لم تعد الأزمة مشكلة تواجه المثقف العربي، لقد صارت شرطه بل هويته. وكلما أمعن هذا الشرط في العسر والكتامة تنوعت ردود الفعل عليه وتعارضت خطط الناس في فهمه والتفاعل معه. ولعل هذا، أصلا، هو المعنى الأنسب للأزمة. فلا تكون مصاعب الواقع أزمة إلا إذا تعثرت ردود أفعالنا، ومنها الوعي، في الإحاطة بها.
تتجاوز "الأزمة العراقية" الراهنة العراق ونظام حكمه، تتجاوز كذلك النظام العربي و"الفكرة العربية" أو العروبة لتطل على معنى العالم المعاصر والأسس التي ينبغي أن تحكمه. وإذا لم يعد هناك "حل عربي" لهذه الأزمة، فليس ذلك لأن بوش والإدارة الأمريكية ونخبتها من المحافظين الجدد ترفض هذا الحل، ولا لأن العرب عاجزون عن تقديم حل كهذا كما أثبتت آخر "قممهم"، ولكن لأن الأزمة التي تتكثف فيها تناقضات عالمنا المعاصر تحتاج إلى حل يفتح لهذا العالم، وليس للضحايا المباشرين من أهل العراق وغير المباشرين من العرب، آفاقا لنظام عالمي اكثر عدالة واستقرارا. ودور المثقفين في هذا الإطار ليس دعوة العالم إلينا(فهو عندنا سلفا) ولا ذهابنا إليه(فنحن فيه إلى درجة الغرق)، بقدر ما هو اختيار هذا التشابك وإضاءته.
ليس هناك "موقف صحيح" من الأزمة الحالية إذا كنا نعني بالموقف الصحيح الموقف الذي يجتمع له الصواب الأخلاقي والنجوع السياسي والسلامة التحليلية. وهذا لا ينفصل عن خصائص الأزمة ذاتها من أي طرفيها نظرنا. فالدكتاتورية العالمية المتطرفة للسلطة الأمريكية الراهنة تقوض من الأساس شروط الفهم العقلاني والعمل المثمر، ومثلها قوض نظام صدام حسين قدرة شعبه على الاعتدال والتمييز. وبدرجة أقل قليلا فحسب فعلت الأنظمة العربية الأخرى الأمر نفسه. ويفتقر العالم كله اليوم افتقارا مؤلما إلى قوى دولية مؤثرة وغير انتهازية تستطيع حشد الاعتدال والعقلانية حولها، وبناء أرضية لإجماع عالمي من أجل السلام والديمقراطية والاستقرار.
هذا ينطبق أيضا على مواقف المثقفين العرب أيضا. المثقفون العرب بالطبع أكثر عددا وتنوعا من أن يمكن قول كلام مفيد عنهم. لكننا سنحاول عبر ثلاثة أمثلة نقد مواقف مثقفين عرب، لا بعرضها على "موقف صحيح" لا نعرفه، بل بمحاولة كشف قلقها وتأزمها وتناقضاتها الذاتية. سنعرض، في المقام الأول، مواقف مثقفين عراقيين، وهم معنيون أكثر من غيرهم بالاضطراب المتفجر الحالي، وبصورة أكثف وجدانيا وفكريا وسياسيا. ثم نناقش البيان الذي وقعه بعض أشهر المثقفين العرب ويدعون فيه الرئيس العراقي للتنحي تجنيبا لبلاده حربا مدمرة. ونلقي أخيرا نظرة على نقاش محدود، لكنه تمثيلي جدا، جرى بين بعض المثقفين السوريين حول "الموقف الصحيح" من القضية مثار النقاش.
سياسة المرارة
كل ما نحلم به
ألا تعصف بنا هذه الأعاصير
...
أعاصير لا تكف عن اقتلاع الأشجار من جذورها[1].
