أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان - كمال الجزولي - عَوْدَةُ الجِّدَّةِ وَرْدَةْ!















المزيد.....



عَوْدَةُ الجِّدَّةِ وَرْدَةْ!


كمال الجزولي

الحوار المتمدن-العدد: 1933 - 2007 / 6 / 1 - 12:00
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان
    


رزنامة الأسبوع 22-28 مايو 2007
الثلاثاء:
لم تكن معاصرتنا له ، أواخر سِّتينات القرن الماضي ، بأكثر من معاصرة الطلاب الصغار للطلاب (السناير). فعندما وضعنا أقدامنا على أوَّل سلم الحياة الجامعيَّة بالاتحاد السوفيتيِّ سابقاً ، كان هو يتهيَّأ للدفاع عن رسالة الماجستير والعودة للوطن. وعندما عاد إلى موسكو ، ، للتحضير للدكتوراه ، مطالع السَّبعينات ، كنا نحن على وشك التخرُّج. ومع ذلك فقد ظلت لشخصيَّته في أوساطنا الطلابيَّة ، ليس جاذبيَّة الوليِّ الحميم ، فحسب ، بل وجاذبيَّة (البطل الشعبي) أيضاً! فرغم أنه سليل أسرة عظيمة الشأن الاجتماعي ، وأن والده كان وزيراً مرموقاً ، وقاضياً عالماً ، ومحامياً كبيراً ، إلا أن أسامة لم يكن ليحفل بشئ من ذلك كله ، مقدار قلامة ظفر ، وإنما ظلَّ بيننا ، على الدوام ، الفتى الأمدرمانيَّ التلقائيَّ الذي يتسم ، في تعامله مع الجميع ، وبالذات ، مع زملائه الأصغر ، بالرقة ، والرفق ، وروح النديَّة ، والتعاطف الانسانيِّ ، والتواضع الجمِّ ، والرغبة في الاندماج ، مثلما عُرف ، بين الجميع ، بحدَّة الذكاء ، وشدَّة النجابة ، والتفوُّق الأكاديمي ، وبالاقدام ، والكرم ، والشهامة ، والمروءة ، والجرأة ، والحيويَّة ، والمغامرة ، والحماس الثوريِّ ، والشغف بارتياد المجهول ، حتى لو تسبَّب له ذلك في تعقيدات يجابهها بالاستهانة ، والضحكة المتفجِّرة ، واجتراح الأعاجيب ، وكم كان بارعاً فيها كما كان يقول عنه عرَّابنا الراحل جيلي عبد الرحمن! ولأن تلك بعض صفات الشخصيَّة (البطوليَّة) الجديرة بالاعجاب ، خصوصاً بمعايير الذهن الطلابي ، فإن زملاء تلك الفترة يشهدون ، ولا بُدَّ ، كيف كنا ، ونحن ، بعدُ ، في سنِّ الفتوَّة ، معجبين بشخصيَّة أسامة ، نتداول مآثره التي سارت بذكرها الركبان ، منذ قيادته ، وهو لمَّا يزل في مقاعد الثانوي ، لمظاهرة طلابيَّة محتجَّة على مواددة عبد الناصر لنظام عبود ، مِمَّا كبَّده الفصل من الدراسة.
في السُّودان اتصل حبل صداقتنا ، رغم اختلاف سبلنا السياسيَّة حيناً ، وتفاقم مشاغلنا الحياتيَّة أحياناً. وواصل أسامة ، بمنهجه المادي التاريخي ، رفده للثقافة السودانيَّة الذي ما انقطع عنه ، أصلاً ، منذ أيام الطلب ، بدراساته وأبحاثه المرموقة في حقل الآثار والتاريخ ، والتي كان ينشر الكثير منها بمجلة (الخرطوم). ولأن من أراد الله به خيراً حبَّبه في علمه وعمله ، فقد كانت علاقة أسامة بهذا الحقل علاقة العاشق المُدَله ، قطع ، في مرحلة منها ، مشواراً طويلاً من أول التحاقه ، في خواتيم السِّتينات ، مفتشاً بمصلحة الآثار ، إلى أن تبوَّأ قيادتها ، في أواسط الثمانينات ، عن جدارة واستحقاق. وستظلُّ تواريخ العلائق الملتبسة بين (الثقافة) و(السياسة) تحفظ واقعة صدامه (البطوليِّ) المشهود مع وزير ثقافة الديموقراطيَّة الثالثة ، دفاعاً عن حقائق الثقافة السودانيَّة ، مثلما ستظلُّ تحفظ واقعة فصله المُخزي (للصالح العام!) ضمن مذبحة الخدمة العامَّة ، على الهويَّة السياسيَّة والأيديولوجيَّة ، والتي جرت في عقابيل انقلاب الجبهة الاسلاميَّة في الثلاثين من يونيو عام 1989م ، الأمر الذي واجهه ، كعادته ، بالضحكة المستهينة المجلجلة ، في واحدة من أشدِّ حالات غضبه الانسانيِّ النبيل ، وهو يحوِّل ، بكلِّ بساطة ، سيارته الخاصَّة إلى سيارة أجرة يعتاش من رزقها في شوارع المدينة!
كان أسامة قد أنشأ ، في وقت سابق ، (دار أورينتال للطباعة والنشر) بمدريد ، والتي لم يعُزها الوصول إلى رموز ضخمة في الثقافة العربيَّة ، حيث نشرت لعبد الوهاب البياتي ، على سبيل المثال ، مجموعته الشعريَّة (حب تحت المطر) ، باللغتين العربيَّة والانجليزيَّة ، عام 1985م. غير أن عشقه القديم للآثار والتاريخ والدراسات الأنثروبولوجيَّة ، حال دون أن تكون العودة لإحياء ذلك المشروع هي خياره ، تحت ضغط الظروف المستجدة ، فما لبث ، لدى أوَّل فرصة لاحت ، أن شدَّ الرحال إلى ليبيا ، ليعمل أستاذاً للآثار بكليَّة العلوم الاجتماعيَّة ، ثمَّ أستاذاً للآثار والأنثروبولوجيا بكليَّتي الآداب والدراسات العليا ، بجامعة الفاتح. وهكذا واصلت