أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان - كمال الجزولي - كانْ حاجَةْ بُونْ!















المزيد.....



كانْ حاجَةْ بُونْ!


كمال الجزولي

الحوار المتمدن-العدد: 1903 - 2007 / 5 / 2 - 12:39
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان
    


الثلاثاء:
أقوى تحذير يمكن أن يصدره (فلانٌ) إلى (عِلان) ، ليجعله يتراجع عن فعل شئ يعتزمه ، هو أن يقول له: إنك إن فعلت ذلك فسيرتدُّ فعلك إلى عنقك! لكنه لا يحذره بأن يقول له إن فعله سيرتدُّ إلى عنق (فِلتِكان) ، إلا إذا كان أمر (فِلتِكان) هذا مِمَّا يهمُّ (عِلاناً) وحده ، ولا يهمُّ (فلاناً) نفسه في قليل أو كثير!
لم يكتف د. غازي صلاح الدين ، مستشار رئيس الجمهوريَّة ، في اللقاء التفاكري الذي نظمه المكتب الاعلامي لرئاسة الجمهوريَّة بتاريخ 5/4/2007م ، بإرسال إشارات محمَّلة بالمغازى الخاصَّة ، وذلك بتشديده على أن الحكومة تحتاج إلى (شجاعة سياسيَّة) لتسوية أزماتها مع المجتمع الدولي في ما يتصل بمحكمة لاهاي والقوات الدوليَّة (!) بل عَمَدَ ، بعد أن أكد على مواقف الحكومة ، إلى تحذير مَن يستهدفون السودان بحملة العقوبات ، قائلاً بالحرف: "السياسيون (يعني الحكومة) لن يتأثروا بهذه الحملة ، وإنما المواطنون"! (السوداني ، 6/4/07).
لا يخرج الأمر عن أحد احتمالين: فإما أن د. غازي يقصد ، فعلاً ، أن المواطنين (الفِلتِكانيين) لا يهمُّون الحكومة (الفلانيَّة) ، بقدر ما يهمُّون المجتمع الدولي (العِلاني) ، وهذه ، بالطبع ، مصيبة! أو أنه لم يقصد إلى التصريح بذلك ، وأن العبارة ربما أفلتت منه بحكم اشتغال العقل السلطوي (الباطن) ، فيلزمه ، في هذه الحالة ، مراجعة تحذيره .. لأنه لم يكن موفقاً البتة!

