|
الجريمة والعتاب
طارق قديس
الحوار المتمدن-العدد: 2296 - 2008 / 5 / 29 - 08:36
المحور:
الادب والفن
تسمر أمام شاشة الحاسوب ، أمعن النظر في الرسائل القادمة إلى بريده الإلكتروني ، أخذ يقرأها وهو يبتسم تارة ، ويتجهم تارة أخرى .
أعاد قراءة الردود العشرة التي استلمها من أصدقائه ، وذلك على سؤالٍ واحد قد وجهه إليهم دون أن يغير في نصه شيئاً ، وهو : ما هو أخطر قرار يمكن أن تتخذه في حياتك ؟
كانت علاقته بأصدقائه متفاوتة ، فمنهم من هو على علاقة دائمة معه ، ومنهم من لم يره منذ حفل تخرج الجامعة ، ومنهم من رحل إلى الخارج فانقطت أخباره ، ومنهم من يراه بين الحين والآخر في أحد المقاهي.
أما أحوالهم الخاصة ، فهي أشد تفاوتاً مما يمكن أن يتصور أي إنسان ، ففيهم الطبيب النفساني ، ورئيس قسم في أحد البنوك ، و المدرس ، والوزير ، والضابط ، وفيهم من يعتاش بإيجارات أملاكه الخاصة فقط ، وفيهم مدقق الحسابات ، والمهندس ، والطيار ، وفيهم من هو على شفير التقاعد !
قرأ الردود العشرة بتركيز ، بدأ بالطيار ، وكانت إجابته : ( أهلاً يا صديقي . أمازلت على قيد الحياة ؟ لم أسمع أخبارك منذ مدة .. بخصوص سؤالك ، الجواب بسيط ، إن أخطر قرار يمكن أن أتخذه في حياتي هو أستقيل من عملي ، فهو عمل مميز جداً .. ).
انتقل إلى المصرفي ، لم يُجِبْهُ على السؤال ، تركه ، وقرأ ما كتبه المدرس : (السؤال صعب ، فأخطر قرار يمكن أن أكون قد اتخذته فعلاً . على العموم فأي شيء سيأتي لن يكون أخطر من قرار الزواج !).
ابتسم بسخرية ، نظر إلى خاتم الزواج في إصبعه ، أخذ يحركه بإبهامه قليلاً ، ثم عاد إلى القراءة.
لقد كان التالي هو الوزير ، وكان رأيه أن قبوله لمنصبه هو الأخطر في حياته .
تركه ، انتقل إلى المهندس ، كانت إجابته معمارية بحتة ، لكنَّ رَدَّ مدقق الحسابات لم يكن أفضل منه ، وكذلك صاحب الأملاك.
ضغط على زر النزول في لوحة المفاتيح ، نزل إلى رسالة الضابط ، كانت تحوي سطراً واحداً فقط : ( ما هذا السؤال الغريب ! وما أدراني أنا؟ هل تحسبني فيلسوف زماني ؟ ).
لم يقف عنده كثيراً ، فانتقل إلى الطبيب النفساني ، استوقفته إجابته للحظة : ( إن أخطر قرار يمكن أن تتخذه يا صديقي ، هو أن تسير في طريق لا يكون الله موجوداً في نهايته ! ).
طأطأ رأسه قليلاً ثم تابع قراءته . لقد بقيت رسالة واحدة ، إنها رسالة صديقه المتقاعد ، كانت قصيرة كالأخريات ، لكنها لفتت انتباهه أكثر من الجميع، وقد كتب فيها : ( يا صديقي ، سؤالك هو السؤال الأهم الذي سألته في حياتي ، وجوابه ليس بالأمر السهل ، رغم بساطته ... بالنسبة لي ، القرار الأخطر في الحياة ، هو أن تكتشف في لحظة ما أنك إنسانٌ بلا طموح ، ولا هدف لديك ، لكن الأسوأ من ذلك هو أن تقرر الاستمرار في السير بذات الاتجاه !).
