أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الشهداء والمضحين من اجل التحرر والاشتراكية - كمال الجزولي - القَدَّال: كَثُرَتْ تَوَاريخُ المَرَاثِي!















المزيد.....



القَدَّال: كَثُرَتْ تَوَاريخُ المَرَاثِي!


كمال الجزولي

الحوار المتمدن-العدد: 2163 - 2008 / 1 / 17 - 11:55
المحور: الشهداء والمضحين من اجل التحرر والاشتراكية
    


رزنامة الأسبوع 8-14 يناير 2008

مطـلع

PRELUDE

غافلتنا واختفيت!

كعادتك القديمة ذاتها، قبيل نهايات العَشَاءات، غافلتنا واختفيت!

لم تترك لنا فرصة لثلم رغبتك في ما انتويت من مغادرة عجول، ريثما تبلغ بنا آخر أمداء مشروعك التنويريِّ البديع، أو حتى لمحاولة استبطائك قليلاً ولو بغواية أن (الحلو) قادم لا ريب فيه، وأن (المُرَّ) آيل، بلا شكٍّ، إلى زوال (!) وإنما باغتنا، ظهيرة ذلك الأحد، بطيِّ طروسك، وتجفيف أقلامك، وانسرابك، هذه المرَّة، من الحياة كلها، خفيفاً .. خفيفاً، كما الضوء من خصاص النافذة، والماء من فرجات الاصابع!
عندما التقينا، آخر مرَّة، صباح الأحد السابق على أحدك، في وداع فاروق بمقابر فاروق، ولما يكن قد التأم، بعد، جرح عابدين، كان بمستطاعنا، لو مكَّنتنا من ذلك شيئاً، أن نلمح الشحوب البادي على وجهك الطيِّب، والعلة الناشبة في عينيك الوادعتين، لولا حماسك الطاغي، يومها، وأنت تستدعي، في ذلك المكان القفر بالذات، أعذب ذكرى الاحباء الراحلين تباعاً، وقد كنتم الأجمل في بواشقنا طرَّاً، وتجترُّ أسخى عطاياهم التي لا حصر لها، وأروع حكاياهم التي تكاد لا تنضب، فلكأنك كنت توعز إلينا، من طرف، بآخر وصاياك عن كيف يجدر أن نودِّعك أنت نفسك حين يحين الحين!
لكننا، ونحن أسرى هذا الصلصال الكتيم ودخنة الحمأ المسنون، غفلنا، فما تنبَّهنا لقسوة ما كنت تعاني وتجهد أن تخفي وراء حماسك من ألم مُمِض، وما درينا أن أوانك الذي لن تقدِّم فيه أو تؤخر قد أزف، وأنه آتٍ لا محالة، وأنه لم يعُد يفصل بينك وبينه سوى أسبوع .. أسبوع واحد فقط!

الذبحـة
التاسعة والنصف من صباح الأحد السادس من يناير 2008م. قاد سيَّارته السيريون الصغيرة بنفسه، في معيَّة زوجته فاطمة وابنته جوليا، متجهين من منزلهم بحي البستان بالجريف إلى جامعة الخرطوم، حيث نزلت جوليا، وغشي هو قسم التاريخ بكليَّة الآداب لبعض الوقت، قبل أن ينطلق بصحبة فاطمة لزيارة أصهاره آل باعبود بحي الموردة بأم درمان.
هناك أحسَّ بأن الوخز الذي ظلَّ يتحمَّله، متجاهلاً إيَّاه، طوال الايام الماضية آخذ في التفاقم رويداً رويداً، ثمَّ ما لبث أن استحال إلى نصال تغوص في الرئتين، تتقاطع بين الاضالع، تنهش منه الصَّدر حتى لتكاد تثفله مزقاً. أسرَّ لفاطمة بما يعاني، وبما لم يعُد يطيق معه تحمُّلاً أو اصطبارا، وهو الحمول الصبور طوال عمره، فلا بُدَّ له من الاسراع إلى عيادة عديله د. السر عبد الماجد بالخرطوم. ألحَّت فاطمة، من فوق لجَّة التياعها، في إقناعه بمرافقته، لولا أنه أثناها راجياً منها عدم إزعاج أهل البيت، ومطمئناً إياها بأن الامر لا يعدو أن يكون مجرَّد ارتفاع طفيف في نسبة السكر في الدم، وسرعان ما سيعود للاستقرار. وللمرَّة الثالثة، في ذلك النهار الأغبر، قاد سيارته بنفسه، منكفئاً على مقودها بيدٍ راح يسري فيها الخَدَر، وأخرى تكاد تسحق الصدر، تحاول إطفاء جمر اشتد أواره، في تلك اللحظات، وامتدت ألسنة لهبه المتصاعدة إلى ما وراء الكتفين، بينما هو يئن، ويلهث، ويشهق، ويتصبَّب عرقاً. كان، في الواقع، يلفظ آخر أنفاسه.
تجاوزت الساعة منتصف الظهيرة حين دلف إلى داخل العيادة، بحالته تلك، وبسنوات عمره التي تجاوزت السبعين، البروفيسير محمد سعيد القدَّال، المناضل الشيوعي، والمؤرِّخ الباحث، والمفكر الكاتب، والمعلم المربي، والأستاذ الجامعي الذي تخرجت على يديه، طوال نصف قرن من العطاء الاكاديميِّ الثرِّ، أجيال من تلاميذ المرحلة الثانويَّة، فضلاً عن الآلاف من طلاب شهادة الاساس والدراسات العليا بجامعتي الخرطوم وعدن، والانسان الهاش الباش، من قبل ومن بعد، والذي تفتر الثغور عن وضئ الابتسامات لمرآه، وتنقشع التقطيبات من على الجباه متى أطل.
لكنه ما أن خطا بضع خطوات، ونطق ببضع كلمات، ساعة الشؤم تلك، حتى راح ذلك الهَرَمُ الضخمُ يتقوَّض، يتداعى، يتلاشى، ثمَّ يستحيل طيفاً يسبح في بريق الشعشعات النورانيَّة، تحمله أجنحة الملائك الفضيِّة لتعبر به البرزخ القصير ما بين عالم الاجساد وعالم الارواح .. مرَّة وللأبد!