يختلف محور تركيز المثقفين العراقيين في الأزمة الراهنة اختلافا بينا عن محور تركيز معظم نظرائهم العرب. وهم يركزون في المقام الأول على "الدكتاتور الذي ينام قلقا وذهنه مشغول"[2] والأساس في كتاباتهم، وأكثر منها في أحاديثهم الشفهية[3]، هو دكتاتورية نظام الحكم في بلدهم ووحشيته وفئويته. يأخذون على "معظم" المثقفين العرب "تغاضيهم عن طبيعة النظام الشمولي العراقي"[4]. ويجب أن يكون موقف العراقيين هذا مفهوما، فمعظم من نقرأ لهم هاربون من بلادهم ومشردون في المنافي الأوربية والعربية. هذه هويتهم: "فأن تكون عراقيا اليوم هو تكثيف إضافي لهوية حائرة ومذعورة في الآن نفسه"[5]. لكن يبدو لنا أن المرارة، أكثر من الحيرة والذعر، هي التي تصنع الهوية العراقية وتوجه مواقف المثقفين العراقيين, وهذا مفهوم بدوره. فقد ولد الاجتماع السياسي العراقي ( والعربي) من المرارة والظلم أكثر بكثير مما أستطاع أن يُصرِّف أو يمتص.
وإذا كانت رغبة المثقفين العراقيين في الخلاص من صدام أمرا لا يحتاج إلى تأكيد، فإنهم يريدون أيضا تجنب الحرب. ويتكشف ما في هذا الموقف من عسر، بصورة مؤلمة وكاريكاتيرية معا، في مطالبة كمال سبتي، الشاعر اللاجئ في هولندا، للأمريكيين بألا ينهوا "الأزمة الحالية بدون تغيير الدكتاتورية، وإنهاء الحصار، وعودة ملايين العراقيين إلى بلادها". لكنه يضيف متقمصا الشاعر العراقي العام: "لا يريد للولايات المتحدة أو لأية قوة دولية أخرى أن تشن حربا على بلاده". لا يريد سبتي أن تكون الولايات المتحدة بابا نويل فقط، ولكن أن يحدد هو ما يريده من هدايا منها، فهم (أي الأمريكيون) "يستطيعون فعل أشياء كثيرة" كما يقول. لكن وراء هذه السذاجة السياسية ألم مصنوع من العزلة والغربة: "لا أدري كيف ستكون حياتي اللاحقة في العراق، لكنني لا أستطيع الاستمرار في هذا المنفى". ويأمل سبتي بمعجزة ما: "أن يستقيل الرئيس مثلا، أن يذهب هو وعائلته إلى منتجع ما، ولا أقول منفى، حاملا معه المليارات والذكريات السعيدة عن مقاتل أعدائه خلال أكثر من ثلاثين عاما"[6].
ومثله يأمل فالح عبد الجبار ب"استقالة حاكم، لا استقالة وطن"، وبإصلاح يدرأ الحرب[7]. ويرفض محمد مظلوم الحرب، لكن رفضه يبدو جماليا أكثر مما هو سياسي، أو حتى إنساني: "الحرب، إنها ثمن فادح وفاحش أيضا، لرسم طريق عودة الشعراء إلى ديارهم".