شجرة أسامة الباسقة ، خلال العقدين الماضيين ، طرح أنضج ثمارها تباعاً ، حيث أصدر عام 1995م ، من دار إيلجا بمالطا ، وبالاشتراك مع زميله د. أبوبكر يوسف شلابي ، أستاذ الأنثروبولوجيا بنفس الجامعة ، (تاريخ الانسان حتى ظهور المدنيَّات ـ دراسة في الأنثروبولوجيا الفيزيقيَّة والثقافيَّة) ، وهو بحث تمهيديٌّ يتضمَّن الأفكار الرئيسة التي يقوم عليها علم الانسان بفرعيه: الفيزيقي والثقافي ، ويطرح إشكاليَّة محدَّدة حول أثر الخروج الهائل للانسان من بداية الرئيسات في تطوير ثقافاته ، ومن ثمَّ في تطوير شكله الفيزيقي. كما أصدر العالمان عام 2001م ، من المركز القومي للبحوث والدراسات العلميَّة بطرابلس ، (الأنثروبولوجيا العامَّة: فروعها واتجاهاتها النظريَّة وطرق بحثها) ، وهي مجموعة محاضرات تعليميَّة تأخذ بالمنهج الأنثروبولوجي الذي يُعنى بأصل الانسان وتطوُّره وتنوُّعه ككائن بيولوجي ، وبمفهوم الثقافة من حيث البنية والتطوُّر. ثمَّ أصدر أسامة ، منفرداً ، عام 2002م ، من دار إيلجا ، ترجمته وتقديمه الضافي لمؤلف ديفيد فيلبسون (علم الآثار الأفريقي) ، والذي يغطي مرحلة ما قبل التاريخ المكتوب ، ويبرز ما أنجزته أفريقيا عبر تطوُّر مجتمعاتها ، كما يتجلى ذلك من واقع علم الآثار الأفريقيَّة ، وحجم النشاطات الاقتصاديَّة والتقنيَّة ، والأنظمة الاجتماعيَّة والسياسيَّة ، والمعتقدات التي جرى تطويرها في واقع الكثافات السكانيَّة المتفاوتة ، والحواجز الفيزيقيَّة ، وسبل المواصلات ، والموارد المتوفرة. وتعكف ، منذ حين ، (دار مدارك) بالقاهرة ومركز عبد الكريم ميرغني الثقافي بأم درمان ، على إعادة نشر هذه المؤلفات تحت إشراف سادن الثقافة السودانيَّة المنتبه محمود صالح والشاعر والمصمِّم القدير الياس فتح الرحمن ، واللذين أصدر أسامة ، مؤخراً ، تحت إشرافهما أيضاً ، سِفره القيِّم (دراسات في تاريخ السودان القديم) ، عام 2006م ، من مركز عبد الكريم ميرغني ، بمقدِّمة وتمهيد حول إشكاليَّة تسمية السودان القديم ، وستة فصول تتناول مصادر الدراسة ، والتدوين التاريخي لحضارة السودان القديم ، ومرحلتي ما قبل التاريخ والتاريخ المبكر ، والدولة في السودان القديم ، ومملكتي نبتا ومروي ، مع ملاحق بالوثائق والصور ، إضافة إلى قائمة بالمراجع المنشورة بلغات مختلفة ، من أوَّل القرن التاسع عشر حتى عام 2004م. كما وضع أسامة ونشر مئات الدراسات والبحوث والمقالات ، في مختلف الاصدارات والدوريَّات والمجلات ، فأضحى مرجعاً لا يمكن تجاوزه بالنسبة لآلاف الطلاب والباحثين ، واسماً محفوراً بعمق في لوح العلم السودانيِّ والعربيِّ والأفريقيِّ والعالميِّ بأسره. وإلى ذلك أجاد ، بمعاونة أسرته الصغيرة ، استخدام تقنيات الكمبيوتر في تأسيس وتطوير موقعه الالكترونيَّ الرصين الثريِّ (أركماني) ، بما يفوق ، في ما يشبه الاعجاز ، طاقة فريق بأكمله من المختصِّين! وأستشعر الآن أسفاً عميقاً لعدم تمكني من الاستجابة لدعوته الملحَّة لي ، قبل سنوات طوال ، كي أرأس تحرير مجلة ثقافيَّة بهذا الموقع الرائع .. لعنة الله على طواحين الهموم والشواغل اليوميَّة! وقد كان ، علم الله ، دائم المسارعة للجود ، بكلِّ ما أوتي من فكر وجهد ووقت وحماس ومال ، في سبيل دعم وإنجاح أيِّ مشروع يخدم الثقافة السودانيَّة ، معتبراً إياه مشروعه الخاص. ويشهد الياس فتح الرحمن وابراهيم النور كيف أنه ، عند زيارتي الأخيرة له بالقاهرة قبل شهر واحد فقط من رحيله الفاجع ، ورغم ما كان يعاني ، وقتها ، من ألم مُمِض ينهش جسده بأثر الداء العضال الذي كان واضحاً أنه قد تمكن منه تماماً ، دقَّ صدره بأريحيَّة مشهودة ، متحمِّلاً ، وحده ، مسئوليَّة التصدِّي ، تقنياً ومالياً ، لتأسيس موقع اتحاد الكتاب السودانيين على الشبكة. وكم كان يسابق الزمن ، في كلِّ ما يكتب ويقول ويفعل ، بإحساس الموعود بمنيَّة لن تمهله كي يكمل مشروعه الثقافيَّ والفكريَّ الضخم ، فلكأنه ، بالحقِّ ، أحد أولئك الذين عناهم الحطيئة في قوله:
"أحلوا حِياضَ المَوتِ فوقَ جباهَهم
مكانَ النَّواصِي مِنْ وُجوهِ السَّوابق"!
وبالفعل ، ها هو الموت قد اختطف بلندن ، ذات مساء حزين من أوائل مايو الجاري ، العالِم المتفرِّد ، والانسان العذب ، والصَّديق الحبيب ، البروفيسير أسامة عبد الرحمن النور ، ونحن أكثر ما نكون حاجة إليه ، إلى عطائه الثر وعشرته الممتعة ، لكنا لا نقول إلا ما يرضي الله الذي بات في رحاب رحمته ورضوانه .. إنا لله وإنا إليه راجعون.