الخليفة سعيد القدَّال
وُلد محمد سعيد عام 1935م، في أسرة دوَّن هو في تاريخها فصلاً من أمتع فصول الكتاب الذي خصَّصه لسيرة والده الشيخ القدَّال باشا. فلا بُدَّ، لدى الحديث عن سيرة محمد سعيد في مقام تأبينه، من الحديث عن أسرته، ضربة لازب، لا من باب الوفاء، فحسب، لما أحب هو نفسه الحديث عنه، وإنما لإبراز أهمِّ العوامل والمؤثرات التي انعكست على تكوينه الشخصي من ملامح وتراث وتقاليد هذه الأسرة العريقة ذات القدم الراسخة في التصوُّف، والتي تنحدر من (الدويحيَّة)، أحفاد غلام الله بن عائد الذين ينتهي نسبهم إلى الامام علي كرَّم الله وجهه. و(الدويحيَّة) فخذ علم وصلاح من أفخاذ (البديريَّة الدهمشيَّة) بقرية (دويم ود حاج) بمركز (مروي) في منطقة قبيلة (الشايقيَّة)، ولهم فيها وشائج أرحام قديمة. ومنذ مطالع القرن التاسع عشر التحموا بالطريقة (الختميَّة)، وبسندها الأهمِّ بين الطبقة التجاريَّة الناشئة، وبالاخص منذ زيارة السيِّد محمد عثمان الميرغني، تلميذ السيِّد احمد بن ادريس، للمنطقة للتبشير بالطريقة عام 1818م. لكنهم ما لبثوا أن هاجروا وتوزَّعوا بين القضارف وسنجة وكسلا أوَّل تأسيسها، على يد الحكم التركي ـ المصري عام 1840م، وذلك لسببين: أحدهما عام يتصل بالهزَّة الأوليَّة التي أحدثها في جدران التنظيم القبلي، خلال القرن التاسع عشر، ظهور السوق القومي وبداية التبادل السلعي النقدي، حيث شرعت القبائل في تبادل النزوح بين أرجاء البلاد، والكفِّ عن التشبُّث بمناطق ارتكازها الجغرافيَّة التي تمثل الرمز الأكبر لعصبيَّتها. أما السبب الآخر فخاص يتعلق بسوء التفاهم الذي كان لحق بعلاقة (الدويحيَّة) مع (الشايقيَّة) عقب هزيمة الاخيرين في (موقعة كورتي) في ملابسات غزو محمد علي للسودان عام 1821م، وكانوا قد عوَّلوا، بالكليَّة، على (الدويحيَّة) أن يكتبوا لهم تمائم تقيهم الفتك، وتضمن انتصارهم على الجيش الغازي .. ولكن هيهات!
كان جدُّه الخليفة سعيد القدال قد تلقى قدراً من التعليم، بخلاف الشائع بين أبناء جيله، مِمَّا عمَّق من معارفه وأهَّله لابتناء خلوة بها ألف من الطلاب. وقد اختار، أوان الهجرة، أن ينزح مع أسرته إلى شرق السودان، مثلما نزح إليه أيضاً، في ما بعد، أصهاره آل قمر الأنبياء وآل التهامي من قبيلة (الجعليين) فرع (النفيعاب)، فوجدوا فيه مرتعاً خصباً لممارسة حرفتهم ـ الزراعة. وسرعان ما أضحى الجد خليفة للسيِّد الحسن الكبير، ثم خليفة، من بعده، لإبنه السيِّد محمد عثمان الثاني الذي هاجر معه إلى مصر أوان اندلاع الثورة المهديَّة، ولم يعُد إلا بعد انتهاء دولتها، ليصبح خليفة للسيِّد أحمد بن محمد عثمان، وليرتقى، من ثمَّ، في سلك الطريقة حتى تبوَّأ موقع (خليفة الخلفاء) ولقب بـ (الخليفة سعيد لحَّاق بعيد)! وعند عودته استقرَّ، أوَّلاً، بالقضارف، حيث مارس الزراعة، وتزوَّج، وهو في التسعين، من فاطمة بنت محمد عثمان قمر الانبياء، أرملة شقيقه عبد الرحمن الذي كان له منها داود وإسحق وعبد الرحيم، كما كان له أيوب من زوجته الاخرى زهرة بنت القدال.