يمكن لردود فعل بعض المثقفين العراقيين أن تكون معقدة، أو حتى عدائية، تشارف حدود البارانويا: "وأحسب أن العالم كله سكت عن هذه الجريمة الفظيعة التي مورست في حق الشعب العراقي، حين لم يعلن إصراره فعلا على طلب رأينا فيما يجري". لكن الكاتبة الشاكية من "العالم كله" لا تلبث أن تحتفل فعلا بالبارانويا بلغة هولوكوستية مرشحة للانتشار بعد الاحتلال الأمريكي: "فالجريمة التي تعرض لها الشعب العراقي تقع مسؤوليتها على العالم أجمع، من معارضي الحرب إلى مؤيديها، ومن يساريي العالم إلى يمينييه"!! ثم الجملة المدهشة التالية التي تؤسس لنوع من الانعزالية العراقية المرشحة بدورها للشيوع: " ليس ثمة أحد يتمتع بالبراءة اللازمة ليحق له التدخل مرة أخرى في الشؤون العراقية"[8]. من شأن احتكار وضع الضحية بهذه الصورة أن يؤسس لنوع جديد من الشوفينية والعنصرية العراقية التي لن تلبث أن تنجب صدّامها لحل التناقضات التي يثيرها تأسيس الوطنية العراقية الجديدة على أرضية "السابقة في الاضطهاد"، التي ستثير بالضرورة تنافسا بين فئات المجتمع العراقي على من كان الضحية أكثر من غيره ومن دفع الثمن الأكبر. ومن يدري؟ فربما غدا أو بعد غدا ستفسح العروبة البعثية الصدامية، الفارغة من المحتوى والتي لم يترتب عليها أية حقوق، الطريق لنسخة مقلوبة عنها: عراقوية معادية للعروبة قد تنال كذلك مجدا وسيعا في وقت غير بعيد.
باختصار، يشكل الخلاص العاجل من نظام صدام نقطة إجماع في أوساط المثقفين العراقيين، بدون حرب إذا أمكن لكن بالحرب إن كان لا مناص. أما من يختارون بقاء الوضع الحالي إذا كانت الحرب هي وسيلة تغييره الوحيدة فيشكلون أقلية محدودة وفقا للإجماع الشفهي لمثقفين عراقيين سمعتهم أو سمعت عنهم[9]. ولاشك أن اليقين العام بقدوم الحرب يقلل أكثر وأكثر من وزن هذه الأقلية.
لم يترك القمع الأحمق ولم تترك المرارة موقعا وسيطا يعول عليه من أجل موقف أكثر توازانا. حين يكتب عبد الأمير الركابي مساجلا مواقف مثقفين عراقيين وعرب تهاجم النظام العراقي وحده أو الأمريكيين وحدهم، ومطالبا ب"حيز ثالث"، لا يهتدي إلى ما هو أفضل من توصية ذاتوية: "يجب إيجاد السبل لإحداث التغيير من دون حرب بقبول زوال الدكتاتورية فورا وقيام حكم انتقالي وطني ورفع الصوت في كل مكان من أجل موقف عربي وإقليمي يقدم حلا"[10]. لكن المشكلة ليست في الركابي والتيار الديمقراطي العراقي، المشكلة في انسحاق موقع الوسط والوساطة الديمقراطية والعقلانية، وهو ما يفرغ مواقف هذا الموقع من أي مضمون موضوعي مؤثر.
سياسة المثقف الأعزل
استمد بيان مجموعة المثقفين العرب الداعي إلى ضغط الراي العام العربي من أجل تنحية صدام حسين وتحقيق انتقال سلمي للسلطة في بغداد وإقامة نظام ديمقراطي في العراق، استمد أهميته من التعارض بين شهرة المثقفين الموقعين عليه وقيمتهم الثقافية والإبداعية، وبين فقر مضمون البيان وتجاهله لشرطه الحاكم، أعني الاندفاعة الحربية للولايات المتحدة التي لا تخفي خططها لاحتلال العراق وتنصيب نظام ملائم لها فيه. يندهش المرء من اعتبار البيان استقالة صدام هي "الوسيلة الوحيدة لتفادي مزيد من العنف"، يندهش لا لأن هذه "الوسيلة الوحيدة" تضمر تسليما بقدرية الهجوم الأمريكي، بل من عبارة "المزيد من العنف" التي تضفي غفلية على الحرب الأمريكية إذ تعتبرها مجرد عنف متماثل مع ذاته يتوزع على أطرافه بالتساوي، ثم ترتب هذه الحرب ترتيبا منطقيا محتوما على لبث صدام حسين في موقعه وامتناعه عن الاستقالة. لا يغير من هذا وصف البيان المحق لحكم صدام حسين بأنه "كان خلال ثلاثة عقود كابوسا على العراق والعالم العربي". فإسناد المطالبة باستقالة الرئيس العراق إلى كابوسية حكمه لم يكن بحاجة إلى انتظار عام 2003 واحتشاد وسائل القوة والتدمير الأمريكية ليستقيم، و"تفادي حرب تهدد أهل المنطقة بكارثة" لا يستدعي استقالة صدام حسين إلا إذا اعتبرنا الحرب محتومة لا مهرب منها ومترتبة ترتيبا حتميا وحصريا على مكث صدام في سلطته كما أشرنا.
