شباب بلا حقوق… ولا أفق: كيف تتحول الهشاشة في تركيا إلى وقود للصراع الاجتماعي؟
جهاد عقل
الحوار المتمدن
-
العدد: 8572 - 2025 / 12 / 30 - 11:39
المحور:
الحركة العمالية والنقابية
مقدمقدمة
ننشر فيما يلي تحليل للوضع الذي يعيشة الشباب العامل في تركيا ، وفق دراسة صدرت مؤخراً (أنظر المصدر)، هذه الدراسة هي شهادة على ما يعيشه الشباب في تركيا خاصة وفي الكثير من دول العالم ، لذلك سيتبع هذا المقال ، مقال آخر حول وضع الشباب في العمل الهش في العالم عامة ن وطرحه خطوات استراتيحية اعتقد أنها ضرورية للحركة النقابية لمواجهة هذه الحالة الخطرة على حاضر ومستقبل الشباب خاصة ممن يعملون ضمن عمل المنصات.
لا تعيش فئة الشباب في تركيا مجرد أزمة عمل عابرة، بل تواجه انسداداً بنيوياً شاملاً يمسّ الحق في العمل، والتنظيم، والحياة الكريمة، والمستقبل نفسه. ما تكشفه تجربة عمّال التوصيل والضيافة، كما يعكسها تقرير ميداني حديث، ليس استثناءً قطاعياً، بل تعبيراً مكثفاً عن نموذج اقتصادي–سياسي يقوم على إنتاج الهشاشة وإدارتها بالقمع.
1. اقتصاد هشاشة بلا عقد اجتماعي
الأرقام صادمة: من أصل 65.7 مليون شخص في سن العمل، لا يتمتع سوى ثلثهم تقريباً بوظيفة قانونية بدوام كامل. البطالة “الحقيقية” تقارب 25%، بينما تبلغ بطالة الشباب نحو 37.5%، في بلد يتصدر أوروبا في نسبة الشباب الذين لا يعملون ولا يدرسون ولا يتدربون (NEET).
لكن الأخطر من البطالة هو طبيعة العمل المتاح: عمل غير مستقر، غير مسجَّل، منخفض الأجر، بلا ضمان اجتماعي، وبساعات عمل قد تصل إلى 14 ساعة يومياً. هنا لا يعمل الشباب لبناء مستقبل، بل للبقاء فقط.
في هذا السياق، لم يعد التعليم “مصعداً اجتماعياً”. الشهادة الجامعية فقدت قيمتها الاقتصادية، وأصبحت عاجزة عن توفير أمان أو مكانة. النتيجة هي جيل متعلّم، مُفقَر، ومُثقَل بالديون، يعتمد على الأسرة، ويُدفَع قسراً نحو قبول أي عمل، مهما كان خطِراً أو مهيناً.
2. الهشاشة كسياسة: العمل المستقل الوهمي
تُجسِّد تجربة عمّال التوصيل نموذجاً صارخاً لما يمكن تسميته العمل المستقل القسري. فهؤلاء مصنَّفون قانونياً كـ“عمّال مستقلين”، لكنهم في الواقع يعملون تحت سيطرة كاملة للشركات: أجور منخفضة، خوارزميات مراقبة، ضغط دائم، ومخاطر مميتة.
يدفعون ضرائب مرتفعة (20%)، بينما تتمتع الشركات وأرباب العمل بامتيازات ضريبية واسعة. يُطلب منهم تمويل ضمانهم الاجتماعي بأنفسهم، رغم أن الغالبية الساحقة لا تستطيع تحمّل كلفته. إنها معادلة واضحة: خصخصة المخاطر وتعميم الأرباح.
هذا الوضع ليس خللاً تشريعياً فقط، بل خيار سياسي–اقتصادي يخدم نموذجاً قائماً على خفض كلفة العمل، وتفكيك الحقوق الجماعية، وتحويل العمّال إلى أفراد معزولين.
3. القمع بدل التنظيم: حين تصبح المطالبة حقاً جريمة
في بلد تُصنَّف فيه تركيا ضمن أسوأ الدول عالمياً في احترام الحقوق النقابية، لا يقتصر العقاب على الإضراب أو العصيان، بل يمتد إلى فكرة التنظيم نفسها.
