،ينسيني ما أنا فيه،أو..ما أتهيأ له،ما لي وما يجري من حولي،لأنشغل بنفسي،لأتأنى في اتخاذ قراري،لأوفر حديثي للحظة خلاصي،أليس كل فرد سمعته أو..لبسني على رأسه،أو..رأيته، ينشغل بأموره أكثر مما ينشغل بهموم الآخرين،آه..لأصغي جيداً،أنا خوذة..خوووووووذة..(يتصاعد الإيقاع)نعم..نعم..أنها حركة،حركة منتظمة،آه..لكم تحركت،ولكن كانت حركات بلا بركات،لكم تيقظت،ولكن يقظات فارغات،أو كما يقولون صفنات طويلات، آه..آه..إيقاعات حقيقة.. حقيقة..هذه المرّة..أقدام ..أقدام بشرية واثقة،تأتي الهوينا،تأتي إليّ،تأتي..تأتي،أسرعي أيتها الأقدام الساعية،أسرعي،أسرعي سرعة البروووووووق الساحقة،أسرعي..سرعة الرصااااااااصة لزهق روح برييييييئة،تعالي..تعااااااالي،اقتربي بسرعة قصوى،وخذيني..آه..خذيييييني حيثما هناك حياة،حيثما هناك بشر وطيور وحيوانات أو..أو..مجرد هناك حيااااااة،حيثما تصدح الأفواه بالضحكات،واثقة أنا..صبري علّمني دروس الحياة،علّمني أسرارها الخفية والمستعصية،لابد أنها أقدام..أقدام بشرية..لا..لا..لأكن أكثر تماسكاً،يجب أن أكن أكثر تهيئاً،لا يجب أن أخطأ على طول المدى،لأكن أدق تأويلاً،أكثر تروياً،أكثر تمحيصاً،هذه ضربات غاية في التناسق،كأنها موسيقى القرون الوسطى،موسيقى براءة الوجود وفطرته،ضربات تخالف ضربات أقدام الناس،الناس تمشي من غير قانون،لا تفكر بالخطوة التالية،أهواءهم تقود أقدامهم لا رؤوسهم،ضربات تتشبه إلى حدٍ ما إيقاعٍ موسيقي منتظم،ضربات ليست كسابقاتها،لا بشر رأيت يمتلك هذه النغمة المنتظمة،البشر يتغيرون وفق إيقاع الزمن المتحرك،وفق الحاجة الملحة،بشر يومنا هذا لا نظام له،يلهث وفق متطلبات مزاجه،أو منساقاً تحت ضغوطات المتنفذين والخانقين رقاب الناس،أو..أو..أصحاب السيادة كما كنت أسمع همسات بعض الجنود،ياااااااااااه..يا للهول..ثانية فلت من فلك واقعي،ولكن أليس واقعي واقع لغو ولهو،واقع ـ غامض حامض ـ كما كنت أسمع همسات بعض الجنود أيضاً،ليس كل الجنود طبعاً،هناك جنود لا يهابون الردى كما أنهم لا يهابون..يهابوووووو..(الضربات تتصاعد.. طربك..طربك..طربك..طربك..) ..أنها تدنو..تقترب..مهما يكن..بشر أو غير بشر،أخيراً جاء من أبتغي.ولم لا أقول جاء الذي يبتغيني،كثيرون جاءوا إلى هنا،أطفال وشبّان وفتيات ونساء،جاءوا وغربلوا المكان،ادلقوا أحشاء هذه المزبلة،وأخذوا ما كان يبغونه من أشياء تنفع أو لا تنفع،أيها القادم..تعال..تعااااااااااال..انتظرت قبل أن أمتثل لسكوتٍ ممض وموحش،سكوت ليس من ذهب كما كنت أسمع بعض الهراءات المتناثرة من قبل الجنود،كلّما كانوا يتشاحنون،أو يتخاصمون،يتضاربون،قبل أن ينبري أحدهم ويتفلسف ـ إخوان..إخوان..دعونا نسكت ـ السكوت من ذهب ـ فيرده واحد ـ نسكت أم نواصل أكل البسكت ـ لا..لا..لا ذهب ولا تنك ولا بطيخ،أنا سكت كثيراً ولم يتحول سكوتي إلى قصدير أو..أو..حتى تراب،سكوتي هذه المرة أرجو أن يتحول إلى رماد أو سماد أو أي شيء ينفع،المهم أحقق غايتي الأخيرة،غاية لم تخطر في البال،غايتي هي حفظ الرؤوس من مناهج الموت،الآن غايتي سلميّة،غايتي أن أواصل علاقتي الوشائجية مع البشر،تعلمت من تجربتي كأداة حربية لابد منها،أن كل إيقاع لابد من شيء يتحرك،كل ـ دم..دم ـ كان يرافقه ـ بم..بم ـ كل اهتزاز كان ينجلي عن مسرفات تزحف لتتلاحم وحرائق تحتدم،اشتباكات حيوانية تتلاحم،درس عسكري تعلمته لا مراء فيه(تتصاعد وتيرة الأيقاعات)آه..آه..فليدنو أكثر صاحب هذا الصوت المتزن، أيتها الإيقاعات المنبعثة من اللامكان،أيتها الآتية لا أدري من أين،تعالي ..تعااااااااليييييييييي،لا تعذبينني أكثر مما تعذبت جرّاء التأويلات الخاطئة لإيقاعات سابقات،ليتها أقدام بشرية اهتدت إلى سواء السبيل من بعد سنوات غليان وضياع،كل شيء وارد،حين تنجلي أثواب الحزن وترحل العذابات ويغادر الغبار لابد من صحو،لابد من تغير جذري في دراماتيكية الحياة،كل شيء سيلبس ثوبه الناصع البياض،كل شيء يرجع نقاوته ويرش أريجه المخبأ،ليتهم كوكبة بشر،أحدهم سيغدو منقذي وآخذي،مخلّصي من غربتي،إذ ليس من المعقول أن أخطأ مرّات ومرّات،الوهم ليس من طبيعتي،لا أعرف لم أخطأت في المرات الماضيات،ربما أنني صرت جزء من الكل الغالب،كل شيء عليه أن يغدو طوعاً أو قسراً كما هو شائع،كل شيء يكتسب طبيعة ما حوله،ليقترب..