على كل حال يبدو أن المثقفين الموقعين انطلقوا بالفعل من أن الحرب آتية لا ريب فيها، وأن استقالة صدام و"المقربين منه" قد تجنب العراق تجرع الكأس الأمريكية. لكن إذا صح أن لا مفر من "الحرب"، وهو صحيح وفقا لكل تقدير، فإن من غير الصحيح أن استقالة صدام ستوفر على العراق شيئا اللهم إلا ما يسميه الأمريكيون "الأضرار المصاحبة"، أي الضحايا المدنيين. فدخول الأمريكيين إلى العراق واحتلاله واقع في كل حال، و"الكارثة" ستحيق ب"أهل المنطقة" في كل حال لأنها ليست من مترتبات المعركة العسكرية حصرا، ولا أساسا، بل هي من خطط الأمريكيين كما بات معروفا للجميع (إعادة رسم الخرائط، تغيير الأنظمة، فرض سلام إسرائيلي على الفلسطينيين...). وقد تجاوزت الديناميكية العسكرية والسياسية والنفسية للحرب نقطة الانعكاس منذ أيلول الماضي على الأقل بحيث أن استقالة صدام لن توقفها بل على الأرجح ستسرع وصولها إلى أهدافها المقررة. ما الذي منع موقعي البيان من رؤية ذلك؟ هل تنبئ هذه الغفلة عن "درجة عالية من استبطان التلفيقات الأمريكية التي تزداد جذريتها الديمقراطية حيال العرب بقدر ما تزداد جذريتها في إعادة إنتاج وتدعيم نظام الهيمنة الأمريكية(والإسرائيلية) على الشرق الأوسط" كما علق جوزف سماحة بشيئ من القسوة على البيان وموقعيه؟ مهما يكن فإن السياق الراهن، وهو سياق حربي تتحكم فيه الولايات المتحدة وحدها مع حلفائها، سيقلب وظيفة البيان على مضمونه وضد نيات أصحابه، وقد يجعل منه "برغيا في آلة التحضير لهذه المواجهة"[11] الحربية لولا أنها (أي المواجهة) تجاوزت، قبل صدور البيان، طور الحاجة إلى براغٍ.
بعيدا عن أن يؤثر بيان وقعه بعض أهم المثقفين العرب على مسار الأحداث أو على مواقف الرأي العام، جرفته الأحداث بسرعة وفككت مضمونه. ولا نجد غير نتائج تفككه في شرح شبلي الملاط له[12]. بلغة مألوفة من دونالد رمسفيلد وخوسيه ماريا أزنار وطوني بلير يقول المحامي المعروف: "الكلام عن الإقناع (إقناع صدام بالتنحي) لا معنى له، فصدام لن يتنحى إلا تحت الضغط". قد يخطر ببالنا أن الملاط يقصد ضغط الرأي العام العربي كما ورد في البيان. لكن الرجل يصرف هذه الفكرة الطوباوية بالحسنى لأن "العالم لم يعد يتحرك هكذا"، لكنه قد يتقبل هذا الضغط كقوة مساعدة: "إذا كان تحريك الشارع العربي سيساعد على الضغط والتأثير على الشارع العراقي قد يكون ذلك مفيدا". ما العمل إذن؟ "هو أن يأتي اليوم الذي تتوقف فيه تلفونات صدام حسين عن الرنين...". والتناقض محلول مع البيان لو افترضنا أن "الرأي العام العربي" هو الذي يتصل بصدام!
