د. بهجت عباس
أطلق الكاتب المعروف " أرنست همنغواي " النار على نفسه وانتحر بعد أن أصيبَ بجدبٍ فكري وجفَّ مدادُ قلمه وشعر بأنَّـه غيرُ ذي نفع. وذكر جهاد الخازن في جريدة الحياة اللندنية عن الشاعر نزار قباني، قبل وفاته بعام، أنَّ الشاعرَ شكا له منْ جفافِ الفكر وأنَّ الحياة َ أصبحتْ عبئاً عليه وقد سأمها. ولمْ يكنِ الشاعرُ الراحلُ بدر شاكر السياب سعيداً من عدم استمراره بنظم الشعر الجيد، فراح ينشرُ المقالاتِ العنيفة ضدّ الشيوعيين في جريدة الفجر الجديد لصاحبها طه الفياض-كما أتذكر- في أوائل الستينات، وفي عهد الزعيم عبد الكريم قاسم.
وفي هذه الأيام العصيبة الغامضة يكثر عنف الخطاب، ويصل حدّاً غير معهود
من قبلُ. ولا ريبَ أنَّ ثمة مبرراً أو مبرراتٍ، فاحتمالُ وصولِ أناسٍ ليسوا ذوي أهلٍ، أو من المشكوك في نزاهتهم أو خُلُقِهمْ أو عدم توافق خططهم أو آرائهم أو سياساتهم مع الآخرين، إلى السلطة، وخطفهم المكاسبَ والمناصبَ والإستئثار بالنعم دون غيرهم، يجب أخذُها بالحسبان. كما أنً قلقَ بعضهم من اكتشاف تورطهم سابقاً أو إضاعتهم المكاسبَ التي كانوا ينعمون فيها وغيرها قد تكون بعضَ الأسباب. وأنا هنا لا أناقش هذه الأمور سياسياً واجتماعياً ونفسياً، ولكنًي سأشرح الجانبَ ( الجيني ) منها فقط والذي أعتقد أنه يُلقي بعضاً من الضوء على تصرفاتنا، حيث تلعب النواقل الكيميائية التي تتوسط جينات الخلايا الدماغية بصنعها ( إنتاجها ) الدورَ الكبير. فما هي هذه النواقل الكيميائية؟ ربما يكون بعض المقاطع من كتاب (عالَم الجينات، عمان1999لكاتب السطور) وافياً لهذا الغرض.
" النواقل الكيميائية مواد تُطلقها البراعم الطرفية كواسطة للإتصال ( الحوار ) بين الخلايا العصبية، فهي تنقل المعلوماتِ ضِمْنَ العضوِ وتسيطر على تصرف الخلايا والأعضاء وحتى الحيوان كلياً. إنً كلً طرق الإنتقال يتطلب وجودَ خلايا تفرز هذه الكيميائيات وبروتيناتٍ خاصة ( مُستَقبِلات ) تكتشفها. يُوجَـد حواليْ
( 500 ) نوع من النواقل الكيميائية في الدماغ، وهذا يعني أنَّ ثمة (500 ) مجموعةٍ من الخلايا العصبية على الأقل موجودة، كلٌ مجموعة متخصصة بإطلاق نوع معين من هذه النواقل، أو بمعنى آخر، إنً ثمة (500 ) جين تقريباً في الخلايا الدماغية مسؤولة عن إنتاج هذه النواقل. فأي خللٍ يطرأ على أي جين يؤثر على إفراز ذلك الناقل الذي يتوسط الجين بتكوينه. إنً أهم هذه النواقل الكيميائية هو أستيل كولين، أدرينالين، نورأدرينالين، الحوامض الأمينية (كلوتاميت مثلاً )، دوبامين وسيروتونين.