الشيخ القدَّال سعيد
في القضارف، عام 1903م، أنجبت فاطمة للخليفة سعيد، قبيل وفاتها، إبنه الشيخ القدال، والد محمد سعيد، وكان للخليفة ابن من زوجة أخرى هو حسن. وانتقل الجدُّ بأسرته هذه إلى كسلا، حيث أقاموا بحي (الختميَّة) في سفح جبل (التاكا) عند نبع (توتيل). وأزهرت للأسرة الكبيرة، على يديه، صلات ممتدَّة وعلائق متشابكة داخل كلِّ القبائل ذوات الشوكة، وقتها، (كالشكريَّة) في (البطانة)، و(الضبانية) في (تومات ود زايد)، وغيرهما، مِمَّا مهَّد سبل هذه الصلات والعلائق لأبنائه وأحفاده من بعده.
بدأ الشيخ القدال تعليمه باكراً على يدي والده الخليفة سعيد، فورث عنه علمه، وعلاقته بـ (الختميَّة)، وصلاته بالقبائل الكبرى، فارتكز، في مقبل أيامه، على هذه العُمَد الثلاث، مضيفاً إليها، لاحقاً، عُمدة رابعة تمثلت في البعد الخارجي لصلاته وعلائقه، من خلال عمله في حضرموت بجنوب شبه الجزيرة العربيَّة. وواصل الشيخ الوالد تعليمه في خلوة الختميَّة بكسلا، وانتقل، بعدها، مع أخيه حسن، إلى المدرسة الأوليَّة بحي (الكارة) الذي يبعد عن حي (الختميَّة) بمسافة سبعة أميال كانا يقطعانها، يومياً، وعلى مدى أربعة أعوام، على الاقدام! ثمَّ انتقلا إلى (مدرسة العُرَفاء) بالخرطوم، والتي لم يكن دخولها متاحاً لغير ذوي الحظوة من ابناء الوجهاء والمرضي عنهم من الادارة البريطانيَّة، وفيهم أكابر الختميَّة، ولا غرو، فقد كانت متخصِّصة في تدريب وتخريج مُعلمي المدارس الابتدائيَّة والقضاة الشرعيين، وهي مهن ذوات أثر وخطر أوان ذاك! ومِن أبرز مَن قاموا على التدريس في (مدرسة العُرفاء) الشيخ البنا والشيخ بابكر بدري. على أن خريجيها، من المعلمين بالأخصِّ، كانوا صفوة تميِّزت، لا في حقل التدريس فحسب، بل وفي حقول العمل الوطني كافة، فسطعت من بينهم أنجم أضاءت الدروب، بقدر القدرة المتاحة، صوب التنوير والحداثة، بمعايير ذلك الزمان، ووفق ظرفهم التاريخيِّ المُحدَّد.
تخرُّج الشيخ القدال عام 1918م، فجرى تعيينه مطلع عام 1919م معلماً بالمدرسة الابتدائيَّة بكسلا، موطنه الذي يعرفه. وما لبث أن انغمس في النشاط الاجتماعي والثقافي الذي ارتبط، على نحو أو آخر، بطموحات سياسيَّة وجدت التعبير الأكمل عنها في ثورة 1924م. لكن هزيمتها نشرت فوق البلاد سحائب داكنة أطلق عليها محمد سعيد فترة "الردة والانكفاء"، على ما اتسمت به من نشاط أدبي حاول المتعلمون بطريقه التعويض عن مرارتها. وعلى الرغم من نشأته المحافظة، وابتعاده عن العمل السياسي المباشر، إلا أن سمات التمرُّد لم تكن لتخفى في شخصيَّة الشيخ القدال. فإلى جانب اهتمامه بتاريخ (الختميَّة)، وإعانته للباحث الامريكي جون فول في هذا الشأن، نشط الشيخ أيضاً، خلال تلك الفترة، بنادي الموظفين بكسلا، حيث أنشأ جمعيَّة (ثمرة القراءة) التي كانت منبراً ثقافياً مهماً، كما عُني بأسطورة المحلق مع تاجوج، وشعره فيها، فحفظ الكثير منه، حتى لقد اتخذه الشيخ صالح ضرار مرجعاً أساسيَّاً له في بحثه في هذا المجال. وإلى ذلك مارس هو نفسه قرض الشعر، وقد نشر محمد سعيد بعض قصائده ضمن ملاحق كتابه المار ذكره. ولعلَّ الادارة البريطانيَّة لم تستسغ نبرات التمرُّد أو عدم الرضا تلك، والتي تبدَّت في بعض تعبيراته وأشعاره، فحرمته من وظيفة نائب المأمور التي تقدَّم لشغلها أكثر من مرَّة، بينما اختارت أخاه حسن. فانطوى الشيخ الوالد على مشاعر إحباط كثيفة بفعل تلك المعاملة الاداريَّة، مِمَّا فاقم، ضغثاً على إبالة، من مشاعر الاسى التي كانت قد اجتاحته أصلاً، قبل ذلك، إثر وفاة زوجته الاولى، بُعيد إنجاب ابنتهما الكبرى نفيسة بوقت قصير، ثم فشل تجربة زواجه الثاني من ابنة خاله، والتي انتهت إلى فراق.
دفعت جملة تلك الظروف الشيخ الوالد، من باب البحث عن السلوان، والتأسِّي بما يعين على الصبر، للاستغراق في العمل بشكل خلاق، الأمر الذي كشف عن مقدرات تربويَّة وإداريَّة مذهلة لديه، مِمَّا انعكس في النتائج الباهرة لأدائه بسنكات عندما نقل إليها مترقياً إلى ناظر لمدرستها الاوليَّة خلال الفترة من 1927م إلى 1938م. فعلى الرغم من أنها كانت المرَّة الاولى التي يتولى فيها موقعاً قيادياً، وأن البيئة الاجتماعيَّة للمدينة كانت غريبة عليه تماماً، ولا معرفة له بتركيبتها السكانيَّة، وغالبها من قبائل (البجة)، وأهمُّ فروعهم (الهدندوة الأرتيقا)، و(الأمرأر)، و(البشاريين)، و(البني عامر)، وهم قوم رعاة ذوو عِزَّة ومِنعة وترحال دائم، ولهم لغتهم الخاصَّة، ومزاجهم الخاص، ونمط حياتهم التي تنفر من التعليم النظامي، ولا مكان فيها لطقس المدرسة التي تأخذ الأبناء بعيداً عن هموم الأسرة، وعلى الرغم من أن تجربة سلفه في ذلك الموقع، ولعلَّ تلك هي الناحية الأخطر، قد باءت، قبل وقت قريب، بفشل مُدوٍّ، إلا أن شيخ القدال شمَّر، مع ذلك كله، للتحدِّي الصعب، وتصدَّى للرهان العسير. فاتخذ منهجاً حكيماً يعتمد لا على قدراته الشخصيَّة، وإنما على استثمارها في استنفار طاقات الآخرين. وبما أن المدينة كانت من أهمِّ مراكز (الختميَّة)، فقد بدأ بشق طريقه إلى زعامتها المطلقة، متمثلة في الشريفة مريم، ولم يجد صعوبة في ذلك، بل لم يكن متصوَّراً أن يجد، وهو مَن هو سليل أعرق بيوت (الختميَّة)، وابن (خليفة الخلفاء)! ومِن ثمَّ شرع الشيخ في تعلم (البداويت)، لغة (البجة)، والاندماج في تقاليدهم القبليَّة، والاقتراب من زعمائهم، والتعرُّف إلى رموزهم، وإلى القيادات الاجتماعيَّة والشخصيات ذات الوزن، فكوَّن منهم لجنة للمدرسة يسَّرت له إدارتها، والتعامل مع التلاميذ وأولياء الامور، والوقوف على طبيعة المشكلات التي تتسبَّب في نفورهم من التعليم. فكان أن شهدت تلك الفترة عدداً من المشروعات الواقعيَّة المبدعة التي أسهمت في تذليل تلك المشكلات للتلاميذ وأسرهم، بأقصى مرونة تقتضيها أوضاع المجتمع المحلي، وما تتسم به من فقر مدقع، كصندوق التبرعات الجماعيَّة الذي عُرف بـ (مال المليم)، إضافة إلى التبرُّعات الفرديَّة لزعماء القبائل وكبار التجار، والدخل الذي تدرُّه العروض السنويَّة لوحدة السينما التابعة لمصلحة المعارف، فضلاً عن دخل الانشطة التي يقوم بها التلاميذ بأنفسهم، كتقديم المسرحيات والالعاب في المواسم بمقابل رمزي للفرجة، وممارستهم الزراعة لمدَّة أربع ساعات يومياً في حقول خصِّصت لهذا الغرض، بحيث يعود دخل محصولها لدعم المدرسة، وما إلى ذلك. واتبعت لجنة شيخ القدال تلك أسلوباً فريداً في معالجة مشكلات المدرسة. فقد رفض كثير من التلاميذ، مثلاً، أداء الجمباز، كونه لا يتناسب وأعرافهم القبليَّة، فحُسم الأمر بالتصويت. وبما أن أغلبيَّة التلاميذ صوَّتوا ضد الجمباز، فقد ألغي وأحلت محله الالعاب المحليَّة. ويثمِّن محمد سعيد عالياً الافق الواسع لذلك المنهج في إدخال التلاميذ محيط القيم والممارسة الديموقراطيَّة بيسر وسلاسة.
إمتد تأثير تجربة مدرسة سنكات التي كسرت الحاجز القديم بين البجة والتعليم إلى مدرسة جبيت المجاورة، فتكونت لجنة مشتركة لهذا الغرض. ولم يقتصر خيال الشيخ المبدع على تعليم أبناء تلك القبائل في المرحلة الأوليَّة فحسب، بل كان سبَّاقاً أيضاً إلى طرح فكرة (صندوق البجة) كمجهود خيري لدعم أبنائهم الذين يلتحقون بالمراحل الدراسيَّة العليا، حتى لا يقف المال عائقاً دون مواصلة تعليمهم.
في سنكات تزوَّج الشيخ القدال، عام 1933م، زواجه الثالث الذي استقرَّ حتى وفاته، من زينب بنت عثمان مكي، فأنجب منها هناك فاطمة ومحمد سعيد، كما أنجب، في ما بعد، مريم ورجاء ومحمد الحسن وإحسان.
وقد هيَّأ الشيخ القدال، بما أبرز من قدرات وما راكم من خبرات في تعليم أبناء البجة، لاختياره للعمل بحضرموت في جنوب شبه الجزيرة العربيَّة خلال الفترة من 1939 وحتى عودته متقاعداً عام 1957م، فاصطحب أسرته إلى هناك، وفيها طفله محمد سعيد، مُدشناً فصلاً ملحمياً آخر من مأثرته المحفوفة بالبذل والانجاز، حيث ما لبث أن أثبت جدارة أهَّلته لمنصب وزير المعارف ثم رئيس الوزراء في ذلك البلد الذي ما يزال أهله يحفظون عاطر ذكراه وطيب سيرته.