لكن الملاط يمضي في إعادة هيكلة البيان إلى درجة التقليل من فكرة تفادي الحرب أكثر حتى مما في نصه الأصلي. لكن بعد هذا الخبط الأعشى لن نفاجأ حين يخبرنا أنه لا أحد يريد الحرب "سوى صدام حسين وشارون"؟! أو حين يصف "تحركنا" بأنه يشجع على "الخروج من خيارين لا ثالث لهما اما الاستسلام أو الصمت"! ما الفرق؟!
هناك نسخة جديدة أكثر تشوشا وأقل إبانة من إعادة تأويل البيان نشرها الملاط في جريدة "النهار" في 2/3/2003. نجد كلاما عن القرار 688 وآليات الشرعية الدولية "التي اشتركنا في بلورتها على امتداد العقد الماضي" والأمم المتحدة... وكلها موجهة ضد نظام بغداد بما يوحي أن هذا النظام هو الذي يوشك على قصف واشنطن واحتلال الولايات المتحدة!
المثقف والقوميسار
ما ينطبق على بيان المثقفين من اقتقار شديد إلى السياسة ينطبق ربما بصورة أكبر على مقالة لافتة كتبها جاد الكريم الجباعي بعنوان "تهافت الدفاع عن العراق". يرى الجباعي أن خطاب "نصرة العراق" والدفاع عنه كان في معظمه "دعما للنظام العراقي لا للشعب العراقي"، وهذا صحيح إلى حد بعيد في الإطار السوري. ومنذ عام 1991 كان "الوجه الآخر لإدانة العدوان ولا يزال تبرير الاستبداد وتأييده ومناصرته". ويوحد الجباعي الاستبداد والاستعمار تحت مفهوم عام هو العدوان، ويتساءل "لماذا لا نرى في شارون وبوش وصدام حسين وأمثالهم وجوها مختلفة لحقيقة واحدة؟" ويستبق أي اعتراض بأن كلامه من قبيل الوعظ الأخلاقي بنظرية ترى أن الأخلاق هي سياسة الضعفاء: "فالمبادئ الأخلاقية والقيم الإنسانية تتطابق (لدى الفقراء والضعفاء والمقهورين والمضطهدين) مع المصالح المشروعة التي يتنكر لها الأقوياء الذين يهضمون الحقوق ويضطهدون أصحابها". وبهذه النظرية يتمكن الكاتب من حماية افتقار موقفه إلى السياسة.
يقرر الجباعي أن "الاستبداد والاستعمار صنوان ووجهان لعملة رديئة واحدة"، بل "إن الاستبداد أخطر من الاستعمار لأنه يستقدم الاستعمار أو ينتج القابلية للاستعمار والقابلية للاستقواء بالخارج على الداخل". لكنه يغادر تعميماته الضاربة عند نهاية مقاله ويتحدث بلغة أقرب إلى السياسة: "في ظل هذا الاختلال الفاضح في نسبة القوى تغدو مهمة المثقفين العرب والعاملين في الحقل العام العمل في سبيل تلافي العدوان والتملص من المواجهة، وذلك بالضغط على الرئيس العراقي ...لكي يستقيل من منصبه ويسلم زمام الأمور لمؤتمر وطني تتمثل فيه جميع قوى المجتمع العراقي... ويتنخب حكومة مؤقتة تهيئ لانتخاب جمعية وطنية تقرر شكل النظام السياسي وعلاقاته الداخلية والخارجية"[13].
يجب قراءة مقالة الجباعي في إطار الحقل السياسي والإيديولوجي السوري لا خارجه. ففي هذا الإطار تكتسب أحكام الكاتب شحنة سجالية تعترض على إغفال الخطاب القوموي المهيمن للواقعة الاستبدادية، ومصادرته باسم التصدي للتهديد الخارجي للداخل وحرياته. كلام الجباعي لم يكن ممكنا قبل عقد أو عقدين من السنين؛ إنه ابن تاريخنا السياسي في ربع القرن الأخير من القرن العشرين حتى لو صعّدت مقالة الجباعي هذا التاريخ في تعميمات لا تاريخية في الظاهر.