الأربعاء:
لعدة عوامل اقتصاديَّة سياسيَّة واجتماعيَّة ثقافيَّة ظلَّ مزاج المستعرب المسلم السوداني ، على الشريط النيلي من الوسط إلى الشمال ، ينحو لاعتبار الصرامة والجفاف دليلاً على الجديَّة والحزم الخليقين بالرجال ، والمرح والطلاقة خفة قمينة بالنساء والعبيد ، ويتبدَّى ذلك ، بوجه مخصوص ، في مناهج التربية في البيت والمدرسة.
لم يقع استثناء النساء من ضوابط هذا المزاج العابس ترفقاً بهنَّ ، بل كشكل ملتو في التعبير عن دونيَّتهن ، وتعزيز الاستعلاء الذكورى عليهنَّ. لذلك وسَّع المجتمع من تسامحه مع غناء البنات ورقصهنَّ ، فاتسع فيهما هامش التجرُّؤ على الممنوع ، شكلاً ومضموناً ، من الزار إلى الدلوكة! لكنه ، ولذات السبب ، كرَّس هذا الغناء معياراً لما يصطلح عليه بالغناء (الهابط) في شرعة مؤسَّسته (الرسميَّة) لفن الغناء والموسيقى! ولا تسَلْ عن القيامة التي قامت ، يوم أطلَّ المرحوم ابراهيم عوض يغنِّي (حبيبي جنَّني) ، بشبابه العبق ، ووسامته الصدَّاحة ، وأناقته الفوَّاحة ، وأدائه الطليق ، وسنه الذهبيَّة ، وشعره المصفف المشقوق! فلم يكن المجتمع ليتقبَّل ، وقتها ، شيئاً من ذلك بأخي وأخيك ، وهو الذي لم يترك للرجال غير التنفيس فى (القعدات) السِّرِّيَّة ، بين عزلة رديف القرية وعزلة زقاق المدينة المُعرَّف بالألف واللام كما وصفه علي المك! ولك ، إن شئت ، أن تلتمس ملمحاً من صورة ذلك المعمار الاجتماعيِّ العجيب ضمن ملاذات سيف الدين (الخلفيَّة) ، مثلاً ، في (عرس الزين) للطيِّب صالح!
لا يخفى المشترك بين أغنية البنات وأغنية الجاز ، من حيث الاطار النفسي ، وطلاقة الميلوديَّة ، وعمق الإيقاع ، وجرأة الأداء ، ومفارقة منطق التركيب البنائي لكلمات الأغنية التقليديَّة. وفي (مرشده) ذمَّ عبد الله الطيب الموشَّحات العربيَّة القديمة التى أكثرت من الزخرف والتكلف ، فأثرت على الموشَّحات الحديثة التى شبَّهها بأغانى (الجاز) ، وضرب مثلاً لذلك من السَّحرتي: "أشيرُ إليكَ بطرفِ ردائِي/ تعالَ ورائِي تعالَ ورائِي/ حديقة مورو إليها سأمضِي/ فهيَّا اصطحِبنى لتقطفَ مِنِي/ أزاهيرَ حُسنِي وطلعَ روائِي" .. الخ! وقال إن طريقة التقفية فى هذه القطعة ، ونغمة الوزن ، وتفاهة الكلمات ، كل ذلك "جازىُّ كأسمج ما تكون الجازيَّات"! وقارَنه بقول الجازيِّ الأوربي:
“You and I, On the five forty five, We shall not be disturbed, This compartment is reserved”!
ويمكن ترجمتها بتصرُّف إلى: "القمَرَةْ قمَرَتنا/ والريدةْ لمَّتنا/ إنتَ وأنا/ فوقْ خمسةْ خمسةْ وأربعينْ/ مينْ يزعجنا مينْ/ والقمَرَةْ قمَرَتنا/ إنتَ وأنا"! وتذكرني بما كان أنشأ الكابلي ، أواخر خمسينات القرن المنصرم ، من غناء دكاكينيٍّ غايته دعابة سمر إخوانيٍّ خفيف: "تلفونْ خمسينْ ستةْ وخمسينْ/ الردَّ مينْ/ قالْ ليَّا إنتَ إسمكْ مينْ/ قتْ ليهو أنا زولْ أمينْ" ، أو نحو ذلك!
وضرب عبد الله الطيِّب مثلاً آخر لِما أسماه (التسميط العصرى) بقول المغنِّي: "خمرُ شبابٍ رطيبْ/ معصورة من قلوبْ/ فى القبلتين وآهٍ/ من طعمِها أسكِرينِى" .. الخ! وضاهاه بما رواه له صديقه محمد الحسن أبوبكر عمَّن أسكره صوت فتاة سودانيَّة تلقي كلمة من مذياع أم درمان ، فأنشد: "بالمكرفونْ/ كانْ حاجةْ بونْ/ نغمْ مؤنثْ بارتجالْ"!
مهما يكن من أمر عبد الله الطيب ، وبصرف النظر عن دمغه لكل ذلك بأنه محض (تسطح جنسي) ، فقد أغفل التاريخ الاجتماعي لسطوة (الذهنيَّة الذكوريَّة) التى أصدرت ، من فوق الحائط الفاصل بين (حوشَي) الرجال والنسوان ، حكمها الأخلاقي على أغانى بنات (المركز) في الوسط والشمال النيلي بـ (الهبوط) ، دع غناء نساء (الهامش) ، مِمَّا أحالته هذه الذهنيَّة ، لاحقاً ، إلى شرطة (النظام العام)!
لكن ، إذا نحينا المعايير الأخلاقيَّة جانباً ، وتساءلنا عن طاقة هذه الأغاني على التعبير عن مستوى الوعي الاجتماعي السائد في مختلف الفترات التاريخيَّة ، فيمكننا تناولها ، مثلاً ، من منظور الظروف الاجتماعيَّة التي أحاطت بصعود وهبوط مؤسسة (الأفندي) ، كملمح من انهيار الطبقة الوسطى بأسرها ، والكيفيَّة التى تمَّ التعبير بها عن ذلك فى هذا النمط من الغناء.
إقترنت نشأة شريحة (الأفنديَّة) ، كجزء من فئة الانتليجينسيا ، بنشأة التعليم المتروبولي (الحديث) ، في مناخات الانكسار المُدوِّي لأول دولة وطنيَّة موحَّدة فى بلادنا عشيَّة ومطالع القرن العشرين. لكن (الحداثة) التي أنشأت كليَّة غردون في 1902م ، بهدف تخريج من تحتاجهم الادارة في أدنى سلمها ، سُيِّجت بخطة تحول دون إحاطة الطلاب بأيَّة معارف تشكل لديهم مصدر إلهام بأفكار ثوريَّة تحرُّريَّة ، تفادياً ، من زاوية نظر اللورد كرومر والسير جيمس كري ، لتكرار خبرة المستعمرات الأخرى الأليمة ، حيث ارتبط نقل ثمار المعارف الغربيَّة الرفيعة إلى الهند ، مثلاً ، بظهور الحركات الثورية فيها!
هكذا صار تعليم (الكليَّة) ، حسب عبد المجيد عابدين ، كشكولياً ، يأخذ مادة العلم من سطحها ، ولا يعني بتكوين الشخصيَّة المتصرِّفة ، أو بالجوانب الحيَّة في البيئة والمجتمع ، ويهدف إلى التوظيف لا التثقيف. وكانت (الكليَّة) ، حسب محمد المكي ابراهيم ، تحشو رؤوس طلابها بالمعلومات لتقذف بهم ، في أقصر فترة ممكنة ، إلى وظائف ضئيلة الشأن ، محروسة بجهاز من الارهاب والوصوليَّة والسعايات!
إقترن ميلاد هذه الشريحة ، أيضاً ، بالاستثارة العاصفة لغبن شريحة (المشايخ) عليها ، وتلك مكيدة دبَّرتها الإدارة البريطانيَّة في إطار استراتيجيَّة (فرِّق تسُد) التقليديَّة. فقد نشأت شريحة (المشايخ) مع نشأة التعليم الدينى المغاير لسلفه المهدوي ، وبالأخص فى معهد أم درمان العلمى (1912م) ، في ارتباط مباشر مع (تشهِّيات) خدمة الحكومة ، دون إغفال المصلحة الاستعماريَّة في زرع الشقاق بين (الغردونيين) و(المعهديين) ، من حيث تدليل اولئك ببيئة الكليَّة ومبانيها وحدائقها وداخلياتها ومأكلها ومشربها وتوسيع فرص التوظيف أمام خريجيها ، مقابل التقتير على هؤلاء وتضييق فرصهم ، فضلاً عن تكريس الثنائيَّة فى المؤسسة الدينيَّة ذاتها بدعم الإسلام (الرسمى) فى مواجهة الإسلام (الشعبي)! بالنتيجة اقترنت قيمة التعليم لدى الشريحتين بميزة (الميرى) ، فاشتبكتا ، حول هذه القيمة البائسة ، في حرب (داحس والغبراء) ، كما أسماها عبد الله علي ابراهيم ، حين تشكلت نظرة اجتماعيَّة تعتبر تعليم الكليَّة وحده هو مرتقى التوظيف المأمول ، وأضحى التلميذ لا يكاد يدخل المدرسة ، بحسب المحجوب وحليم ، إلا وبدأ ذووه يتخيلونه يوزع الدراهم ، بينما حقيقة العلم الذي يتلقاه لا يؤهِّله سوى لوظيفة حكوميَّة تافهة!
مع ذلك ، وبفضل حيويَّة الحركة الوطنيَّة ، إنخرط أغلب طلاب الكليَّة وخريجيها ، الجُدد منهم بالأخص ، في النضال الوطني ضد الاستعمار. ثمَّ تطوَّرت الكليَّة نفسها فأصبحت جامعة مرموقة ، وقام إلى جانبها فرع لجامعة القاهرة ، وتحوَّل المعهد الفني إلى جامعة أيضاً ، وتزايدت أعداد القادمين من الجامعات الخارجيَّة ، كما تضاعف عدد مؤسَّسات التعليم العام. وطوال تلك المسيرة لم تكف حركة الطلبة والأفنديَّة عن الاسهام النشط في النضال من أجل الديموقراطيَّة والحريات والحقوق وما إلى ذلك من القيم الشريفة.
لكن (الاستثمار) الشخصى والأسري فى (التعليم) ، وليس (العلم) نفسه ، واصل تكرُّسه (كعجل مقدس) في مستوى الوعي الاجتماعي السائد. فانطلق (الأفنديَّة) ، بدفع الذهنيَّة العامَّة ، يتباهون بـ (الشهادات) ، وليس غالبها سوى (سندات) عبور سريع إلى كشف المرتبات ، و(مظلة) حكوميَّة تقي من هجير الفقر ، والبلاد تعاني ، برغم الاستقلال ، من آثار قطع الحقبة الاستعماريَّة لتطورها الطبيعي! ثم ما لبثت أن استعرت ، بعد السودنة ، حرب (داحس وغبراء) أخرى ، بالمخلب والناب ، داخل شريحة (الأفنديَّة) ذاتها ، حول الترقيات والتنقلات والعلاوات وعربات الحكومة ورئاسات اللجان وبيوت الميري ، دَعْ (مرض الطفولة الوزاري) ، بمصطلح ود الريَّح ، مما تحفظ ذاكرة الأنظمة! ويروى ندامى بعض المتظرِّفين من انقلابيى مايو كيف ظلَّ يتندر ، فى مجالس أنسه ، بتهيُّبهم ، صبيحة استيلائهم على السلطة ، من العمل مع (الألقاب العلميَّة) الضخمة التى اختيرت لمجلس الوزراء ، لكنهم لم يحتاجوا للانتظار طويلاً كي يمدوا أرجلهم ، لمَّا اكتشفوا كم كان الأمر أبسط مما تصوَّروا!
وإذن ، فقد رتع (الأفنديَّة) في نعيم الميزات الاجتماعيَّة! لدنياهم رونق ، ولحياتهم مذاق ، ولمحافلهم سحر ، والآخرون لا ينفكون يتطلعون إليهم من أدنى السلم الاجتماعي ، بل ومن أعلاه ، يتباهون بمصاهرتهم ، ويتجمَّلون بالتقرُّب إليهم ، ويؤثرونهم بصدور المجالس ، ويتبارون فى تقليد أساليبهم فى الملبس والمأكل والمشرب والكلام والحركة والسكون. الأمهات يُهَدْهِدْن أطفالهُنَّ بوعد حظوظهم: "بكرة تكبر وتبقى لى مامور"! وأغاني البنات فى المدن وفى الأرياف البعيدة تتغزل فى مناقبهم: "الأفندى التذكارو عندى"! و"المهندس جا ورسم البُنا"! و"أجيب فلان محامى"! و"الدكاترة ولادة الهنا"! و"مشيت الخارجيَّة أشوف سبب الأذيَّة"! و"مشيت الداخليَّة للحارس الجنسيَّة"! و"شرطاً يكون لبيس من هيئة التدريس"! والناس فى أصقاع السودان الفقير يتيمَّنون بإسباغ صفاتهم على كل بديع فى حياتهم ، فالشاى الجيِّد لا بد أن يكون هو (دم الدكاترة)! والثوب النسائى الأنيق إما (بت الباشا المدير) أو (السفير) أو (الكادر) أو (قلم الدكاترة) أو (ضلعهم) أيضاً ، ومن كل بُد ، والقائمة تطول!
كان ذلك كله سابقاً ، بالطبع ، على اشتغال ماكينة الفصل السياسي خلال حقبة مايو ، والتي أعقبتها (هوجة الاغتراب) فى السبعينات والثمانينات ، عشيَّة تآكل الطبقة الوسطى ، وأفول نجم (الأفنديَّة) ، وانهيار مملكتهم ، وبوخ سلطتهم ، وفتور سيرتهم ، وخمول ألقابهم ، وانتهاء المُنعَم عليه منهم بعقد عمل خارجي للاندغام الكامل فى لقب وحيد ، هو (المغترب) الذى لا فضل فيه لطبيب على سبَّاك إلا بحجم (الشيلة) وعدد (الشنط) التى يهبط بها ، من ذلك العالم الآخر ، فى مطار الخرطوم! فاستحالت منظومة القيم الاجتماعيَّة في أغاني البنات إلى: "السافر جدَّة خلانى براي"! و"المغتربين إزيكم .. لعلكم طيبين فى حيَّكم"! و"يجيبو لى فرحان .. من جدَّة للسودان"! و"كلامو إسترلينى ما سائل فى الدولار"! والتمنِّى على الله ، من قبل ومن بعد ، بـ "مغترب أو ود غَرب"! ولات حين أهميَّة لما يصنع فى (جدَّة) مَن (يسافر) إليها ، أو لما يفرِّق بين (ود غَرب) صالح وآخر طالح!
ومع أوئل التسعينات ، وبفعل نازلتين في آن ، تفاقمت محنة (الأفنديَّة) لتقضي نهائياً على بقيَّة المجد! فقد بدأت في الدوران ، كما لم تدُر من قبل ، طاحونة (الفصل للصالح العام) على يد نظام (الانقاذ) ، وتلازم مع ذلك أن بدأت تدول ، من جانبها ، دولة (المغترب) ذاتها ، حين اجتاحتها ، فى عقابيل حرب الخليج الثانية ، رياح (السَّعْوَدَة) و(العَمْننة) و(الظبْيَنة) ، فانسدَّ كل مفتوح ، ولم يعُد متاحاً سوى اللجوء إلى بلاد طيرها أعجميٌّ ، فشهدت منظومة القيم الاجتماعيَّة تلك انقلابها الجديد على أيدى الطفيليين ، ولصوص المال العام ، وحراميَّة المشاريع الحكوميَّة ، والمضاربين فى كل شئ ، من العملات إلى الضمائر ، حتى قال المراجع العام إن مائة وثلاثين جنيهاً تنهب فى كل ثانية من الخزينة العامَّة ، مِمَّا أفضى بأغاني البنات إلى: "سجِّل لى عرباتك .. وسجل لى شركاتك .. ما إنت العسل ذاتك"! و"تجارة ليها أساس .. ما بيعرف الإفلاس"! و"شوفو كان رايق .. للـ (فى ـ إكس ـ آر) سايق .. لفت الخلايق"! و"ليلى علوى وجواجة .. كتحتنى بعجاجا .. زاد وجدى سواقا"! و"بالضرا ان شا الله راجل مرا"! و"بختي ان شا الله راجل اختي"! ولمن شاء استفاضة أن يلتمسها لدى نصرة أو قسمة أو حوا بنزين أو أخريات كثر ينتشرن ، فى طول البلاد وعرضها ، بعدد حالات الملاريا ، وموت الفجاءة ، والطلاق للغيبة أو لعدم الانفاق!
أغاني البنات مصدر مهم للتاريخ الاجتماعى ، ولا يصحُّ اختزالها فى الأحكام الأخلاقيَّة العامَّة ، فحسب ، دون النظر إلى محمولاتها من انعكاسات المستوى السائد للوعى الاجتماعى فى مرحلة أو أخرى.