الولدُ الحَضرَمِي
عند ولادته بسنكات اكتسب محمد سعيد اسماً ثانياً، هو هاشم، تيمُّناً بوالد الشريفة مريم. ولمَّا سافر مع والده إلى حضرموت عام 1939م كان طفلاً لم يتعدَّ الرابعة من العمر. وهناك ألحق، عام 1942م، بالمدرسة الأوليَّة التي أكملها عام 1946م، ودخل المدرسة الوسطى التي قضى فيها السنوات الثلاث الأولى، قبل أن يرسله والده إلى السودان للالتحاق بمدرسة أم درمان الأميريَّة الوسطى، والاقامة بمنزل خاله عمر ارباب بحي (أبروف). ويذكر صديق عمره صلاح الزبير أن لهجة محمد سعيد الحضرميَّة، أوان ذاك، كانت مثار تندُّرات زملائه وأصدقائه أولاد أم درمان في الحيِّ وفي المدرسة، على أنه كان يستقبلها بضحكات صافية، وروح طيِّب ودود، وبشاشة طفوليَّة غاية في العذوبة هي بعض طبعه الاصيل الذي لم يتغيَّر قيد أنملة، بل ظلَّ يكسبه المزيد من الصداقات الحميمة حتى آخر أيام حياته.
أكمل (الولد الحضرمي) المرحلة الوسطى عام 1950م، والتحق بمدرسة حنتوب الثانويَّة حتى العام 1954م، حيث جلس لامتحان الشهادة السودانيَّة، وأحرز نتيجة ممتازة أهَّلته للالتحاق بكليَّة الآداب بجامعة الخرطوم التي تخرَّج فيها عام 1958م.

