أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان - كمال الجزولي - طَاقِيَّتي .. التشَاديَّةْ؟!















المزيد.....



طَاقِيَّتي .. التشَاديَّةْ؟!


كمال الجزولي

الحوار المتمدن-العدد: 1912 - 2007 / 5 / 11 - 10:58
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان
    


رزنامة الأسبوع 1-7 مايو 2007
الثلاثاء:
طلب مني كثيرون أن أضئ شيئاً فحوى التمييز بين مفهومَي (القانون) و(العدالة) ، والذي كنت أوردته ، باقتضابٍ ، ذات رُزنامة سابقة ، ضمن تعليقي على قضيَّتَي (محمد حامد السودانيَّة عام 1959م) ، و(جاكسون الأمريكيَّة عام 1896م).
والحقيقة أن (القانون) جزء من الثقافة الروحيَّة ذات المضمون الطبقي ، وهو جماع القواعد التى تقرِّرها (الدولة) لضبط العلاقات الاجتماعيَّة وفق القيم التى تعكس مصالح الطبقة السائدة اقتصادياً وسياسياً. فحماية هذه المصالح هي غاية القاعدة القانونيَّة التي يصدرها المشرِّع كأمر مقترن بجزاء يضمن احترامه وإنفاذه. بهذه الكيفية ينتمى (القانون) إلى البناء الفوقى superstructure الذى يعكس مستوى الوعى الاجتماعى السائد. وأخذاً فى الاعتبار بالبطء النسبى الذى يَسِمُ التغيُّر فى هذا البناء ، فإن (القانون) يتمظهر كقوة خارجيَّة محايدة ، في حين أن (الدولة) ، التى هى توأمه ، كونها الأداة التنظيميَّة لسلطة الطبقة المُعيَّنة ، والتعبير الأكمل عن إرادتها السياسيَّة ، تستخدِم ترسانة من أجهزة القمع وتدابير الإكراه ، لضمان إنفاذه. فكلُّ نظام قانونى يعكس مبادئ النظام الاجتماعى الذى يضبطه. ويمكن ، ضمن هذا الاطار الفكرى ، ملاحظة الفارق الشاسع بين طلاقة التوقير الذي تحظى به ، فى المجتمعات البدائيَّة وشبه البدائيَّة ، قواعد السلوك العام المرعيَّة بالتراضى ، ومكانة الشيوخ المسلم لهم بمراقبة ذلك ، وبين الكلفة العالية لفرض هذه القواعد من جانب (الدولة) الحديثة.
(القانون) ، إذن ، مؤسَّسة اجتماعيَّة ، أى شكل تاريخيٌّ لـ (حقوق) و(واجبات) الأفراد والجماعات ، وفق أسلوب الانتاج في المجتمع ، وطابع علاقات طبقاته. فهو مفهوم ملتبس ، يعبِّر عن أفق محدود من التصوُّرات القيميَّة والمعرفيَّة لجزء من المجتمع ، بينما يزعم قدرته على الإحاطة بها كلها. لذا ، وعلى حين يجرى تصويره كأداة محايدة ، منتصبة فوق الجميع ، ومقبولة من الجميع ، فإنه ، فى حقيقته ، حقل صراع اقتصادي سياسي واجتماعي ثقافي تاريخي.
أما (العدالة) فهي المعيار الأساسي الذى تستقبل بها هذه (الحقوق) و(الواجبات) فى الذهنيَّة والوجدان العامَّيْن ، بمنأى عن الإرادة السلطويَّة. بعبارة أخرى ، ولئن كان الالمام بفنيَّات (القانون) يستلزم علماً وتدريباً مخصوصين ، كأداة ضبط سلطانيَّة تتنزَّل (نصوصها) على الأغلبيَّة دون اعتبار لإرادتها ، توهُّماً من عند السلطة بأن (العدالة) تدور حيثما دارت هذه (النصوص) ، فإن (العدالة) ، من جانبها ، تمثل نزوعاً أصيلاً للفطرة الإنسانيَّة تستشعره العقول السليمة والضمائر الحيَّة. وما أكثر ما يجد القاضي نفسه متردِّداً إزاء ما يجابه ، أحياناً ، من تناقض بين (نصوص القانون) و(مقاصد العدالة) ، فلا يكون أمامه سوى أحد مخرجين: فإما أن يتنحَّى ، أو أن يغلب هذه (المقاصد) عند تأويله (للنصِّ)! ولا ثالث لهذين الاحتمالين سوى أن يلغي عقله ، ويغطي ضميره ، معزيَّاً النفس بأن وظيفته تطبيق (النصِّ) ، فحسب! وما أخيبه من مخرج يختاره ، مثلاً ، قاض مسلم أو مسيحي! فالقاعدة الشرعيَّة في الاسلام: "لئن يخطئ الإمام في العفو خير من أن يخطئ في العقاب" ، تقابلها القاعدة الأنجلوسكسونيَّة المنحدرة من أثر مسيحي: "الأفضل تبرئة مائة مجرم من إدانة برئ واحد". وفي الحديث الشريف: "قاضيان في النار وقاض في الجنة" ، و"من جلس للقضاء كمن ذبح نفسه بسكين" ، ولعلَّ وليم تمبل ، كبير أساقفة كنتربرى ، قد ذهب إلى معنى مشابه ، لدى زيارته لبعض المحاكم فى إنجلترا ، عندما خاطب قضاتها بقوله: "لا أستطيع أن أدعى أننى أعرف الكثير عن القانون ، غير أننى أوجه اهتمامى ، بالدرجة الأولى ، إلى العدالة"!
وإذن ، فالنزوع إلى (العدل) وكراهة (الظلم) قيمتان متجذرتان في الفطرة الإنسانيَّة ، كما وفي الديانات جميعها ، وقد جرى التعويل عليهما دائماً لمواجهة القمع السلطانى ، الذى هو طبيعة متأصلة فى (القانون) ، والتخفيف من غلوائه فى كثير من الحالات ، بل وكسره فى غير القليل منها! واستطراداً ، فقد أضحت حتى أكثر التيارات سلطويَّة تعِى ، ولو من باب الحرص على الاستقرار النسبي لسلطتها ، أهميَّة ألا تصطدم القاعدة القانونيَّة ، فى أىٍّ من سياقيها التشريعى أو القضائى ، إصطداماً صارخاً بتطلعات الغالبيَّة إلى الحياة الأفضل والوجود المغاير ، ومن ثمَّ ضرورة أن تنفتح هذه القاعدة ، بقدر أو آخر ، لاستيعاب التصوُّرات الجمعيَّة للخير والشر ، الصواب والخطأ ، الجمال والقبح ، الرذيلة والفضيلة .. الخ ، لضمان القدر المعقول من القبول بالقواعد القانونيَّة الحاكمة للعلاقات بين الناس ، من جهة ، وبينهم وبين السلطة ، من الجهة الأخرى ، وهى علاقات اقتصاديَّة سياسيَّة فى المقام الأوَّل.

