|
الأُميَّة الديمقراطية!
جواد البشيتي
الحوار المتمدن-العدد: 2294 - 2008 / 5 / 27 - 09:45
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
لعلَّ خير دليل على انتشار وشيوع "الأُميَّة الديمقراطية" في مجتمعاتنا العربية أنَّ كثيراً من المواطنين العرب غَبَطَ لبنان على ما ينعم به من ديمقراطية، كان آخر مظهر من مظاهرها اجتماع نوَّابه المتناحرين، وانتخابهم "المرشَّح التوافقي" العماد ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، عبر وضعهم أصواتهم "الحرة" في صندوق اقتراع شفَّاف. إنَّه "الجوع" الذي يُصوِّر لصاحبه البدر على هيئة رغيف.
ذات مرَّة، انتقد رئيس وزراء لبنان الأسبق الدكتور سليم الحص النظام السياسي اللبناني قائلاً إنَّه نظامٌ يقوم على "ديمقراطية أقل وحرِّية أكثر".
لا أريد هنا أن انتقد هذا الانتقاد الصحيح في أحد نصفيه، وأن أسعى إلى إثبات أنَّ "الحرِّية"، مفهوماً وممارَسة، أوسع وأغنى وأعمق وأهم من "الديمقراطية"، التي مهما اتَّسعت وتوطَّدت تظل درجة في "سلَّم الحرِّية"، الذي كلما صعدت فيه درجة زادت درجاته درجات.
لقد أراد الدكتور الحص أن يقول، في انتقاده هذا، إنَّ التمثيل السياسي لطوائف دينية، ومهما لبس من لبوس الديمقراطية كالانتخاب الحر، هو نفي لكل ما تُمثِّله الديمقراطية، في جوهرها، من قيم ومبادئ.
قد نرى عشيرة يجتمع أبناؤها في هيئة ناخبين، لينتخبوا، في حرِّية تامة، مجلساً يُمثِّلهم ويقودهم ويدير أمورهم، التي يخالطها، في بعض مجتمعاتنا العربية، كثير من الأمر السياسي؛ وقد نرى، أيضاً، تنافساً حقيقياً بين مرشَّحين، وفوزاً، من ثمَّ، عبر صندوق اقتراع شفَّاف، لبعضٍ منهم؛ فهل يقودنا هذا إلى استنتاج مؤدَّاه أنَّ مجتمعنا قد اختار "الديمقراطية" نمط عيش وتفكير له، وطريقاً إلى تطوُّره السياسي، وإلى تطوُّره على وجه العموم؟!
"الانتخابات" شيء، و"الديمقراطية" شيء؛ ولن تكون الانتخابات جزءاً من الحياة الديمقراطية للمجتمع إلاَّ إذا غُرِسَت انتخاباته في تربة مختلفة تماماً هي "الأمَّة" و"المواطنة".
أمَّا تلك "الظاهرة" التي التبست على الدكتور الحص حتى اعتقد أنَّها هي "الحرية"، وأنَّ النظام السياسي في لبنان يقوم على "إفراط في الحرِّية" و"تفريط في الديمقراطية"، فهي ظاهرة "حرِّية التعبير"، التي تظل في الحفظ والصون ما بقيت غائبة تماماً "حرِّية التغيير".
وتختلف مجتمعاتنا العربية لجهة منسوب "حرِّية التعبير"، التي لا تحضر، أي لا يسمح لها بالحضور، إلاَّ إذا غابت "حرية التغيير"، التي بعضها يسمَّى "التداول السلمي والديمقراطي للسلطة". وهذا الاختلاف إنَّما يشبه الاختلاف بين أن تَصْرُخ ألماً إذا ما عضَّك كلب، وبين أن يُحْظَر عليك هذا الصراخ، فالمواطن الصالح هو الذي يتألَّم ويعاني في صمت!
وقد يغدقون عليك مزيداً من هذه الديمقراطية كأن يسمح لك بتلقي العلاج، فالعضَّة قد تكون مضرَّة بصحتك.
لقد أسبغوا علينا نعمة الحرِّية، في معناها هذا فحسب، إذ أقنعتهم التجربة أنَّ النباح، ولو كان مزعجاً، لا يمكنه وقف سير القافلة!
إنَّ كل "الحرِّية"، أو "حرِّية التعبير"، التي ينعم بها اللبنانيون لا تكفي للنيل من قوَّة نظام التمثيل السياسي الطائفي، فالمجلس النيابي اللبناني لا يمثِّل الشعب اللبناني إلاَّ بوصفه الحاصل من الجَمْع بين الممثِّلين السياسيين للطوائف كافة؛ وإنَّ قدرة هذا النظام على أن يعيد إنتاج نفسه في استمرار، وعلى أن يخرج سالماً من كل الأزمات، هي ما يعبِّر عن المعنى الحقيقي لشعار "لا غالب ولا مغلوب"، فليس من صراع أو نزاع في لبنان يمكن أن يبدأ خالياً، في محتواه وشكله، من الطائفية من غير أن ينتهي سريعاً إلى نزاع أو صراع طائفي؛ ويكفي أن ينتهي إلى نهايته الطائفية حتى ينتهي إلى نتائج تُقْنِع قادته وضحاياه بأن لا حل سوى حل "لا غالب ولا مغلوب"، في معناه الطائفي، وكأنَّ هذا النظام ما أن يستنفد قدرته على البقاء حتى يجدِّدها بامتصاصه مزيداً من الدم!