المُعلم والمُؤرِّخ الماركسي
فور تخرُّجه التحق محمد سعيد بوزارة المعارف لممارسة مهنة الشيخ القدال .. التدريس. فعمل مدَّة أربع سنوات معلماً لمادة التاريخ ببعض المدارس الثانويَّة، من بينها (الخرطوم الثانويَّة) و(أم درمان الأهليَّة الثانويَّة). واقترن، خلال تلك الفترة، بزوجته إلى وفاته فاطمة باعبود.
وفي 1962م ابتعث للتحضير لدرجة الماجستير بجامعة فرنزو بولاية كليفورنيا بالولايات المتحدة الامريكيَّة، فنالها عام 1964م عن الرسالة التي أعدَّها حول ديبوا W.E.B. Dubois، المفكر الافريقي ومؤسس حركة البان آفريكانيزم، ثمَّ قفل عائداً مع زوجته إلى السودان قبيل ثورة اكتوبر بعد أن رزقا في أمريكا بابنتهما الكبرى نازك.
طبيعة البحث الذي أجراه محمد سعيد لإعداد رسالته تلك، أتاحت له أن يتعمق في دراسة الكثير من مصادر الماركسيَّة كفلسفة تجمع عضوياً بين الماديَّة التي تشمل قوانين التطوُّر الاجتماعي، وبين المذهب الديالكتيكي العلمي في التطوُّر، وتتحدَّد مكانتها في نسق المعرفة العلميَّة بتعميمها لنتائج العلوم كافة، من ناحية، وتزويدها إياها بمنهجيَّة متماسكة لدراسة الظواهر، من الناحية الاخرى، فتصبح، بهذه الكيفيَّة، وبعكس كلِّ الفلسفات السابقة عليها، أداة لتغيير العالم، لا مجرَّد تفسيره أو فهمه.
ورويداً رويداً ترسَّخت الماركسيَّة، كنظريَّة في حقل العلوم الاجتماعيَّة، في عقل ووجدان المعلم والمؤرِّخ الناشئ، وقتها، مِمَّا جعله يبادر، فور عودته، إلى مفاتحة صديقيه محمد نور السيِّد وأبو زيد محمد صالح حول رغبته في الانضمام لعضويَّة الحزب الشيوعي. فقدَّمه نور إلى صديقه عبد الخالق الذي داعبه معلقاً على تلك الرغبة وهو يطلق ضحكة عالية:

ـ "دي أول مرة يجينا مثقف راجع من امريكا وعايز ينضم للحزب"!

وعلى الرغم من كثرة ما جرى من حوارات ومحادثات بين الرجلين عبر السنوات التالية، إلا أن الحوار العميق الذي دار بينهما في ذلك اللقاء الأوَّل بالذات، وما اكتسى من طلاقة وتفاؤل، وثورة أكتوبر تدقُّ، حينها، على الابواب بقوَّة، ظلَّ راسخاً، بأدقِّ أدقِّ تفاصيله، في ذاكرة محمد سعيد حتى آخر العمر. وبالنتيجة لم يلتحق بالحزب فحسب، بل نشأت بينه وبين عبد الخالق، في المستويين الفكري والانساني، صداقة شخصيَّة توطدَت مع كرِّ الأيام وتواتر الحادثات، من تلك الساعة حتى إعدام الشهيد عام 1971م. وكم كان ماساً بشغاف القلوب أن تذكرنا كلمة التحالف الديموقراطي بأمريكا في نعيها لمحمد سعيد بما كان قد قال هو نفسه، في وصف محاولة تغييب عبد الخالق وإبعاده عن ساحات النشاط الثوري في الوطن على أيام انقلاب (مايو) الاولى، مستعيناً ببيت الشعر البديع الذي تتفجَّر ينابيع جماليَّته من المزج البليغ بين دياليكتيك الصورة ودياليكتيك اللغة: "لن يَسُوقوا البَحرَ للمَنفَى وقاعُ المَوج فينا"! ويا طالما افتتن بدياليكتيك الاعلاء اللغوي، في الشعر والنثر معاً، وشغف.

لم يتعلق محمد سعيد بالدياليكتيك ذهنياً فقط، بل كانت رحلته المعرفيَّة والفكريَّة والسياسيَّة نفسها تجسيداً حياً لأهمِّ قوانينه، حيث قطعت شخصيَّته مع التنشئة (الختميَّة) المحافظة من جهة، واحتفظت، من جهة أخرى، بإرث الخليفة سعيد والشيخ القدَّال في التوادد والتراحم، وحبِّ التعلم والتعليم، وتعميق الصلات الاجتماعيَّة وتوسيعها، والاستغراق في الكدح الشريف وإتقان خدمة الآخرين، وإلى ذلك أضافت تلك الرحلة إلى شخصيَّته، من جهة ثالثة، حسَّ التمرُّد على القديم ورفض الاستكانة للافكار والاوضاع البالية حتى لو اقتضى الامر التضحية بلين العيش، ودعة الاستقرار العائلي، بل وبالحياة ذاتها. وكان ذلك كله مِمَّا انعكس في اختياره الانتماء لهذا الحزب الصغير عن يقين واقتناع تامَّين، ومن ثمَّ في مجمل مسيرته النضاليَّة والاكاديميَّة والثقافيَّة العامرة بالبذل، رغم كلِّ الصعاب المحيطة، بلا أوهى بارقة انتظار لحمدٍّ، والمحفوفة بالعطاء، حتف أنف المخاطر المحدقة، دونما أدنى توقع لمنٍّ أو سلوى.