الأربعاء:
عشيَّة مؤتمر طرابلس الدولي بشأن دارفور ، نهاية أبريل المنصرم ، وفي محاولة لتقديم تفسير للمشكلة يتجاوز الفكرة السائدة في الأوساط السياسيَّة والاعلاميَّة العربيَّة بأنها محض مؤامرة صهيونيَّة لزرع الشقاق بين (الزنوج) و(العرب) في السودان ، قال القذافي إنها مجرَّد انعكاس للصراع بين أمريكا والصين حول ثروات الاقليم ، وأن قادة الحركات يتحملون كامل المسئوليَّة عنها ، كونهم يُعرِّضون بلادهم وأهلهم لكل هذه المعاناة والمخاطر! لذا لم تكن مفاجئة عودته ، في خطابه أمام الجلسة الافتتاحيَّة للمؤتمر ، لتكرار اتهامه للفصائل المتمرِّدة "بتوريط العالم في هذا النزاع الدموي" ، وبأنها "لا تريد حلا"! أو قوله للمؤتمرين: "نصيحتي لكم أن نتجاهل أطراف النزاع إذا لم يستجيبوا للجهود المبذولة ، ووقف التمويل والمساعدات لهم وعدم إرسال قوات دوليَّة!" (الأيام ، 29/4/07). وليس خافياً أن الاشارة إلى (أطراف النزاع) هنا معنيَّة بها (الحركات) ، وحدها ، دون (الحكومة)!
يقول مستعربو السودان في بعض أمثالهم الحكيمة: "الزول بيونِّسو غرضو"! ومن السهل أن نلمح في خطاب القائد الليبي أن أكثر ما يشغله ، ليس مطالب الاقليم أو معاناة المدنيين ، بل عدم رغبته في أن يستيقظ ، ذات صباح ، ليجد (قوات دوليَّة) في خاصرة بلاده! ولئن كان من المفروغ منه أن أحداً لا يستطيع أن يلوم أحداً على اهتمامه بـ (أمنه الوطني) ، فإن من المفروغ منه ، أيضاً ، أنه ليس من حق أحدٍ أن يضحِّي ، لأجل أمنه ، بـ (أمن الآخر)! وليس من السداد في شئ ، عند تعريف (أمن الآخر) هذا ، الانصراف عن (الفيل) للطعن في (ظله) ، بمعنى رؤية مخاطر القوات الدوليَّة (الأجنبيَّة) على المنطقة ، وعدم رؤية مخاطر ما يعانيه ملايين المدنيين صباح مساء على وحدة السودان الوطنيَّة! كما وليس من الحكمة اختزال كلِّ سبب هذا الحريق في مجرَّد صراع قوَّتين أجنبيَّتين على ثروات الاقليم ، أو حصر كلِّ المسئوليَّة عن كلِّ عذابات الناس هناك في (تعنت) بضعة فصائل (متمرِّدة) لا تريد (حلاً) ، فلكأنها ما (تمرَّدت) إلا حباً في (التمرُّد) نفسه!
قضيَّة دارفور ، في المقام الأول ، قضيَّة وطنيَّة داخليَّة ، عنوانها الأكبر (التهميش التاريخي) المتواطئ مع شحِّ الموارد ، من جهة ، وسوء التدبير الذي اعتمدته الحكومة لفرض سلطتها على حساب النسيج الاجتماعي في الاقليم ، من الجهة الأخرى ، ومن مخاطرها العظمى ، إذا أهملت مخاطبة جذورها ، أن تفتح بوَّابات البلاد ، على مصاريعها ، أمام خطط التدويل والتدخلات الأجنبيَّة ، حميدها وخبيثها ، مثلما ظلت قضيَّة الجنوب ، أيضاً ، طوال عمر الحرب الأهليَّة هناك ، قضيَّة وطنيَّة داخليَّة ، في المقام الأول ، ولم تستطع أن تحوِّلها إلى محض (أثر جانبيٍّ) لأطماع القوى الأجنبيَّة كلُّ خطابات سوء التدبير السياسي التي ظلَّ يعتمدها (المركز) ، على مدى خمسين سنة ، وفاقمت الانقاذ ، أكثر من أيِّ وقت مضى ، من نشر الوعي الزائف بها في الذهنيَّة العامَّة ، حتى استيقظ الشعب على مشهد (نيفاشا) يفضح الحقيقة في (مشكلة الجنوب) بخطاب مختلف ، ويُعَرِّي جرحها عن آخره بلغة جديدة! فهل ، تراه ، يريد لنا العقيد ، حقاً ، أن نكرِّر ، إزاء (مشكلة دارفور) ، نفس الخطأ القديم إزاء (مشكلة الجنوب) ، فنظلُّ نهيل التراب على جراحها ، و(نتجاهل) مطالب أهلها ، ونصمُّ الآذان عن صرخات ضحاياها ، بل ونواصل مجابهة هذه الجراح والمطالب والصرخات بالحديد والبأس الشديد ، كي نصحو ، بعد نصف قرن آخر ، لنجد أن الجراح لم تندمل بل تخثرت ، والصرخات لم تخرس بل بلغت عنان السماء ، والمطالب لم تنطفئ بل تناسلت بما يفوق الوصف ، فنضطر ، عند ذاك فقط ، وبعد أن لا يتبقى سوى الرَّماد ، وبعد أن نكون قد بدَّدنا وقتاً وطنيَّاً غالياً ، للاعتراف لأهل دارفور بحقوقهم ، وإقامة ميزان العدل لظلاماتهم ، وتعويضهم عن خسائرهم الفادحة على دائر المليم ، وإعطائهم أنصبتهم من السلطة والثروة كاملة غير منقوصة ، هذا إن وجدنا دارفور ، نفسها ، جزءاً من السودان ما تزال؟!

