أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان - كمال الجزولي - كَابُوسُ أَبيلْ!















المزيد.....



كَابُوسُ أَبيلْ!


كمال الجزولي

الحوار المتمدن-العدد: 2016 - 2007 / 8 / 23 - 11:07
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان
    


رزنامة الأسبوع 14-20 أغسطس 2007
الثلاثاء:
من أين جاء كلُّ هؤلاء القنابليِِّين التفجيريِّين يفخخون الاحياء الطرفيَّة ، باسم الاسلام ، ويتهيَّأون للزحف إلى وسط المدينة ، بمواسيرهم المشحونة بالبارود تقتل الأنفس ، وتفقأ الاعين ، وتبقر الاحشاء ، وتبتر الاطراف؟!
قلنا قبل ذلك ، ولا نملُّ التكرار ، إن النخبة الحاكمة في البلاد الآن هي ذاتها التي ظلت ، منذ منتصف أربعينات القرن المنصرم ، تسمِّي حركتها السياسيَّة بـ (الحركة الاسلاميَّة) المُعَرَّفة (بالألف واللام)! والمعنى أنها (وحدها) على صحيح (الدِّين) في حقل (السياسة) و(الحكم) ، وما عداها (باطل) ، بل (كفرٌ) بواح! ومن بواعث ورم الأنوف لدى هذه النخبة وأتباعها وصف الباحثين لهم بـ (الاسلامويِّين) ، حيث (الواو) لزعم نسبتهم لأنفسهم إلى (الاسلام)! ومع دقة هذه الصِّيغة في الميزان المعرفي ، وتواضعها إزاء (الدِّين) نفسه ، كون (الدِّين) هو كلمة الله في مطلق عليائه ، بينما الانتساب إليه هو (التديُّن) الذي أقصاه نسبيٌّ لا يكاد يتجاوز اجتهاد العبد في اكتساب مرضاة ربِّه ما وسعته بشريَّته على قصور حيلتها ، إلا أن هذه النخبة وأتباعها لا يرضون ، لأسباب سياسيَّة بحتة ، بأن يوصفوا بأقل من (كلِّ) التماهي في كلمة الحقِّ التامَّة ، و(منتهى) التطابق مع القيمة الدينيَّة المطلقة ، أي الصواب (الدِّيني) الكامل الذي لا يأتيه (الباطل) من بين يديه ولا من خلفه ، فهم وحدهم ، في شرعة أنفسهم ، (الاسلاميُّون) ، بدلالة (الفرقة الناجية) حتماً ، لا محض (إسلامويِّين) يصيبون ويخطئون!
المفارقة الصارخة تتجلى هنا في اصطدام هذا الزعم بغلبة الطابع (التعدُّدى) على (الصَّفِّ) نفسه الذي يدَّعون (توحُّده) بإزاء مفهوم (التديُّن بالسياسة) وفق مصطلح الترابي! يصدق هذا على (جماعتهم) التي يصفونها بـ (الاسلاميَّة) ، وبذات القدر على (جماعات) أخرى كثيرة تصف نفسها ، أيضاً ، بـهذه الصِّفة ، كصُنَّاع المتفجرات يخزِّنونها ليوم كريهة يستعجلونه ، زاعمين ، هم كذلك ، امتلاك الحقيقة الدينيَّة كاملة غير منقوصة!
وقد كان من الممكن أن يبدو هذا (التعدُّد) منطقيَّاً تماماً ، لولا شحَّ النفس والتكالب على الدُّنيا باسم الدِّين ، وذلك بالنظر ، أيضاً ، الى (تعدُّد) الفهوم المفضى إلى (التدافع) الذي هو ، في الاسلام ، بعض (سُنن) الكون في الطبيعة والاجتماع "ولن تجد لسنة الله تبديلا" (62 ؛ الأحزاب) ، "ولو شاء ربك لَجعل الناس أمَّة واحدة ولا يزالُون مختلفين" (118 ؛ هود). ويقول ابن كثير فى التفسير: "أى ولا يزال الخلف بين الناس فى أديانهم واعتقادات مللهم ونحلهم ومذاهبهم وآرائهم". فقد اختلف الخوارج مع علىٍّ حول مسألة التحكيم يوم صِفين. واختلف المسلمون ، قبل ذلك ، حول اختيار الخليفة الأول يوم (السقيفة) ، فانقسموا إلى (أنصار) و(مهاجرين). وانقسم الأنصار إلى (أوس) و(خزرج). ثم انقسم المهاجرون ، بدورهم ، إلى (مبايعين) لأبى بكر و(مغاضبين) من بنى هاشم لزموا مع الكرار بيته لا يبايعون ، كونهم كانوا يرون معه أن له حقاً فى (الأمر). ووقع الخلاف ، فى وقت لاحق ، بين علىٍّ وعائشة ، فوصفته الأخيرة بأنه ما يكون بين المرأة وأحمائها ، ثم وقع الخلاف بينه وبين معاوية ، وقبل ذلك بين عثمان الذى أقسم: "والله لا أخلع قميصاً قمَّصَنيه الله" ، وبين بعض الصحابة والجمهور ، مما أفضى إلى قتله. وتعدَّدت المذاهب الفقهيَّة ، والاتجاهات العامَّة للفرق ، كالسلفيَّة والصوفيَّة والمعتزلة والمحافظة والعصرانيَّة ..الخ. ثمَّ وقع الانقسام التاريخى إلى سُنة وشيعة. ويكاد الصراع على السلطة يسِمُ مجمل تاريخ الدولة الاسلاميَّة منذ تأسيس دولة الأمويِّين وانقلاب الخلافة الراشدة إلى ملك عضود. وفى قول الشهرستانى أن سيوف المسلمين ما سُلت كما سُلت حول السلطة السياسيَّة!
وفى التاريخ الحديث توزع الاسلامويُّون بين جماعات متناحرة إلى حدِّ الدَّم ، تدَّعي كلٌّ أنها وحدها (الناجية)! وفى السودان أفضت اختلافاتهم إلى انقسام أوعيتهم التنظيميَّة بين حركة أخوان مسلمين (جناح الصادق عبد الله) ، وأخوان مسلمين (جناح أبو نارو) ، وجبهة الميثاق ثمَّ الحركة الإسلاميَّة والجبهة الإسلاميَّة القوميَّة بقيادة الترابى ، وبين الحزب الجمهوري ، وحزب التحرير ، والحزب الاشتراكى الاسلامي ، وجماعة أنصار السنة بجناحيها (الهدية وأبو زيد) ، وجماعة الدعوة والارشاد ، وجماعة المؤتمر الوطني ، وجماعة (المؤتمر الشعبي) ، وجماعات السلفيِّين ، وجماعات وهيئات علماء السودان ، وجماعات التكفير والهجرة المتشرذمة العصيَّة على الحصر .. الخ. وهى ليست محض انقسامات تنظيميَّة ، بقدر ما هى انعكاس موضوعي لاختلاف زوايا نظر الحركيين الاسلامويِّين (المتعدِّدة) إلى الاسلام (الواحد) ، وإلى جُلِّ القضايا الدنيويَّة الجوهريَّة التي ما تنفكُّ تطرح نفسها على كلِّ من يتصدَّى لمهام سياسيَّة. فتباينت رؤاهم وتعدَّدت بشأن قضايا الاقتصاد ، والتشريع ، والمرأة ، والدستور ، والتصوير ، والنحت ، والغناء ، والموسيقى ، والرقص ، والحجاب ، والنقاب ، والتنوُّع ، والمواطنة ، والحريات ، والديموقراطيَّة ، والتعدديَّة ، وتطبيق الشريعة ، والمناهج التعليميَّة ، والانقلابات العسكريَّة ، والأحزاب السياسيَّة ، والعلاقات الخارجيَّة ، وشكل الحكم ، وحقوق الانسان ، واستقلال القضاء ، والتعليم المختلط ، والحرب والسلام ، وعلاقة الدين بالدولة ، وضرب الدفوف والمعازف ، ومعاملة غير المسلمين ، وما إلى ذلك. ومع أن هذه (التعدديَّة) سُنة ثابتة ، إلا أن مشكلة الاسلامويِّين تنبع من عدم اعترافهم بها ، رغم أنها ما تنفك تفعل فعلها فى حركاتهم نفسها ، فتأمل!
