أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نبال شمس - امرأة لا تعرف التقشف















المزيد.....

امرأة لا تعرف التقشف


نبال شمس

الحوار المتمدن-العدد: 1988 - 2007 / 7 / 26 - 10:28
المحور: الادب والفن
    


"أشعر به يقتحمني, يمشي في شراييني كسرطان لا ينهك جسدي, بل يميت روحي". هذه الجملة وجدتها في دفاتر أختي المركونة في أرجاء غرفتها منذ سنين طويلة, كانت قد كتبتها في عدة أمكنة وفي عدة أوراق من أوراقها السرية, لكن حب استطلاعي الشديد ورغبتي بمعرفة ما حوته تلك الأوراق, هو الذي جعلني أتسلل إلى غرفتها في ساعات غيابها عن البيت لأقرأ ما تكتبه, أو لأشاهد ما ترسمه من أجساد عارية لنساء جميلات وقبيحات. سمينات ونحيفات . أحيانا كنت أرى بعض الشخبطات غير المفهومة, وأحيانا كنت أقرأ بعض الجمل المنقولة عن بعض الكتاّب, وأغلب الأحيان كنت أقرأ ما تكتبه هي أو ما تبدعه أناملها الرقيقة.
كنت في كل مرة أفرغ بها من القراءة أفتح جوارير خزانتها لأرى ملابسها الداخلية التي تشتريها. وأكثر ما كنت أحب هي الرائحة المنبعثة من الخزانة بسبب عطورها وطلاء أظافرها. قد كنت أعشق أشياء النساء, ربما شقاوة مني, أو ربما لأني شاب مشاكس على حد قولها, لكن على الأرجح هو الحرمان الذي نتشرّبه من أهالينا ومن محيطنا فنلجأ لتعلم الأشياء التي تخص أجسادنا خلسة دون أي إدراك.
أحببت أوراق أختي كثيراً, فأثناء قراءتي لتلك الأوراق, كنت أشعر وكأني على ظهر مركب في بحيرة ساكنه وهادئة. أختي مبدعة حقا ولا أعرف كيف تلبسها الإبداع. كلماتها عميقة وجميلة وحلوة, لكن نصيبها أن تقع في محيط لا يؤمن بقدرات الفرد, فكيف وان كانت امرأة جميلة وكاتبة ورسامة وحلوة كأختي؟ فأية مصيبة جمالُ المرأة وأنوثتها في مجتمع ما زال يذبح الرشا ويأكل لحمها. كنت كلما نظرت في وجه أختي الجميل شعرتُ بأن هناك عيوناً أخرى تقرأ خارطة جسدها وتشتهيها كاشتهائي لمعرفة أسرارها ومكنونات روحها الحلوة, فقد جمع الله فيها جمال الروح وجمال الجسد والوجه ومن ثم أضاف إلى تلك الروح ، روح الإبداع.
أسئلة كثيرة سألتها عندما جلست أكتب هذه الكلمات, فهذه هي المرة الأولى في حياتي أكتب لإمرأة وقلبي يفيض ألما وحزنا عليها. امرأة مصنوعة من صمت ومجبولة من عمق وتأمل.
ياسمين أختي الوحيدة بين أربعة ذكور. كانت تكبرني بثلاث سنوات , لكن الحلم كان يكبرها بقرون كثيرة, فبيني وبين نفسي كنت أدرك بأن أختي لن تكون سعيدة في حياتها ما دامت لا تعرف التقشف في طلب ما هو روحي وروحاني. ياسمين ملكت الكثير من الجمال والإبداع والموهبة لكنها ما زالت تبحث عن الكثير. إنها ليست امرأة عادية كما النساء في بلادي... متقشفات الحلم.
حلم أختي كان يتناسل كل فجرعند استيقاظها مع شروق كل شمس وغياب كل ليل. لقد اعتادت على الجلوس وحدها فجرا... تتقشف ، تحلم وتتمرد رغم أني لا أذكر أنها أزعجت أحدا في البيت. أتذكر رائحة القهوة التي كانت تنبعث مع نسيم الصباح. ومع تلاشي رائحة القهوة كنت أعود لرحمة الجسد المنهك.
ياسمين اعتادت أن تنهض فجر كل يوم لترسم خلسة. ترسم طهرها وعنفها وسرها. ترسم أجساد النساء والرشا الغائرة والمغرية. كانت تنهض لتحقق قليلا من الحلم المكبوت.
ولادة أختي كانت بعد ثلاثة ذكور, وبعدها بثلاث سنوات ولدت أنا, فترعرعت على وجهها الجميل الأبيض وعيونها الخُضر. نشأت على صوتها الرقيق وأوامرها الجميلة... فأغلب وقتي كنت اقضيه معها إما في البيت وإما في الحارة, عندما كانت تصطحبني بحنان ورفق وكأني ابنها, حتى أثناء اللعب . لقد كانت دائما تمثل دور الأم وأنا أمثلُ دور الابن المؤدب أحيانا والمشاكس أحيانا أخرى.