الخميس:
بقدر ما استمتعت ، قبل أسبوعين ، باللقاء الذي أجرته القناة المصريَّة الثانية مع السيدة تهاني الجبالي ، المحامية السابقة ، وأوَّل قاضية مصريَّة تمَّ تعيينها منذ ما لا يزيد عن عامين تقريباً ، وتشغل ، حالياً ، منصب نائبة رئيس المحكمة الدستوريَّة ، مِمَّا فتح الباب أمام التحاق المزيد من النساء المصريات بهذه المهنة ، حيث تمَّ تعيين بعضهنَّ أيضاً ، قبل نحو من أربعة أشهر ، فحسب ، بقدر ما حزنت حين تذكرت كيف انقلبنا ، نحن في السودان ، نجفف مهنة القضاء عندنا من النساء ، في صمت تام ، بعد أن كنا السبَّاقين ، لعشرات السنين ، في مستوى المنطقتين العربيَّة والأفريقيَّة بأسرهما ، إلى فتح الطريق أمام المرأة صوب هذه المهنة العظيمة! فمنذ مطالع عهد الانقاذ لم تشهد السلطة القضائيَّة في بلادنا انضمام أيَّة قاضية جديدة إليها ، إلا في العام الماضي فقط ، حيث تمَّ استيعاب 4 قاضيات ، لا غير ، مقابل 96 مِمَّن استوعبوا من الرجال! أما قدامى القاضيات فقد جرت محاصرتهنَّ بين المكتب الفني ، ومحاكم شئون الأسرة ، وإلى حدٍّ ما المحاكم المدنيَّة ، فما عاد يُسمح لهنَّ بتولي القضاء الجنائي مطلقاً ، وذلك على خلفيَّة نظر فقهيٍّ يُعتبر مولانا عبد الرحمن شرفي من أكبر المؤسِّسين له ، في حين لم أسمع حتى الآن موقفاً واضحاً ، في هذا الشأن ، من .. بدريَّة سليمان!
السيِّدة الجبالي درست القانون في كليَّة الحقوق ، ونالت دبلوماً في الشريعة الاسلاميَّة ، وظلت تعمل بالمحاماة طوال الأربعين سنة الماضية. ومن الأجواء الفكريَّة الرصينة لحديثها ، في اللقاء المشار إليه ، أن الانسان ، من حيث هو إنسان ، خليَّة بشريَّة واحدة منفلقة إلى اثنين ، وقد خلقها الله تعالى هكذا ، من فوق سبع سماوات ، كي تقيم الحياة. وبالتالي فإن أيَّة محاولة لزعزعة هذه الخليَّة الواحدة ، بالتعسف أو العنت أو الجور على نصفها لحساب النصف الآخر ، لهي ، في حقيقتها ، محاولة لزعزعة الحياة نفسها! وتدمغ الذين يحجرون على ولاية المرأة ، سواء في القضاء أو في غيره ، بأنهم إنما ينطلقون من مقدِّمات خاطئة ليصلوا إلى استنتاجات خاطئة هي الأخرى ، بالضرورة ، علماً بأن كلا هذه المقدِّمات والاستنتاجات تفتقر إلى سند الحُجَّة والبرهان من النصوص قطعيَّة الورود والدلالة في القرآن أو السنة. وتنسب السيدة الجبالي هذا النوع من العسف إلى ظروف الانغلاق ، بينما ترى أن الانفتاح على الثقافات الأخرى ، والاحتكاك بها ، هو عامل إثراء للفقه ، وتضرب مثلاً لذلك بفقه الطبري وابن حزم وابن رشد الذي هو فقه أندلسي يؤكد حق وقدرة المرأة على تولي القضاء. وتخلص إلى أن أيَّ تناقض بين الواقع وبين الاستدلال الفقهي هو ، في حدِّ ذاته ، مدعاة لمراجعة المنهج الفقهي.
وترى السيِّدة الجبالي ، أيضاً ، أن من حقِّ الأقباط ، والمسيحيين عموماً ، تولي السلطات العامَّة ، ومن بينها القضاء ، حتى في الدولة ذات الأغلبيَّة المسلمة. فالسلطة في الاسلام مدنيَّة بطبيعتها ، ولا وجود في الدولة الاسلاميَّة لأيَّة سلطة دينيَّة ، وفي هذا اختلاف منهجيٌّ مع هيمنة الكنيسة على سلطات الدولة في التاريخ القروسطي الغربي ، مِمَّا أدَّى إلى الصدام الذي تطوَّر حتى أفرز (العلمانيَّة) كما هو معروف. وتقول إنه إذا كان ثمَّة من تدثروا بعباءة الدين ليفرضوا استبدادهم في تاريخ الدولة الاسلاميَّة ، فقد أصدر التاريخ حكمه عليهم ، وهذا ما ينبغي أن نتذكره دائماً ، إذ لا بُدَّ لنا من ذاكرة قويَّة ، فنحن كأمَّة نفتقر ، للأسف ، إلى مثل هذه الذاكرة.
من الناحية العمليَّة تثير السيِّدة الجبالي قضيَّة ولاية المرأة كقضيَّة تنمويَّة ، حيث لا يمكن لأيِّ مجتمع أن يتقدَّم ، وقد أقصى نصفه من مضخات الدفع الأساسيَّة لهذا التقدُّم المنشود! والقضاء ، مثله مثل أيِّ سلطة أخرى في الدولة ، ولاية عامة محكومة بالدستور والقانون اللذين يطبقهما القاضي أو القاضية حتى تغيِّرهما الارادة الشارعة للأمَّة ، فلا فرق ، في ما يتصل بتكوين الضمير القضائي ، بين الرجل والمرأة. أما الشخص غير القادر على التوازن أو التحكم في غرائزه أو عواطفه أو ميوله ، أيَّاً كانت ، فلا يصلح لتولي القضاء أصلاً ، بصرف النظر عن كونه رجلاً أو امرأة ، والأوجب إخضاعه للفحص والعلاج النفسيَّين. وتشدِّد على أن المشرِّع الوطني هو المعني بالخطاب الدستوري ، وليس القاضي. ومن ثمَّ فإن المحكمة الدستوريَّة وحدها هي المرجعيَّة الدستوريَّة الأخيرة ، فليس من حقِّ أيِّ قاض أن يستدعي أيَّ نصٍّ يتصوَّره بفهمه الخاص ، ليقوم بتطبيقه على الواقعة. وتسمي هذا إهداراً خطيراً للسلام الاجتماعي والعدالة. كما تثير أيضاً مسألة التربية ، حيث تستحيل تنشئة الأجيال الجديدة على حسِّ المواطنة ، إذا استمرَّ إخراج التلاميذ المسلمين من حصَّة الديانة المسيحيَّة ، والعكس صحيح.