ومع تزايد أسئلة الواقع المتناسلة ، أضحت مقاربة (التعدُّد) المفضي لتحمُّل (الرأي الآخر) احتياجاً ملحاً بالنسبة لهذه الحركات في ما بينها ، دَعْ موقفها من غيريَّة (الآخر). (فالتعدُّد) حقيقة موضوعيَّة قائمة ، إعترفنا به أم لم نعترف ، وهو مفهوم وثيق الصلة بمفهوم (التدافع) القرآنى عند المسلمين "ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين" (251 ؛ البقرة) ، بل ولولا (التعدُّد) ، أصلاً ، لما أمكن تصور هذا (التدافع) عقلاً! على أن من فساد الرأي ، يقيناً ، تصوُّر هذا (التدافع) لا يكون إلا حرباً يشنها الجميع ضدَّ الجميع ، يصنِّعون لها القنابل ، ويخزِّنون لأجلها المتفجرات! ولئن كان الفكر السياسي الغربي قد عالج موضوعتي (التعدُّد) و(التدافع) ضمن موضوعة (الديموقراطيَّة) ، فالكثيرون ، حتى بين المفكرين الاسلامويِّين المعاصرين ، يبدون تقديراً طليقاً لهذا الضرب الوضعي من المعالجات على قاعدة الحديثين الشريفين: "الحكمة ضالة المؤمن ، أنى وجدها فهو أحق الناس بها" ، و"ما أمرتكم بشئ من دينكم فخذوه ، أما ما كان من أمر دنياكم فأنتم أدرى به". هكذا يشدِّد محمد الغزالى على أن ".. التفتح العقلى ضرورة ملحة .. فماذا يمنع الفقيه المسلم من قبول كلِّ وسيلة أصيلة أو مستوردة لتحقيق الغايات التى قررها دينه؟! إن النقل والاقتباس فى شئون الدنيا ، وفى المصالح المرسلة ، وفى الوسائل الحسنة ليس مباحا فقط ، بل قد يرتفع الآن الى مستوى الواجب" (دستور الوحدة الثقافيَّة بين المسلمين ، ص 182). وعلى خامنئى ، مرشد الجمهوريَّة الإسلاميَّة الإيرانيَّة ، يحرص على الحضِّ على الانتخابات الديموقراطيَّة ".. كواجب دينى" (قنوات ووكالات ، 8/1/2000م). وفى هذا يعود الغزالى ليقول: ".. شعرت بجزع عندما رأيت بعض الناس يصف (الديموقراطيَّة) بالكفر ، فلما بحثت عمَّا عنده لكفالة الجماهير وكبح الاستبداد وجدت عبارات رجراجة يمكن القاؤها من منبر للوعظ" (دستور الوحدة .. ، ص 186). والصادق المهدى يؤكد أن "الاسلام يوافقها (أى الديموقراطيَّة) فى خاماتها المبدئيَّة ، ولكنه لا يفصِّل نظاماً ديموقراطياً محدَّداً ، ويترك ذلك لظروف الزمان والمكان" (أحاديث الغربة ، ص 38). وعبد الله النعيم ، أحد أنجب تلاميذ محمود محمد طه ، يرى ".. أن الحاجة لتحمل تعدُّد الرأى بين المسلمين أنفسهم تجعل الليبراليَّة الاسلاميَّة مهمَّة بالنسبة للحيويَّة الدينيَّة للاسلام نفسه بالاضافة إلى التطور السياسي أو الاجتماعي .. أى أن المنطق الدينى للتحمُّل سوف يؤدى إلى تقدير أفضل للتعدديَّة كواقع حياة" (ضمن: الديموقراطيَّة فى السودان ، حيدر ابراهيم "ت" ، مركز الدراسات السودانيَّة ، القاهرة 1993م ، ص 242) . بل لم يعد من النادر أن نقع على ذات المعنى فى انتباهات حتى بعض الرموز المنشقة عن النخبة الحاكمة نفسها ، حيث يؤكد عبد الوهاب الأفندي ، مثلاً ، أن "الديموقراطيَّة الحديثة .. نقلة نوعية فى ابتداع الوسائل العمليَّة لتحقيق الاهداف التى ظلت المجتمعات الانسانيَّة تسعى لتحقيقها .. لكن .. الحركات (الاسلامويَّة) لم تطوِّر فكرها لاستيعاب هذا التحوُّل ، و.. (قادتها) .. يتبعون سنة بعض الخلفاء الذين .. يقرِّرون نيابة عن الله تعالى ، وليس نيابة عن .. الشعب .. حتى يفاجأوا بثورة عارمة .. فالاستبداد .. لا يختلف فى نتائجه ، لكون المستبد يدَّعى أنه مفوَّض من السماء .. وإذا لم تنجح الحركات الاسلاميَّة فى حسم هذه المسألة ، فإنها .. قد تصبح .. وبالاً على الاسلام" (الوفاق ، 18/1/2000م).
أين يختبئ القنابليُّون التفجيريُّون؟! هذا سؤال الشرطة! أما من أين وكيف ولماذا جاءوا ، فتلك أسئلة الحراكات الفكريَّة والثقافيَّة والسياسيَّة ، حيث يتوجَّب عليها تعقب جذور الضلالات التي تتلبَّسهم ، فتقودهم إلى هذا المآل. وقد لا نحتاج لأن نذهب بعيداً ، فأدناها إلينا سنوات نظام (الانقاذ) التي شهدت صعود وانكسار مشروع النخبة الاسلامويَّة الحاكمة تحت عنوان (المشروع الحضارى). وليس أبلغ في إيجازه من قول أحد أبرز قادته آنذاك ، وكان تولى وزارة الثقافة والاعلام: "عندما أسمع كلمة تعدديَّة أو حزبيَّة فإننى أتقزز ، وأشعر بقشعريرة ، وأتحسس جنبتى بحثاً عن حجر أرميها به!" (العميد طبيب الطيب ابراهيم ؛ أخبار اليوم ، 5/4/1998م). وذاك نموذج حىٌّ لاشتغال العقل الباطن ، فوزير (الانقاذ) قد استبطن ، ولا بُد ، الاعجاب بقول سئ الذكر غوبلز ، وزير هتلر وساعده الأيمن: "كلما سمعت كلمة (ثقافة) تحسَّست مسدسى"!
أصل الخلل ، إذن ، ناشب في أصل هذا (المشروع) الذي انطلق ، ابتداءً ، من فوهات بنادق إسلامويِّي نظام (الانقاذ). ومحاربته ، الآن ، لا تكون بإطلاق قوات الشرطة عليه ، فحسب ، وإنما ، في المقام الأوَّل ، بإطلاق طاقات المجتمع الحيَّة كافة صوب التحوُّل الديموقراطي الحقيقي .. لا الشكلاني!