الخميس:
وقع بين يديَّ ، عصر اليوم ، وأنا أنبش في خزانة كتب قديمة ، ألبوم صور جلها بالأبيض والأسود ، تعود بتاريخها إلى سنوات الطلب بجامعة كييف (1968 ـ 1973م). ويا لزمان العاصمة الأكرانيَّة على أيام الاتحاد السوفييتي .. العظيم! (العظيم) حتف أنف أغبياء العالم الثالث الذين ما دروا أنهم فقأوا أعينهم بأصابعهم يوم وقفوا يظاهرون عليه قوى الامبرياليَّة العالميَّة من (أهل الكتاب!) ، حتى إذا ما انهار ، وخلا الجوُّ لأمريكا تبيض وتفرخ نظاماً عالمياً جديداً يذيقهم الأمرَّين بعولمته الرأسماليَّة ، وقطبيَّته الأحاديَّة ، انقلبوا يلطمون الخدود ، ويشقون الجيوب ، ويزحمون الآفاق ضجيجاً وعجيجاً .. ولات ساعة مندم!
(العظيم) ، على الأقل ، بتجربته التي ، وبرغم الإخفاقات الكبيرة التي كان لها الأثر الحاسم في إجهاضها على صعيدي الديموقراطيَّة ودور الدين في حياة الناس ، رفعت المستضعفين إلى مصاف السادة ، فضمنت لكل منهم أن يأخذ بقدر عطائه ، وألا ينقهر بتراتبيَّة اجتماعيَّة ظالمة ، حتى لقد بلغت أجور عمال المناجم في سيبيريا ما لم يحلم به الوزراء والأطباء الاختصاصيون! ويا لكم دهشنا ، يوم دعتنا أستاذة اللغة الروسيَّة إلى حفل في بيتها ، وكنا ما نزال أيفاعاً نحبو على مدارج الكليَّة التحضيريَّة ، فوجدنا زوجها (خرَّاطاً) يحفظ بوشكين وشفشنكو ، ويحسن الحديث عن الأوبرا والباليه ، ويجيد عزف مقاطع من تشايكوفسكي ورحمانينوف على البيانو في غرفة الاستقبال ، ويحرص على أخذ أسرته ، كل عام ، في رحلة النقابة لقضاء عطلة الصيف في بلاجات ألوشطا على البحر الأسود!
(العظيم) ، على الأقل ، لكونه وفر لكلَّ مواطن ، على قدم المساواة ، لقمة العيش الكريمة بأزهد الأسعار ، وخدمات الصحَّة والتعليم مجَّاناً ، ووسائل السكن والمواصلات والرياضة وثمار الثقافة وأدواتها شبه مجَّاناً ، ومحا إلى ذلك ، عار الأميَّة عن شعوبه ، وجعل كل طالب على مقاعد الدراسة مطمئناً إلى عمل يحصل عليه بعد تخرُّجه ، حسب تخصُّصه ، وتأهيله ، وكفاءته.
(العظيم) ، على الأقل ، لكونه قدَّم عشرين مليون شهيد في سبيل إنقاذ البشريَّة من خطر النازيَّة والفاشيَّة ، مِمَّا أفضى ، في عقابيل الحرب الثانية ، بصرف النظر عن سلبيات الحرب الباردة ، إلى خلق عالم جديد ترفرف فوقه رايات السلام ، والتحرُّر ، والأمم المتحدة ، والفرص المتكافئة ، وحقوق الانسان ، وحماية البيئة ، وتصفية النظام الاستعماري القديم.
(العظيم) ، على الأقل ، لكونه استطاع أن يرتقي ، خلال ما لا يربو على عقود قليلة ، إلى مصاف (الدول العظمى) ، فتكافأت ، بفضله ، كفتا ميزان (الردع) النوويِّ ، وانطلقت سفينة العالم إلى جوديِّها المأمول فوق موج سلس من طمأنينة الصغار قبل الكبار!
(العظيم) ، على الأقل ، لكونه ، عندما أفلت شمس تلك التجربة الغاربة ، لم يكن ، في طول البلاد وعرضها ، ومساحتها سُدْس مساحة العالم ، أمِّيٌ واحد ، ولا عاطل واحد ، ولا شحَّاذ واحد ، ولا عاهرة واحدة!
(العظيم) ، على الأقل ، كونه أتاح لـ (عالمنا الثالث) ، تقطيعاً من الجلد ، بل من اللحم الحيِّ ، أن يوسِّع من بنياته التحتيَّة ، طرقاً وسدوداً وجسوراً وقنوات ومستشفيات ومعامل ومجمَّعات صناعيَّة ومصادر طاقة رخيصة وغيرها ، وأن يزيد ، إلى ذلك ، من أعداد علمائه ومهندسيه وأطبائه واقتصادييِّه وقانونييِّه وفنييِّه في مختلف المهن والتخصُّصات ، لا يبغي ، في مباراته التاريخيَّة مع ضواري (رأس المال) العالمي ، سوى حضِّنا على النأي بمسار تطوُّرنا الاقتصادي السياسي والاجتماعي الثقافي عن مصائد قوى (الاستعمار العالميِّ) ، نرمي بها من الأبواب فتعود من الشبابيك!
أعمى بصيرة بحق ، إن لم يكن ذا (أجندات!) خبيئة أخرى يقيناً ، من عجز عن رؤية (المصالح المشتركة) في تلك الخطة الساطعة ، وليسأل أولائك الجاحدون أنفسهم ، على الأقل ، كيف كان حالنا سيكون الآن ، لولا مساعدات (المنظومة الاشتراكيَّة) الكريمة ، ومِنَحها الدراسيَّة التي وفرتها لنا ، بسخاء نادر ، يوم قعدت إمكاناتنا الشحيحة بأحلامنا في التنمية ، وضاقت مؤسَّساتنا التعليميَّة بأهلها من الطلاب!