الجمعة:
أحد الناقمين على تصرُّف بعض السودانيين برشق سفارة بلادهم في بروكسل بالحجارة ، أثناء مسيرة تضامن مع دارفور جرت ، مؤخراً ، في العاصمة البلجيكية ، لم يجد ما يشجب به هذا الاعتداء سوى أن يكيل لهم السباب ، في أحد المواقع الاسفيريَّة على الشبكة العالميَّة ، بتوقيع (واحد زهجان من الأجانب) ، واصفاً إياهم ، حرفياً ، بأنهم "مجرَّد (عـ .. د) تشاديين (كـ .. ب) عاملين فيها سودانيين ما تركوا وسيلة إلا فضحونا بيها ، وواحد (زغـ .. ي) قال أسقطنا طائرة سودانيَّة ، إتخيلوا هم عارفين نفسهم ما سودانيين"!
نفس هذا المعنى المُستعلي والمرذول كان قد شكل لحمة وسداة خطاب النخبة السياسيَّة والصحفيَّة (المايويَّة) ، فى عقابيل هزيمة حركة 2 يوليو 1976 بقيادة المرحوم محمد نور سعد ، ابتداءً من (وصمها) بأنها غزو (مرتزقةٍ) يفتقرون للانتماء إلى السودان ، حسب تصوُّر غلاة مستعربي تلك النخبة لما ينبغي أن تكون عليه صورة (السوداني) ، وانتهاءً بجمعهم الأدلة على ذلك من ألسنة المقبوض عليهم من محاربي (الجبهة الوطنيَّة السودانيَّة) ، آنذاك ، والتي كانت تضم حزب الأمة والاتحاديين والأخوان المسلمين. ومِمَّا حصر عبد الله علي ابراهيم مِن تلك الأدلة البائسة ، ضمن كتابه القيِّم (الماركسيَّة ومسألة اللغة في السودان) ، أن (اللغة) قد استخدمت للتفريق بين (المواطن) و(الأجنبي) ، حيث كتبت الصحف تحت بعض الصور: "إدعى هذا المرتزق أنه لا يفهم كلامنا!" (الصحافة ، 8/7/1976م). وأشار مذيعو التلفزيون إلى معتقل أو آخر قائلين: "هذا لا يتكلم العربيَّة!" ، وقال بعض مواطني قرية العجيجة إنه ليس ثمَّة مِمَّن ألقوا القبض عليهم (سودانيٌّ) واحد ، "فكلهم يتحدَّثون (لهجة) غير مفهومة!" ، وقالت مذيعة تلفزيونيَّة تصف من احتجزوها: "إثنان منهم سودانيان ، واثنان لا ينطقان حرفاً عربياً!" (الأيام ، 20/7/1976م). وهكذا ".. ضاق ، عند (ود العرب) ، تعريف .. (السوداني) ليصبح هو .. ذلك الجزء من الكل (الدولة) الذي يتكلم العربيَّة ، لا غيرها ، وساهمت السلطة .. وإعلامها .. بالقسط الرئيس في استثارة تلك الشوفينيَّة العاميَّة وإلهابها .. (حيث) أشهرت بيِّنة اللغة فوق الرءوس .. وتضرَّر مواطنون سيقوا إلى معسكرات الاعتقال التي أطلقت فيها السلطة كلَّ سعار غوغائيَّتها ونزعتها الانتقاميَّة .. وبقي .. آخرون يتمنون ألا يخونهم لسانهم أو يدل عليهم" (ص 72 ـ 76).
بعد مرور أكثر من ثلاثين سنة على جردة (مايو) تلك ضدَّ مواطنيها من الناطقين بغير العربيَّة ، وبتاريخ متقارب مع كلمة ذلك (الزهجان من الأجانب) مؤخراً ، نشر خالد المبارك مقالة آية في الهيافة والضحالة والتفكك. وإن جاز لنا أن نميل عن موضوعنا الرئيس شيئاً ، فإننا نستأذن القارئ لنفتح جملة اعتراضيَّة ، نلاحظ فيها أن الرجل راح يراوغ ، في مقالته تلك ، يمنة ويسرة ، وبأقصى ما وسعته الحيلة الفقيرة ، في مسعىً مفضوح لحرف الانتباه إلى مسائل لا تمتُّ بصلة إلى ما نحن فيه معه ، متقافزاً ، بما يدعو إلى الرثاء ، بين التجريح الشخصي لمبدعين في قامة بشرى الفاضل وعيسى الحلو ، تارة ، وحديث الجهالات الكاسدة حول (الماركسيَّة والدين) ، تارة أخرى ، والمحاولات الماسخة (لتخفيف الدم) بإطلاق تسميات لم تضحك أحداً إلا عليه ، تارة ثالثة ، وهكذا دواليك! أما غايته الحقيقيَّة ، من (فرفرة) المذبوح تلك ، فقد كانت الهروب ، فحسب ، لو استطاع إلى ذلك سبيلا ، مِمَّا كنا واجهناه به من أسئلة مباشرة في رُزنامتنا تحت عنوان (العقربة) ، ظاناً أنه يستطيع ، بمثل ذلك (التذاكي) المُمِل ، أن ينفكَّ من أسرها ، أو يفلت من حصارها ، ولكن .. هيهات ، ففي الناس فطانة ، ومنهم مَن نصح له ، كما اعترف هو نفسه ، بالمسارعة للردِّ الواضح على تلك الأسئلة ، وإلا فستبقى ، إن شاء الله ، ناشبة في عنقه ، ظفراً وناباً ، إلى يوم يبعثون!
الآن نغلق الجملة الاعتراضيَّة ، مشدِّدين على أن المقالة جاءت ، في عمومها ، عاطلة عمَّا يستحق الالتفات ، دَع الرَّد ، لولا أننا وقفنا ، في بعض طربقاتها ، على ما يستدعي ضرب المثل السئ به ، سواءً بسواءٍ مع كلمة (الزهجان من الأجانب) قبل أيام ، وعمايل نخبة (مايو) في يوليو 1976م ، بجامع (الاستعلاء) العرقيِّ والثقافيَِّ في هذا كله. فقد وجدنا المسكين ، عندما غلبته الحيلة ، وضاقت به الوسيعة ، ينزلق ، في سياق هضاريبه تلك ، ليشير ، ببلاهة معهودة ، إلى أنني أضع (طاقيَّة تشاديَّة!) ، ظاناً أنه ، بمثل هذا (الاستعلاء) الثقافيِّ المُخزي ، و(التفاخر) العِرقيِّ البغيض ، يُعيِّرني بأصل يعتبره هو (وضيعاً) ، ويُخرجني ، نفرة واحدة ، من أمَّة (مستعربي) السودان الذين هم وحدهم ، في نظره ، أهل البلاد الأماجد ، وسادتها النبلاء ، دون غيرهم من خلق الله فيها!
مع ذلك ، فلن أبرِّد بطنه بالانزلاق معه إلى هوَّة سجال فجِّ غاية مراده البئيس التباهي المتوهَّم بالانتماء إلى عرق أنقى أو ثقافة أرفع ، وذلك لسببين رئيسين:
أولهما: يقيني أن هذه هي ذات طريقة التفكير التي ظلت تشكل العامل الرئيس في أزمتنا الوطنيَّة الشاملة ، طوال قرون من الممارسات السلطويَّة/الاستعلائيَّة/التفكيكيَّة التي تكرَّست تاريخياً ، على يد الجماعة المستعربة على الشريط النيلي ، من مثلث الوسط (الذهبي) وإلى الشمال الجغرافي ، بفعل عوامل اقتصاديَّة سياسيَّة واجتماعيَّة ثقافيَّة محدَّدة. وأكثر ما تحتقن به ذهنيَّة الفرد من هذه الجماعة هى أوهامه الفادحة عن ذاته (كود بلد) ، وعن الآخر ، إما (كحلبى) أو (كعبد) ، وكلاهما ، فى النهاية ، محض مُساكن عرَضىٍّ لا يؤبَّه له فى مقام المواطنة! لكن أجيالاً من مثقفي هذه الجماعة من الوطنيين الديموقراطيين ما زالت تجهد في تعرية هذه العوامل ، رافعة لواء الدعوة المستنيرة لخوض الصراع ، ابتداءً ، داخل الحقل المفاهيمي لهذه الجماعة نفسها ، كشرط ابتدائيٍّ لازم لتجاوز واقعنا الوطنيِّ المؤلم ، وخلق الظرف الملائم للتعارف ثمَّ الحوار بين مكونات أمتنا ، الأمر الذي يستحيل أن يتحقق بمجرَّد إبراءً الذمَّة عن صراعات هذه الجماعة مع مساكنيها في الوطن ، أو حتى بمحض التعاطف العاطل مع ظلامات هؤلاء المساكنين! فلا مناص من أن يسهم كلُّ مثقف وطني ديموقراطي في الحراك الفكري الذي يهدف إلى فتح هذا الجرح النازف عن آخره حتى يمكن علاجه ، الأمر الذي يقتضي ، أوَّل ما يقتضي ، المجاهرة ، ضربة لازب ، بالمسكوت عنه في ثقافتنا ، فإن أكثر ما يفرِّقنا ، حقاً ، هو الذى لا نجرؤ على الحديث عنه ، كما في قول سديد لفرانسيس دينج! وأكثر هذا الذى لا نجرؤ على الحديث عنه ، صراحة ، هو واقع الاستعلاء الجهير فى حمولة الوعى الاجتماعى العام لهذا القطاع النيلي من المستعربين فى بلادنا!
ثانيهما: إقتناعي بضرورة أن يتجاوز الوعي بـ (الانتماء الحضاري) شوفينيَّة ضيق الأفق التي ما انفكَّ يرزح في أغلالها ، للأسف الشديد ، كثير من مثقفي هذه الجماعة. ذلك أن (بلاد السودان) كمفهوم جغرافي برز في كتابات الرحَّالة العرب ، أو (الحزام السوداني) كمفهوم حضاري استخدمه الرحَّالة الأوربيون ، كلاهما مفهوم تاريخيٌّ شامل لمنطقة واحدة ممتدَّة أفقياً من المحيط الأطلنطي غرباً إلى وادي النيل والبحر الأحمر والهضبة الاثيوبيَّة شرقاً ، وتقع إلى الجنوب مِمَّا كان يُعرف بمنطقة (البيضان) المتاخمة لسواحل البحر المتوسط ، وإلى الشمال من المنطقة الأفريقيَّة جنوب الصحراء. ولئن تدخلت يد التجزئة الاستعماريَّة لتشطر هذا (السودان) ، في بعض الحِقب التاريخيَّة ، إلى (سودان شرقي) و(سودان غربي) بفاصل يقع عند بحيرة تشاد ، وفي بعضها الآخر إلى (سودان فرنسي) و(سودان إنجليزي) وكيانات وسطى بينهما ، ثمَّ لترتب لتقسيمه إلي كيانات سياسيَّة وإداريَّة أصغر ، حسبما تكرَّس ، لاحقاً ، في مؤتمر برلين (1884 ـ 1885م) ، حيث أصبحت المنطقة تضمُّ السنغال ومالي وموريتانيا وغانا وغينيا وغامبيا وسيراليون والكاميرون ونيجيريا والنيجر وتشاد والسودان الحالي وغيرها ، فإن منطق الحضارة والثقافة قد اشتغل باتجاه معاكس لذلك المخطط الاستعماري ، حيث حافظ على الكثير من الخصائص المشتركة ، في ما يتصل بالتديُّن ، والتصوُّف ، والتقاليد ، والعادات ، والملبس ، والايقاعات ، والسلم الخماسي ، والتداخل اللغوي ، والمزاج العام ، وغيرها من القيم الفريدة الناتجة عن عمليات التفاعل التاريخيِّ الطويل عبر الممالك والامبراطوريَّات التي شهدها (الحزام السوداني) ، ما بين القرنين التاسع والتاسع عشر الميلاديين ، كممالك غانا ومالي وصنغاي وكانم وبرنو والفور وسنار وغيرها ، مِمَّا يمكن التماسه باستفاضة لدى عبد الهادي الصديق الذي خلص ، بعد دراسة مضنية ، إلى جدوى اعتبار المنطقة بأكملها (حزاماً سودانياً) واحداً يستعصي على التجزئة ثقافياً وحضارياً.
الحديث ، إذن ، عن (طاقيَّتي) يبقى محض جهالة إن لم يضع في حسبانه كلَّ هذه الاعتبارات ، فيستوجب ، بالأساس ، تصويباً معرفيَّاً مفاده أنها ليست (تشاديَّة) ، في حقيقتها التجزيئيَّة الاستعماريَّة ، وإنما (سودانيَّة) بهذا المعنى الحضاري! فالمنطقة بأسرها تعرف الطاقيَّة المستديرة أو المخروطيَّة ، المخططة متعدِّدة الألوان أو السادة ، كتانيَّة الخامة وذات اللون الواحد. وقد تكون هذه الطاقيَّة جزءاً من زيِّ (الكبتاني) ، الأشبه ببعض أزياء شبه القارَّة الهنديَّة ، وهي الامتداد الطبيعي لـ (الحزام السوداني) ، أو من زيِّ (القراند بوبو) ، الجلباب الواسع المنتشر في كلِّ بلدان المنطقة. وعلى كلٍّ فهي كلها تنتمي إلى حضارة واحدة .. رضيَ المستعربون المستعلون أم أبوا! هذا ما فهمه الخليل ، حسب انتباهة عبد الهادي السديدة ، حين أنشد: "من برنو للريف اب علال/ فرسان خلا وأولاد حلال"! كما فهمه عبد القادر تلودي ، أيضاً ، في أنشودته العذبة: "الأغلى شئ عندي/ من برنو للهندِ"! فهل ، يا ترى ، فهم القط الكلام؟!