ليقترب اكثر صاحب هذه الموسيقى البارعة،علّه يراني أو يسمعني،أو..أو..أو يتعثر بي،أرجو أن لا يكون ثقيل السمع،أو أعمى البصر والبصيرة،كثيرون مرّوا ولم ألفت مصاغيهم أو أعينهم،عميان أو ـ طرشان ـ كل شيء وارد في بلاد ترعرعت على دوي المدافع واكتوت بنيران الحروب،داخلية وخارجية،بلاد جائعة ومحرومة،بلاد صار التشرد عنوانها والجوع هويتها والتمزق يقينها واللاقرار ميزتها،بعدما كانت منارة للعلم والسلم،من حق ناسها أن تفقد حواسها،بعضها أو كلها،أو أعضاءها،أنها الحرب..والحرب سفّاح لا يهتم،طعامه لحم ودم،من الأزل حتى العدم،قاموسه بم.. بم..أو..دم..دم..يعطي السعادة طرف والطرف المنكود يثقله بالهم والغم واللطم،ليقترب هذا القادم كي أصرخ هذه المرة،أرجو أن يكون شخصاً وليس أشخاص في مسيرة تأيدية أو احتجاجية،إيقاعات توحي إن لم أفقد ذاكرتي الحربية وكينونتي العسكرية،مسيرة راجلة لعسكر في أوج نشاطهم،ولكن هل حقاً بقى عسكر في الوجود،أما زال كل شيء بعد الزلزال الهائل،ليس لي إلاّ الصراخ،وحده الصراخ يفلح في هذه البيداء،ربما يجدي الصراخ أخيراً،مشلولة مكبّلة مهملة،ليتني أمتلك القدرة على الحركة،ليتني كنت أمتلك بعض الحول،لتململت وأغريته أن يأخذني،إن كان حقاً صاحب هذه الإيقاعات المتناغمة شخصاً شجاعاً،يزن الأمور الحياتية ومتقلباتها ببعد نظر،ربما ما زال يمتلك بقايا حكمة،ومهيمن على أعصابه رغم الذي جرى ويجري،كل شيء ممكن التأويل في بلاد فقدت بوصلتها،بلاد صارت سفينة تمشي بلا غايات وسط عباب الحياة،أرجو أن لا يخاف هذا الآتي..ولم لا..كل شيء جائز،سيقول جنّي تلبس على هيئة خوذة،أو خوذة مفخخة..تحتها عبوة ناسفة،كل شيء وارد وممكن التأويل،في بلاد غدت أرجوحة تدفعها أوهن ريح،من المستحسن أن أصرخ،سأرفع عقيرة صوتي:أنـا..أنـا..نا..نا ..نا..ااااااااااااا..آه..ماذا فعلت..هل جننت،لم صرخت،ولكن هل حقاً صرخت..!!يبدو أنني فقدت صوابي،لم أر من يستحق هذه الصرخة العسكرية(تستمر الأيقاعات بالتصاعد السريع) ليظهر صاحب هذه التناغمات المنعشة أولاً ومن ثم أحرر صرختي،(رجل يركب حمار يمضي،الحمار يمر من فوق الخوذة،يتبعهم كلب أسود،يتوقف الكلب،يشم الخوذة،يرفع ساقه الخلفي اليمين،يسكب بضع قطرات بول،يتقدم خطوتان،ينثر بساقيه التراب خلفه ويهرع وراء الموكب..)..آه..عليك اللعنة،مطر،لكن هذا ليس أوان المطر، إنه..إنه..إنه..يا لرائحته المقيتة،آه..يا كلب أبن كلب/أنعل أبوك لابو أبوك/أنت مثل أبن العريف ـ غضبان ـ الحقير غضب الدنيا تهبط على رأسه الكبير السكير،لا فرق بينكما،هو أيضاً سكب عليّ أو بالأحرى في جوفي سائلاً مقيتاً،لكن سائله كان ثخيناً،خلاف بولك يا كلب أبن الكلب،هو إنسان أبن إنسان،إنسان صغير أبن عريف حقير،لا يفهم،أنت كلب كبير تفهم،أليس في الجوار أشواك،لم لم تبل على هذه الهياكل الجاثمة،ياه..بول حار ومقذع،لا بأس ستطهرني الشمس،الشمس مطهر يغسل آثام الجميع،ولكن هل حقاً الشمس تطهر الخطايا والذنوب،أليس ناس هذه البلاد أكتووا بشمس لا تنكسف وظلّوا حمّالوا خطايا،يا لتعاستي..يا لخيبة أملي..سكوت آخر يجب أن أمتثل لسيفه،سكوت قد يطول،نهار آخر سينقضي،نهارات تلو نهارات،كل شيء من حولي يرحل،كل شيء زائل،وحدي خوذة وقت السلم منبوذة مرفوضة وقت الحرب تعويذة،خوذة تحرس هذه القفار،قفار..قفاااااااار..لا تنتهي،وحدي ألهج مواجيدي لرياح تهب مساء صباح،أحرس مخلفات لا تنفع،لكن أنتم أيتها الأكياس الراقصة،ليتواصل رقصكم وألحانكم الأزيزية،أرقصوا..أرقصوا..وأزّوا..أيتها الأسمال المهترئة،أيتها العلب الخاوية،يا من أسعدتم البشر ذات مرة وأهملوكم كما أهملوني جملة وتفصيلا،ربما ستسافرون..أو..أو..ستغادرووووووون ـ لا فرق ـ لا تيئسوا، سترحلون تاركين أماكنكم لمثيلات لابد أنها آتية لا محال،تواصل الرياح دحرجتها من المدن الحافلة بالأوساخ والشوارع المترعة بمخلفات المطاعم وصفائح قاذورات تدلق أحشاءها كلاب ضالة متكاثرة وقطط نست طعم اللحم والشحم مذ توقفت الحرب،لا تيئسوا،لا تقنطوا،ستدحرجكم الرياح شذر مذر،ستجوبون متاهات ومتاهاااااات،ستشبعون وحشة ورحيييييييل،أكياس لا تعرف اليأس،أسمال لا تنفع،أزبال بلا قيمة،كل شيء يحط ويمضي،إلاّ أنا،مغروسة كجذع شجرة ميّتة،ليس بوسعي التحرك،شمس الصيف تشويني،مطر الشتاء يرد لي نصاعتي،أنا..