الأربعاء:
في عموده البهي (قولوا حسناً) كتب صديقي محجوب عروة ، رئيس التحرير ، يُحيِّي الجيش في عيده ، ويصدِّر كلمته بما أثار شجناً قديماً في دواخلي ، قائلاً: "لست عسكريَّاً ، ولكني عشت أجواء العسكريَّة أسريَّاً" (السوداني ، 15/8/07). أنا أيضاً ذلك الرجل ، فقد كان والدنا ، عليه الرَّحمة ، ضابطاً في القوات المسلحة ، بدأ حياته متطوِّعاً في قوة دفاع السودان ، وعاد من معارك الصحراء الغربيَّة بجراح غائرات في ساقيه ، مثلما في قلبه ، برغم النصر ، جبال من الخذلان والأسى ، جرَّاء تنكر بريطانيا لوعدها لشعوب المستعمرات بالاستقلال حال مؤازرتها الحلفاء في الحرب ، فتمَّ ، بدلاً من ذلك ، تسريحه في إطار تقليص قوة الدفاع نفسها ، لينخرط في العمل (الملكي) والنشاط (المدني) حتى نال السودان استقلاله عام 1956م ، فأعيد استيعابه في الجيش الوطني ، ليبقى فيه حتى تقاعده عام 1979م. وهكذا اشتبكت حياتنا الأسريَّة ، نحن أيضاً ، بطقوس العسكريَّة ، وأعيادها ، واحتفالاتها ، وبأجواء القشلاقات ، في العاصمة كما في الأقاليم.
غير أن ما استوقفني بوجه مخصوص في كلمة عروة قوله: ".. لعلي لا أذيع سرَّاً إن قلت ، حسب إفادة موثوقة ، إن ضباط القوَّات المسلحة وقيادتهم هي التي كانت العامل الحاسم في إعلان الاستقلال من داخل البرلمان .. لقد اشترط الضباط السودانيُّون أن تقبل بريطانيا باستقلال السودان مقابل اشتراكهم في حربها ضد قوَّات ألمانيا في شمال أفريقيا". ورغم أنني لا علم لي بالمصدر الذي لم يُفصح عنه الكاتب ، بل ولا أجد ، مع أكيد احترامي ، مسوِّغاً لعدم إفصاحه عنه ، إلا أنني أرى ، على كلٍّ ، أن ثمَّة ما يستوجب الضبط في هذا القول الذي يجحد الحركة الوطنيَّة المدنيَّة حقاً مستحقاً. وقد أكون مخطئاً ، فأدعو أهل العلم للافتاء ، حذر أن يُحسَب الأمر في حق الصديق الكاتب المرموق ، أو في حقي ، كمغالطة تاريخيَّة حول شأن شائع في كثير من المصادر المنشورة.
الشاهد ، في مبلغ علمي المتواضع ، أن الوعد بمنح المستعمرات استقلالها بعد الحرب كان عامَّاً لم يتوجَّه للسودانيين خاصَّة ، وقد انطرح ، أصلاً ، كمبدأ سياسي ضمن (ميثاق الأطلنطي) الذي أبرمه تشيرشل وروزفلت على ظهر سفينة حربيَّة في عرض الاطلنطي في 14/8/1941م (أنظر مثلاً: عبد الرحمن الرافعي ؛ في أعقاب الثورة المصريَّة ، ج 3 ، ط 2 ، 1989م ، ص 166 ـ عثمان حسن احمد ؛ ابراهيم احمد (1900 ـ 1988م): حياة إنسان بين الأصالة والتحديث ، 1992م ، ص 31 ـ فيصل عبد الرحمن علي طه ؛ الحركة السياسيَّة السودانيَّة والصِّراع المصري البريطاني بشأن السودان (1936 ـ 1953م) ، ط 1 ، دار الأمين ، القاهرة 1998م ، ص 146 ـ محمد سعيد القدَّال ؛ تاريخ السودان الحديث (1820 ـ 1955م) ، ط 2 ، مركز عبد الكريم ميرغني 2002م ، ص 475).
ويذكر القدَّال أن (ميثاق الأطلنطي) فجَّر بذلك دعوة أمسكت بتلابيبها حركات التحرُّر في المستعمرات ، فتصاعد كفاح حزب المؤتمر الهندي ، مِمَّا أرغم بريطانيا على إرسال وزيرها سير كربس للتفاكر معه ، إلا أنه تمسَّك بالاستقلال الفوري ، فاندلعت الاضطرابات التي اعتقل في إثرها غاندي ونهرو وأبو الكلام أزاد. كما أن حزب الوفد المصري جاء للحكم في فبراير 1942م ورفع ، أيضاً ، مطلب الاستقلال. وفي ذلك المناخ انعقدت الدورة الخامسة لمؤتمر الخريجين ، وانتخبت لجنة جديدة برئاسة ابراهيم احمد الذي قدَّم في أبريل 1942م المذكرة الشهيرة وفي أوَّل بنودها المطالبة بالتصريح المشترك من الحكومتين الانجليزيَّة والمصريَّة بمنح السودان حق تقرير المصير بعد الحرب ، وإحاطة ذلك الحق بضمانات تكفل التعبير عنه بحريَّة تامة. وفي طريق عودته مرَّ سير كربس بالسودان ، والتقى بالصحفيَّين أحمد يوسف هاشم واسماعيل العتباني ، ثمَّ التقى بالسكرتير الاداري نيوبولد ونصحه بالتفاهم مع مؤتمر الخريجين (ص 475 ـ 476).