الأربعاء:
إليكم هذه المسابقة التي سيفوز بجائزتها من سيتوصَّل إلى معرفة أخطر ما في الخبر التالي:
أيَّدت المحكمة العليا قرار محكمة جنايات الخرطوم شمال بالسجن ما بين عام إلى عامين والغرامة مبلغ 45.000 دولار على خمسة أجانب أدينوا بالدجل والشعوذة والاحتيال على عسكري منسق بإحدى الوحدات العسكريَّة في مبلغ مئة مليون جنيه ، بغرض مضاعفتها بالتنزيل (الأيام ، 16/5/07).

الخميس:
لعبة شطرنج .. لكنها ليست مُسليَّة! هذا ، لعمري ، هو العنوان الأكثر ملائمة لبعض الأوضاع غريبة التناقض على أطراف البلاد الجنوبيَّة والغربيَّة!
تذكرون ، بالطبع ، أن (النيشن) الكينيَّة كانت قد كشفت ، في نوفمبر 2005م ، أن حكومة السودان ، وفي وجه من وجوه تناقضاتها القانونيَّة والسياسيَّة والاخلاقيَّة العصيَّة على الحصر ، ما بين الاعتراف بالمحكمة الجنائيَّة الدوليَّة والانكار لها ، كانت قد أبرمت اتفاقاً مع حكومة يوغندا لتنفيذ مذكرة التوقيف الصادرة من نفس هذه المحكمة بحق زعيم جيش الرَّب جوزيف كونى وثلاثة من كبار قادته (الرأى العام ، 22/11/2005م). لكن حكومة جنوب السودان عمدت ، بحسابات مغايرة على ما يبدو ، إلى تعطيل هذا الاتفاق ، بإطلاق مبادرتها المعروفة للوساطة ، خلال الفترة الماضية ، بين حكومة يوغندا وجيش الرَّب ، مِمَّا يسَّر حركة الأخير في المدن الجنوبيَّة!
وبدلاً من أن يحمد جيش الرَّب هذا الصنيع ، من بعد الرَّب ، لحكومة الجنوب ، واصل عَيْثه عدواناً على المدنيين! وربما ليس آخر ذلك اختطافه لأربعة منهم من قرية ديمو على بعد 15 كلم إلى الشمال من ياي. لكن حكومة الجنوب لم تجابه هذه التجاوزات ، كما كان متوقعاً ، بطرد هذه القوَّات من الاقليم الذي فيه ما يكفيه ، والمساعدة في القبض على كوني ورهطه ، بل توجَّه فريق ، بقيادة وزير إعلام الجنوب ، إلى المنطقة ، برفقة عميد في جيش الرَّب نفسه ، (للتفاوض!) حول إطلاق سراح المختطفين (الأيام ، 22/5/07).
وورد في بعض الاحصائيَّات أن 10.000 يوغنديٍّ قتلوا في المعارك بشمال يوغندا ، وأن 1.000.000 (لجأوا!) إلى (جنوب السودان!) ، علماً بأن نحواً من 4.000.000 من (الجنوبيين!) أنفسهم فرُّوا من جحيم الجنوب ، واستقرُّوا في الشمال ، أو (لجأوا!) لبلدان مجاورة ، من بينها يوغندا!
عندها سجلت في رزنامتي أنني لن أستغرب إذا علمت ، غداً ، أن آلاف التشاديين (التجأوا!) ، بالمثل ، إلى غرب (دارفور!) هرباً من المعارك في شرق تشاد ، علماً ، أيضاً ، بأن الآلاف من مدنيي دارفور نفسها (لجأوا!) إلى شرق تشاد ، هرباً من جحيم إقليمهم!
ولم يكد يجفُّ الحبر الذي سجَّلت به هذه الخاطرة حتى قالت المفوَّضيَّة العليا لشئون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة إن السودان طلب فريقاً من المنظمة الدوليَّة لتفقد احتياجات 45.000 تشاديٍّ عبروا الحدود من شرق تشاد ليتجمعوا قرب فورو بارانجا في غرب دارفور (الرأي العام ، 12/5/2007م).
لن تكتمل هذه (الكوميديا السوداء) إلا بذكر يعقوب! ويعقوب هذا شاب دارفوريٌّ ثلاثينيٌّ التقينا به أثناء تجوالنا ، الصديقان مرتضى الغالي وفيصل محمد صالح وآخرون وشخصي ، في مخيم شاتيلا الفلسطيني الشهير ببيروت ذات ظهيرة من مارس 2006م! كنا نشارك ، وقتها ، في سمنار حول (دارفور والاعلام العربي) ، حين لبَّينا دعوة منظمة فلسطينيَّة ناشطة في حقوق الانسان لزيارة شاتيلا. شاهدنا المدرسة التي كان اتخذها شارون ، مطلع الثمانينات ، مقراً لأركان (حربه!) على المدنيين الفلسطينيين ، بعد أن خرج ، ذات ليلة ، من البحر ، كقرصان من العصور الغابرة ، يقود بوارج مكتظة بالشياطين وأسلحة الدمار ، ليصلي المخيم وابلاً من النابالم الحارق ومطر القنابل العنقوديَّة الهطال ، وليعجن أشلاء الرجال والنساء والأطفال ، وفيهم المرضى والعجزة والرُضَّع ، بترابه ، وأسفلته ، وحوائطه ، وسقوفه ، ودكاناته ، ومدارسه ، ومستوصفاته ، وشبكات مائه ، وأعمدة كهربائه ، ودور عبادته ، ومقرَّات منظماته ، فضلاً عن فساتين العرائس ، ولعب الصغار ، وكرَّاسات الدراسة ، وأدوات العمل ، وأواني الطعام ، وصور الأحباء ، وذكريات الغائبين ، وأحلام العودة ، محوِّلاً كلَّ شئ ، خلال أيام ، إلى كرة ضخمة من الدَّم والصديد والطين والحديد واللحم المحترق والعظم الهشيم! وزرنا ضريح الشهداء (المحظوظين!) مِمَّن قضوا بزخات الرصاص خارج تلك الخلاطة البشريَّة ، فتولى دفنهم في مقابر جماعيَّة ، ببسالة نادرة ، ناجون متطوِّعون ، تحت القصف الجنونيِّ الغاشم ، بلا غسل ، حيث عزَّ الماء ، ولا أكفان ، حيث مجرَّد التفكير في ذلك ترف لا يُستطاع إليه سبيلا!
وواصلنا سيرنا الصعب وراء بعضنا البعض ، كما على الصراط المستقيم ، نجوس عبر أزقة المخيم بالغة الضيق والبؤس ، وبين جدران متهالكة لبنايات تتكئ على بعضها البعض ، حتى ليُتوقع أن تتقوَّض بين لحظة وأخرى ، ونجهد ، أثناء ذلك ، كي نتفادى بالوعات الصرف الصحِّي الطافحة هنا وهناك ، تحتوشنا الروائح الزنخة من كلَِّ حدب ، ويصمُّ آذاننا ، من كلِّ صوب ، صخب الأطفال برئات تنشع نكهة البارود ، وضجيج الباعة الفقراء يتشبَّثون بحياة لا حياة فيها ، بينما تكاد تقرأ على جباه الجميع وعد الشهادة الحق ، القادم يهدر في كرنفالات المجازر ، والمحارق ، وحمَّامات الدَّم الموسميَّة!
فجأة .. لمحناه هناك! مسترخياً على دكة اسمنتيَّة أمام دكانة صغيرة ، يرتشف الشاي ، باستمتاع ظاهر ، وهو يضع رجلاً على رجل ، بينما كانت فيروز تصدح ، بصوتها الملائكيِّ ، من جهاز التسجيل في المحل: "وستغسل يا نهر الأردن آثار القدم الهمجيَّة"! حسبناه ، أوَّل أمره ، فلسطينياً ، ففي الفلسطينيين ، أيضاً ، مَن سُمرته كسُمرتنا! لكن ، ولأن من تقديرات المولى عزَّ وجلَّ في خلقه أن السوداني يفرز السوداني "على ألف ميل" ، فقد توقفنا نحدِّق فيه ، مثلما اندفع هو يعانقنا بحماس ، فرداً فرداً ، بطيبة أعْدَتنا بحرارتها في ذلك الطقس الصقيعيِّ ، بينما التف حولنا ، باندهاش ، جمع غفير من الفلسطينيين وبقيَّة الوفود العربيَّة المُشاركة!
ـ "يا سلاااام يا أخوانا إزيَّكم .. إزيَّكم .. ما شاء الله .. أنا إسمي أخوكم يعقوب .. تبارك الله .. إزيَّكم بالله كده .. كيف حالكم .. و .. جيتو هنا تسووا شنو"؟!
ـ "إنت الجابك هنا شنو؟! وجيت من وين"؟!
ـ "لا قوَّة إلا بالله .. أسكتوا ساكت .. جيت والله ترا من دارفور .. لا قوَّة إلا بالله .. قعاد هناك بقى جهنم ذاتو والله .. حياة بقى صعب خلاص"!
لحظات قصار ، تركناه ، بعدها ، ولسانه يلهج: "تبارك الله .. ما شاء الله .. لا قوَّة إلا بالله" ، بينما الخجل يرسب في دواخلنا ككتلة ثلج: كيف دفعنا يعقوب ليلتمس (وطناً آمِناً) ، ولو في شاتيلا ، بعد أن أفقدناه (أمان المواطنة) في دارفور؟!