هكذا انطلق محمد سعيد، منذ ذلك الوقت، يفجِّر طاقاته الابداعيَّة داخل الحزب بالعمل في حلقاته الدنيا والعليا، من فروع العمل والسكن إلى المكاتب والهيئات المركزيَّة في شتى مجالات التأمين والدراسات الاسلامية ولجنة البرنامج التي ظلَّ ينفذ تكليفاتها، برغم الداء العُضال، حتى آخر رمق في حياته، وغيرها. كما انطلق، في ذات الوقت، يبذل جهده الخلاق في مختلف الحقول الاكاديميَّة والفكريَّة والثقافيَّة والنقابيَّة، سواء من خلال تدريسه لمادَّة التاريخ بمعهد المعلمين العالي (1964 ـ 1973م)، وكليَّة الآداب بجامعة الخرطوم (1981 ـ 1992م)، وكليَّة الآداب بجامعة عدن (1993 ـ 2000م)، ثم كليَّة الآداب بجامعة الخرطوم مجدَّداً (2000 ـ 2008م)، أو من خلال نشاطه في رابطة المعلمين الاشتراكيين، ونقابة الاساتذة، واتحاد الكتاب الذي انتخب نائباً لرئيسه من 1986 إلى 1989م، أو ما إلى ذلك من منصَّات العمل العام.
وفي عام 1968م عاود محمد سعيد إجراء منهجه المادي التاريخي مجدَّداً على الرسالة التي تقدَّم بها إلى جامعة الخرطوم لنيل درجة الماجستير للمرَّة الثانية، بعنوان (منطقة القضارف والقلابات في عهد الدولة المهديَّة) ، تحت إشراف د. عباس ابراهيم، وقد صدرت الرسالة، لاحقاً، في كتاب بعنوان (المهديَّة والحبشة) عام 1973م، ثم أردفه بإصدار كتابه (الإمام المهدي: لوحة لثائر سوداني) عام 1976م. وكان قد أصدر قبل ذلك، وضمن هذا السياق أيضاً، تحقيقه المشترك لكتاب (الحرب الحبشيَّة السودانيَّة) عام 1972م. والواقع أنه، ومنذ أن أصدر في مايو 1971م كتيِّبه القيِّم الموسوم بـ (التعليم في مرحلة الثورة الوطنيَّة الديموقراطيَّة)، ضمن سلسلة (كتابات سودانيَّة) بإشراف عبد الله علي ابراهيم، لم تنقطع إسهاماته الفكريَّة طوال السنوات التالية، ما عدا الفترة من 1978 إلى 1981م، وهي الفترة التي انهمك خلالها في إعداد رسالته لنيل درجة الدكتوراة من جامعة الخرطوم، بعنوان (السياسة الاقتصادية للدولة المهدية)، تحت إشراف صديقه البروفيسير يوسف فضل حسن، وقد صدرت في كتاب بنفس العنوان عام 1987م. وبعد نيله درجة الدكتوراة عام 1981م استأنف رفد المكتبة السودانيَّة بنتائج بحوثه ودراساته الباهرة في التاريخ وغيره. فأصدر (الحزب الشيوعي السوداني وانقلاب 25 مايو) عام 1985م، و(الإسلام والسياسة في السودان: 621 ـ 1985م) عام 1992م، و(الانتماء والاغتراب: دراسات ومقالات في تاريخ السودان الحديث) عام 1992م، ثمَّ أصدر سفره الذي يكاد المختصُّون يجمعون على قيمته الرفيعة (تاريخ السودان الحديث: 1820 ـ 1956م) عام 1992م، كما أصدر (الشيخ القدال باشا: مُعلم سوداني في حضرموت: ومضات من سيرته: 1903 ـ 1975م) عام 1997م، وكوبر: ذكريات معتقل سياسي في سجون السودان) عام 1997م، و(السلطان علي بن صلاح القعيطي: نصف قرن من الصراع السياسي في حضرموت) بالاشتراك مع علي بن صلاح القعيطي عام 1998م. و(معالم في تاريخ الحزب الشيوعي السوداني: 1946 ـ 1975م) عام 1999م، و(المرشد إلى تاريخ أوربا الحديث: من عصر النهضة إلى الحرب العالميَّة الثانية) عام 2000م، و(الدليل إلى كتابة الأبحاث الجامعيَّة) بالاشتراك مع د. صالح علي باصرة عام 2000م، و(الشيخ مصطفى الأمين: رحلة عمر من الغبشة إلى هامبورج) بالاشتراك مع د. عاطف عبد الرحمن صغيرون عام 2003م. وإلى ذلك قدَّم ونشر ما لا حصر له من الدراسات والاوراق البحثيَّة والمقالات الصحفيَّة داخل وخارج السودان، كما وله العديد من التراجم عن الإنجليزيَّة، أبرزها: (حضرموت: إزاحة النقاب عن بعض غموضها) عام 1997م، و(رحلة في جنوب شبه الجزيرة العربيَّة) عام 1998م، و(القات) عام 1999م، و(تاريخ الطريقة الختميَّة في السودان) عام 2003م. وما يزال قيد النشر عدد من مؤلفاته التي ظلَّ عاكفاً عليها حتى أيامه الاخيرة، وأهمُّها: (الإنفاق في سياق النصِّ القرآني)، و(خواطر تاريخيَّة حول أزمة الديموقراطيَّة).

وفي كلِّ نتاجاته الفكريَّة، في حقل التاريخ السوداني الحديث بالأخص، إهتمَّ محمد سعيد بدور الطبقات والفئات العريضة التي زرعت وشيَّدت وقاتلت وحملت عبء الانتاج الاجتماعي. وأعمل عقلاً نقديَّاً منفتحاً في تعميم استنتاجاته الاساسيَّة بلا انكفاء أوتعصُّب، وأبدى براعة فائقة في تطبيق منهجيَّته الماركسيَّة على قاعدة مبادئ البحث العلمي المتضمَّنة في الماديَّة الدياليكتيكيَّة والماديَّة التاريخيَّة، جاعلاً من حراكات الجماهير، دونما إغفال لدور الفرد ولكن بعيداً عن المُغالاة الفجَّة، هدفاً لدراسة المتغيِّرات عبر الأزمنة المختلفة، بدلاً من الرصد الرتيب للاحداث، والمراكمة الكميَّة للوقائع، بصورة توصيفيَّة لا تقطع أرضاً، في المنظور المعرفيِّ، ولا تبقي ظهراً.
بأدواته المنهجيِّة هذه تميَّز محمد سعيد، فتمكن من أن يسهم إسهاماً رفيعاً في الارتقاء بالصراع الفكري من درك اللجاج المقيت إلى ذروة الحجاج المبدع، دافعاً بالمزيد من الرياح العفيَّة في أشرعة الاجابات المرغوب فيها لأسئلة الفكر التاريخي الاساسيَّة، بما يتجاوز السودان إلى خارجه.