السبت:
مفيدٌ ، دائماً ، أن نبدأ بترتيب الحقائق ، قبل أن نقرِّر قبول أو رفض نتائجها. وعليه لا بُدَّ من ترتيب أهمَّ حقائق نزاع الحكومة مع المحكمة الجنائيَّة الدوليَّة ، حول ملف جرائم دارفور ، على النحو الآتي:
(1) وافق السودان على (ميثاق الأمم المتحدة) منذ استقلاله عام 1956م.
(2) وقع السودان فى 8/9/2000م على (نظام روما لسنة 1998م) الذي تأسَّست المحكمة الجنائيَّة الدوليَّة بموجبه ، لكنه لم يصادق عليه بعد.
(3) المادة/19 من (معاهدة فيينا للاتفاقيات الدوليَّة لسنة 1969م) تلزم الدولة بعدم إعاقة تنفيذ أيِّ اتفاق تكون قد وقعت عليه ، إلى حين المصادقة.
(4) ينعقد الاختصاص للمحكمة الجنائيَّة الدوليَّة ، وفق (نظام روما) بأحد ثلاثة طرق: فإما بطلب من الدولة نفسها (المادة/13/أ) ، أو بالإحالة إليها من مجلس الأمن (المادة/13/ب) ، أو بمبادرة من المدَّعي العام الدولي (المادة/13/ج).
(5) أحال مجلس الأمن ملف جرائم دارفور إلى المحكمة الجنائيَّة الدوليَّة بموجب سلطاته وصلاحياته تحت المادة/13/ب من (نظام روما لسنة 1998م) ، مقروءة في ضوء الفصل السابع من (ميثاق الأمم المتحدة).
(6) وبموجب هذا الفصل السابع:
أ/ ينفرد مجلس الأمن بتقرير ما إذا كان قد وقع تهديد أو إخلال بالسلم العالمى ، ويتخذ ما يراه مناسباً لإعادة الأمور إلى نصابها (المادة/39).
ب/ يطلب إلى الدول الأعضاء تطبيق ما لا يتطلب استخدام القوة المسلحة ، كقطع العلاقات الدبلوماسيَّة والاقتصاديَّة ، والمواصلات الحديديَّة والبحريَّة والجويَّة والبريديَّة والبرقيَّة واللاسلكيَّة وغيرها ، جزئياً أو كلياً (المادة/41).
ج/ فى حالة ما إذا لم تكن هذه التدابير كافية ، يستخدام القوات البريَّة والبحريَّة والجويَّة التابعة للدول الأعضاء (المادة/42).
د/ تعتبر الدول متعهدة بوضع قواتها وكل التسهيلات الأخرى تحت تصرُّفه (المادة/43).