الجمعة:
تلقيت ، مساء اليوم ، مهاتفة من المفكر والأكاديمي اليوغندي المستنير ذي الأصول الآسيويَّة محمود مَمْداني الذي يدرِّس علم الانثروبولوجيا بجامعة كولومبيا بالولايات المتحدة ، ويرفد المكتبة والدوريات والمواقع المختلفة على الشبكة بمعالجاته الرفيعة في شتى القضايا الأفريقيَّة بأبعادها الدوليَّة ، خصوصاً ما يتصل منها بالنزاعات المسلحة ، ومفاهيم العدالة التي تمهِّد للمصالحات الوطنيَّة الشاملة ، ونقد النمطيَّة المعلولة في مناهج التناول الغربيَّة لقضايا القارة. أصدر أحدث كتبه قبل فترة وجيزة بعنوان: (مسلم طيِّب ، مسلم سئ: أمريكا والحرب الباردة وجذور الارهاب) ، ونشر آخر مقالاته ، قبل أسابيع قلائل ، تحت عنوان (سياسات التسمية: إبادة ـ حرب أهليَّة ـ تمرُّد).
علاقتي الشخصيَّة معه تعود إلى عهد قريب جداً ، حيث تولى مهمَّة (عريف) حفل تعارفنا الاليكتروني صديقي صلاح الجرِّك ، مدير معهد الفنون الأفريقيَّة بجامعة كورنيل ، بعد أن حدَّثني عنه طويلاً. تحادثنا بالتليفون والإيميلات مرَّات عدة ، طلب بعدها ، ضاحكاً ، أن أكفَّ عن مناداته بلقبه ، و".. يا كمال أمي عندما ولدتني أسمتني محموداً"! فأسرني ، فضلاً عن قامته الفكريَّة الرفيعة ، بتواضعه الجمُّ!
مَمْداني يقضي الآن إجازة قصيرة خارج مقرِّه ، يعود بعدها لترتيب زيارة بحثيَّة يعتزم القيام بها إلى السودان عمَّا قريب. وبقدر ما أتطلع للقائه شخصياً للمرَّة الأولى ، أتمنى أن تنظم له محاضرة محضورة بالخرطوم.