ويورد فيصل طه أن سير كربس قال خلال لقائه بالصحفيَّين السودانيَّين إن ".. السودان يلعب دوره في المجهود الحربي جيِّداً ، وإن هذا سيكسبه مكاناً في العهد الجديد الذي نأمل أن نراه في العالم عندما نفرغ من قوى الشر". ووصف أحمد يوسف هاشم تصريح كريس بأنه "أوَّل تصريح عن الدور الذي لعبه السودان في الحرب ، وعمَّا سيجنيه من ورائه" (ص 148).
ويقول عثمان حسن احمد أن مبعوث تشيرشل كان متجهاً إلي الهند ، حاملاً الوعد بالحكم الذاتي ، وكان متوقعاً أن يتوقف في الخرطوم ، ".. فتقدَّم أحمد يوسف هاشم بفكرة المذكرة في جلسة اللجنة التنفيذيَّة (للمؤتمر) .. بمنزل محمد علي شوقي يوم 17 أبريل 1942م" ، وفي مقدِّمة بنودها المطالبة بالتصريح المشترك "عن مصير السودان كما نريده والاشتراك في الحكم بالصورة التي نرضاها" (ص 31).
وحتى شيخ الدين عثمان البشيري (الجنيدي) ، ضابط الصَّف بقوَّة دفاع السودان ، وحكمدار الاشارات ، وحرس قائد قيادات الحلفاء بشرق السودان ، أثبت في مذكراته أنه ، بعد ما استبانت التهديدات الايطاليَّة لشرق السودان ، ".. فتحت مراكز التجنيد .. للشباب .. فهرع .. ملبِّياً نداء الوطنيَّة .. ثمَّ تحرَّك الشعب .. لمناهضة الاستعمار الفاشي ، كما شرع المثقفون في توعية الشعب بمصير السودان بعد .. الحرب .. وكانت هذه الفكرة تمهيداً لمذكرة مؤتمر الخريجين الشهيرة التي رفعها رئيسه الاستاذ ابراهيم احمد في 1942م" (مذكرات الجنيدي ، بدون تاريخ ، ص 51).
وقد يكون مناسباً أن نشير ، أخيراً ، إلى قصيدة صلاح احمد ابراهيم (الجندي المجهول) التي كرَّسها لهذه الأمر في ديوانه (غابة الأبنوس) الصادر عام 1957م ، مبرزاً بوضوح مسألة (الوعد العام) المعلن في (ميثاق الاطلنطي) ، بقوله:
"في تلك الأيَّام تطوَّعنا/ ورَضينا ذلَّ الجُنديَّة/ مَنْ أخلصَ للحُلفاءِ أوانَ الشِّدَّةِ سَوفَ ينالُ الحُرِّيَّة!/ ومَضَينا نحلمُ بالحُرِّيَّةِ للسُّودانْ/ في كفرَة .. في الصَّحْراءِ الغَرْبيَّةْ"!
ويفتح صلاح هامشاً يشرح فيه أنه: "من أجل هذا الوعد عبَّأ مؤتمر الخرِّيجين .. الشعب لخدمة المجهود الحربي للحلفاء ، وقد تنكر المستعمرون لوعدهم ، ولولا تفاقم حركة الشعب وعوامل أخرى لظلَّ السُّودان تحت سيطرتهم". ثم يختتم قصيدته قائلاً:
"وقضَى الحُلفاءُ على القوَّات النَّازيَّةْ/ وعلى وَعْدٍ في الشِّدَّة مَدُّوهُ في كُلِّ مكانْ/ مَنْ أخلصَ للحُلفاءِ أوانَ الشِّدَّة سَوفَ ينالُ الحُرِّيَّةْ/ لمْ يَبْقَ لدينا منه ومِن عُثمانْ/ لمْ يَبْقَ سِوى اللفظِ المَعْسُولْ/ ورخامٍ مُنتَصِبٍ مَصْقولْ/ أسْمَوْهُ: الجُّندي المَجْهُولْ"!
ويومئ صلاح بذلك إلى النصب الذي أقامته الادارة البريطانيَّة ، بعد الحرب ، تخليداً لشهداء العسكريَّة السودانيَّة ، وكان ، حتى إزالته غير المبرَّرة ، قائماً إلى الشمال من البوَّابة الرئيسة للسِّكة حديد بالخرطوم ، وإلى الجنوب الشرقي من كليَّة الطب.