خوووووووذة..أنا..أنفع من ينتشلني من مكاني،ممكن الاستعانة بي رغم انتفاء الحاجة لي،من يسمعنييييييي..!!،من يحن أو..أو..يرق قلبه وينتزعنييييييي من يأسيييييييي،يأخذني من وحدانيتيييييي،لم لا أحد يريدنييييييي..؟؟..ألم أجلب إلى بلاد لا تعيش بدون حروب،بلاد قررت أن تجعل الخوذة عقالها الواقي،رمز عزتها وكرامتها،دليل حضارتها،أليس من يدٍ تتكرم وتأخذني عسى أن ينتفع مني أحدهم،ألست ذا فائدة،أم انتفت الحاجة لي(صرير إطارات يتصاعد،تتوقف مركبة حديثة،تهبط امرأة،تنزل ولدين،تهبط من الرصيف إلى مسافة عشرة أمتار،تعالج بنطال الولدين،يقعيان..) أناناناناناااا..خوذة ..خوذذذذذذذذة،ألا تسمعيييييييننننننييييييي،أناااااااا خوذذذذذذة..خذونيييييي معكمكمكمكمكمكممممممم،أناااا أنفعكمكمكمكمممم،خلّصوني..خلّصوني..خـ..لّـ.. صـ..و..نـ..ييييي منمنمنمنمنمنمن ههههههههذهههههه الوحشششششششة آه..يبدو أنهم ـ طرشان ـ لأتكلم بهدوء وتوسل،من حقهم أن يكرهوا الصراخ،شبعوا الوعود والأكاذيب،من قبل السياسيون الجدد،صمّوا آذانهم وقتلوا أحلامهم بالعسل الذي جلبوه لسعادتهم،سادهم اليقين أن الحياة مثل الحرب أضحوكة،الحياة لا تستحق العناء والكد وصاروا ينشدون دروب البدائية كونها حياة غير مكلفة وواضحة،آه..أيتها المرأة الجالسة،لابد أن مثانتك ممتلئة،لابد أنك شربت مشروبات غازية هبطت عليكم كالمطر من بعد حرمان طويل، مشروبات مغرية تجهلون عواقبها،مثل الخراف الضامئة أرتميتم عليها،أفرغي مثانتك،أيتها المتسربلة برداء غير محتشم،لدي حكايات جميلة،حكايات الحروب وأسرار الجنود الذين هلكوا وهم يسمعونني وصاياهم،عسى أن يأتي يوماً تبيعوني للمتحف العالمي لمخلفات الحروب البربرية القديمة،خذوني لا ـ تعوفوني ـ أرجوكم ،أنا..خوذة..خوووووذة(يرجع الولدان وتدخل المرأة إلى حفرة،أحدهم يركل الخوذة بقدمه دون أن يزحزحها..يصعد عليها قليلاً ثم ينزل ويتجهان نحو المركبة..)آه..أبن الكلب..أنا خوذة تاج رأس الجنود،ربما كنت تاج رأس أبوك،لست تاج تحت(القنادر)يا أبن العا..العا ..لا ..لا..أمكم جميلة،أمكم عيونها كحيلة،لا تستأهل الشتيمة،ربما تراني وتأخذني معكم..نساء هذه البلاد يتميزن بلملمة كل شيء،كل شيء بات ينفع في أيام سود تزحف،ستجرف أحلام الحالمين وتمزق رايات المتنفذين،أنا أخبركم بما ستؤول لها أموركم،أنا أبن الحروب التي لا تنتهي،أنا خوذة..خوذذذذذذذة..أعرف أسرار ما بعد الحروب،خذوني لأحكي لكم تواريخ الفساد والمدن التي عاث بها الجنود وأحالوها إلى رماد..(تبرز المرأة من داخل الحفرة،وهي تنشغل بترتيب سروالها الداخلي،تتقدم إلى المركبة..)أنا خوذة،خذيني يا امرأة..(تبصق المرأة على الخوذة،تقذف بنفسها إلى داخل المركبة وتنطلق..)آه..عليك اللعنة،خلتك منقذتي ومنجيتي من عذاب السلم،ليت الحروب لم تخمد،ليتها لمّا تزل مستعرة،كنت مسرورة رغم الموت،لا عدو يستهدفني،العدو يريد الأرواح،لا يريدون الخوّذ،كنت أسمع كل شيء،حكايات الغزل،حكايات الزعل،حكايات الليالي الطويلة،آه..ليس بوسعي أن أنسى تاريخي،كنت على رأس جندي وسيم،جندي ارتحت لرأسه النظيف،عكس رأس العربيد ـ غضبان ـ كان فتى وسيماً،كان لا يهملني لحظة واحدة،كان جندياً شاعراً،ينفرد في ليل الجبهة على حافة نهير صغير،تحت ضوء القمر الساحر،كان لا يلقيني من فوق رأسه،كان يستبقيني وكنت متهيئة للذود عن رأسه من رصاصة طائشة،أو من رصاصة قنّاص متربص،أو شظيّة قذيفة عشوائية،كان يطلق لسانه الحلو،يحرر كلمات الهوى لحبيبة بعيدة،أحببته وأحبني ،كان يغسلني دائماً،يزيل الغبار عنّي،يحتضنني ويقبلني متخيلاً انني حبيبته،وكنت مرتاحة لـ ـ بوساته ـ الناعمة،كنت اسكر لأنفاسه الحارة،كان ينام وأنا بين أحضانه،دافئة احضانه،آه..يا لبؤس الحالمين،يا لبشاعة البشر،أخوة الشر،يتناحرون على أوساخ لا تنفع،قتل الجندي،ليت الشظيّة كانت باتجاهي،ليت ذلك،لذدت عنه،لكن الدوي ألقانا معاً،طرنا في الهواء معاً،طار الجندي وسقط،تلوى من جرح كبير قذف بأحشائه خارج جسده،طرت وسقطت،شعرت بخدوش طفيفة،ذرات تراب صفعتني،صرت بعد أسبوعين من موته على رأس العريف المصيبة ـ غضبان ـ أسود ـ عنزي ـ بعض الجنود كانوا يتهامسون فيما بينهم ـ إجه القشمر..