الجمعة:
(النهود) ، شتاء 1952م. كان قد مضى أكثر من عام على ارتحالنا من أم درمان إليها ، حيث نقل والدنا ، عليه رحمة الله ، مساعداً طبياً بمستشفاها ، ولمَّا نكن ، أنا أو شقيقتي الأصغر ، قد بلغنا ، بعد ، سنَّ المدرسة. كنا نقيم في حيٍّ مترابط العلائق ، أغلب سكانه موظفون وتجار ماشية ومحاصيل. كان بيتنا فسيحاً ، تنتصب في باحته شجرة هجليج وشجيرات ورد وليمون وحناء ، ويطلُّ على شارع رملي واسع ، ليس نادراً ما تعبره أسراب النعام ، منطلقة ، وتغمره ، في الخريف ، مياه السيول تتحدَّر من وديان بعيدة ، حاملة كلَّ ما يخطر أو لا يخطر على البال من أوان منزليَّة ، وحطب حريق ، وأثاثات محليَّة الصنع ، وحصائر سعف ووبر ، وبقايا حيوانات نافقة.
في الجوار ، على بعد بيتين ، كانت تسكن (الجدَّة وردة). خمسينيَّة ، شديدة البدانة ، مربوعة القامة ، فاحمة اللون ، هائلة العجيزة ، فارهة الصدر ، قصيرة الشعر ، فطساء الأنف ، عالية الجبين ، محمرَّة العينين ، غليظة الشفتين ، قليلة الكلام ، غامضة الابتسام. وكانت لها أمَّة من البنين والبنات والأحفاد والحفيدات ، كما كان لها مُراح من الأبقار مكتنزة الضروع في زريبة بيتها ، حيث كنا نتزاحم ، نحن أطفال الحيِّ ، حولها ، في الصباحات الباكرة ، تبيعنا اللبن الطازج واللقيمات الساخنة ، وهي مضطجعة على عنقريبها القصير ، وثوبها حاسر عن شعرها الفلفليِّ الوديك ، وجسدها الصقيل الدهين ، صامتة ، كتمثال أبنوسيٍّ مهيب ، لا تكاد تندُّ عنها نأمة تذمُّر من ضجيجنا وعجيجنا يطغى حتى على صوت المذياع الخشبيِّ الضخم المفتوح على آخره في نافذة غرفة قريبة ، يبث القرآن بتلاوة الشيخ عوض عمر ، ونشرة الأخبار بصوت محمد صالح فهمي ، وأغنيات الكاشف والتاج وعبد الحميد يوسف وأحمد المصطفى وحسن عطيَّة وغيرهم.
كانت حياة الناس في الحيِّ ، كبارهم وصغارهم ، تمضي هادئة وادعة ، حتى أيقظنا ، ذات فجر ، عويل ترتعد له الفرائص ، يتعالى من ناحية بيت (الجدَّة وردة) ، وسمعنا والدتنا ، رحمة الله عليها ، تحادث جاراتها من فوق حائطنا الشرقيِّ القصير:
ـ "بَسْ .. جو يصحُّوها لقوها ميتة .. أضان الحامل طرشة"!
ـ "خشم البيت فاتِح .. وهبوبو تكاتِح"!
ثمَّ ما لبثت أصواتهن أن انخفضت ، بغتة ، بهمس لم نستبنه ، لحظتها ، تماماً ، سوى أننا التقطنا من بين ثنيَّاته ، لأوَّل مرَّة ، عبارة (تَرَبْ البنَيَّة)!
................................
................................
بكى أهل الحيِّ (الجدَّة وردة). وبكيناها ، نحن الصغار ، ربَّما أكثر مِمَّا بكاها الكبار. ومشينا معهم خلف جنازتها صوب المقابر ، حيث تزاحمنا تحت سيقانهم ، كسرب جراء ، نحدِّق ، بأعين واجفة ، في مشهد تمديدها بجوف اللحد ، ورصَّ القوالب الطينيَّة فوق فتحته ، وإهالة التراب بالواسوق حتى صارت الحفرة تلة مستطيلة وضعوا حجرين كبيرين في موضعي الرأس والقدمين منها ، وقرأوا الفاتحة مرَّة ، والاخلاص اثنتي عشر مرَّة ، ثم انقلبوا عائدين ، ونحن من ورائهم نتراكض كأفراخ قطا يلفحها اليُتم والبرد ، وقد رسمت الدموع مجاريها اللزجة على غبشة وجوهنا الشتائيَّة ، وسالت بها أنوفنا الطفلة مدرارة!
................................
................................
إنقضى مأتم الرجال بأيَّامه الثلاثة. أمَّا مأتم النساء فقد اتصل لفترة أطول. لكنَّ الحزن تلاشى في نفوسنا ، نحن الصغار ، بأسرع مِمَّا تلاشى في نفوس الكبار! وهكذا صار مأتم النساء في بيت (الجدَّة وردة) مرتعاً للقاءاتنا ومشاغباتنا وألعابنا ومرحنا! نقصده ، خلف أمهاتنا ، في الصباحات ، ونعود منه معهنَّ لدى اقتراب عودة الآباء في الظهيرات ، ثم نعاود الركض خلفهنَّ إليه مطالع العصاري ، ولا نقفل راجعين إلا عند عودتهنَّ بعد صلاة العشاء. وكانت بعض النسوة غير المتزوِّجات يبتن مع بنات المرحومة لمؤازرتهنَّ أغلب الليالي. أمرٌ واحدٌ كان يفسد علينا متعة ذلك التغيير الكبير الذي كسر به مأتم المرحومة روتين طفولتنا: الهمس الغامض الذي تتخلله عبارة (تَرَبْ البنَيَّة) ، والذي ما تكاد تنفرد امرأتان في ركن إلا وتستغرقان فيه ، غير آبهتين لوجودنا على مقربة نسترق السمع ، وقد تزيدان شيئاً تلتقطه آذاننا أيضاً عن رائحة حنوط ، وخنخنة صوت ، وخشخشة كفن! وكنا نلاحظ أن بنات المرحومة يراقبن ذلك ، من بعيد ، بقلق وتوتر واضحين! وكان أكثر ما يؤرِّق ليلاتنا ، أيامها ، ويقضُّ مضاجعنا ، محاولاتنا ، بأقصى ما أوتينا من أخيلة غضَّة ، افتضاض سرِّ ذلك الهمس الغامض! لكنَّ الارهاق سرعان ما كان يحملنا على موجة أثيريَّة من النعاس ، فالنوم ، ليتماهى الوعي باللاوعي ، حتى جاءت ليلة ليلاء!
................................
................................
عدنا مرهقين مغبَّرين ، كما العادة ، بعد يوم حافل باللعب والمرح في (بيت البكا). إستحممنا ، وتعشينا. لكن ، ما كدنا نهجع للنوم حتى شقت السكون ، بغتة ، من جهة بيت الجدَّة وردة ، صرخات نسائيَّة مذعورة ، متداخلة ، اقشعرَّت لها أبداننا! وسمعنا همهمات رجاليَّة ، وأوان معدنيَّة تتساقط ، وأوان زجاجيَّة تتكسَّر ، وأقدام تتراكض في الشارع ، وأجساد تتقافز من فوق الحوائط الفاصلة بين البيوت! ثم ما لبثنا أن سمعنا إبن المرحومة الكبير الذي كان جاء لحضور مأتمها من الخرطوم ، حيث يعمل هناك سائقاً في شركة النور ، يصيح بصوت مخمور:
ـ "يللللا من هنا ، يحرق د .. كم ، حريم مطاليش. تاني علي الطلاق اشوف واحدة فيكم في البيت ده إلا كان اكسِر ليها كراعها"!
................................
................................
خلال الأيام التالية التقطت آذاننا ، عن حقيقة ما جرى تلك الليلة ، حكايات ، وإن كانت ما تزال مشوبة بالكثير من الغموض ، إلا أنها ألهبت خيالنا بما يسدُّ الفراغات ويستكمل النقص! فكنا نقضي سحائب نهاراتنا تحت الهجليجات ، نفكِّك ونعيد تركيب الوقائع بقدر ما تسعفنا مواهبنا وأخيلتنا الخصيبة! ومع تيقننا من أننا نكذب ونختلق ، فقد كنا نجد لذة عجيبة في الاندماج في تلفيقاتنا تلك ، حدَّ أن نتلفت وجلاً ، ونرتعد فرَقاً ، ويترقرق الدمع في مآقينا من شدَّة الخوف!
وضعت تلك الحادثة ، على أيَّة حال ، نهاية لمأتم الجدة وردة ، مثلما وضعت بداية لترقب عودتها ، في أيَّة لحظة! هكذا انحسرت الأرجل عن بيت البكا ، وأغلق أهله بابهم عليهم ، لا يستقبلون أحداً ولا يزورون أحداً. حتى أطفالهم ما عادوا يلعبون معنا. ومن يومها لم يعد الحيُّ ، أبداً ، سيرته الأولى!
................................
................................
بعد نحو من شهرين ، وذات (يوم سوق) ، حملت سلة صغيرة من السعف الملوَّن المضفور كانت أهدتني إيَّاها جدتي لأمِّي التي كانت جاءت من ام درمان تزورنا ، وركضت أشق الزحام ، يتبعني حمل صغير كنت أربِّيه ، قاصداً ركن بيع النَّبَق الذهبيِّ اليانع. كانت عيناي مشغولتين بالبحث عن أجود الأكوام ، وإذ وجدته ، بَرَكتُ أمامه ، ومدَدتُ يدي إلى البائعة بالسَّلة ، وبقطعة العملة المعدنيَّة من فئة الفِريني (قرشين) ، بينما عيناي مغروستان في بريق الذهب:
ـ "أديني يا حَبُّوبَة"!
ـ "أنطيك بي كم"؟!
وقبل أن أنطق "بي تعريفة" ، إنتبهت إلى خنخنة الصوت ، مثلما انتبهت ، في ذات اللحظة أيضاً ، إلى رائحة الحنوط! وكما في مشهد سينمائيٍّ يُعرض بالاسلوب البطئ ، رحت أرفع رأسي ، وكلُّ بوصة في جسدي قد نَمِلتْ واقشعرَّت ، حتى إذا ما استقرَّت عيناي على الابنوسيَّة الخمسينيَّة المهيبة ، شديدة البدانة ، مربوعة القامة ، فاحمة اللون ، هائلة العجيزة ، فارهة الصدر ، قصيرة الشعر ، فطساء الأنف ، عالية الجبين ، محمرَّة العينين ، غليظة الشفتين ، غامضة الابتسام ، مضطجعة على عنقريبها القصير ، وكفنها يخشخش حاسراً عن شعرها الفلفليِّ الوديك ، وجسدها الصقيل الدهين ، أطلقت صرخة مفزوعة ارتجَّت لها أركان السُّوق ، ولم أعد أعي ، من أمري ، شيئاً!
................................
................................
يبدو أنني لزمت سرير المستشفى عدَّة أيام. أدركت ذلك من ثرثرات جاراتنا في العنبر ، وأنا أستفيق تحت الغطاء ببطء ، مثلما فهمت أنني ، عندما وقعت عيناي عليها ، صرخت باسمها حتى كدت أمزِّق صدري ، ثمَّ سقطت مغشياً عليَّ. تجمَّع الناس حولي ، وعرفني حلاق من أصدقاء والدي ، فركض بي إليه في المستشفى ، حيث أسعفت ولزمت السرير. غير أن أكثر ما شدَّ انتباهي ، وحيَّرني ، ما قيل عن أن من كانوا في الموقع ، بما فيهم الحلاق نفسه ، أقسَموا على أنه لم تكن ثمة أبنوسيَّة خمسينيَّة ولا يحزنون ، بل محض إعرابيَّة بائسة اعتادت أن تأتي كلَّ يوم سوق لتبيع النبق واللالوب ، وأنها ، لمَّا رأت ما حدث لي ، فزعت ، وفرَّت بجلدها ، تاركة بضاعتها المتواضعة ونقودها القليلة!
مع ذلك ، أضاف الجيران تلك الحادثة تِرْسَاً صغيراً في عجلة حكايتهم التي لم تكفَّ ، يوماً ، عن الدوران ، حول عودة الجدَّة وردة!
................................
................................
وبعد ، أهذا (واقع أسطوريٌّ) أم محض (أسطرة للواقع)؟! و .. أفلا يكون (الواقع) ، أحياناً ، أكثر (واقعيَّة) من أن يُصدَّق؟! ولو لم يكن موت المرحومة قد أحيط بكلِّ ذلك الهمس الغامض ، فهل كان ثمَّة ما سيتبقى منه ليستحق أن يُروى؟! خذ عندك ، وعلى سبيل المثال فقط: يهمس الحلاق في أذنك ، وهو يحيط عنقك وصدرك بفوطته ، أن جعفر نميري قد قام (بعَّاتيَّاً)! ثم تطالع ، في الصحف الصفراء ، أو تقرأ ، في الملصقات على الجسور ، أن "مايو الانجاز .. مايو الاعجاز"! فأيُّ القولين أقرب إلى (الحقيقة) ، هنا ، وأيُّهما أشبه بـ (الوهم)؟!
لقد كشف ماركيز ، في معرض تعليقه على روايته العظيمة (مائة عام من العزلة) ، القصَّة الحقيقيَّة لشخصيَّة العذراء باهرة الجمال ريموندس ، فإذا هي مجرَّد فتاة طائشة هربت مع عشيقها! لكنَّ أسرتها ، لأجل أن تغطي على عارها ، صوَّرت أمر اختفائها المفاجئ كما لو كان أحدهم قد رآها وهي تصعد ، بغتة ، إلى السماء ، بينما كانت تطوي ملاءات السرائر في الحديقة! واعترف ماركيز بأنه فضَّل هذه الرواية (المختلقة) على تلك القصَّة (الحقيقيَّة) ، فعشرات الفتيات يهربن ، كلَّ يوم ، مع عشاقهنَّ ، على حين لا تصعد ، كلَّ يوم ، عذراء جميلة إلى السماء ، بغتة ، وهي تطوي الملاءات في الحديقة!