الخميس:
عندما كتبت أستحث النقاد ، في رزنامة 17/7/07 ، أن يفتضوا لنا مغاليق التوافق بين إحالات عبد الحي في قصيدته (الشيخ اسماعيل في منازل الشمس والقمر) ودان براون في روايته (شفرة دافنشي) إلى (الكوكب) و(المرآة) و(الوردة الالهيَّة) و(الكأس المقدَّسة) ، قلت لنفسي: لو استجاب واحد فقط فسيكون ذاك صديقي الناقد الصَّيرفي والباحث المدقق عبد المنعم عجب الفيا. وبالفعل لم يخيِّب ظني ، فبعث إليَّ ، لا جاء يوم شكره ، بإضاءة رصينة من مقرِّه بالامارات ، يقول فيها:
(مصادر إلهام عبد الحي ، كما يبدو من عنوان القصيدة .. صوفيَّة. فالمعروف أن الشيخ اسماعيل صاحب الربابة من كبار المتصوفة في عهد السلطنة الزرقاء. وقول عبد الحي: "الجَّسدُ مِرآةُ الكَواكِبِ" فيه استدعاء لقول أحد الصوفيَّة مخاطباً الانسان: "وتزعُم أنك جُرمٌ صغيرٌ وفيكَ انطوَى العالمُ الأكبرُ". فالانسان مستودع الاسرار الإلهيَّة ، كأنما جَسَد الانسان هو المرآة التي تعكس أسرار الوجود. وفي الحديث القدسي: "كنتُ كنزاً مَخفياً ، فأحببتُ أنْ أعرَفَ ، فخلقتُ الخلقَ ، فبي عرفوني". كأنما الخليقة مرآة الخالق ، والكواكب مقامات في المعارف الصوفيَّة.
أما قول الشاعر: "الوَرْدَةُ الإلهيَّة تتفتحُ في رَحِم العَذرَاء" ، فالعذراء هنا ليست بالضرورة إشارة الى عذراء بعينها ، وإنما رمز عام إلى سرِّ الحياة الذي أودعه الله في المرأة/الأرض . ولكن الصورة لشاعريَّتها الغنيَّة تتسع وتشعُّ وتشِي بظلال لا تنتهي من الايحاءات والاستدعاءات. من ذلك أن الوردة الإلهيَّة التي تتفتح في رَحِم العذراء يمكن أن تكون هي كلمة الله التي ألقاها الروح القدس إلى مريم "التي أحْصَنَتْ فرجَها فنفخنا فيه من رُوحِنا". في هذا السياق الوردة الإلهيَّة هي كلمة الله: "يبشركِ بكلمةٍ مِنه اسمُه المسيح". الوردة هنا تشير إلى المسيح ، ولا تشير إلى نسل من المسيح نفسه كما تعتقد جميعة سيون السِّرِّيَّة. وهكذا يمكن قراءة القصيدة بعيداً عن عقائد تلك الجمعيَّة وافتراضات مؤلف رواية (شفرة دافنشي).
وعن رمزيَّة (الوردة) يقول عبد الحي في كتابه (الرؤيا والكلمات): "في الأدب الصوفي لم تزل قصة الوردة التي يسقيها البلبل ، عاشقها ، من دمه رمزاً من رموز الحُبِّ وقوة الجمال ، إنها قصة فناء الروح العندليب العاشق في وردة المحبوب ، كاحتراق فراشة الرُّوح في نار الجمال الجوهري". ويصور عبد الحي ذلك شعراً في قصيدة (في الحلم رأيت سعدى وحافظ) ، من ديوان (حديقة الورد): "النارُ وطنُ العُشَّاق يتفتحُ في قلبِ الظلمة/ في شُجَيْرَةِ الليل حيثُ السَّمَندَلُ والفراشَة شئٌ واحِد/ زهرَة ناريَّة في الليل الأبَدِيِّ"!
واحتراق السمندل ، أو فناء العندليب العاشق في نار الجمال الجوهري ، إشارة إلى فناء الروح ، أو الذات الشاعرة ، في عشق أصلها الإلهي الذي انفصلت عنه بالسقوط في الزمن بالتجربة ، وحلمها باستعادة الاتصال ، والاتحاد بعالمها الفردوسي الأوَّل. وفي إشارة إلى ذلك الحلم يقول عبد الحي في قصيدة (الفجر أو نار موسى ـ حديقة الورد):
"زرافة النار ترعَى النعنعَ القمريَّ بين الجِّبال/ وديكُ الفجر مقتولٌ/ صَحراؤك احترَقتْ ليلاً عنادِلها/ في حُلمِك البَشَري/ والوردُ مِن دَمِك المذبوح مَعلول"!
وهنا يتماهى السَّمندل مع (زرافة النار) و(ديك الفجر) و(العنادل) ـ جمع عندليب ـ المحترقة بنار موسى. والنار ترمز في الأدب الصوفي إلى تجلى الذات الإلهيَّة: "فلمَّا قضى موسى الأجَل وسارَ بأهله أنِسَ من جانبِ الطور ناراً قال لأهلِهِ امكثوا إنِّي أنِستُ ناراً لعلى آتيكم منها بخبر أو جذوةٍ مِن النار لعلكم تصطلون فلمَّا أتاها نودى مِن جانِبِ الوادي الأيمَن في البقعةِ المُبارَكةِ من الشجَرةِ المُبارَكةِ أن يا مُوسَى إنِّي أنا اللهُ رَبُّ العالمين" (القصص ، 29 – 30).
أما أسطورة الكأس المقدسة التي كان يعتقد أنها مسيحيَّة خالصة تمثل الكأس التي استعملها المسيح في العشاء الأخير ، واختفت بعد صلبه ، والعثور عليها يمثل العثور على سرِّ الحياة الأبديَّة ، فقد أثبت جيمس فريزر ، في مؤلفه فائق القيمة (الغصن الذهبي ، 1871م) ، أن جذور أسطورة الكأس المقدَّسة ترجع إلى الشعوب البدائيَّة الوثنيَّة ، وهي ترمز إلى طقوس الخصوبة التي كانت تمارسها تلك الشعوب ، ويقول إنها تدلل على علاقة الأديان بهذه الطقوس. وقد أوجد فريزر وشائج بين الكأس المقدسة وأساطير الاغريق والشرق الادني ، مثل افروديت وعشتار وتموز (أدونيس) وأوزيريس وإيزيس.
ومكوِّنات هذه الأسطورة ذات دلالات جنسيَّة تكاثريَّة لا تخفى. فالكأس إشارة إلى رحم المرأة ، والرمح الذي يحمله الفارس الذي يخرج بحثاً عن الكأس يشير إلى عضو الرجل. وقد ألهمت قصة البحث عن الكأس المقدَّسة كتاب قصص الرومانس البطوليَّة في العصور الوسطي بأوربا. وتوفرت جيسي وستن على دراسة هذه القصص ، استنادا إلى أسطورة الكأس المقدسة ودلالاتها الانثربولوجيَّة ، وذلك في كتابها (من الطقوس إلى أدب الرومانس ، 1921م).
وقد وظف الشاعر ت. س. إليوت دلالات الخصوبة في أسطورة الكأس المقدَّسة في قصيدته الشهيرة (الأرض الخراب ، 1922م) ، كما تأثر بها أدباء وشعراء آخرون مثل ييتس ، د. هـ. لورانس وجيمس جويس).
إنتهت إضاءة صديقي عجب الفيا ، و(الرزنامة) في انتظار المزيد من الآراء حول هذه المسألة.