راح القشمر ـ كانوا ينادونه سراً التيس والخنزير والـ ـ جلب ـ وـ الجولة ـ والـ ـ زمال ـ ،كنت أسمعهم(يبشبشون)فيما بينهم،لكن لا أحد بوسعه أن يقول ذلك علناً،الجندي الشاعر أوّل رأس حملني استحملني،مات الشاعر ووجدت نفسي على رأس آخر،رأس ليس بشاعر،لكم تألمت لفقدي صاحب الأحلام الرقيقة وـ البوسات ـ الناعسة،رضيت بالقسمة،كونه رأس صغير وغير متحمس للحرب،قبل أن ينتبه ـ غضبان المزنجر ـ لجمالي وصلابتي،كان عريفاً منافقاً،ينقل كل صغيرة وكبيرة إلى آمر السرية،يجعل ـ من الحبة كبة ـ مرة دخل على آمر السرية،كنت على رأسه،قال قولاً كبيراً،آه..عليه اللعنة،هبّ آمر السرية،كمن بوغت بعدوه داخل عليه،هرع معه،كنت أرقص على رأسه الوسخ،أسود ـ ملولب ـ الشعر،هناك كان جندي يلتصق بكلبة،كان صوت غزله الحلو يردده الليل،صاح آمر السرية،أرتعب الجندي وـ بال ـ أو..أو..شخ على نفسه،أنا لم أر البول طبعاً،حكاية ظلّ العريف يردده أينما يحل بثقله،أخذه الآمر وأيقظ السرية النائمة من تعب ورثاثة الأوامر،كنت أصرخ لم فعلت ذلك،لم وشيت،إنسان محاصر،إنسان ظلّ ينتظر إجازته الدورية منذ ثلاثة أشهر،ما دامت الكلبة راضية وهو راضي،لم تغار أنت يا ـ غضبان ـ ألست من فعلها مع حمارة،آه يا لعين يا نا ـ.......ـ الحمير،كنت على رأسك ياـ غضبان ـ لكن ليس هناك من يسمعني،أنا خوذة،منقذة الرؤوس من الرصاص،أنا خوذة يا عالم،آه..ذلك الجندي هرع إلى سلاحه،لم يحتمل الإهانة،راح يركض وراء العريف المنافق ـ غضبان ـ أراد قتله قبل أن يقتل نفسه،لكن رصاصة عالجته،كان الليل في منتصفه،ولم يعلم أحد من كان طالق الرصاصة المميتة،نجا ـ غضبان ـ من عقاب مستحق،ظلّ آمر السرية يسأل عن مطلق الرصاصة،لكم كان غبياً،لو كنت أنا الباحث لتوصلت سريعاً لمن رما،كان يجب أن يجمع البنادق ويشمها،لعرف من قتل الجندي المسكين،الذي تناهضت شهوته القاتلة ووجد كلبة السرية عروس في جبهة جحيمية،العريف ـ غضبان ـ أخذني معه ذات إجازة،وصل العاشرة صباحاً،أنا بطبيعة الحال لا أعرف قراءة أميال الزمن،لا يهمني الزمن وأجزاءه،أن ما يهمني أنني صنعت من أجل واجب محدد،واجبي كما حدد لي أن أحمي رأس الجندي الذي يخاللني،العريف ـ العربيد ـ كما يحلو لرجل ضابط أن يناديه،لحظة طرق باب البيت،كنت على رأسه،سمعت زوجته لحظة فتحت الباب صاحت:دائماً تأتي في العاشرة صباحاً..صاح:هل الولد في البيت..؟؟ ..لا..أنه في بيت أهلي..!!رفعها ونقلها إلى الغرفة،ركبها دون أن ينزلني من فوق رأسه،قالت له:رائحتك كريهة يا أبا الغضب..!!دعيني أتخلص من الجحيم أولاً..!!كنت أتحرك فوق رأسه، حين ـ فش ـ كما ـ يفش ـ بالون فرغ هواءه،لاهثاً سقط على ظهره،قامت هي بإنزالي،زوجته أيضاً ـ عبسية ـ أو ـ حبشية ـ كلام كنت قد سمعته ذات ليلة من زميله،كنت معلقاً داخل الملجأ وكان هو في الخارج،لا أحد يحبه يا عالم،لا تنخدعوا برؤية الجنود جنباً إلى جنب،أو معاً في الملاجئ،الكل كارهين والكل مكروهين،كل شيء ـ خراء ـ في الجبهة الشرقية،كلام جندي تم سوقه سراً في الليل من قبل رجال مخيفين،قال كلمته بعدما انتهى من قراءة رواية أجنبية تتحدث عن الجبهة الغربية،قالوا العريف ـ غضبان ـ هو من كتب تقريراً عنه،أخذوه وعدموه وأعادوه إلى أهله في تابوت كتب عليه جبان،سأخبركم يا عالم،اقتلوا العريف أنه قتل ذلك الجندي الذي قال كلمة حق في زمن السلطان الجائر،هناك من يؤكد أن الجندي قال كلمة ـ هراء ـ لكن العريف أستبدلها بكلمة ـ خراء ـ ومنهم مستعد أن يشهد أنه قال كلمة ـ سواء ـ العريف الواشي،هو من أخذ جثته الطاهرة إلى ذويه كمأمور،من أجل أن ينال إجازة أمدها عشرة أيام،تكريماً لمنافق يطهر الجبهة من النظيفين والصادقين والحالمين وكارهي الحروب،كانوا يكنونه(جولة)،ليتني كنت أعرف ما معنى(جولة)،حين عاد الولد،ولده من بيت أهل زوجته راح يداعبني،يضعني على رأسه وينزلني،قلت:يا له من ولد لطيف خفيف الروح والجسد،خلاف أبيه ـ السخيف ـ أرجو أن لا ينافق حين يكبر،لكن الولد فعل فعلته الكبيرة،هو لم يكن السبب،أمه اللئيمة كانت السبب،كان الوقت ليلاً،كنت متعلقاً على الحائط،صرخ الولد،نهضت اللئيمة،سقطت عيناها علي،قلت أرجو أن لا تفعلها،لكنها أنزلتني وأجلست الولد علي،أفرغ مخاطاً كريهاً،فرقعات وبقبقات غازية تخرج من دبره،كان الولد يشكو من إسهال شديد،بين لحظة وأخرى كنت أسمع دمدمات أحشاءه وكنت الوسيلة لتفريغ ما في جوفه من سائل مخاطي قذر ونتن،العريف ـ غضبان ـ حين نهض في الصباح رآني مملوءاً ليس بالبراز فقط بل أفواج الذباب تغطيني،صاح على زوجته:ما هذا يا أم حردااااااااان..؟؟