لمقالة الكاتب السوري قيمة بذاتها، واكتسبت قيمة أكبر حين استثارت رد فعل نمطيا ومهما في سياقنا.
في رده على مقالة الجباعي يتأسف رجاء الناصر[14] على استخدام الثقافة "كمعبر لتأييد العدوان الأمريكي على العراق أو للتغطية عليه، وأن يتحول بعض المثقفين... إلى أدوات لتمرير هذا العدوان من خلال تصوير أن الاستعمار ... أهون الشرين في معادلة الاستعمار والاستبداد" (لم يستخدم الجباعي تعبير أهون الشرين، وليس هذ المعنى متضمنا في مقاله). ويفضح الكاتب "الفذلكات" التي تركز على "فظائع الاستبداد وآثاره المدمرة على الأمة والوطن، وتجاهل آثار وتأثيرات العدوان على الأمة والوطن"، ويصف ذلك بأنه "كلام حق يراد به باطل". وإزاء جلاء أهداف هذا العدوان المتمثلة في "محاولة القضاء على الوجود القومي للأمة العربية وطمس هويتها الفكرية والمعرفية، وإعادة صياغة كياناتها ودولها لتصبح مجرد كانتونات، ودول طوائف" لا ينكر الكاتب حق المثقفين في الحديث عن "ضحايا الاستبداد وآثاره المدمرة" ولا حق "المناضلين والمواطنين" في مقاومة الاستبداد، فهو واجبهم في الحالين؛ ما ينكره هو توظيف هذا "الحق وهذا الواجب في خدمة العدوان الأمريكي والصهيوني أو للسكوت عنه". وهذا التوظيف جعلنا- والكلام للناصر- "نشك بحسن الاستدلال المعرفي الأخلاقي لدى تلك القلة من المثقفين". ثم ينتقل إلى ضمير المتكلم المفرد ليبرر قَصْر شكه على حسن استدلالهم لا عليهم هم بالذات: "لأنني أحسن الظن ببعض هؤلاء المثقفين الذين أعرفهم، وأعرف أو أحسب أنني أعرف أنهم غير مرتبطين بالأهداف البعيدة للعدوان وبدوائره...". لكن قد يكون الكاتب مطالبا بإبداء درجة أكبر من حسن الفطن وأقل من حسن الظن بالنظر إلى ما يلحظه هو بالذات من أنه "مع اشتداد وتسارع التحضير لجولة جديدة من العدوان الأمريكي على الأمة العربية عبر البوابة العراقية، ومع تنامي الهجمة الصهيونية على أهلنا في فلسطين...ارتفعت وتيرة تلك الأصوات "الثقافية" وارتفعت حدتها، وازداد عددها، في ما يبدو وكأنه سباق بين تلك القلة لاستقبال العصر الجديد، عصر الاستعمار الأمريكي الصهيوني"[15]. مرة أخرى البارانويا بخير!
يشير هذا الرد النمطي جدا إلى ارتداد العقيدة القومية التقليدية إلى فكر اتهامي مبسط وفقير إلى درجة أنها تكاد تكون نسخة طبق الأصل عن اتهام وزير إعلام عربي قبل عامين بعض مثقفي بلده بالارتباط بالسفارات الأجنبية[16].
تتوحد المواقف الثلاث التي استعرضنا في ابتعاد متزايد، قد يعبر عن نفسه بلغة عدائية أحيانا، عن "ثوابت" الوجدان القومي العروبي التقليدي. فبقدر ما أن التمسك بثوابت هذا الوجدان( الوحدة والتحرر والنهوض العربي ورفض التدخل الأجنبي..)، وقد خذلتها الدكتاتوريات القومية قبل غيرها، يؤدي إلى السخط والتمزق النفسي، سيجد الكثيرون منا أنفسهم مدفوعين إلى هجرها لكي يستعيدوا تكاملهم واستواءهم النفسي. نرصد أيضا اشتراك المواقف الثلاث في منح أولوية مطلقة، قد لا تكون سياسية، للمطلب الديمقراطي؛ وفي مرارة وقلق طافيين على سطح القول.