الجمعة:
كاتبني عصام الدين موسى الحاج يستبشع ما أسماه (مبالغتي) في موازاة (العنف) بـ (التسامح) في حياتنا السياسيَّة والاجتماعيَّة ، ويسهب في مدح خصال شعبنا وطيبته .. الخ ، تعقيباً على ما كنت كتبت حول هذا الأمر في رزنامتين سابقتين.
ولكم وددت لو شاطرته (تفاؤله الوطنيَّ) هذا ، وشطبت (التشاؤم) من حساباتي بالمرَّة ، لولا أن كلمته أعادتني لما كنت استصوبت ، ذات رزنامة في مطالع الألفيَّة ، من ملاحظات المرحوم محمد أبو القاسم السديدة (الصحافى الدولى ، 16/10/2000م) ، على خلفيَّة العنف الذى كان ضحيَّته ، أوان ذاك ، المرحوم عمر نور الدائم والمرحوم محمد طه الذي عاد ذات العنف ليودي بحياته العام الماضي. فمايو ، ومن قبلها نوفمبر ، ومن بعدهما الانقاذ ، جميعها أنظمة قتلت خصومها ، وسجنتهم ، وعذبتهم ، وشرَّدتهم ، في سياق عنف الدولة المشهود الذى لا تنتطح على حقيقة كونه أسَّ البلاء عنزان ، والذي لم تنجُ من الانزلاق إليه حتى الديموقراطيَّة في بعض عهودها ، وبخاصَّة كلما أوغلت في الشكلانيَّة ، ليستوى هذا العنف فى نتائجه النهائية ، وإن تفاوت بين الخشونة والنعومة! أبرز ذلك: فعل (الانقلاب) نفسه فى 1958م و1969م و1989م ، وحادث (جودة) في 1956م ، وإعدام مجموعة على حامد فى 1959م ، وحوادث المولد فى 1961م ، وتلويح وزير الداخليَّة بـ (جز الرءوس) في 1965م ، والاعتداء على الشيوعيِّين في 1965م ، والعنف ضد الأنصار فى الجزيرة أبا وود نوباوى فى 1970م ، وضد الشيوعيين فى الشجرة وكوبر فى 1971م ، وضد محمود محمد طه والجمهوريين فى 1985م ، والقتل الكثيف فى سبتمبر 1975م ، والدفن بلا هوية فى الحزام الأخضر فى يوليو 1976م ، وإعدامات رمضان في 1990م ، دَعْ العنف المقرر بالانتهاكات (التشريعيَّة) ، وبالصلاحيات (القانونيَّة) الممنوحة لأجهزة الأمن ، حيث الاعتقال الاداري في السجون (العلنيَّة) حيناً ، وفى (بيوت الأشباح) مجهولة الهويَّة أحياناً ، و(الطمر) فى القبور الضائعة ، و(التشريد المبرمج) من الخدمة ، حيث (قطع الأرزاق) لا يضاهيه غير (قطع الأعناق) ، و(التعذيب المنهجي) عبر الحِقب الشموليَّة ، دَعْ (العنف المضاد) ، المدفوع أغلبه بردِّ الفعل ، والمتمثل في نماذج الهبَّات العسكريَّة ضد الانظمة الانقلابيَّة ، والعنف الطلابي بالخناجر والسيخ والطوب ، وربما السلاح الناري ، وعنف الهامش المسلح ، كما في الجنوب فى 1955م ، و1962م ، وبين 1983 ـ 2005م ، وكذا دارفور التي ظلت النزاعات فيها محصورة بين (حاكورة) هنا و(مورد) هناك ، حتى تدخل النظام يخلخل النسيج الاجتماعي برمَّته ، ويحوِّل الاقليم كله إلى حريق شامل وعظمة نزاع دوليَّة!
مع ذلك فليس العنف هو وحده ما ذكرنا ، وإنما قد يكون ، أيضاً ، فى (القفازات الحريريَّة) ، وأغلبها بعض (عنف الدولة) الناعم: فتجهيل الشعب عنف ، وتزوير الانتخابات عنف ، وتطفيف ميزان العدل عنف ، وإهدار استقلال القضاء عنف ، واحتكار أجهزة الإعلام عنف ، والتضييق على النشاط المدني عنف ، والاعتداء على حرِّيَّة الصحافة عنف ، وإعفاء منتهكي الحقوق ولصوص المال العام من المساءلة عنف ، وإشاعة الفقر حتى تبلغ نسبة من يعيشون تحت خطه 96% عنف! فهل ، تراه ، ما يزال الأخ عصام الدين يعتقد أنني أبالغ؟!