كانت في فراش نومها،قالت بتثائب(نكااااااسة)أبنك يا ـ غضوبييييييي ـ يا محبوبيييييي..!!أمتثل للأمر الواقع،غسلني على مضض،لم يلبسن رأسه،بل عمل عملته الماكرة،استبدلني بواحدة كانت على رأس جندي،أوهمه بأنني ثقيلة على رأسه،كنت خوذة رومانية،يوم ولدت داخل مفرخ كبير،كنّا آلاف تلو آلاف..وزعونا على صناديق،ساقونا إلى بلدان لا تعيش إلاّ على نيران التناحرات ـ داخلية وخارجية ـ بعد سبات طويل اكتشفت نفسي في هذه البلاد،آه..ما الذي أسمع،يبدو أن أحدهم يقترب،لا..لا..بل هناك أنفار تقترب..(ضحكات نساء،شيئاً..فشيئاً تتصاعد)،آه..سرب نساء،ربما بينهن من تحمل روح خفيفة،روح تتوق لحبيب رحل،أو كان يكتب لها رسائل رغبات وأشواق من أرض المضحكة..آه..أعني أرض المعركة،لا فرق،مضحكة..كه..كه..كه..معركة ..كه..كه..كه..سأتكلم برقة،نساء هذه البلاد،رقيقات،يحملن آلام كثيرة،مجروحات،قلوبهن دامية،أجسادهن حامية،وكل حامية حرامية على حد زعم أم ـ الغضب ـ زوجة العريف،نساء اكتوين برحيل مبكر لبعولتهن وعشاقهن،(خمس فتيات يحملن على رؤوسهن أشواك وحطب،تلقي إحداهن ما على رأسها،يتبعنها الأخريات،واحدة تجلس على الخوذة..)أنا..خوذة، أنا..خوذذذذذذذذة..(يبدأن الكلام والضحك)آه يالها من عجيزة طرية،عجيزة كلها لحم وشحم،أنعم من عجيزة العريف ـ غضبان ـ الذي كان دائماً يجعلني قاعدة أو مقعد ليرتمي علي،كلما يتسلل إلى ملجأ ليسترق السمع ويوشي بمن لا يعرف أو يجيد لغة الكذب،كانت عجيزته ذي رائحة كريهة،يابسة وخشنة،(تتواصل الضحكات والكلام بين الفتيات..)أنا خوذة يا فتاة،خذيني واجعليني مقعداً لعجيزتك الناعمة،خذيني لأحكي لك حكايات جميلة عن الجنود الذين ماتوا ودفنوا هنا،سأحكي لك عن حبيباتهن،ربما واحداً منهم رآك فهواك أو رأيتيه وهويتيه،وربما هو من هواك ومن هويتيه،خذيني..خذيني..أنا خوذذذذذذذذذذة،(ينهضن ويغادرن المكان..) آه..أيتها الفاتنات خذوني لا تتركوني،أنا خوذة..خوووووووذة..أنا مؤنثة مثلكن،ما العمل،من يصغي لي،من ينتشلنييييي من وحدانيتيييييي،سينقضي النهار،سيأتي الليل،ناس تأتي وترحل،وحدي مهملة ملقاة في قفار،كانت لي رفيقة أنيسة،كنّا نتحاور،قبل أن ـ كلب أبن كلب ـ جاء وأنتزع زميلتي وتركني وحدي،أحببتها وكانت متعاشقة معي،جمجمة جندي جيء به تواً،جندي وسيم أعطوه ملابس جديدة وخوذة جديدة التي هي أنا..أنا طبعاً،الجندي فرح كثيراً لحظة وضعني على رأسه،أنا أيضاً فرحت،كونني تخلصت من الإهمال داخل مشجب مليء بملابس وأسلحة(مزنجرة)،بعدما هرب الجندي الذي كنت أقي رأسه،جندي كردي أتوا به،لم يتآلف مع الحرب،كان يسب الحرب ومسببيها،بعد مرور شهر ويومان على تواجده،تركني وذهب في إجازة،لكنه لم يعد،الجنود ثمّنوا عمله وقالوا ـ ألعب بيها يا بطل ـ راح والقوني في المشجب،ذلك الكردي هو من ـ ـ قشمره ـ العريف،أخذ خوذته وأعطاه ـ أنا ـ بعدما ملأني أبنه بالبراز،ادخلوني مشجباً رطباً وخانقاً،ويوم خرجت صرت أشم الهواء وأرى الشمس وأتلذذ بالمطر،ذلك الجندي كان آخر من وضعني تاج رأسه،حدثت الحرب القذرة،حرب كبيرة،هطلت أطنان من الحديد علينا،صار تراب الدنيا على رؤوسنا،زلزال هائل،حرائق تتواصل،مات من مات وهرب من هرب،آه..يا لتلك الأيام المقيتة،كنت من تحت التراب أصرخ،كنت أسمع أقدام تدكنا،أيدي تنبش،أسنان تنهش،يئست من العودة إلى النور،قلت هي ذي الخاتمة،لا أحد غير المستكشفين يصل إلينا،لأنتظر قرون وقرون كي تندحر حضارة الحاضر وتبدأ سلسلة أخرى من الاستكشافات البشرية،بحثاً عن حضارة عصر الفشل،على حد زعم جندي كان كثير القراءة،قبل أن يرده صاحبه:عصر ـ الزعاطيط ـ ..!!أتذكر أن الجندي الأول وضع أنامله على فم الجندي الثاني،هامساً في أذنه:لا تفه سيعدموك..!!لكن الجندي الثاني دفع أنامل الجندي الأول صائحاً:كل صاحب سيادة قبل أن يموت يهيأ أبنه لتسلم مقاليد الأمور،هي الجمهوريات الحديثة صارت وراثة يا عزيزيًً..!!الجنديان قتلا طبعاً في الزلزال الكبير الذي عصف بالبلاد،آه..