الأحد:
ذات استراحة ، أثناء تحقيقات ما بعد الانتفاضة ، سألت بهاء الدين محمد ادريس ، أكثر رجال النميري غموضاً ، عمَّا ظلَّ الناس يتداولون بشأن معاملة (الرئيس القائد) لوزرائه بالعين الحمراء ، لدرجة أنهم كانوا يرتجفون هلعاً في حضرته ، فضحك وقال: شوف يا أستاذ ، سأحكي لك واقعة صغيرة ، ولك أن تستخلص منها ما تشاء! كان الفنان التشكيلي ابراهيم الصلحي وكيلاً لوزارة الثقافة والاعلام ، عندما اعتقل ، عام 1975م ، في ملابسات انقلاب حسن حسين. وبعد إطلاق سراحه ، غادر السودان ، مغاضباً ، إلى قطر ، ليلتحق بالعمل مستشاراً للفنون لدى أميرها. بعد سنوات ، وكانت النفوس قد هدأت شيئاً ، إشتاق الصلحي لأهله ، فالتمس من الأمير ، الذي كان على أهبة السفر للمشاركة في مؤتمر قمَّة ، أن يتوسَّط له عند النميري كي يضمن دخوله البلاد ومغادرتها ، دون مضايقة!
بالفعل ، ما كاد الأمير يفتح الموضوع ، على هامش المؤتمر ، مع النميري الذي كان مزاجه رائقاً ، حتى استجاب ، وبحماس:
ـ "بس كده؟! غالي والطلب رخيص .. والله كمان أعيِّنو ليك وزير"!
واصل بهاء قائلاً: زار الصلحي السودان وعاد بسلام. وبعد فترة أمرني النميري ، وكان قرَّر إجراء تعديل وزاري ، أن أرأس لجنة ترفع إليه ترشيحات الوزراء الجدد ، على أن نحتفظ بوزارة الثقافة والاعلام لـ .. صالحين! طرحتُ المهمَّة بحذافيرها على اللجنة ، وعندما أخطرتهم بالوزارة (المستثناة) ومَن اختاره الرئيس لشغلها ، أبدى الجميع استغرابهم! فصالحين كان مذيعاً لامعاً ، ومديراً ناجحاً للاذاعة ، لكن ما لم يكن ليخطر على البال أن يُنتزع من مجاله ليُعيَّن وزيراً ، فضلاً عن أنني كنت في شكٍّ من الأمر الرئاسي نفسه ، كوني كنت على علم بقصة الوساطة الانسانيَّة التي حوَّلها النميري إلى وعد سياسي! مع ذلك لم يكن بمقدور أيُّ عضو في اللجنة ، بمن فيهم عبد الرحمن عبد الله ، أحد المقرَّبين جداً ، أيامها ، من النميري ، مراجعته في الأمر!
رفعت الترشيحات إلى (الرئيس القائد) الذي مهرها بتوقيعه ، واستكملت إجراءات إخطار المرشحين كافة ، والاعداد لحفل أداء القسم. وقد فوجئ صالحين نفسه عندما أخطرته بالقرار ، فعاد يهاتفني ، ليسألني ، متشككاً ، عمَّا إذا كنت متيقناً من أنه ليس ثمَّة خطأ في (الموضوع) ، وأنه هو المقصود بالفعل!
يوم حفل المراسم ـ والحديث ما زال لبهاء ـ وعندما تقدَّم صالحين لأداء القسم ، لاحظت أن النميري قد انحني قليلاً وراح يُمعن التحديق في ملامحه مستغرباً! وبعد نهاية الحفل تبعت النميري إلى مكتبه ، حيث لم أفاجأ بسؤاله لي:
ـ "الزول ده مش مذيع"؟!
ـ "نعم سعادتك"!
ـ "والجابو هنا شنو"؟!
ـ "سعادتك إنت أمرت بالاحتفاظ بالثقافة والاعلام لصالحين"!
ـ "يا أخي أنا قاصد الفنان التشكيلي أبو دقن كبيرة"!
ـ "سعادتك داك إسمو الصلحي"!
ـ "لا حول ولا قوَّة إلا بالله .. أيوه أيوه الصلحي بتاع الدوحة ، لازم تتصلوا بيهو وتصحِّحوا الخطأ ده بسرعة"!
ـ "حاضر سعادتك"!
وختم د. بهاء حكايته لنا قائلاً إنه سارع ، بالاتصال بعبد الرحمن عبد الله يرجوه أن يقنع الرئيس بتأجيل ما اعتزم لبعض الوقت ، حتى لا يؤثر الأمر على سمعة (الثورة) إذا بلغ الصحافة الأجنبيَّة! توكَّل عبد الرحمن على الحي الذي لا يموت ، وتحدث إلى النميري الذي اقتنع بعد لأي ، غير أنه سرعان ما انشغل ، ناسياً (الموضوع) برمَّته ، فلم يعُد إليه مرَّة أخرى أبداً!