ياسمين, بالنسبة لي ، لم تكن إنسانة عادية. ففي طفولتي كانت لي أم ٌ جميلة صغيرة وحنونة, لديها كل الوقت لتكون معي بروحها وعيونها. فليس لديها زوج ٌ وأطفال ٌ آخرون . وليس لها أعمال ٌ منزلية وتنظيف يومي. كانت مكرسة كلها لي. عندما قطعت مرحلة الطفولة كانت هي قد أصبحت فتاة مكتملة الأنوثة جسدا, فكنت أرافقها لانتقاء القصص الغرامية. وعند ذهابها لشراء الملابس كنت أحرس لها الباب لئلا يدخل أحد ٌ عليها أثناء قياسها للملابس. وعند غيابها عن البيت كنت أتسلل إلى غرفتها لأرى ما لم أره هناك في الحانوت وما اشترته خلسة ووضعته في كيس أسود َ كان دوماً يثير حب استطلاعي.
إنها أختي, تلك الجميلة التي علمتني وجه الدنيا الأنثوي الذي يفيض حنانا وحبا. علمتني كيف أصغي لصوت الطير وصوت فيروز وصوت المطر وصمت الثلج. علمتني كيف أكتم السر وأتزين بصورة أحب بها نفسي. علمتني دون أن تعلم كيف أرسم حزنها على الهواء, وهموم الإناث على الوسادة. فعودتي اليوم إلى غرفتها لرغبة مني أن ْ أترك هذه الأوراق بين أوراقها. فعندما تعود ياسمين سوف تعرف كم أحبها وكم احمل همومها وانكساراتها وانهزاماتها لأنها امرأة كان يجب أن لا تولد على الأرض.
أختي, تكتب سرا وتتنفس سرا وتقتل سرا.
أختي, تتنفس الظلام والعتمة. حروفها تخرج من عمق متعب, مرهق وتائه.
ياسمين تنهض فجرا لتجد نفسها في العالم الغريب. فهي دائمة البحث عن ذاتها التي لا تجدها.
أختي تمارس الفرح خلسة فجر كل نهار, قبل استيقاظ الذكور.
أختي رشا قوية, تعدو وراء الحلم لتصله, فهي مفرطة في الحلم لكنها ممنوعة عنه.
ياسمين تحب النور, لكن لا كيان لها داخل النور.
"أشعربه يقتحمني, يمشي في شراييني كسرطان لا ينهك جسدي, بل يميت روحي".
الجملة أمامي مكتوبة على الكثير من الأوراق. وياسمين غائبة عن الغرفة. أراها تتأرجح بين قطبين. تحاول عبور الزمان والمكان . فجملتها دمرت كل المقاييس . فلسفة جديدة أثارت اهتمامي . فكيف ستحيي ياسمين ُ الجسدَ بدون الروح؟
كيف للأنامل الرقيقة أن تكتب مثل هذه الكلمات العميقة والعنيفة؟ فعودتي إلى ياسمين وأوراقها لكي أقول لها إني ما زلت معها في غرفتها, بين كتبها وأوراقها وفناجين قهوتها المبعثرة وملابسها الجميلة.
روحي ما زالت هنا يا حبيبتي . جئت لأعطيك عمري الذي انتهى منذ سنين, عندما قبلتيني آخر قبلة, وبكيت بحرارة وانهرتُ بين الأجساد.
كنت أرقبك يا ياسمين. أرقب أناتك الخارجة ولوعتك التي استوطنت بك . كنت أرقب جسدك وأحاول معرفة ماهية موت روحك.
جئت لأعطيك نصي وكلماتي, لأتفقد أسرارك ومسوداتك الحلوة المبعثرة بإتقان . أتيت من باطن البحيرة الخطرة التي حذرتيني من الدخول إلى مياهها والغوص في أعماقها . كلانا مجنون يا أختي . فقد عرفتك تحبين الغوص في الأعماق . تحبين الخطر والتمرد, وأنت من علمني ذلك.
انتهت قصتنا يا ياسمين
انتهت قصتنا يا حلوة الحلوات
انتهت حكايتنا يا امرأة لا تعرف التقشف في حلمها.
يا امرأة شمسها في حروفها وأناتها في لوحاتها العارية.
كم أحبك يا ياسمين . فهل وصلت كلماتك إلى روحك التي قتلت؟
انتهى نصي وأنهيت كلماتي . وضعتها تحت وسادة ياسمين . كنت متأكدا أن ياسمين لن تقرأ كلماتي . لأن روحها قتلت وجسدها دفن على سفح الجليل.
جمعت أوراقها ولوحاتها . أما ملابسها وعطورها وطلاء أظافرها فقد وضعتها في كيس بالزاوية لتأتي أمي وتتصرف بها... فقد أرادوا الغرفة ليتزوج بها أخي الأكبر.