ليت الزمن يتسارع وتأتي تلك اللحظة التاريخية،سأسترد مجدي القديم وحياتي الهادئة،وأزهو في صالات العالم لأحكي قصة أقذر حضارة وأبشعها،شيء ما راح يحفر،بانت أظلاف،بانت أسنان،أسنان قوية انتزعتني،خلت أن الزمن دار والحياة تسارعت وجاء اليوم الموعود،صرت خارج سباتي،لكن ـ كلب أبن كلب ـ جائع توصل بغريزته العجيبة إلينا،راح يجرجرني..(صفير يعلو..تتصاعد رياح مغبرة..شيئاً فشيئاً تسد الأفق وتحجب الرؤية..)آه..ما هذا،رياح جديدة ،رمال..رمال مرة أخرى،(ـ كيس ـ تدحرجه الريح،يلتصق بالخوذة..)..مااااااااا..هههههههذاااااااا ـ كيييييييس ـ أبن ـ كيييييييس ـ لم يا ـ كيييييييس ـ أ..ظلمتني،لم جئت علي،ستحرمني من رؤية أحدهم لي،أرحل،اتركني،رح مع هذه الريح إلى أماكن سعيدة،ليتني أملك خفتك،لكنت أوّل المغادرين..(تشتد الريح،سوّارات رمال تتحرك وتلف الأزبال،يغادر الكيس من على الخوذة..)آه..ياله من ـ كييييييس ـ مسالم،استجاب لندائي،فليرحل بسلام وأمان،لكن ما هذه الخشونات الضاربة بعنف،آه..رمال..رماااااااال،أيتها الرمال العنيدة،كفاكِ تجريحاً،أيتها الرمال غير النافعة كفّوا عن هذه المهازل،لم تهبون،لم تكتسحون الآماد والأمكنة القصية،كفّوا..كفّوا، ارعووا،ناموا..(يتواصل هيجان الرمال مع هدير الرياح)،آه..صوتي يختنق،صوصوصوصوتيتيتيييي آآآآآآآآآه..ما ااااا هههههذااااا..ظلاااااااام..ظـ..لـ..اااااا..م..ظلاااااااااممممممممم..!!
***
الوقت : (السادسة والنصف عصراً من نفس اليوم،السماء شاحبة، الرياح ساكتة..)..
***
..ياااااااااااااااااه..لكم كانت قاسية علي الرمال،حتى رمال هذه البلاد غير نافعة،رمال لا تنتهي،موجات تلو موجات تهاجم،غاضبة،جارحة مدمرة، مثل بعض ناسها،رمال لا ترحم،يااااااااه..أجبرتني أن أكتم مواجيدي،وأخنق هذاءاتي،حرمتني من فرصة نادرة،فرصة قد تكون مثمرة، قدم..قدم بشري،أنا على يقين مما أقول،قدم بشري تعثر بي،لولا الرمال لربما لفت أنظاره،كان يقذف شتائمه وهو يتعثر بي،كان يلعن ابيه وابي أبيه يوم جاءوا إلى هذه البلدة المنسية على حد زعمه،ماتا وتركاه غريباً يواجه حياة عصيبة،ربما كانت فرصة حاسمة لي وله،كنت على يقين أنه سيستنجد بي،لو فعل ذلك لكنت أقي رأسه من الرمال الهائجة،ومن يدري ربما كان الذي مر وتعثر بي العريف ـ غضبان ـ كل شيء وارد في هذه البلاد، الدنيا في هذه البلاد دوّارة،الكل يرجع إلى أصله وفصله،إلى حيث ولد وترعرع وشب قبل أن يغادر موطن ولادته،أو..أو..ما يطلقون عليه مسقط الرأس،لكن ما من أحد يسأل من أين يسقط رأس الواحد،من الهواء من السماء،لا..لا..يسقط من ـ كككككـ......... ـ أمه،هكذا كان الجنود يتراشقون السباب فيما بينهم،هذا المار،العابر،العاثر،تحت الغبار،هذا المسافر الغباري،كان يتحدث عن الحرب ويشتمني،سمعته يذكر كلمة ـ خراء ـ قال: كلما أرى خوذة أشتم رائحة خراء..!!لا أحد يدرك العلاقة الجدلية ما بين الخوذة والخراء،سوى العريف النتن ـ غضبان ـ وحده شهد ما فعل إبنه في ذلك اليوم البعيد،ثمة آه..ما أحلى هذه الكلمة،ثمة..ثمة..جندي كان يلفق رؤوس الجنود بالفردات الطنّانة على حد زعم ضابط وصف كلام الجندي الكاتب،كان دائماً يتحدث بلغة متاعلية،كما هو يصف لغته،متعالية عن أي شيء هذا ماظلّ مجهولاً عنّي،ثمة علاقة تكوينية أسميها محسومة ما بيني وبين تلك الكلمة المقيتة،كلانا يبدأ بحرف الخاء،ونفس عدد الأحرف،لا أحد يعرف إنني غدوت في يوم ما ـ قعّادة خراء ـ إلاّ هو..وحده من رآني ممتلئاً حد التخمة ـ بخراء ـ حردان أبنه،أو كما كانت تقول امرأته: ـ زرباااااااان ـ أبنك يا غضووووووبي يا محبوووووبي..!!يا للفرص النادرة،لولا الرمال لربما تذكرني من أوّل نظرة،كل شيء وارد،كان من الممكن على سبيل التذكار أن يأخذني ويريني أبنه ـ حردان ـ أو زوجته السوداء،ضاعت فرصة أخرى يا..يا..أنا..يا..أنا..أنا خوذة،آه..يا لذكريات العريف،أعماله تستحق التكرار من باب التسلية،أنا خوذة..دليل زمن البشاعة،تعلمت الكلام غير النظيف من لسان العريف،آه..يأخذني سيل الحنين وجمرة الألم لأحكيييييييي أو..أو..أو..لأتشكييييييي لمن..لمن..لـ..مـ..ن.. ينـ..تـ..شـ..لـ..نـيييييييي،من ينـ..قـ..ذ..