السبت:
برغم مرور ثلاثة أسابيع حتى الآن ، فإنني ما زلت ألاحظ ، مندهشاً ، عدم احتفاء الصحف بالندوة الأنيقة التي أقيمت بدار المهندس مساء 27/3/07 ، حول (استخدام مياه النيل: قراءة للحاضر ونظرة إلى المستقبل) ، والتي تولى إدارتها شرف الدين بانقا ، وتعاقب على منبرها عدد معتبر من العلماء والسياسيين جعلونا نتابع حديثهم ، مشدودين إلى مقاعدنا ، طوال ساعات ثلاث ، وفيهم يحي عبد المجيد ، وزير الري الأسبق ، ومساعد السكرتير العام للأمم المتحدة لشئون المياه ، ويعقوب أبو شورة ، أول وزير للري في عهد الانقاذ ، ومالك عقار وزير الاستثمار ، ومحمد ابراهيم نقد ، السكرتير العام للحزب الشيوعي ، والحاج آدم يوسف وزير الزراعة الأسبق ، ومضوي الترابي عضو المكتب السياسي للحزب الاتحادي (المسجَّل) ، وغيرهم.
في حديثه الشائق إنتقد يحي عبد المجيد إندفاع الانقاذ ، على أيامها الأولى ، في حفر ترعتي الرهد وكنانة ، وبالمحافير اليدويَّة .. كمان ، حتى قبل أن تستوثق مِمَّا إذا كانت ثمَّة مصادر للمياه أم لا! وكشف عن أنه توجه بتلك الملاحظة إلى أبو شورة ، حين دعاه الأخير للانضمام لهيئة مستشاري المشروع ، فأجابه ، حرفياً ، بأن الأمر برمته (سياسيٌّ) فحسب! ضجَّ الحضور بالضحك ، ولم يحر أبوشورة تعليقاً مقنعاً سوى قوله: لا أظن أنني قلت لك ذلك!
وتساءل الحاج آدم ، متشككاً ، عن مآلات موارد ذلك المشروع الذي طواه النسيان! ووصف إنشاء سد مروي قبل تعلية خزان الرصيرص بالخطأ الفادح! واتفق مع يحى في التعبير عن إشفاقهما على المشروع جرَّاء سوء الادارة! واقترحا إنشاء مفوَّضيَّة للري على غرار مفوَّضيَّة الأراضي. وشدَّد يحي على ضرورة إعادة سلطة الاشراف على السدود إلى وزارة الري. ومن جانبه انتقد مضوي الترابي انغلاق السودان على علائق أحاديَّة البُعد مع (بعض) دول الجوار في هذا الشأن ، منادياً بتمديد هذه العلاقات (شرقاً) على النيل الأزرق!
أما نقد فقد أشاد بالندوة التي "محت" ، كما قال ، "شيئاً من أميَّتنا في هذا المجال" ، لكنه لم يفوِّت فرصة الغمز على بانقا ، بما فجَّر ضحك الجمهور ، قائلاً له: أشكرك على دعوتي للحديث ، رغم أنك لم تفكر في ذلك إلا بعد مغادرتك السلطة! وفي المضمون دعا نقد للتنسيق مع كل دول حوض النيل ، وللمحافظة على علاقة تبادليَّة جدليَّة بين (العلم) و(السياسة) ، معاتباً المهندسين الذين يشغلون أحزابهم بقضاياهم النقابيَّة ، تاركين قياداتها تغرق في (العموميات) لدى التقرير بشأن مسائل تحتاج إلى المعرفة المتخصِّصة ، كالري والمياه! واقترح ، في الختام ، أن تعمل اللجنة الثقافيَّة بالجمعيَّة الهندسيَّة على توثيق مداولات هذه الندوة ، وإصدارها في كتيِّب ، تعميماً لفائدتها المشهودة.

