( فإنَّ في الخمر معنى ليس في العنب )
قد يكون الشاعر محقّـاً في حينه ومن وجهة نظره، لتمتعه بنشوة السّـُكْـر الآنية من الخمر ( النبيذ ). هذه النشوة التي لا يهبها العنب له، بل يهبه أشياءَ أخرى تنفعه من حيث لا يحتسب. فلو عاش في هذا الزمن واطّلع على ما يعمله كل منهما، لغيَّـرَ رأيه وجعل الأمرَ معكوساً.
لا أحسب أنْ يتوقع القارئُ الكريم هنا مقالاً فلسفياً أو أدبيا،ً بل استعراضاً علمياً حول مادة اكتشفت، أو بالأحرى عُرف مفعولها حديثاً، وتلعب دوراً فاعلاً في أمراض القلب والسرطان وأمراض أخرى، وتوجد في العنب والنبيذ على السواء.
فقد أدرك الفرنسيون في أوائل التسعينات من القرن الماضي أنّ السبب في قلة عدد المصابين بمرض القلب فيهم نسبة إلى أولئك المصابين في الأقطار الأوروبية الأخرى، رغم تناولهم أطعمة دسمة، يرجع إلى استهلاكهم النبيذ، وخصوصاً الأحمر منه، مع الطعام. فأخذ الباحثون ينشطون من كل حدب وصوب لدراسة هذه الظاهرة، فوجدوا في النبيذ مادة أو موادّ تمنع تأكسد جزيئات الخلايا، فتقي الخلية من الموت قبل الأوان. ولما كان النبيذ يُصنع من العنب، فلا بُـدّ أن تكون هذه المادة موجودة في العنب أيضاً، وربما في نباتات أخرى. و بعد بحوث مُكـثفة ودراسات عميقة وُجد أنَّ العنب والنبيذ يحتويان على مادة تمنع تأكسد جزيئات الخلية، وهذه المادة تدعى بـ ( ريسفيراترول Resveratrol )، وهي واحدة من مجموعة كبيرة من مواد كيميائية تدعى بـ (بوليفينول (Polyphenols هذه المواد تتجزأ إلى موادَّ أصغرَ منها حجماً وتعمل كموادَّ ضدَّ التأكسد. فما هي هذه المواد المُـؤكسدة وكيف يحدث هذا التأكسد ؟.
عندما يتناول الإنسان أو الحيوان طعاماً، تتأيض مواد هذا الطعام إلى جزيئات صغيرة يسهل امتصاصها فتدخل مجرى الدم وتذهب بعدئذ إلى الخلايا كغذاء وطاقة، فتؤدي الخلايا وظائفها المتعددة. ولكن أثناء التأيض (ميتابولزم) تتولد جذور طليقة (حرة) free radicals ، وسُمِّيت حرة لأنها تحمل إلكتـرونات غير مرتبطة تكون ( مُـتأهبة ) للـتفاعل أو الإرتباط مع أيِّ شيء تلاقيه من جزيئات الخلية كالبروتين أو الدنا DNA فتُـدمِّر الخلية. أو ترتبط مع الكوليستيرول الضار LDL ( الناتج من الأطعمة الغنية بالدهن ) فتـؤكسده، ونتيجة هذا التأكسد هي تسمّم الخلية وتحطمها مما يُـؤدي إلى تصلّب الشرايين. لذا يُستعمل الفيتامين E، مثلاً، لـ( كنس ) المادة المُـؤكسدة لهذا الكوليستيرول الضار، فـيُسمّى هذا الفيتامين بالمادة مضادة (مانعة) التأكسد، وكذلك الفيتامين ج ( C ) و أ ( A ) وبيتا كاروتين وغيرها. تُـنـتج الجذور الحرة، وخصوصاً الأوكسجين (المُؤكسد) الذي يحتوي على إلكترون زائد طليق superoxide، من ارتباط جزيئة الأوكسجين ببعض البروتينات الفعالة التي تحتاجه للقيام بوظيفتها، ولذا يكون تواجدها في الجسم محتوماً. وإنَّ في الخلية آليةً خاصة للتخلّص منها، ولكنّ كثرةَ إنتاجها الذي يكون عادة في بعض الأمراض والشيخوخة والتلوث، يجعل الجسم غير قادر على التخلص منها دون مساعدة من (الخارج). والتأكسد يسبب أمراض القلب والسرطان والجلطة الدِّماغية. أما وظيفة المواد ضد التأكسد، فهي الحماية أو الوقاية من هذه الأمراض. وهي (المواد مانعة التأكسد) تختلف من حيث قوة تأثيرها، ولقد وُجدت مادة ريسفيراترول المادة الأقوى حتى الآن.