دوبامين
----
تفرز هذه المادة خلايا متجمعة صغيرة مدفونة بعمق في الدماغ، وهي قليلة عدداً نسبةً إلى مجموع الخلايا العصبية. تؤثر هذه الخلايا على الفعاليات العصبية في مناطقَ كثيرةٍ في الدماغ، ولعـلَّ أهمَّ هذه المناطق، المنطقةُ التي تـُدعى بمنطقة الإنشراح أو الإبتهاج أو الفرح. فعند سماع المرء موسيقى عذبةً أو كلمةَ إطراء،ٍ ينبعث الدوبامين من منطقته فيسبب انتعاشاً ولكنْ سريع الزوال. أما إذا كان الإفرازُ كثيراً نتيجةَ سماعِ أخبارٍٍ سارة جداً، يرقص طرباً وقد يُـصابُ بالهلوسة، (ولكنه يُمتص من قبل الخلايا التي تفرزه فيذهب مفعولُه). إنً ثمة جيناً يُدعى بناقل الدوبامين ينظف الفجوات (الخلوية) من الدوبامين، وبعد أنْ يفعل هذا، تُستنفَدُ كميتُه لدى (بعض) الأفراد، فتكون النتيجة (هياجاً وعنفاً وتصرفاً طائشاً). أما إذا فُقِدَ الإفرازُ تماماً، يُصاب الإنسان بالمرض الرعاشي (باركنسون). فهل الصدمات والنكبات تسبب نفاد الدوبامين الذي يُؤدي إلى العنف والهياج؟ أكثر الحالات تؤيد هذا الإحتمال ولكنه يتطلب دراسة شاملة. ولقد وُجد أيضأ أنً استنفاد السيروتونين لا يسبب الكآبة وحسب، بل العدوانَ أيضاً والعنفَ في التصرف.
أوكسيد النتريك NO
-------------
الخلايا العصبية التي تفرز السيروتونين تكون ملامسة لخلايا عصبية مهمة تفرز ناقلاً كيميائياً هو أوكسيد النتريك، وربما يأتي هنا الدور المشترك بينهما في العدوان. إكتشف الدكتور سنايدر Snyder ورفاقه من جامعة جون هوبكنز الجين الذي يُنتج خميرة السينثيس المسؤولة عن إنتاج أوكسيد النتريك سنة 1993. فبعد إزالة الجين من الفأر الذكر، وُجِدَ هذا الأخيرُ قد تغيًر في تصرفاته، إذْ أصبح معتدياً، قاسياً، مغتصباً جنسياً وقاتلاً أفرادَ جنسِه. فاستنتج أنَّ أوكسيد النتريك يعمل كفرامل Breaks على التصرفات الإنفعالية والعاطفية. فإذا ما فُقِدَ أو قلً إفرازُه، فُقِدت السيطرةُ على التصرفات. وتُوجَدُ التصرفاتُ ذاتها في الشمبانزي أيضاً. ولما كان التركيبُ الجيني في الفأر يُشابه مثيلَه في الإنسان، إستنتج سنايدر أنً هذا التصرفَ جائزٌ في الإنسان أيضاً. ومن المحتمل وجودُ جينات عدًة، وليس جيناً واحداً، في الإنسان تلعب هذه الأدوار، لتعقٌدِ تركيبِ الإنسان ".
ولكنً الظروفَ السياسيةَ والإقتصادية والإجتماعية ( بيئة الفرد ) تلعب دوراً كبيراً بـ ( التناغم ) مع الجينات، فتؤثر على فعاليتها ( كثرة الإنتاج أو قلته أو حتى عدمه ) تبعاً لنوعها وشِدَّ تِها. فكثرة الإنتاج تُوَلد الطرب والمرح، وقـِلًـتُه تسببُ الكآبةَ التي تُـؤدّي إلى الغضب والعنف وحتى الإنتحار. لذا تعمل الأدويةُ التي تُسْـتعمَلُ لمعالجة الكآبة بتوفير النواقل الكيميائية المذكورة سابقا في الفجوات بين الخلايا الدماغية، إمًا بزيادة الإفراز أو بتثبيط إعادة الإمتصاص من قبل الخلايا العصبية في الدماغ. إنً عنفَ الخطابِ والحوار والتصرف قد يحدث أحياناً وعلى نطاق محدود في الشعوب، ولكنْ ما هو موجود الآن على ساحتنا، هو ما يدعو إلى تفكير ٍعميق.
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
اليوتيوب
لينكدإن
تيلكرام
تمبلر
بلوكر
الموبايل