#نبال_شمس (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المتنبي والكترا المغايرة في تجاوز الاسطورة
- الكاتبة نبال شمس في حوار خاص مع جريدة الحياة الثقافية
- ماري والحجاج بن يوسف الثقفي... علاقة تبحث عن إثبات
- عدت حاملة رأسي
- خوله ونبوة المتنبي
- أطواق_الجزء4
- أطواق_الجزء 3
- أطواق_الجزء2
- أطواق- الجزء 1
- أريد الكتابة, لكني لا اريد ان اصبح قاصة , شاعرة او روائية
- صديقتي والمتنبي
- حمامة, هاوية ونص
- كوني كما أنت
- علميني ما لا تعلمين
- الدخول من النهاية
- محاولات للتعالي عن أناها
- لغة الروح
- رثاء لرجال الثامن من اذار
- هل أنا ميتة فعلا؟؟
- ثلاثة ذكور من ضلع امرأة


المزيد.....




- قصيدة بن راشد في رثاء الشاعر الراحل بدر بن عبد المحسن
- الحَلقة 159 من مسلسل قيامة عثمان 159 الجَديدة من المؤسس عثما ...
- أحلى مغامرات مش بتنتهي .. تردد قناة توم وجيري 2024 نايل سات ...
- انطلاق مؤتمر دولي حول ترجمة معاني القرآن الكريم في ليبيا
- ماركو رويس ـ فنان رافقته الإصابات وعاندته الألقاب
- مهرجان كان: دعوة إلى إضراب للعاملين في الحدث السينمائي قبل أ ...
- حفاظا على الموروث الشعبي اليمني.. صنعاني يحول غرفة معيشته لم ...
- فلسفة الفصاحة والخطابة وارتباطهما بالبلاغة
- غزة في المتحف العربي للفن الحديث عبر معرض -شاهد- التفاعلي با ...
- بجودة عالية الدقة HD.. تردد قناة ماجد 2024 وشاهد الأفلام الك ...


المزيد.....

- أبسن: الحداثة .. الجماليات .. الشخصيات النسائية / رضا الظاهر
- السلام على محمود درويش " شعر" / محمود شاهين
- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نبال شمس - امرأة لا تعرف التقشف