ريسفيراترول
********
توجد هذه المادة في العنب، في غلافه (قشرته)، في الصنوبر، الفستق السوداني ( peanuts ) التوت ( التكّي ) وبعض النباتات الأخرى مع اختلاف كميتها في كل منها.
إنَّ تقييد أو حصر السعرات الحرارية عامل مهم في الحد من عملية التأكسد، حيث أنَّ الطعام ذا السعرات الحرارية العالية يزبدها. فقد وجدت الدراسات الحديثة أنّ الطعام الغنيّ بالكوليستيرول مثلاً، وهو ذو سعرات عالية، يخفض أوكسيد النتريك بنسبة 30%، وأنَّ ريسفيراترول يعكس هذه الظاهرة. وتأتي أهمية أوكسيد النتريك بأنه يسبب انبساط الشرايين فيجري الدم سريعاً فيها، وأن ريسيفيراترول يوقف (يُـبطل) عمل الجذور الطليقة والتلف الذي تسببه ويفتح الشرايين ويقوم بتعزيز كمية أوكسيد النتريك. تسبب الجذور الطليقة قُرحاً وندوباً في أنسجة الشرايين الباطنية، فتتلف الخلايا، وهذا التلف يُحفِّـز بدوره توليدَ الجذور الطليقة، التي تُتلف بدورها الخلايا، وهكذا تستمر العملية التي تُـؤدّي إلى تصلب الشرايين وتثَخنِّـها.
إنَّ عمل ريسفيراترول يشبه في الواقع عمل الفياغرا في تأثيره على أوكسيد النتريك، غير أنّ الفياغرا تؤثر على أوعية الدم الدقيقة فتسبب انبساطها، أما ريسفيراترول، فيعمل على أوعية الدم الرئيسة ويوقف تكاثر الخلايا في جدرانها الباطنية التي تسبب تضييق هذه الشرايين، وله القدرة على منع صفيحات الدم platelets من الإلتصاق بعضها مع بعض. وهذا مهم جداً في الوقاية من السكتة القلبية. وقد وُجد أنّ الكحول يمنع بعض أنواع مُحفِّزي الإلتصاق كالثرومبين. أما مادة كويرستين Quercetin، وهي بوليفينول أيضاً، الموجودة في العنب، النبيذ والشاي الأخضر، فتمنع عاملاً آخر مسبباً للإلتصاق.