كلمة “تنظيم” باتت موصومة، ومقترنة بالإرهاب في الخطاب الرسمي. الاعتقال، المراقبة الرقمية، التعرّف على الوجوه، الفصل التعسفي… كلها أدوات تُستخدم لإبقاء العمّال في حالة خوف دائم.
غير أن المفارقة المركزية تكمن هنا: القمع لا يُنهي الاحتجاج، بل يغيّر شكله. فالشباب، الذين لم يعودوا يملكون شيئاً يخسرونه، باتوا أكثر استعداداً للمواجهة الجماعية، حتى وإن كانت خارج الأطر النقابية التقليدية.
4. أزمة النقابات… وأزمة الثقة
لا يمكن تجاهل الفجوة بين النقابات التقليدية وفئة الشباب. نسبة التنظيم لا تتجاوز 3%، والنقابات تُنظَر إليها –خصوصاً من قبل الشباب– على أنها بيروقراطية، بعيدة عن قضاياهم اليومية، وغير قادرة على التعامل مع قضايا العصر: الصحة النفسية، الاقتصاد الرقمي، الهجرة، البيئة، والعمل غير النظامي.
لكن هذه الأزمة ليست أزمة “عزوف شبابي” فقط، بل أزمة مواءمة تاريخية. فالقانون النقابي نفسه يمنع شرائح واسعة من العمّال (المستقلين شكلياً) من التنظيم. وهكذا، تُدفَع الأجيال الجديدة إلى ابتكار أشكال بديلة: منصات تضامن، تنسيقيات، حملات رقمية، ونضالات ميدانية خارج الإطار القانوني.
5. من الأمل إلى السخط: تحوّل الوعي الجيلي
بين احتجاجات “غيزي” عام 2013 والاحتجاجات الراهنة، تغيّر المزاج العام جذرياً. في السابق كان هناك أمل بالإصلاح؛ اليوم يسود شعور جماعي بأن النظام لا يمنح شيئاً سوى القمع.
ما يحرك هذا الجيل ليس الطوباوية، بل السخط المتراكم: عنف العمل، انعدام الأفق، الفقر، والإحساس بأن الدولة تحمي رأس المال لا المجتمع.
هذا ما يفسر اتساع المشاركة الشبابية، رغم المخاطر، ورغم غياب أفق سياسي واضح. إنها مقاومة من أجل الصمود، لا من أجل “مشروع جاهز”.
6. النساء في قلب الاستغلال والمقاومة
تتضاعف الأزمة بالنسبة للنساء: مشاركة منخفضة في سوق العمل، تمييز منهجي، فصل بسبب التنظيم، واستهداف اجتماعي وديني. ومع ذلك، تظهر النساء في طليعة بعض المعارك العمالية، خصوصاً في قطاع النسيج، حيث يتحول النضال من أجل العمل إلى نضال من أجل الكرامة والعدالة.
* صراع بلا ضمانات… لكنه مفتوح
ما يجري في تركيا اليوم ليس مجرد أزمة شبابية، بل اختبار حقيقي لقدرة المجتمع على إعادة بناء أدواته الجماعية. فإما أن تنجح النقابات والقوى التقدمية في التقاط هذه الطاقة الجديدة، وتطوير أشكال تنظيم تتلاءم مع واقع العمل المتحوّل، أو يُترك الشباب لمواجهة نظام رأسمالي سلطوي بلا حماية ولا أفق.
في بلدٍ لم يعد فيه للشباب ما يخسرونه، تصبح الهشاشة نفسها مادةً قابلة للتحوّل إلى قوة اجتماعية. والسؤال المفتوح ليس إن كان الصراع سيستمر، بل أي أشكال سيتخذ؟
—
المصدر:
يستند هذا المقال إلى تقرير صحفي ميداني للصحفية مارغا ثامبرانا (14 آب/أغسطس 2025)، إضافة إلى بيانات وتقارير صادرة عن اتحاد النقابات التركي DİSK ومؤشر الحقوق العالمية للاتحاد الدولي للنقابات (ITUC).