تأمل رسالته للمرة الثانية ، ثم ابتعد عن الحاسوب ، وأدار ظهره ناحية النافذة المطلة من مكتبه في الطابق الرابع على الشارع ، وأخذ ينظر إلى السيارات عند إشارة المرور.
كان ينظر بعينيه ، إلا ان أفكاره كانت في مكانٍ آخر ، كان يفكر في الإجابات كلها ، ويقول في نفسه : ( يا للسخرية ! لقد أرسلت إلى أصدقائي القدامى والمقربين مجرد سؤال ، وكان لكلٍّ منهم جواب مختلف عن الآخرين ، جوابٌ مختلف حتى عن جوابي أنا ! ظننت أنه بإمكانهم مساعدتي في الرد على هذا السؤال ، واتخاذ قرارٍ مهم ، لكن يبدو أن العكس هو الصحيح ! .. فما هو الحلُّ ؟ ما هو الحلُّ يا إلهي؟).
قال هذا ثم استفاق من أفكاره على صوت حارس المبنى . لقد أتى ليتأكد من أن اليوم هو آخر يوم له في المكتب ، وأنه قد اتخذ قرار أغلاقه نهائياً ، فلما أكد له النبأ ، عاد الحارس أدراجه ، وعاد هو إلى حيث كان.
بسرعة رمق الهاتف النقال المحطم على الأرض ، لقد رماه منذ قليل إلى الأرض ، فتحطم إلى أجزاء ، بعد أن طلبت زوجته الطلاق منه، ثم نظر في اتجاه آخر ، نحو الهاتف الأرضي المقلوب على طاولة المكتب ، فيما سماعته تتدلى إلى القاع ، وشريطه السلكي منزوعٌ من الحائط الأيمن ، وذلك بعد مناقشة حادة مع سمسار بورصة الأسهم ، وقد زفَّ له نبأ انهيار السوق المالي.
نظر مرة أخرى إلى خاتم الزواج ، نزعه من إصبعه ، وضعه على الطاولة، أخذ يفرك وجهه بكفه ، وحاول أن يبكي ، لكنه لم يستطع.
عندئذٍ قرر أن ينفذ ما يجول في رأسه ، قرر ففتح درج المكتب ، وأخرج منه المسدس ، تفقده من كل الجهات ، مضى يكلمه ، يتلمسه ، ثم وضع فوهته على ميمنة رأسه ، واستدار معطياً ظهره لباب المكتب ، واستعد لإطلاق الرصاصة، استعد للرحيل عن هذا العالم في لحظة واحدة .
لقد قرر الانتحار ، وفي ظنه أن هذا هو القرار الأخطر في حياته.
وقبل ضغط الزناد ، فتحت زوحته الباب ، كانت تلهث ، فلم تلاحظ المسدس في يده، أما هو فاستدار بسرعة نحوها ، لم يصدق ما رأت عيناه ، إنها زوحته ، فرمى بالمسدس على مقعده ، وركض نحوها . أخذها بين يديه ، بدأ بطرح الأسئلة عليها ، لكنها بدلاً من الإجابة على أسئلتة راحت تبكي وتنتحب.
لم يفهم سر الدموع ، أهي دموع الأسف والاعتذار أم تراها دموع التماسيح ؟ فعاد وكرر ذات الأسئلة.
لم تتمكن من النطق بشكل سليم ، كانت الدموع ، والشهقات ، تتخلل حروف الكلمات فوق لسانها، لكنه رغم كل ذلك استطاع أن يفهم السر، إنه ابنه الكبير ، لقد صدم ثلاثة من الشبان بسيارته وهو في حالة سكر ، مما استدعى نقله والمصابين إلى المستشفى ، فيما حالة أحدهم خطيرة للغاية.