نييييييي من هذا الجمود المزمن،من يأخذني ويستر رأسه بي سأسرد له يوماً عصيباً لا ينسى،يوم ذي محرقة،يوم تم إعدام سبعة جنود،نعم سبعة كانوا،قيل إنهم فرّوا من الخطوط الأمامية،جنود ذاقوا ذرعاً بعدم وجود أجازات دورية،وقيل أنهم يكدون ويضحون وأبو ـ جزمة ـ يأكل،حكايات كانت سراً يتهامس بها الجنود،كانت الأنواط،أنواط الخرافة على حد تعبير الجندي الشاعر الذي مات وأنا أنظر إليه،كانت تعطى لمن هو مراسل أو خادم في بيت ضابط،أو جندي ـ لوكي أو لوتي ـ مثل العريف ـ غضبان ـ وحدهم الشجعان كانوا يستحون من نكس الرأس بين أقرانهم أو آباءهم،كانوا يستحون من الهروب،لذلك يموتون على السواتر،وحدهم الشجعان لا يهربون من نيران الحروب القذرة،الحروب غير العادلة،تلك الحروب التي غاياتها واضحة وفاضحة،أهدافها التخلص من العباد وتثبيت كرسي الرئاسة،آه يا للهول،كلمات هذه البلاد لها مرادفات وألحان عجيبة،رئاسة..نكاسة ..سياسة..مكناسة..دناسة..خساسة.. اليوم..اليوم فقط عرفت لم يوجد مزابل الشعر والشعراء في هذه البلاد،كلامهم موزون وحياتهم بلا وزن وقيمة وعافية،مساكين يلهثون ويموتون،يبغون بناء حياة مثالية خالية من التمرد،أنا يا عالم،أنا..أيتها الرياح الراحلة،أيتها البيداء الموحشة،أيتها السماء الداكنة،الساكنة،..أنا لدي أسرار،أسراااااار كبيرة،أسرااااار خطيرة،خذوني كي أتخلص من جيف هذا المكان الملغوم بأعضاء وأشلاء الجنود،هل يمكن نسيان يوم الهجوم الموسمي الكبير،يوم تم إعدام السبعة،كنت على رأس العريف أبو الغضب،كان أو بالأحرى كنّا هنا،جاء هارباً من الهجوم،هرّبه آمر السرية،شريب العرق في الخنادق،كانا يحتسيان لا يستحيان الخمر على حساب كل جندي يجلب زجاجة مقابل عدم إدراج أسمه في الواجبات الليلية،خذوني إلى أو..أو..أجلبوا لي الوحدات العسكرية التي كنت فيها،سأرشدكم إلى كل واحد ترك بصمة سوء في كتاب الزمن،ضباط ومراتب،فقط خلّصوني من هذا المكان،آه..كنت بصدد أن أحكي تلك وقائع تلك الواقعة،كانت مفرزة كبيرة تقف،رهيبة،يلتقطون كل جندي فار أو أرسل في واجب إلى الخطوط الخلفية،حتى العائد من إجازته الدورية،العريف ـ غضبان ـ كاد أن ـ يروح بيها ـ على حد زعم آمر سريته،تمكن أن ـ فلت منها ـ كما قال لزوجته،مكر ونجا،لم أعد أتذكر ما الذي قاله لهم،لم يعدموه،بل هو وقف،بل هو الذي ربط أيدي الجنود السبعة على أعمدة الساتر،صبّوا الرصاصات فيهم،العريف المصيبة قام بمساعدة جنود آخرين بدفنهم في حفر موجودة وراء هذه الملاجئ،كنت على رأسه،كنت أصرخ ليتني أرى حتفك يا نذل يا جبان،آه..من ينقذني يا عالم،من يأخذني لأحكي له كل ما جرى في هذا المعسكر المهجور من أسرار،أين كنت في حديثي، كنت..كنت..آه..ما هذا..يبدو أوان الكلاب قد أزف..(ثلاثة كلاب تتقدم وتبدأ بالشم وسكب البول على الهياكل..)كلاب لا ترحم،كلاب شبعت من لحوم البشر،آه..يبدو أحدهم من أخذ معشوقتي ،هو..نعم..هو..هو..أنه يشمني،يحاول تقليبي،يا كلب أبتعد،أخذت من كانت تؤنسني،أخذت الجمجمة،جمجمة الولد الوسيم،عمّاذا تبحث،عن الهياكل الحديدية،عن كل شيء ذبل ويبس وجف..(يبتعد الكلب بعد أن يرفع قدمه الخلفي اليمين،يسكب بضع قطرات بول على الخوذة،يتقدم خطوة وينثر التراب إلى خلفه..)آه..يا كلب أبن الكلب،ليتني أمتلك أسنان لقضمت هذا الأنبوب المتضامر النازل من أسفل بطنك،وجعلتك تقذف بولك من دبرك،آه كان آخر جندي يحترمني وأكن الإعجاب له،قبل أن تزلزل الأرض وتنقلب أحشاء المعسكر،من يريدني..من يسمعني،أنا خوذة..كنت على رؤوس كثيرة،رؤوس حالمة،رؤوس مسالمة،رؤوس نتنة،رؤوس منافقة،أمقتها رأس العريف(صوت مركبة..)يبدو أن شيئاً ما يتقدم،أزيز،صرير إطارات،نعم..إطارات..إطارات مركبة،ليت أحدهم يهبط،ليت أحدهم يتضايق،يشعر بتدفق جوفه،أو ثقل مثانته ـ مي خالف ـ يتبول علي،ربما سيحتاجني ما أن يراني..(تقف مركبة،يهبط شابان،يبدأان بتجميع كتل الحديد المتناثر..)ما الذي يجري،أنهما ينتزعان كل شيء،لا يبقيان شيء،أنا..أنا..خذوني معكما،أنا أنفعكما،أنا خوذة..(يتقدم أحدهم وينتزع الخوذة من مكانها ويرميها في جوف المركبة بين أكوام من الحديد..)،آخ..لم تقذفني هكذا ـ مي خالف ـ المهم تخلصت..ياه..جاء الفرج،أنا خوووووووذة..أناااااا حرة..هي..هي ..هي..هي..أنا قادم يا عالم..أنا تحررت من الكسل والوحشة،اخيراً تحول صبري إلى عافية طويلة،أخيراً..أخيراً..جاء الفرج،وداعاً أيتها الهياكل الخرساء،وداعاً أنا ذاهب،سأحكي،سأحكي كثيراً عنكم،عن صبركم،عن واجباتكم قبل يوم الحسم الأخير،يا لي من خوذة محظوظة،آه..