السبت:
قلق خفيٌّ ما برح ينتابني ، مؤخراً ، من أن يدفع اليأس قيادات مدنيَّة وعسكريَّة نافذة في دارفور ، في ما لو تجمَّدت الاوضاع على حالها ، إلى طرح مطالبة نوعيَّة جديدة وفارقة بمنح الاقليم حق .. (تقرير المصير)!
لذا ، فهأنذا أقرع ناقوس التحذير ، إذ أن خراقة التلكؤ في إغلاق هذا الملف بالاستجابة ، اليوم قبل الغد ، لمطالب الاقليم العادلة في الحماية والمساءلة والانصاف ، سيكون من شأنها إضافة ضلع رابع إلى هذا المثلث ، هو .. (الانفصال)! فإذا ما وقع هذا التطوُّر الكارثي ، لا قدَّر الله ، فإن خطورته سوف تفوق الخطورة التي انطرح بها في الجنوب ، لأسباب كثيرة ليس أقلها أن دارفور خبرت ، أصلاً ، شكل الكيان السياسيِّ والاداريِّ المستقل (المنفصل)! ومع ذلك فإن هذا الخيار لم يكن مطروحاً فيها مطلقاً ، بل ظلَّ وجدانها معلقاً ، تاريخياً ، بـ (الوحدة) ، كما في خبرة الفور والمساليت. فتأمَّل ما سوف تجرُّنا إليه خراقة السياسة!