أُنْظُرْ إلى الدافع والحافز لدى الناخب والمرشَّح هناك حتى تقف على الجوهر الحقيقي للنظام السياسي الطائفي. إنَّه نظام يقوم على "تديُّن أقل وتعصُّب ديني أكثر"!
ولكن لبنان ليس بالشاذ عن القاعدة في مجتمعاتنا العربية التي تُشوَّه وتُمْسَخ حياتها السياسية إمَّا بعصبية الدم وإمَّا بعصبية الدين، فإذا أراد الناس خلاصاً فلن يكون الخلاص إلاَّ على يديِّ الديكتاتور الذي يقمع رعيَّته بالتساوي.
إنَّ "الدال" في "الدم"، و"الدين"، و"الديكتاتور"، هي الحرف الأهم في حياتنا السياسية، التي إن غادرها، أي أُكرِه على مغادرتها، الديكتاتور، تلوَّنت سريعاً باللون السياسي للعشيرة والقبيلة والطائفة..، ولو كان صندوق الاقتراع الشفَّاف هو المصب الذي تصب فيه الإرادة الحرة للناخبين.
ويكفي أن تجرى الانتخابات حتى نرى الحجوم والأوزان على حقيقتها، فكثرة الانتخابات تجتمع مع قلَّة الديمقراطية، وكثرة الناخبين والمرشَّحين تجتمع مع قلَّة المواطنين، وكثرة الصغير من الانتماء والهوية تجتمع مع قلَّة المواطنة والانتماء الأعلى والأسمى، وكثرة العشائرية والطائفية.. تجتمع مع قلَّة الحزبية، وكثرة التصويت تجتمع مع قلَّة التمثيل، وكِبَر الدائرة الانتخابية يجتمع مع صِغَر المجتمع والوطن.
وفي آخر المطاف ننتخب في حرِّية تامة كل من يجتمع فيه "الإفراط في تمثيل أوهامنا" و"التفريط في تمثيل مصالحنا"، فتتأكَّد حقيقة أن لا ديمقراطية أبداً حيث يقلُّ عدد الديمقراطيين في المجتمع حتى عن عدد المرشَّحين!
#جواد_البشيتي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مفاوضات للسلام أم لاجتناب مخاطر حرب؟!
-
-الأمن الغذائي- أوَّلاً!
-
القوميون العرب الجُدُد!
-
عندما -يُعرِّف- الرئيس بوش الدول!
-
سنة فلسطينية حاسمة!
-
إنَّما -التعريب- كلمة يراد بها -التدويل-!
-
ذاك انقلاب.. أمَّا هذا فلا!
-
-قصة التيه- في نسختها اللبنانية!
-
ليس صراعاً بين عليٍّ وعُمَر!
-
كيف تُشْعَل الحروب.. لبنان مثالاً!
-
لو كان اقتصادنا الحُرُّ.. حُرَّاً!
-
-المسخ عبر التعريف- في مفاوضات سرية!
-
حرب حكومية على -أفيون الفقراء-!
-
فوضى الكلام عن السلام!
-
أما حان لعمال العالم أن يتَّحِدوا؟!
-
تعريف جديد ل -المرأة الزانية-!
-
-حماس- تتحدَّث بلسانين!
-
من بروكسل جاء الجواب!
-
طوفان التصويب وأحزاب سفينة نوح!
-
الكامن في شروط إسرائيل -غير التعجيزية-!
المزيد.....
-
باريس هيلتون تتألق بفستان حالم يذكّر بأميرات ديزني في القصص
...
-
تقرير يكشف -الحقيقة الخفية- لزواج الأطفال..3 فتيات يشاركن مر
...
-
لحظة انتشال ناجين من تحت أنقاض مدرسة منهارة في إندونيسيا
-
ماو تسي تونغ: قائد -نهضة الصين- أم المسؤول عن فناء الملايين؟
...
-
الحوثيون -يعاقبون- شركات أمريكية ويتبنون مهاجمة سفينة هولندي
...
-
إصابات في صفوف باريس سان جرمان قبل لقائه مع برشلونة
-
مباشر: في انتظار رد حماس... الجيش الإسرائيلي يغلق آخر ممر مت
...
-
الفلبين: مقتل عشرات الأشخاص وانهيار مبان جراء زلزال بقوة 6.9
...
-
الدانمارك تستضيف قمة أوروبية وسط تعزيزات أمنية مشددة
-
خطة ترامب لإنهاء الحرب: خديعة سياسية ونصر إسرائيلي مزيف
المزيد.....
-
التاريخ يكتبنا بسبابته
/ د. خالد زغريت
-
التاريخ يكتبنا بسبابته
/ د. خالد زغريت
-
جسد الطوائف
/ رانية مرجية
-
الحجز الإلكتروني المسبق لموسم الحنطة المحلية للعام 2025
/ كمال الموسوي
-
الأرملة السوداء على شفا سوريا الجديدة
/ د. خالد زغريت
-
المدخل الى موضوعة الحوكمة والحكم الرشيد
/ علي عبد الواحد محمد
-
شعب الخيام، شهادات من واقع احتجاجات تشرين العراقية
/ علي الخطيب
-
من الأرشيف الألماني -القتال في السودان – ينبغي أن يولي الأل
...
/ حامد فضل الله
-
حيث ال تطير العقبان
/ عبدالاله السباهي
-
حكايات
/ ترجمه عبدالاله السباهي
المزيد.....
|