الأحد:
عمل رجال القانون يكاد يلامس ، أحياناً ، عمل أساتذة الرياضيات ، حين يواجهون معضلات أشبه بمسائل اللوغاريثمات العويصة ، بل أقرب إلى الألغاز!
صادفتني هذه الخاطرة مكتوبة بخط يدي على هامش مرجع قديم في القانون الجنائي ، أثناء بحث كنت أجريه ، فجر اليوم ، لإنعاش الذاكرة بغرض تقديم استشارة مهنيَّة. وهي من سنخ الانطباعات التي تقع للمحامي في بداية حياته المهنيَّة ، ثمَّ تبقى معه حتى خواتيمها. وقد كنا ، بالمناسبة ، وما نزال ، مفتونين ، إلى حدِّ الوَله ، بأداء عبد الحليم الطاهر ، أبرع البارعين في مجابهة مثل هذه المعضلات ، لا ينافسه سوى عبد الوهاب بوب ، أمدَّ الله في أيامهما ومتعهما بالصحَّة والعافية.
عام 1959م جابه القضاء الجالس والواقف إحدى هذه المعضلات في ما صار يُعرف ، في أدبنا القانوني ، بـ (سابقة محمد حامد محمد علي) التي نظرتها محكمة كبرى بغرب السودان ، برئاسة محمد يوسف مضوي ، وظلت ، منذ ذلك الحين ، تدرَّس لطلاب القانون ضمن شبيهات لها كثر. فهي ، في الحقيقة ، ليست فريدة عصرها ، وإنما تمثل ، فقط ، نموذجاً من سوابق عديدة ، سودانيَّة وأجنبيَّة ، كسابقة خضر عبد الله الحسين السودانيَّة عام 1966م ، وسابقة خاندو الهنديَّة عام 1890م ، وسابقة جاكسون الأمريكيَّة عام 1896م ، وسابقة ثابو ميلي الباسوتولانديَّة عام 1954م ، على سبيل المثال.
سابقة محمد حامد عجيبة ، إذ ضرب شقيقه القتيل ، بعكازة غليظة ، في شجار حول بقرة. سقط المجني عليه فاقداً النطق والحركة ، فظنَّ محمد أنه مغشيٌّ عليه. لكن ، لمَّا فشل في إفاقته ، وتيقن أنه مات ، إنصرف تفكيره لإخفاء الأثر ، فجرَّه إلى بئر في الجوار ألقى به في جوفها. بعد ثلاثة أسابيع اعترف محمد ، وانتشلت الجثة ، وشرِّحت. سوى أن الطبيب لم يستطع ، لطول المدة ، أن يحسم ما إن كان سبب الوفاة تلك الضربة ، أم السقوط في البئر ، أم الاختناق داخلها! وفي هذا الاطار دارت المعركة القانونيَّة ، سجالاً ، بين الاتهام والدفاع والمحكمة! وهي معركة طريفة جداً ، لجهات الوقائع والحُجج والحكم وتسبيبه ، وقد نعود إليها ، بتمكث ، في رزنامة قادمة.
لكن الأعجب منها سابقة جاكسون التي استند إليها الحكم في قضيَّة محمد حامد بالاعدام ، والتي كنت دوَّنت تلك الخاطرة بشأنها ، قبل أكثر من ثلاثين سنة ، على هامش مناقشة الفقيه قلينفل وليامز حولها في كتابه (القانون الجنائي ـ الجزء العام). الحكاية وما فيها أن جاكسون ذاك (شرع) في قتل فتاة في ولاية أوهايو ، بإعطائها جرعات زائدة من الكوكايين. وبعد أن ظنَّ أنها ماتت ، قام بنقلها إلى ولاية كنتاكي ، حيث جزَّ عنقها بغرض إخفاء أثرها. أكتشفت المسألة ، وقدِّم جاكسون ، أمام محكمة كنتاكي ، بـ (القتل العمد). لكن المفاجأة التي لم تكن لتخطر على بال جاكسون المسطول هي أن الوفاة ، كما أثبت الطب الشرعي ، لم تنجم عن تعاطي المسكينة لجرعات الكوكايين الزائدة ، وإنما عن جزِّ رأسها! محامي الدفاع المثابر دفع ، منذ البداية ، بأنه ، وطالما أن (القصد الجنائي) عنصرٌ أساسيٌّ في (القتل العمد) ، فإن محاكمة جاكسون غير ممكنة ، في هذه الجريمة ، أمام محكمة كنتاكي باختصاصها الولائي المنفصل عن اختصاص محكمة أوهايو ، كون جاكسون ، عندما جزَّ رأس الفتاة في كنتاكي ، إنما كان يعتقد أنها ميِّتة ، ومعلومٌ أن قصد (القتل) لا يقوم إلا بإزاء إنسان حي! ومن ثمَّ طالب بترحيل جاكسون إلى أوهايو ليحاكم هناك بتهمة (الشروع) ، فقط ، في (القتل العمد) ، كون (القتل) نفسه لم يقع ، فعلياً ، في أوهايو ، وإنما في كنتاكي ، لكن دون أن يكون مصحوباً بـ (قصد القتل)!
فكر قاضي كنتاكي ، وقدَّر ، وهَرَش شعر رأسه ، مليَّاً ، ربما لساعات أو حتى لأيام طوال! غير أنه حزم أمره ، في نهاية المطاف ، فأغمض عينيه ، وسدَّ في وجه محامي الدفاع أذناً بطينة وأخرى بعجينة ، وقرَّر رفض الطلب ، قائلاً ، بحزم ، إنه ، وطالما كان (القتل العمد) مُجرَّماً ، في نطاق ولاية كنتاكي ، ومعاقباً عليه ، فإن محكمته تلك مختصَّة بمحاكمة جاكسون .. من كلِّ بُد!
تثير كلتا قضيَّتي محمد حامد وجاكسون الموضوعة القديمة المتجدِّدة .. موضوعة البون الشاسع بين مفهومي (القانون) و(العدالة)!