الأحد:
لكلِّ كتابة (ذروة) ما تنفكُّ تتصعَّد إليها حتى تبلغها. موقع هذه (الذروة) في معمار الكتابة ليس هو ، بالضرورة ، ذات موقعها في تقاسيم الشكل الفيزيقي للجبل ، مثلاً ، فقد ترد في مفتتحها ، أو في وسطها ، أو في نهايتها ، وهو الاحتمال الغالب.
وفي الحلقة الثانية من مقالته السياسيَّة تحت عنوان: "سوء فهم وسوء نيَّة" (الرأي العام ، 21/5/07) ، يبلغ د. مصطفى عثمان هذه (الذروة) ، باختزاله لمجمل قضيَّة دارفور في محض (مؤامرة صهيونيَّة)! فمع ما تكشف عنه لهجته الاعتذاريَّة من استشعار لبوار هذا الطرح ، بتأكيده ، من جهة ، على عدم انتسابه لمن يعوِّلون على (نظريَّة المؤامرة) ، وتأمينه ، من جهة أخرى ، على أن من أهمِّ (العوامل الموضوعيَّة) للمشكلة ".. تراكم الاحساس بالغبن والتهميش لدى مواطني دارفور .. مِمَّا أسهم .. في (قابليَّتهم) للتمرُّد والثورة" ، وأن من أهمِّ (عواملها الذاتيَّة) "تقاطع المصالح والاطماع القبليَّة .. مع الأطماع والمصالح الإقليميَّة والدوليَّة" ـ وهو قول صحيح ، إجمالاً ، رغم (تغافله) عن سوء التدبير السياسي والحربي لحكومته ، مِمَّا ينتقص ، دون شك ، من سداد هذا الطرح وموضوعيَّته ـ مع ذلك كله ، فإن مستشار الرئيس سرعان ما ينقلب ، ضمن تشديده الاستخلاصي (للحساب الختامي) في (ذروة) سنام كلمته تلك ، أو ما يسمِّيه حرفياً (محصلة القول) ، كي يجترَّ ، لا يلوي على شئ ، نفس (نظريَّة المؤامرة) ، بقوله إن "اهتمام الغرب المحموم بقضيَّة دارفور .. أريد به صرف الأنظار عمَّا يرتكبه التحالف الصهيوني الغربي ضد العرب والمسلمين .. في فلسطين والعراق وأفغانستان ، وهذه نقطة مهمة ينبغي على النخب والشعوب العربيَّة التنبُّه لها في تعميق وعيها بقضيَّة دارفور"! ثمَّ يردف قائلاً: "ثمَّة نقطة .. أخرى ينبغي التنبُّه إليها .. وهي سعي الغرب واللوبي الصهيوني .. إلى دق إسفين في علاقات الإخاء والتضامن الأزليَّة .. بين العرب والأفارقة"!
هكذا يستدير مستشار الرئيس مائة وثمانين درجة ، من أوَّل الرفض الصريح لـ (نظريَّة المؤامرة) إلى آخر الاستخدام الحثيث لها ، مؤمِّلاً أن يشكل ذلك أقصى (عمق) يمكن أن يبلغه (وعي النخب والشعوب العربيَّة) بالكارثة الانسانيَّة التي ما زالت دارفور تنسحق تحت سنابكها!
والحقيقة أن قضيَّة فلسطين العادلة ، التي أضيفت إليها مؤخراً ، قضيتا الشعبين العراقي والأفغاني ، لم تعُد تمثل ، في شرعة النموذج المعاصر للدولة العربيَّة الاستبداديَّة ، بشقيها العشائري التقليدي المحنَّط والبرجوازي الصغير (الحداثوي) ، سوى محض (لقية) تستخدمها للهروب من مسئوليَّة عجزها التاريخيِّ تجاه كلا القضيَّتين الوطنيَّة والاجتماعيَّة! فلا هي حرَّرت الأرض ، ولا هي حَمَت العِرض ، ولا هي أنجزت التنمية ، ولا هي تركت شعوبها تقتات من (خشاش) أيِّ قدر من الحريَّة يتيح لها أن تفعل هذا بنفسها ، وذلك منذ أن تعلقت هذه الأنظمة المهترئة بشعارها المُرائِيِّ الكذوب الخَيْدَع: (لا صوت يعلو فوق صوت المعركة!) ، والذي ما لبث أن تكشَّف عن كلمة حق أريد بها سلب الحراك الجماهيري فاعليَّته ، وشلُّ طاقاته الثوريَّة ، ومن ثمَّ تأبيد سلطة هذه الأنظمة على مصفوفة جماهيريَّة داجنة يسلس قيادها في المدى القصير ، ويسهل إخضاعها واستتباعها ، نهائيَّاً ، في المديين المتوسط والبعيد!
ورغم أن حركة الاستنارة الديموقراطيَّة في المنطقة العربيَّة ظلت ، وما زالت ، تشتغل على فضح زيف تلك الخطة وتعريتها ، إلا أن جدليَّة البطء النسبي في تحويل المراكمة الدءوبة إلى تغيُّر كيفيٍّ يؤبَّه له في حركة الوعي الاجتماعي ، ما تزال تغوي أنظمة الاستبداد بمواصلة تعويلها على نفس تلك الخطة البالية ، ضيِّقة الأفق ، وغير المُجدية تماماً! ومن ثمَّ فلا غرابة أن تدرج مقالة مستشار الرئيس في ذات مدرج الوهم القديم القائل بأن كلَّ شئ ما يزال على حاله business as usual ، وأن تسلك نهج نفس ذلك الشعار الذي أكل الدهر عليه وشرب ، والقائم على تحديد موقع (الفاصل المداريِّ) السياسيِّ كلِّه في المنطقة ، رغم تعدُّد الواقع القطري وتنوُّع القضايا القوميَّة ، على بُعد محسوب من نقطة وحيدة يتيمة: الصهيونيَّة!
وتحضرني ، هنا ، حكاية طريفة كان قد رواها صديقي الحبيب عبد الله علي ابراهيم عن قرويٍّ من أقربائهم جاء يزورهم في (عطبرة). لكنه ، منذ أحضروه من محطة السكة حديد إلى بيتهم بحيِّ (الداخلة) ، والذي يطل على ساحة في وسطها (صهريج) للمياه ، ظلَّ يتبع برنامجاً يومياً لا يبتعد فيه عن البيت سوى بضع خطوات ، حيث يضع كرسيَّه في الظلِّ هناك ، ويقبع الساعات الطوال يراقب المارة ، أو يتفرَّج على الصبية يلعبون الكرة! وبعد أن انسلخت أيام زيارته ، وعاد إلى قريته ، صار ، كلما حضر مجلس أنس جاء الناس فيه على ذكر مَعْلم من معالِم (عطبرة) ، يقفز متسائلاً بحماس: أين (موقعه) من (الصهريج)؟!
مستشار الرئيس يدرك أن قطاعاً واسعاً من الذهن السياسي والاعلامي العربيَّ مرزوء ، تاريخياً ، بنهج في التفكير (القومَجي) يصعب معه ، إن لم يكن يستحيل تماماً ، فهم أيَّة مسألة سياسيَّة إلا بعد تحديد (موقعها) من (صهريج) المؤامرة الصهيونيَّة! لذا فهو محتاج إلى اختراع (موقع) لمشكلة دارفور من هذا (الصهريج) ، في مقالة يروم منها استمالة هذا الذهن بالخطاب الوحيد الذي يفهمه ، و .. (الحاجة أمُّ الاختراع) ، كما في المثل السائر!