(يصعد الشابان وتنطلق المركبة..)آه..لكم جميل أن تسافر،أن ترحل،من مكان لمكان بلا عناء،لكم سافرت بين الملاجئ ومن جبهة لجبهة،فقط العريف(أبو غضب)من كان ينقلني ليريني مدينته البائسة،مدينة وسخة،المزابل متراكمة داخل سوقها،لا أحد يهتم بما يدوس عليه بقدميه،أحشاء حيوانات منحورة مدلوقة على إفريز الشارع الرئيس،جيوش من الذباب والزنابير تتقاتل بلحن جنائزي،ورجال البلدية جالسون على أرائك في المقهى،شاياتهم واصلة ـ المعيديات ـ يقدمن لهم لبن وقيمر،عربون سكوتهم والسماح لهن بالجلوس على الرصيف وبيع ما لديهن من لبن وجبن وقيمر وحليب في كل صباح باكر،وفي نهاية النهار كانوا يحملون أكياس نايلونية مثل الفقراء يلملمون عطايا البقّالين،هذا يقذف بخيارة من العيار الثقيل لم يرغب بأخذه أحد،وآخر بثمرة طماطم ـ ممرودة ـ وآخر برأس بصل دب فيه العطن،عطايا من الدرجة البائسة،آه..لكم كرهت المدن،المدن تعج وتضج بالناس والمركبات،أنا صنعت للحروب والجبهات،صنعت كي أحمي الرؤوس من الرصاص والشظايا،ها أنني ماضي لا أدري إلى أين،إلى أين تمضي أيتها المركبة الحوضية،أين تأخذنا،أنت تمضين إلى المجهول،اتجاه البلدة على عكس ما تسيرين،توقفي وغيّري اتجاهك،أنت تسيرين بأتجاه الظلام،توقفي ..تـ..و..قـ..فـ..ييييي.. تـ..و..قـ..فـ..يييييييييييييـ..!!
***
الوقت : (الساعة التاسعة ليلاً)..
المكان : (قاعة طويلة..فرن ناري لتذيب الحديد في جهة اليمين،أكوام من القضبان في الجانب اليسار..أكوام حديد مستهلك..يتقدم شاب ضخم ملثّم الوجه،عيناه تشعان جرّاء توهج الحديد،ويبدأ بإلقاء القطع إلى الآتون..)..
..آه..ما الذي تعمل أيها الفتى،لا تكن قاسياً علينا،ما الذي عملنا لتعدمنا الحياة،تمهل..تـ..مـ..هـ..ل..أأأأأأأنا خوذذذذذة ناااااافعععععععة، يميميميميميمكنكنكنكنك أن..أن..أن تقييييي بييييي رأسكسكسكسك من هذاذاذاذا الجحييييييم،أرجوك،أرجوك تمهل وجرّب ذلك،ضعني..ضعني على رأسك،سأحكي لك حكايات جميلة تؤنسك،حكاياتي مسليّة،سأطرد النعاس من جفنيك،أرجوك تمهل،(الفتى يواصل قذف قطع الحديد في النار،ويدنو شيئاً فشيئاً من الخوذة)..يا ويلي،يبدو أنه أطرش،أنت..أيها الفتى الأسود،أيها ـ المزنجر ـ قف لحظة،من فضلك،لحظة واحد فقط،قف وأنظر إليّ،أنا خوذة،أنا حامي الرؤوس من الرصاص والشظايا،جرّب أن تضعني على رأسك،جرّب،(تصل يد الفتى إلى الخوذة،يرفعها..)آه..أخيراً سمعتني،ضعني على رأسك لتجدني خير حامي وواقي لرأسك الكبير من لظى هذا الجحيم،ضعني..هيّا ضعني..(يدخل رجل كهل،مغبر الملامح،يصرخ بصوت مبحوح:حردان..حرداااااااان ..خف يديك لقد تأخرنااااااا..)..مااااااذا..مااااذا سمعت،صوت من أسمع..هل أنا في لجة حلم،هو..هو..هو..لا..لا..لا أحد يمتلك هذا الصوت ـ المزنجر ـ هو..هي أنت أيها الكهل أما تعرفني،أنا..أنا،(يصرخ الفتى : حاضر يابااااااااااا..!! ويلقي بالخوذة إلى آتون النار..)آااااااااااااه..يا حردااااااااان..آه..يا غضباااااااااان..أنا خوذتكم،أنااااااااااااا خوخوخوخوخذذذذذتتتتتككمكمكمم ..خـ..و..ذ..تـ..كـ..م ممم ممم ممممـ..!

[صوت نار متأججة]



#تحسين_كرمياني (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مواسم الهجرة إلى الأمان
- تلك من أنباء القرى التي أنفلت
- الرابح يأتي من الخلف
- ربّاط الكلام
- أين موقع أنكيدو
- شاعر البلاط الرئاسي
- من كتاب اللعنات
- تحقيق الرغبة في رواية(غسق الكراكي) لسعد محمد رحيم
- إلى ذلك نسترعي الإنتباه
- الأوراق لا تأتي في خريف الرغبات
- رب نافعة ضارة أيضاً
- امرأة الكاتب العراقي
- الصديق الأخير
- فن النصر
- بيت كاميران
- أصطياد فأر....مونودراما
- غريب الدار
- حتى انت يا جمعة
- موت الواقع في رواية (موت الأب) لأحمد خلف
- السيرة الدرامية للمبدع(محي الدين زه نكنه)في كتاب ل(صباح الأن ...


المزيد.....




- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...
- لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش ...
- مغنية تسقط صريعة على المسرح بعد تعثرها بفستانها!
- مهرجان بابل يستضيف العرب والعالم.. هل تعافى العراق ثقافيا وف ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - تحسين كرمياني - خوذة العريف غضبان//مونودراما//