السجين الحُر
وطن محمد سعيد نفسه، منذ البداية، على التهيُّؤ لكلِّ احتمالات المخاطر التي يمكن أن تجلبها إليه خياراته الفكريَّة والسياسيَّة الجريئة. ومع ذلك، عندما جاءت تلك المخاطر تترى تباعاً، وتتكالب عليه من كلِّ حدب وصوب، لم يدَّع الراحل في مواجهتها فولاذيَّة أسطوريَّة تعصمه من تلقائيَّة دفق المشاعر الانسانيَّة الطبيعيَّة، كالغضب والقلق والخوف والحزن، فليس ثمَّة مَن قـُدَّ من صوَّان أصَم حتى لا يغضب أو يقلق أو يخاف أو يحزن! وقد تعرَّض هو للكثير من هذه الحالات التي تقتضي ثمناً غالياً للمواقف المبدئيَّة الصارمة، لكنه سدَّده بالكامل، وعلى الفور دائماً، خصماً من حساب صحَّته وطموحاته واستقراره الأسري وحبه للحياة الطليقة، ولطالما أجبر ساقيه على صلابة الثبات رغم اهتزاز الأرض تحتهما، دون أدنى هاجس تراجع أو وسواس مساومة.

فصل من العمل، تعسُّفيَّاً، ثلاث مرَّات، في 1971، 1981، 1992م. فما تقاعس عن خلق بدائل لرزق عياله، تارة بالتدريس في الجامعة بنظام بعض الوقت، وتارة بإنشاء مكتبة (دار المعارف) بالاشتراك مع صديقه أبو زيد محمد صالح الذي تعرَّض أيضاً لذات الظروف، وتارة ثالثة بالتعاقد مع جامعة عدن للعمل بها أستاذاً لمادة التاريخ خلال الفترة ما بين 1993 ـ 2000م، والتي انتهت بجهود مقدَّرة بذلها البروفيسير يوسف فضل لإعادته إلى جامعة الخرطوم التي لم تتكرَّم عليه بدرجة الاستاذيَّة إلا قبل أقلِّ من عام واحد من رحيله الفاجع!

واعتقل إداريَّا ستَّ مرَّات، زاملته منهنَّ في اعتقال عام 1979م بسجن كوبر، واعتقال عام 1989 بين كوبر وسواكن وبورتسودان. وألفيته في غيهب السجن إنساناً بكلِّ ما تحمل الكلمة من معاني اللين والرِّفق والحنان الشفيفة، لكنه كان، حين يحزب الامر وتدلهمُّ الخطوب، إنساناً نبيلاً باسلاً في صموده، كأنبل ما يكون النبل، وأرفع ما تكون قيم الصمود والبسالة. يشهد بذلك، من بعد الله، كلُّ من زاملوه في مواقع العمل، ورأوا، بأم أعينهم، حيف الشموليَّات يطاله، وهو لا يتراخى، مقدار قلامة ظفر، في مناجزتها، أو داخل المعتقلات وعتمة زنازينها الموحشة، وهو يعبِّئ لياليها علماً نافعاً، وسلواناً مجيداً، وضحكات تصكُّ عذوبتها حجارة الجدران الشوهاء فتكاد تفتتها ذرَّة .. ذرَّة! لقد كان، بالجملة، سجيناً، ولكن .. أكثر حريَّة من سجَّانيه!

كان كثير التأسي بصمود المناضل والمفكر الشيوعي أنطوان غرامشي في سجون إيطاليا مشلول الساقين، ويعتبر كتابه (دفاتر السجن) من أعمق ما كتب في الأدب الماركسي. وكان يتأسَّى كذلك بما رواه له عبد الخالق محجوب والتجاني الطيب، عن كيف قاوم كلُّ منهما سأم البقاء في زنزانة مع الحرمان من القراءة والكتابة، فلجأ الأول للاستغراق في تأليف القصص في الذاكرة، فقرة فقرة، حتى إذا اكتملت قصة انتقل إلى غيرها، كما لجأ الثاني للاستغراق في استدعاء أسماء زملاء الدراسة كلهم، ومنذ المدرسة الأوليَّة، فرداً فرداً! وإلى ذلك كان محمد سعيد يتأسَّى أيضاً بتجربة نلسون مانديلا التي كثيراً ما كانت تذكره برواية (بابلون) عن سجين في زنزانة في جزيرة نائية في المحيط، يقضي وقته يتآلف مع الصراصير ويحاورها، وعندما عضَّه الجوع .. التهمها! ولما كانت اعتقالات محمد سعيد كلها أخف من ذلك بما لا يُقاس، فقد كان يستعين على ملل السجن وسأمه بالقراءة والتأليف، فضلاً عن الاندماج في حياة المعتقل، وجدول تنظيم الوقت الذي ابتدعه المعتقلون تاريخياً للاستفادة، بأقصى المتاح، من وجودهم في مثل تلك الظروف الاستثنائيَّة التي لا يعلمون متى تنتهي. وقد وضع مسودات الكثير من كتبه في المعتقلات. وما زلت أذكره عاكفاً عليها، وهو مستلق، بسبب الانزلاق الغضروفيِّ اللعين، على ظهره، بالفنيلة الداخليَّة والفوطة اليمانيَّة، يكتب ويكشط ويكشط ويكتب الساعات الطوال، ثمَّ ما تلبث ثمار ذلك أن تتجلى في محاضرات المساءات التي كان يسهم بها في برنامجنا التثقيفي، طالباً منا، بكلِّ تواضع العلماء، أن نزوِّده بملاحظاتنا ونصائحنا! وكان كثير التذكير لزملائه المعتقلين من عمال ومثقفين وطلاب بأن غاية غرض الجلاد أن يحطم معنوياتهم بكثرة الاستغراق في توقع إطلاق السراح، فينبغي أن يكون أمضى ما يقاومون به تلك الخطة الشيطانيَّة من سلاح هو نسيان الأمر برمته،
الوقت بأقصى ما يمكن من فائدة وترفيه، وكأننا نعتقل أبدا!
......................................
......................................
والآن، ها هو محمد سعيد قد بات، اللهمَّ، في رحابك، فأنَّى لنا أن نزكيه لديك، وهو عبدك الذي ما هان إلا عليك، لكنا نسألك أن تكرم مثواه، ياربُّ، بقدر ما كان كدحه لطلابه علماً نافعاً، ولعامة الناس عملاً صالحاً، وبقدر ما بذل من زكيِّ الفؤاد، وطيِّب العُشرة، وعاطر السيرة، ونقيِّ السريرة، وبقدر ما شرح منظره، وأبهج مخبره، وراق منظره، وآنس محضره، يا ربُّ، وأن توسِّع في مثابه، وتمهِّد لنزله في مراقد المقرَّبين إليك، المرضي عنهم منك، وأن تغفر، اللهمَّ، له، وتعفُ عنه، وتشمله برحمتك، يا واسع المغفرة والعفو والرحمة، وأن تجعل البركة في فاطمة وذريَّته منها، نازك وناظم وأمينة وأماني ومنى وندى وجوليا، وفي أخواته وإخوته وعموم أهله وأصدقائه وعارفي فضله وبنات وأبناء وطنه أجمعين، وأن تدخله، اللهمَّ، فسيح جناتك فى زمرة الصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقا، وأن تلهمنا من بعده جميل الصبر والسلوان، وإنا لله وإنا إليه راجعون.