السبت:
لعلَّ آخر (كابوس) كان يتوقعه مولانا المحامي العالم أبيل ألير ، رئيس لجنة التحقيق في ملابسات وفاة الزعيم الراحل جون قرنق ، قبل عامين ، إثر ارتطام طائرته بجبل الأماتونج ، قادمة من عنتبي إلى نيوسايد ، هو أن تحتوش الشكوك المتكاثفة نتائج تحقيقه المطوَّل ذاك ، إلى الحدِّ الذي يعلن فيه الجنرال إماما امبابزي ، وزير الأمن اليوغندي ، استعداد حكومته لإعادة فتحه إن كانت ثمَّة أدلة جديدة تعارض ما توصَّلت إليه اللجنة من أن الحادث وقع قضاءً وقدراً ، وليس بفعل فاعل! ويكتسي دلالة خاصَّة حرص الجنرال امبابزي على التشديد ، في سياق تصريحه ، على أن تلك اللجنة ".. لم تكن يوغنديَّة ، وإنما دوليَّة قادها القاضي السوداني أبيل ألير ، وشاركت فيها دول الجوار ، بالاضافة إلى الولايات المتحدة وروسيا" (الصحافة ، 17/8/07).
إعلان المسئول اليوغندي لم يأتِ ، في الواقع ، من فراغ. فقد فجَّرت ربيكا ، أرملة الفقيد ، قنبلة مدويَّة من العاصمة الكينيَّة ، قبل أشهر قلائل ، حيث أكدت ، ولأوَّل مرَّة ، أنها كانت لديها معلومات يقينيَّة ، منذ وقوع الحادث ، بأنه لم يكن عَرَضيَّاً ، وأنها لم تشأ إثارة الأمر في حينه حتى لا تخلق بلبلة تزعزع اتفاقيَّة السلام التي توَّج بها الراحل نضاله الطويل!
صدى ذلك التصريح الخطير ما لبث أن تردَّد ، بعد ذلك ، من مصادر جنوبيَّة ليست بعيدة عن دوائر الحركة الشعبيَّة ، ربما ليس آخرها ما أورد ملف SUDAN TODAY على الشبكة ـ العدد الخامس بتاريخ 12/7/07 ـ من تفاصيل مذهلة عن محاولات يدَّعي التقرير أنها جرت في السابق لاغتيال قرنق ، بل ويورد شخصيات من تورَّطوا فيها ، إضافة لما كشف عنه ، مؤخراً ، وزير الدولة للداخليَّة السوداني ، أليو أجانق ، من ".. أن مقتل قرنق كان مدبراً ولم يكن قضاءً وقدراً" ، مُعلِناً عن ".. ظهور أدلة جديدة تركزت في عدم مطابقة أرقام الطائرة المحطمة مع طائرة الرئاسة اليوغنديَّة التي ذكرت كمبالا أنها أجرت لها عمليات صيانة في روسيا" ، وأن ".. المروحيَّة كانت تتبع للجيش ، لا للرئاسة اليوغنديَّة" ، على عكس ما ذكرت حكومة موسيفيني ، وأن قائدها اليوغندي ".. كان موقوفاً من الخدمة بتهمة القتل ، وكان يصرُّ على مواصلة الرِّحلة من مطار عنتبي .. إلى مدينة نيوسايد .. رغم ظهور أعطاب في الطائرة أثارت قلق قرنق الذي طلب تأجيل الرحلة أكثر من مرَّة" (الصحافة ، 17/8/07). وأضاف أجانق ، الذي كان عضواً في لجنة أبيل قبل انسحابه منها "بعد أن تكشفت له كلُّ هذه الحقائق" ، على حدِّ تعبيره ، أن "قرنق قتل بأيدي مَن كان يعتقد أنهم أصدقاؤه!" ، في إشارة واضحة إلى موسيفيني ، داعياً إلى التحقيق مع أربعة دبلوماسيين غربيِّين اجتمعوا بالراحل في مزرعة الرئيس اليوغندي بكمبالا قبل إقلاع الطائرة بستِّ ساعات! وقال إنه كان يعتقد قبل التحقيقات أن الخرطوم متورِّطة في الحادث ، لكنه تأكد ، بعد ذلك ، مِن أن إمكانات مَن دبَّروا الحادثة أكبر من امكانات السودان بكثير!" (الأيام ، 18/8/07). ومع أن الحُجَّة القائلة بمخالفة الطيار لرغبة قرنق في تأجيل الرحلة تكاد تكون أضعف حُجج المتشككين ، إذ ليس قائد الطائرة بمظنون أن يسعى هكذا للانتحار ، فإن بقيَّة الحُجج ، في عمومها ، تعزز الشكوك المحيطة بحادث الأماتونج ، وتدعم تصريحات مدام ربيكا في نيروبي!
لكن المدهش أنه ، وعلى حين لم تقابل تصريحات ربيكا الخطيرة ، والتي كانت الذهنيَّة الشعبيَّة مهيَّأة للتجاوب معها أصلاً في كلِّ أرجاء البلاد ، بردود الفعل الرسميَّة المعتادة في مثل هذه الحالات ، إثباتاً أو نفياً ، سواء من جانب الحركة الشعبيَّة أو أيٍّ من الحكومتين السودانيَّة أو اليوغنديَّة ، فإن تصريحات أجانق أطاحت به ، فوراً ، من كرسي الوزارة! فقد كشف الأمين العام للحركة باقان اموم عن أن اجتماع المجلس القيادي للحركة في جوبا مساء 17/8/07 وجَّه رئيسها الفريق سلفاكير بأن يتم فصل أجانق من منصبه كوزير دولة بالداخليَّة ، لكون ".. تصريحاته غير مسئولة ، ولا تمثل موقف الحركة ، وقد أدلى بها بدون تكليف منها" (الأيام ، 18/8/07).
الحكومة المركزيَّة ما تزال تستعصم بالصمت ، ولم تعلق بشئ ، رغم أنها هي التي شكلت لجنة التحقيق ، وأن اللجنة رفعت تقريرها النهائي إلى رئيس الجمهوريَّة ، وأن أجانق وزير دولة بها وليس بحكومة الجنوب!
مهما يكن ، وفي ضوء هذه المستجدَّات التي ما انفكَّت تتناسل مذ أطلقت ربيكا تصريحاتها ، وبالنظر إلى الثقل الواضح الذي تمثله مصادر هذه المستجدات ، وبغض الطرف عن قرار الحركة بشأن إقالة أجانق ، أو صمتها إزاء ربيكا ، فإنه لا يبدو ثمَّة مناص من إعادة فتح التحقيق من جديد ، طالما أن الحكومة اليوغنديَّة ترحِّب به ، كما وأحسب مولانا أبيل أوَّل من سيتحمَّس له ، لعدة اعتبارات! أما تجاهل الأمر كأن لم يكن ، ومعالجة تداعياته بالقرارات التي تتصوَّب إلى هامشه ، لا جوهره ، فإنما يعني ، بالضرورة ، أن يتحوَّل ، طال الزمن أم قصُر ، إلى (حِبْن) غائر ما يلبث أن يتسبِّب في (غنغرينا) أخرى لا شفاء منها إلى يوم يبعثون!