الإثنين:
أحد الذين أعتز بصداقتهم ، على المستوى الانساني ، لسنوات طوال حتى الآن ، دون أن يؤثر في ذلك تنائي خلفياتنا الفكريَّة أو تباعد انتماءاتنا السياسيَّة ، صديقي الأديب عبد الله حمدنا الله! ما يزينه دائماً ، سواء اتفقت أم اختلفت معه ، هو الجديَّة التي يتعاطى بها مع عمله واستنتاجاته بلا عصبيَّة ، وتجويده لشواهده وحُججه بلا مكابرة ، ورغبته الصميمة في اختبار أفكاره من زاوية أخرى!
حمدنا الله بحَّاثة صبور على الحفر مهما تعسَّر ، شغوف بالمصادر مهما ندرت ، كَلِفٌ باللقيات المدهشات تقع له أثناء عكوفه الطويل على التنقيب في حقل الدراسات السودانيَّة ، وبالأخص في التاريخ الاجتماعي للفكر والأدب والفن في بلادنا. ومن أمتع الأوقات تلك التي نقضيها ننبش مداخل واقعة صغيرة بمنهجين يبدوان متضادَّين ، لكنهما يتوحَّدان في ما يرتبان من متعة المقاربة ذاتها ، ونفعها ، في آن ، بصرف النظر عن (الحقيقة) التي قد نخلص إليها بأكثر من وجه ، كونها تنتسب ، بطبيعتها ، إلى النسبيَّة والجدل!
سلخنا ، هذه الليلة ، وللمرَّة الألف ، ساعة بأكملها في سيرة (فوز): هل هي الشول بت حلوة ، حسب مصادره الثقات ، وحسب مصدري الثقة ، بدوره ، حدباي احمد عبد المطلب؟! أم هي (مبروكة) حسب بعض المصادر؟! أم هي شخصيَّة تختلف عن هذي وتلك حسب مصادر أخرى؟! ومن كان معبرها إلى عالم رموز (الاتحاد السوداني) و(اللواء الأبيض)؟! هل هو الخليل؟! توفيق جبريل؟! أم محي الدين أبو سيف؟! وما سبب ثقتهم فيها إلى حدِّ إسكانها وأمها في بيت كانوا يخفون فيه مطبعة بدائيَّة أهداهم إياها عبد الله خليل؟! و(مدام دي باري) التي ورد ذكرها في كتاب المحجوب وحليم (موت دنيا): ما اسمها الحقيقي؟! وأيُّ الاثنتين (فوز وباري) كانت دارها بأم درمان محض (جارسونيرة) لنخبة عشرينات أو ثلاثينات القرن المنصرم ، وأيهما كانت تدير صالوناً أدبياً ، بحق وحقيق ، يتحاكم إليها فيه شعراء ذلك الزمان ، تجيز هذا ، وتنبِّه ذاك إلى عيوب نظمه! وهل هي ، بالفعل ، سليلة تلك الأسرة الأمدرمانيَّة العريقة؟! وهل كانت متزوجة من ذلك اللاعب والإداري المعروف بأحد الأندية الكبرى؟! وعموماً ، إلى أيِّ مدى أثرت المعياريَّة الأخلاقيَّة السودانيَّة في كلِّ هذا الغموض والتخفي والترميز الكثيف الذي اعتمدته المصادر ، كمصدر المرحوم حسن نجيلة في كتابه (ملامح من المجتمع السوداني) ، وفي شأن يُعَدُّ ، على نحو أو آخر ، جزءاً عزيزاً من تاريخنا الثقافي والوطني؟! فهل أضار بسيرة العقاد ، مثلاً ، كشف مؤرِّخي الأدب لعلاقاته بمي زيادة ، أو مديحة يُسري ، أو ألس أسعد داغر؟! وهل مسَّ شعرة من سيرة شيخ شعراء الشعب محمد المهدي المجذوب نشر علي أبو سن لرسائله إلى روز ماري ، أم أنها زادتنا معرفة به ، وبجانب مهم من عوالمه الابداعيَّة؟! بل وكيف لا تكون لدينا الأسوة الحسنة في مذكرات المرحوم بابكر بدري (حياتي) التي اختط فيها نهجاً بوَّأها أعلى مستويات هذا الضرب من السرديَّات ، مقارنة بتآليف أسماها مصنفوها (مذكرات) ، بينما هم ، بمعياريَّتهم الأخلاقيَّة الكاسدة ، قد هبطوا بقيمتها إلى محض شهادة شخصية محايدة بأحداث تاريخيَّة .. من خارجها؟!