الإثنين:
لافتة ضخمة في مواجهة المجلس الوطني بأم درمان تحمل إعلاناً عن أحد كريمات تفتيح البشرة ، بالعبارات التالية: (برنامج تأهيل الفتاة الجامعيَّة للحياة المهنيَّة: وشِّك منوِّر .. مستقبلك منوِّر)! وطبعاً العكس صحيح بمفهوم المخالفة: (وشِّك مضَلم .. مستقبلك مسَجَّم ومرَمَّد)!
ترى ، أيَّة (أصناف!) من الفتيات (الجامعيَّات!) يُراد استهدافهنَّ بمثل هذا البرنامج؟! بل أيَّة (مهنة!) يمكن أن (تؤهِّلهنَّ!) لها هذه الشركة بمثل هذا الاعلان البذئ في .. دولة (المشروع الحضاري)؟!





#كمال_الجزولي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الحُرُّ مُمْتَحَنٌ!(صَفْحَةٌ مِن مَخْطُوطَةِ ما بَعْدَ السِّ ...
- طَاقِيَّتي .. التشَاديَّةْ؟!
- كانْ حاجَةْ بُونْ!
- إنتَهَت اللَّعْبَة!
- سَفِيرُ جَهَنَّمْ!
- برُوفيسورَاتُ تُوتِي!
- العَقْرَبَةُ!
- لَكَ أَنْ تَرمِيَ النَّرْد!
- شَمسٌ كَرَأسِ الدَّبُّوس!
- قصَّةُ بَقرَتَيْن!
- الحَامِضُ مِنْ رَغْوَةِ الغَمَامْ - الأخيرة
- الحَامِضُ مِنْ رَغْوَةِ الغَمَامْ (6) (مَبحَثٌ فى قِيمَةِ ال ...
- الحَامِضُ مِنْ رَغْوَةِ الغَمَامْ (5) (مَبحَثٌ فى قِيمَةِ ال ...
- الحَامِضُ مِنْ رَغْوَةِ الغَمَامْ - 4
- الحَامِضُ مِنْ رَغْوَةِ الغَمَامْ (مَبحَثٌ فى قِيمَةِ الاعتِ ...
- الحَامِضُ مِنْ رَغْوَةِ الغَمَامْ -3
- الحَامِضُ مِنْ رَغْوَةِ الغَمَامْ ..بَينَ خَريفٍ وخريفْ: مائ ...
- طَرَفٌ مِن حَديثِ تَحَدِّياتِ البِنَاءِ الوَطَنى (الأخيرة) - ...
- طَرَفٌ مِن حَديثِ تَحَدِّياتِ البِنَاءِ الوَطَنى(2) الدِّيمُ ...
- طَرَفٌ مِن حَديثِ تَحَدِّياتِ البِنَاءِ الوَطَنى - 1


المزيد.....




- جملة قالها أبو عبيدة متحدث القسام تشعل تفاعلا والجيش الإسرائ ...
- الإمارات.. صور فضائية من فيضانات دبي وأبوظبي قبل وبعد
- وحدة SLIM القمرية تخرج من وضعية السكون
- آخر تطورات العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا /25.04.2024/ ...
- غالانت: إسرائيل تنفذ -عملية هجومية- على جنوب لبنان
- رئيس وزراء إسبانيا يدرس -الاستقالة- بعد التحقيق مع زوجته
- أكسيوس: قطر سلمت تسجيل الأسير غولدبيرغ لواشنطن قبل بثه
- شهيد برصاص الاحتلال في رام الله واقتحامات بنابلس وقلقيلية
- ما هو -الدوكسنغ-؟ وكيف تحمي نفسك من مخاطره؟
- بلومبرغ: قطر تستضيف اجتماعا لبحث وجهة النظر الأوكرانية لإنها ...


المزيد.....

- كراسات التحالف الشعبي الاشتراكي (11) التعليم بين مطرقة التسل ... / حزب التحالف الشعبي الاشتراكي
- ثورات منسية.. الصورة الأخرى لتاريخ السودان / سيد صديق
- تساؤلات حول فلسفة العلم و دوره في ثورة الوعي - السودان أنموذ ... / عبد الله ميرغني محمد أحمد
- المثقف العضوي و الثورة / عبد الله ميرغني محمد أحمد
- الناصرية فى الثورة المضادة / عادل العمري
- العوامل المباشرة لهزيمة مصر في 1967 / عادل العمري
- المراكز التجارية، الثقافة الاستهلاكية وإعادة صياغة الفضاء ال ... / منى أباظة
- لماذا لم تسقط بعد؟ مراجعة لدروس الثورة السودانية / مزن النّيل
- عن أصول الوضع الراهن وآفاق الحراك الثوري في مصر / مجموعة النداء بالتغيير
- قرار رفع أسعار الكهرباء في مصر ( 2 ) ابحث عن الديون وشروط ال ... / إلهامي الميرغني


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان - كمال الجزولي - عَوْدَةُ الجِّدَّةِ وَرْدَةْ!