ك. الجزولي
يناير 2008

المصادر:
(1) مصطفى أبو شرف؛ كلمة عن الشيخ القدَّال بمجلة المعلم ، 2/3/1991م.
(2) محمد سعيد القدَّال؛ الشيخ القدال باشا معلم سوداني في حضرموت ـ ومضات من سيرته (1903 ـ 1975م)، ط 1، جامعة عدن وجامعة بيرقن، عدن 1997م.
(3) محمد سعيد القدَّال؛ تاريخ السودان الحديث، 1820 ـ 1955م، ط 1، 1992م.
(4) محمد سعيد القدَّال؛ الانتماء والاغتراب: دراسات ومقالات في تاريخ السودان الحديث، ط 1، دار الجيل، بيروت 1992م.
(5) محمد سعيد القدَّال؛ ذكريات معتقل في سجون السودان، ط 1، الشركة العالميَّة للطباعة والنشر، الخرطوم 1998م.
(6) مؤانسات شخصيَّة مع الراحل داخل وخارج المعتقلات، ومؤانسات بحلو سيرته، في مناسبات مختلفة، مع عدد من اصفيائه وأفراد أسرته.




#كمال_الجزولي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- وَدَاعاً .. يَا حَبيبْ! إِرُونْ جَنَّقْ تِيرْ فِيَّام
- كُنْ قَبيحَاً!
- جَثَامِينٌ فِي حَشَايَا الأَسِرَّة!
- قُبَيْلَ حَظْرِ التَّجْوَالْ!
- قَانُونٌ .. دَاخلَ خَطِّ الأَنَابيبْ!
- أَلاعِيبٌ صَغِيرَةْ!
- النَيِّئَةُ .. لِلنَارْ!
- أوريجينال!
- يَا لَلرَّوْعَةِ .. أَيُّ نَاسٍ أَنْتُمْ؟!
- وَمَا أَدْرَاكَ مَا .. حَدَبَايْ!
- كَابُوسُ أَبيلْ!
- غابْ نَجْمَ النَّطِحْ!
- بُحَيْرَةُ مَنْ؟!
- دِيْكَانِ عَلَى .. خَرَاب!
- صُدَاعٌ نِصْفِي!
- كَجْبَارْ: إِرْكُونِي جَنَّةْ لِنَا! - سيناريو وثائقي إلى رو ...
- عَوْدَةُ الجِّدَّةِ وَرْدَةْ!
- الحُرُّ مُمْتَحَنٌ!(صَفْحَةٌ مِن مَخْطُوطَةِ ما بَعْدَ السِّ ...
- طَاقِيَّتي .. التشَاديَّةْ؟!
- كانْ حاجَةْ بُونْ!


المزيد.....




- بيان المكتب السياسي لحزب التقدم والاشتراكية بمناسبة عيد الشغ ...
- لقطات من الحملة التي أقامها الحزب الشيوعي العمالي العراقي بن ...
- على طريق الشعب.. عشية انعقاد المؤتمر الرابع للتيار الديمقراط ...
- بيان تيار المناضل-ة فاتح مايو 2024: الكفاح العمالي، ومعه ال ...
- فاتح مايو يوم نضال العمال/ات الأممي: بيان الشبكة النقابية ال ...
- رغم القمع، المظاهرات الطلابية الداعمة لفلسطين تتوسع في الولا ...
- سمير لزعر// الموقوفون، عنوان تضحية الذات الأستاذية وجريمة ا ...
- حاكم تكساس يهدد المتظاهرين في جامعة الولاية بالاعتقال
- حزب النهج الديمقراطي العمالي: بيان فاتح ماي 2024
- تفريق متظاهرين في -السوربون- أرادوا نصب خيام احتجاجاً على حر ...


المزيد.....

- سلام عادل- سيرة مناضل - الجزء الاول / ثمينة ناجي يوسف & نزار خالد
- سلام عادل -سیرة مناضل- / ثمینة یوسف
- سلام عادل- سيرة مناضل / ثمينة ناجي يوسف
- قناديل مندائية / فائز الحيدر
- قناديل شيوعية عراقية / الجزءالثاني / خالد حسين سلطان
- الحرب الأهلية الإسبانية والمصير الغامض للمتطوعين الفلسطينيين ... / نعيم ناصر
- حياة شرارة الثائرة الصامتة / خالد حسين سلطان
- ملف صور الشهداء الجزء الاول 250 صورة لشهداء الحركة اليساري ... / خالد حسين سلطان
- قناديل شيوعية عراقية / الجزء الاول / خالد حسين سلطان
- نظرات حول مفهوم مابعد الامبريالية - هارى ماكدوف / سعيد العليمى


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الشهداء والمضحين من اجل التحرر والاشتراكية - كمال الجزولي - القَدَّال: كَثُرَتْ تَوَاريخُ المَرَاثِي!