ريسفيراترول والسرطان
*****************
أثبت ريسفيراترول أنه الدواء الطبيعي الأول الذي يؤثر على إيقاف مراحل كثيرة في تكوِّن السرطان. وهذه الأبحاث أخذت تزداد بسرعة في السنوات الثلاث الأخيرة. فقد وُجد أنّه يعيق وصول الإستروجين والأندروجينات إلى الجين المنحرف ( المشوه). كما أنّ المعلومات الواردة أخيراً ذكرتْ أنّ ريسفيراتول يسبب قتل الخلايا السرطانية في بعض الأحيان سواء أكان الجين p53 ( المثبط للسرطان ) موجوداً أو غيرَ موجود، وفيما إذا كان الجين (يستقبل) الإستروجين أو لا يستقبله، كما يقول بوزو كيسادو في Bioch. Pharm.2002;64. وبيّن بعض الباحثين من جامعة نوتردام في العام الماضي أنّ ريسفيراترول يزيد من فعالية فيتامين D3 (الذي يتحول إلى ستيرويد مانع لنمو خلية الثدي السرطانية)، كما وجد باحثون آخرون أنّ الخلايا السرطانية في مرض الغدد اللمفاوية نوع non Hodgkin المقاومة لأدوية العلاج الكيمياوي أصبحت حساسة بفعل ريسفيراترول. وأظهر باحثون من النمسا في دراسات دقيقة أنَّ هذه المادة تُعيق انتشار الخلايا السرطانية إلى العظم، وأنَّ نسبة الإعاقة تتراوح بين 30 و70 في المائة، وتُشير معظم النتائج إلى سرطان البنكرياس، الثدي والمجاري البولية، بينما كان تأثيرها على سرطان القولون والبروستات ضعيفاً. والغريب في الأمر أنَّ ريسفيراترول يعمل كما تعمل أدوية العلاج الكيمياوي مع فارق أنَّه يميِّز بين الخلايا الطبيعية فلا يؤذيها وبين الخلايا السرطانية التي يقتلها، بينما تقضي أدوية العلاج الكيمياوي على الخلايا الطبيعية والسرطانية دون تمايز، أي أنها تحرق الأخضر واليابس على السواء، كما يقال.
ريسفيراترول وإطالة العمر
****************
بَـيّـنتْ نتائج الدراسات والأبحاث في 25 آب ( أوغست ) 2003 أنّ مادة ريسفيراترول طولت حياة خلية الخميرة yeast بمقدار 70% بتنشيطها جين التعمير ( طول العمر ) عند إفصاحه ( أثناء عمله ) خلال فترة تقييد السعرات الحرارية. قد وُجد أيضاً أنّ تقييد ( تقليل ) السعرات الحرارية قد أطال أعمار الفئران والجرذان وبعض الثدييات مما افتُـرض أنَّ الشيء ذاته قد يصحّ ُعلى الإنسان أيضاً، لكونه يحمل نسخة من ذلك الجين وإن كان هذا الجين معقداً أكثر من جين الفأر وبقية الثدييات. على أنَّ هذا الأمر يحتاج إلى دراسات طويلة وعميقة لتأكيد ذلك.
بقي أن نذكر أنَّ ريسفيراترول لا يُنتَج بكمية متساوية في أنواع العنب. فالعنب الذي ينمو في المناخ الجاف يحوي قليلاً من ريسفيراترول نسبة إلى ما ينمو في المناخ الرطب. والغريب في الأمر أن الكروم التي تهاجمها الفطريات fungiوتنتشر عليها، كما أنَّ أيَّ أذى تتعرض له، تصنع ريسفيراترول، مما يُعتقد أنه وسيلة الدفاع ضدَّ ما يهاجمها. لذا يكون العنب حاوياً كميبة كبيرة منه، بينما العنب الذي يُرشّ ُ بمبيدات الحشرات، لقتل هذه الفطريات، يكون خلواً من ريسفيراترول!
أما النبيذ الذي يُعمل من العنب فتتفاوت كمية ريسفيراترول فيه تفاوتاً كبيراً، فقد يحوي شيئاً قليلاً جداً منه أو لا يحوي أيَّ مقدار منه إطلاقاً، إذ أنَّ طريقة التحضير تلعب دوراً كبيراً، إضافة إلى عدم وجود محتويات أخرى مانعة التأكسد فيه، أو لا توجد، نتيجة تحضيره، مثل كويرسيتين التي يحتويها العنب. لذا يمكننا القول
إنَّ في العنب سرّاً ليس موجوداً في النبيذ! أما أضرار الكحول، فهذا شيء معروف، ,إضافة إلى أضراره المعروفة،فقد ذُكر أنَّ ثلث المدمنين يُصاب بالتهاب العصب الطرفي (المحيطي) – J.Neurol. Sci. 1998 Dec.11 . لذا يمكن القول إنّ تناول العنب، وإنْ عـزَّ، فالزبيب أو الكشمش، يومياً، يكون مفيداً جداً ضدّ عملية التأكسد اليومية. أما ما قال الشاعر، كما ذُكر في أول هذا المقال، فيحتاج إلى إعادة نظر وتفكير.