الأحد:
حذرت الحكومة البريطانيَّة رعاياها من السفر إلى الخرطوم ، وطالبت رعاياها الموجودين ، أصلاً ، في الخرطوم بتقييد حركتهم ، وذلك لتزايد (مخاوفها) مِمَّا وصفته باحتمال (مهاجمة) مصالحها على خلفيَّة (تهديدات) متنامية بوقوع (هجمات ارهابيَّة) على المصالح الغربيَّة ، كما علقت سفارتها بالخرطوم خدماتها لأجل غير مسمَّى (السوداني ، 19/8/07).
لكن الحكومة السودانيَّة قللت من اهميَّة هذه الاجراءات ، واعتبرتها (روتينيَّة) ، واستبعدت أن تكون لدواع (أمنيَّة) ، حسب الناطق الرسمي باسم وزارة الخارجيَّة! (المصدر).
و .. أرجو مِمَّن فهم شيئاً أن يكاتبني!

الإثنين:
ضمن (حكايات كانتربري السودانيَّة) التي حرَّرها دونالد هولي ، وترجمها محمد احمد الخضر ، وصدرت عن مركز عبد الكريم ميرغني الثقافي عام 2002م ، وهي ضرب من المذكرات الجماعيَّة لعدد من الموظفين العموميين البريطانيين عن الفترة التي قضوها في خدمة الادارة الاستعماريَّة بالسودان (1898 ـ 1956م) ، يروي إليوت بالفور ، في الفصل الخاص به ، طرفاً من المتاعب التي لطالما تعرَّضوا لها مع مصلحة المراجعة وقتها ، ولا تخلو من طرافة. من ذلك أن أحد مفتشي المراكز بالجنوب نقل رئاسته إلى مكان آخر ، وكان ذلك قبل أيام اللواري. لكن مكتب المراجعة سرعان ما أبرقه قائلاً:
ـ "وضحوا لماذا استخدمتم 30 رجلاً لنقل خزينة من كاجو كاجي إلى ييى"؟!
فما كان من المفتش إلا أن ردَّ على البرقيَّة بقوله:
ـ "لأن 29 رجلاً كانوا غير كافين"!





#كمال_الجزولي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- غابْ نَجْمَ النَّطِحْ!
- بُحَيْرَةُ مَنْ؟!
- دِيْكَانِ عَلَى .. خَرَاب!
- صُدَاعٌ نِصْفِي!
- كَجْبَارْ: إِرْكُونِي جَنَّةْ لِنَا! - سيناريو وثائقي إلى رو ...
- عَوْدَةُ الجِّدَّةِ وَرْدَةْ!
- الحُرُّ مُمْتَحَنٌ!(صَفْحَةٌ مِن مَخْطُوطَةِ ما بَعْدَ السِّ ...
- طَاقِيَّتي .. التشَاديَّةْ؟!
- كانْ حاجَةْ بُونْ!
- إنتَهَت اللَّعْبَة!
- سَفِيرُ جَهَنَّمْ!
- برُوفيسورَاتُ تُوتِي!
- العَقْرَبَةُ!
- لَكَ أَنْ تَرمِيَ النَّرْد!
- شَمسٌ كَرَأسِ الدَّبُّوس!
- قصَّةُ بَقرَتَيْن!
- الحَامِضُ مِنْ رَغْوَةِ الغَمَامْ - الأخيرة
- الحَامِضُ مِنْ رَغْوَةِ الغَمَامْ (6) (مَبحَثٌ فى قِيمَةِ ال ...
- الحَامِضُ مِنْ رَغْوَةِ الغَمَامْ (5) (مَبحَثٌ فى قِيمَةِ ال ...
- الحَامِضُ مِنْ رَغْوَةِ الغَمَامْ - 4


المزيد.....




- رمى المقص من يده وركض خارجًا.. حلاق ينقذ طفلة صغيرة من الدهس ...
- مسيّرة للأمن الإيراني تقتل إرهابيين في ضواحي زاهدان
- الجيش الأمريكي يبدأ بناء رصيف بحري قبالة غزة لتوفير المساعدا ...
- إصابة شائعة.. كل ما تحتاج معرفته عن تمزق الرباط الصليبي
- إنفوغراف.. خارطة الجامعات الأميركية المناصرة لفلسطين
- مصر.. ساويرس يرد على مهاجمة سعد الدين الشاذلي وخلافه مع السا ...
- تصريحات لواء بالجيش المصري تثير اهتمام الإسرائيليين
- سيدني.. اتهامات للشرطة بازدواجية المعايير في تعاملها مع حادث ...
- ليبيا وإثيوبيا تبحثان استئناف تعاونهما بعد انقطاع استمر 20 ع ...
- بحضور كيم جونغ أون.. احتفالات بيوم الجيش في كوريا الشمالية ع ...


المزيد.....

- كراسات التحالف الشعبي الاشتراكي (11) التعليم بين مطرقة التسل ... / حزب التحالف الشعبي الاشتراكي
- ثورات منسية.. الصورة الأخرى لتاريخ السودان / سيد صديق
- تساؤلات حول فلسفة العلم و دوره في ثورة الوعي - السودان أنموذ ... / عبد الله ميرغني محمد أحمد
- المثقف العضوي و الثورة / عبد الله ميرغني محمد أحمد
- الناصرية فى الثورة المضادة / عادل العمري
- العوامل المباشرة لهزيمة مصر في 1967 / عادل العمري
- المراكز التجارية، الثقافة الاستهلاكية وإعادة صياغة الفضاء ال ... / منى أباظة
- لماذا لم تسقط بعد؟ مراجعة لدروس الثورة السودانية / مزن النّيل
- عن أصول الوضع الراهن وآفاق الحراك الثوري في مصر / مجموعة النداء بالتغيير
- قرار رفع أسعار الكهرباء في مصر ( 2 ) ابحث عن الديون وشروط ال ... / إلهامي الميرغني


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان - كمال الجزولي - كَابُوسُ أَبيلْ!