***



#كمال_الجزولي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- إنتَهَت اللَّعْبَة!
- سَفِيرُ جَهَنَّمْ!
- برُوفيسورَاتُ تُوتِي!
- العَقْرَبَةُ!
- لَكَ أَنْ تَرمِيَ النَّرْد!
- شَمسٌ كَرَأسِ الدَّبُّوس!
- قصَّةُ بَقرَتَيْن!
- الحَامِضُ مِنْ رَغْوَةِ الغَمَامْ - الأخيرة
- الحَامِضُ مِنْ رَغْوَةِ الغَمَامْ (6) (مَبحَثٌ فى قِيمَةِ ال ...
- الحَامِضُ مِنْ رَغْوَةِ الغَمَامْ (5) (مَبحَثٌ فى قِيمَةِ ال ...
- الحَامِضُ مِنْ رَغْوَةِ الغَمَامْ - 4
- الحَامِضُ مِنْ رَغْوَةِ الغَمَامْ (مَبحَثٌ فى قِيمَةِ الاعتِ ...
- الحَامِضُ مِنْ رَغْوَةِ الغَمَامْ -3
- الحَامِضُ مِنْ رَغْوَةِ الغَمَامْ ..بَينَ خَريفٍ وخريفْ: مائ ...
- طَرَفٌ مِن حَديثِ تَحَدِّياتِ البِنَاءِ الوَطَنى (الأخيرة) - ...
- طَرَفٌ مِن حَديثِ تَحَدِّياتِ البِنَاءِ الوَطَنى(2) الدِّيمُ ...
- طَرَفٌ مِن حَديثِ تَحَدِّياتِ البِنَاءِ الوَطَنى - 1
- دَارْفُورْ: شَيْلُوكُ يَطلُبُ رَطْلَ اللَّحْمِ يَا أَنْطونْي ...
- عَضُّ الأصَابع فِى أبُوجَا!
- بَا .. بَارْيَا!


المزيد.....




- وثقته كاميرا.. فيديو يُظهر إعصارًا عنيفًا يعبر الطريق السريع ...
- -البعض يهتف لحماس.. ماذا بحق العالم يعني هذا؟-.. بلينكن يعلق ...
- مقتل فلسطينيين برصاص الجيش الإسرائيلي في الضفة الغربية (صور+ ...
- سماء غزة بين طرود المساعدات الإنسانية وتصاعد الدخان الناتج ع ...
- الناشطون المؤيدون للفلسطينيين يواصلون الاحتجاجات في جامعة كو ...
- حرب غزة في يومها الـ 204: لا بوادر تهدئة تلوح في الأفق وقصف ...
- تدريبات عسكرية على طول الحدود المشتركة بين بولندا وليتوانيا ...
- بعد أن اجتاحها السياح.. مدينة يابانية تحجب رؤية جبل فوجي الش ...
- ضابط استخبارات سابق يكشف عن عدد الضحايا الفرنسيين المرتزقة ف ...
- الدفاعات الروسية تسقط 68 مسيرة أوكرانية جنوبي البلاد


المزيد.....

- كراسات التحالف الشعبي الاشتراكي (11) التعليم بين مطرقة التسل ... / حزب التحالف الشعبي الاشتراكي
- ثورات منسية.. الصورة الأخرى لتاريخ السودان / سيد صديق
- تساؤلات حول فلسفة العلم و دوره في ثورة الوعي - السودان أنموذ ... / عبد الله ميرغني محمد أحمد
- المثقف العضوي و الثورة / عبد الله ميرغني محمد أحمد
- الناصرية فى الثورة المضادة / عادل العمري
- العوامل المباشرة لهزيمة مصر في 1967 / عادل العمري
- المراكز التجارية، الثقافة الاستهلاكية وإعادة صياغة الفضاء ال ... / منى أباظة
- لماذا لم تسقط بعد؟ مراجعة لدروس الثورة السودانية / مزن النّيل
- عن أصول الوضع الراهن وآفاق الحراك الثوري في مصر / مجموعة النداء بالتغيير
- قرار رفع أسعار الكهرباء في مصر ( 2 ) ابحث عن الديون وشروط ال ... / إلهامي الميرغني


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان - كمال الجزولي - كانْ حاجَةْ بُونْ!