وفي خلفية المواقف الثلاثة التي استعرضنا، تحول تاريخي كبير قلما نال اعتراف التاريخ الإيديولوجي الذي تعرضه لنا العقائد السائدة؛ إنه تاريخ انتهاك عفتنا القومية، تاريخ نزع وطنية الشعوب وخيانتها لأوطان الدول. لقد أمسينا شعوبا بأكملها أسيرة رد الفعل، شعوب مستعدة للتخلي عن ذاتها ولسلخ ملامح وجهها كي تكيد الطاغية.
[1] سركون بولس: كيف نحمل العبء وننهض بعد الطوفان، ملحق النهار، 16/2/2003.
[2] قطعة بهذا العنوان لشاكر الأنباري، ملحق النهار، 23/2/ 2003
[3] يقول منفي عراقي في السويد ناقدا مفاضلات نافدة الصبر تجري في أوساط عراقية: "من يحتلنا لفترة أقصر، صدام أم الأمريكان؟ من يقتل منا أقل، صدام أم الأمريكان؟ من يعطينا حرية صحافة أكبر، صدام أم الأمريكان؟ وقبل أيام ظهر أحدهم يقول: "من يضربنا أقل بالكيماويات، صدام أم الأمريكان؟" سلام عبود: وطن يبحث عن منفى، ملحق النهار، 23/2/2003.
[4] أديب الجادر، النخبة العراقية ومواقف المثقفين العرب، النهار 4/3/2003. ويعبر مهدي الحافظ عن موقف مماثل، ويخشى أن يقود عدم فهم لاعرب للمشكلة العراقية إلى مشكلات بين الرعاقيين وبقية العرب، نفس المصدر.
[5] محمد مظلوم، كوابيس كاكامش العائد، السفير، 28/2/2003
[6] كمال سبتي: الغربة الغربية، السفير، 28/2/2003.
[7] فالح عبد الجبار، أيتها الأوطان ماذا تفعلين بنفسك، السفير، العدد نفسه.
[8] هدى طه، غريب على الخليج: ترتيب المستقبل، ملحق النهار، 9/2/2003.
[9] في جانب منها هذه الازدواجية بين الشفاهي والمكتوب مشكلة الثقافة العربية المعاصرة، وفي جانب مشكلة حرية الشفاهي وانضباط المكتوب في كل الثقافات، ولعلها في جانب أخير أيضا مشكلة الدكتاتورية وتجنب الوثيقة المكتوبة.
[10] عبد الأمير الركابي: المثقفون العرب وقضية العراق: فخا الاتجاه الواحد؟ السفير، 14/2/2003
[11] جوزف سماحة: مثقفون في فخ التغيير، السفير، 4/2/2003.
[12] مقابلة مع شبلي الملاط في جريدة الشرق الأوسط، 5/1/2003.
[13] http://jadg.cjb.net
[14] عرف عن نفسه بأنه "رئيس الجمعية الأهلية لمناهضة الصهيونية ونصرة فلسطين"، وهو أيضا عضو المكتب السياسي في حزب الاتحاد الاشتراكي العربي المعارض.
[15] رجاء الناصر: تهافت مثاقفة الديمقراطة في العربة الأمريكية، http://www.thisissyria.net/، 8/1/2003.
[16] أو لمطالبة عضو في مجلس الشعب السوري بإحالة مثقف سوري معروف إلى القضاء لأنه رصد اتجاها إلى قبول التدخل الخارجي وتأييده في أوساط الشباب السوري. انظر منذر الموصلي: أدعو لإحالة هذا الكاتب على القضاء السوري، النهار، 23/8/2002. وعبد الرزاق عيد: وداعا عارف دليلة أو غلى اللقاء بعد صدور الحكم بإعدامك، النهار،7/8/2002. وياسين الحاج صالح: ناطق التحريم. النهار، 28/8/2002.
4 /3/2003