لقد فشلت الخطة ، فشل قرار الانتحار ، أحس بأن الحظَّ يسخر منه ، شعر ببعض الندم ، وبأنه كان على وشك ارتكاب جريمة كبرى بحقه ، وحقِّ عائلته. شعر بتأنيب الضمير ، فمضى يلوم نفسه ، يعاتبها بينه وبين نفسه ، وقد بدا له فداحة ما حصل.
وهنا رفع رأسه إلى السماء ، أغمض عينيه ، أخذ يتمتم بصمت ، كمن يصلي ، أو يعترف بأخطائه سِرَّاً.
استمر لثوانٍ على هذا الوضع ، لم ينطق كلمة واحدة ، ولم يلبث أن رجع إلى سابق عهده ، رجع إلى الواقع ، ليعود بعدها ويضم زوجته إلى صدره ، ويرمي بأحزانه في بحور أحزانها ، تلك الأحزان التي تشابه أحزانه الكبيرة إلى حدٍّ يفوق الخيال ، وربما أكثر من ذلك وأكثر.
#طارق_قديس (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
بيروت خيمتنا الأخيرة
-
الحب في الوقت الضائع
-
لمن تُخبئينَ هذا الجسد؟
-
قطعة السُكَّرْ
-
عالم بلا نساء
-
سارقة الأضواء
-
في بيتنا إرهابي!
-
وخير جليسٍ في الزمان .. !
-
البحث عن بطل
-
لبنان والديمقراطية المغدورة
-
رحيل في المستحيل
-
دعوة إلى حفل تنكري
-
أنا وأنتِ وثالثنا (قرداحي)!
-
موعد مع عزرائيل
-
هل الديمقراطيون والجمهوريون وجهان لعملة واحدة؟
-
الأستاذ والطبشورة
-
الشعب من الزهرة .. والحكومة من المريخ !
-
صاح الديك !
-
كذبة إبريل
-
مذكرات بندقية مشلولة
المزيد.....
-
“باقة من البرامج والمسلسلات وأفلام السينما”عبر تردد قناة CBC
...
-
“ابنك هيدمنها” .. تردد قناة طيور الجنة الجديد 2024 لمشاهدة ج
...
-
مايكل دوغلاس يزور مستوطنة إسرائيلية ويصف المتضامنين الأمريكي
...
-
بتهمة -الفعل الفاضح-.. إحالة سائق -أوبر- بواقعة التحرش بفنان
...
-
عز وفهمي وإمام نجوم الشباك في موسم أفلام عيد الأضحى 2024
-
فرويد ولندن.. أتاها نجماً هارباً فجعلته أسطورة خالدة
-
الروسي بيفول يهزم الليبي مالك الزناد بالضربة الفنية القاضية
...
-
وزير الثقافة اللبناني يزور منزل الشهيد عبد اللهيان
-
إدارة أعمال الفنان جورج وسوف تكشف عن حالته الصحيه بعد أنباء
...
-
كيم كي دوك... المخرج السينمائي الكوري الذي رحل مبكراً
المزيد.....
-
صحيفة -روسيا الأدبية- تنشر بحث: -بوشكين العربي- باللغة الروس
...
/ شاهر أحمد نصر
-
حكايات أحفادي- قصص قصيرة جدا
/ السيد حافظ
-
غرائبية العتبات النصية في مسرواية "حتى يطمئن قلبي": السيد حا
...
/ مروة محمد أبواليزيد
-
أبسن: الحداثة .. الجماليات .. الشخصيات النسائية
/ رضا الظاهر
-
السلام على محمود درويش " شعر"
/ محمود شاهين
-
صغار لكن..
/ سليمان جبران
-
لا ميّةُ العراق
/ نزار ماضي
-
تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي
/ لمى محمد
-
علي السوري -الحب بالأزرق-
/ لمى محمد
-
صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ
...
/ عبد الحسين شعبان
المزيد.....
|