الإثنين:
مَن كان منكم يتوهَّم أن (المصالحة) يمكن أن تتحقق بمحض تبويس اللحى ، والكلام المعسول ، والنوايا الطيِّبة ، والطبطبة على الأكتاف ، و(حفلات عشاء) العلاقات العامَّة ، بدون إجراء الاصلاحات التشريعيَّة ، ونصب ميزان (العدالة الانتقاليَّة) ، كي يتيسَّر فتح ملفات الجرائم والظلامات كلها ، ولو من العام 1956م .. فليرم فاطمة احمد ابراهيم بحجر!



#كمال_الجزولي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- كانْ حاجَةْ بُونْ!
- إنتَهَت اللَّعْبَة!
- سَفِيرُ جَهَنَّمْ!
- برُوفيسورَاتُ تُوتِي!
- العَقْرَبَةُ!
- لَكَ أَنْ تَرمِيَ النَّرْد!
- شَمسٌ كَرَأسِ الدَّبُّوس!
- قصَّةُ بَقرَتَيْن!
- الحَامِضُ مِنْ رَغْوَةِ الغَمَامْ - الأخيرة
- الحَامِضُ مِنْ رَغْوَةِ الغَمَامْ (6) (مَبحَثٌ فى قِيمَةِ ال ...
- الحَامِضُ مِنْ رَغْوَةِ الغَمَامْ (5) (مَبحَثٌ فى قِيمَةِ ال ...
- الحَامِضُ مِنْ رَغْوَةِ الغَمَامْ - 4
- الحَامِضُ مِنْ رَغْوَةِ الغَمَامْ (مَبحَثٌ فى قِيمَةِ الاعتِ ...
- الحَامِضُ مِنْ رَغْوَةِ الغَمَامْ -3
- الحَامِضُ مِنْ رَغْوَةِ الغَمَامْ ..بَينَ خَريفٍ وخريفْ: مائ ...
- طَرَفٌ مِن حَديثِ تَحَدِّياتِ البِنَاءِ الوَطَنى (الأخيرة) - ...
- طَرَفٌ مِن حَديثِ تَحَدِّياتِ البِنَاءِ الوَطَنى(2) الدِّيمُ ...
- طَرَفٌ مِن حَديثِ تَحَدِّياتِ البِنَاءِ الوَطَنى - 1
- دَارْفُورْ: شَيْلُوكُ يَطلُبُ رَطْلَ اللَّحْمِ يَا أَنْطونْي ...
- عَضُّ الأصَابع فِى أبُوجَا!


المزيد.....




- بعيدا عن الكاميرا.. بايدن يتحدث عن السعودية والدول العربية و ...
- دراسة تحذر من خطر صحي ينجم عن تناول الإيبوبروفين بكثرة
- منعطفٌ إلى الأبد
- خبير عسكري: لندن وواشنطن تجندان إرهاببين عبر قناة -صوت خراسا ...
- -متحرش بالنساء-.. شاهدات عيان يكشفن معلومات جديدة عن أحد إره ...
- تتشاركان برأسين وقلبين.. زواج أشهر توأم ملتصق في العالم (صور ...
- حريق ضخم يلتهم مبنى شاهقا في البرازيل (فيديو)
- الدفاعات الروسية تسقط 15 صاروخا أوكرانيا استهدفت بيلغورود
- اغتيال زعيم يكره القهوة برصاصة صدئة!
- زاخاروفا: صمت مجلس أوروبا على هجوم -كروكوس- الإرهابي وصمة عا ...


المزيد.....

- كراسات التحالف الشعبي الاشتراكي (11) التعليم بين مطرقة التسل ... / حزب التحالف الشعبي الاشتراكي
- ثورات منسية.. الصورة الأخرى لتاريخ السودان / سيد صديق
- تساؤلات حول فلسفة العلم و دوره في ثورة الوعي - السودان أنموذ ... / عبد الله ميرغني محمد أحمد
- المثقف العضوي و الثورة / عبد الله ميرغني محمد أحمد
- الناصرية فى الثورة المضادة / عادل العمري
- العوامل المباشرة لهزيمة مصر في 1967 / عادل العمري
- المراكز التجارية، الثقافة الاستهلاكية وإعادة صياغة الفضاء ال ... / منى أباظة
- لماذا لم تسقط بعد؟ مراجعة لدروس الثورة السودانية / مزن النّيل
- عن أصول الوضع الراهن وآفاق الحراك الثوري في مصر / مجموعة النداء بالتغيير
- قرار رفع أسعار الكهرباء في مصر ( 2 ) ابحث عن الديون وشروط ال ... / إلهامي الميرغني


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان - كمال الجزولي - طَاقِيَّتي .. التشَاديَّةْ؟!