مثقفات ايرانيات والصراع بين الكوجيتو والوحدة في زمن الحداثة، فرخزاد ودولت آبادي نموذجا
حميد كوره جي
الحوار المتمدن
-
العدد: 8385 - 2025 / 6 / 26 - 14:06
المحور:
حقوق المراة ومساواتها الكاملة في كافة المجالات
إن التجربة المعقدة لنساء مفكرات في إيران، مثل صديقة دولت آبادي وفروغ فرخزاد، تكشف عن صراع وجودي عميق. إنه صراع يعكس تحديات الحداثة في مجتمع تتجاذبه التقاليد والتغيير. هؤلاء النساء حاولن الموازنة بين رغبتهن في الحب والاستقلال الفردي، وبين قيود المجتمع التي تُقيد حرية التعبير والاختيار، مما ولّد لديهن شعورًا بالوحدة لا يمكن فصله عن تحولات العصر الحديث.
معركة الذات في مواجهة الأعراف
مفهوم "الكوجيتو" الشهير: "أنا أفكر، إذًا أنا موجود"، يتخذ بعدًا جديدًا في السياق الإيراني. فهل يسمح المجتمع للمرأة أن تحقق وجودها من خلال التفكير؟
صديقة دولت آبادي وفروغ فرخزاد مثالان بارزان لنساء اخترن الوقوف على حافة التغيير. لقد كان لديهما شغف بالكتب، وتمردتا على الأعراف، وساهمتا في تأسيس مسارات جديدة للحركات النسائية والأدبية. سعت هاتان المرأتان إلى التحرر وبناء هوية فردية قائمة على استقلال الفكر، لكن كان عليهما في الوقت نفسه التعامل مع توقعات اجتماعية تجبرهن على الالتزام بأدوار تقليدية. حتى السعي وراء الحب أو العلاقات أصبح خطوة محفوفة بالصراع، حيث يتشابك مع رغبة عميقة في التحرر من القيود الثقافية.
الوحدة في هذا السياق ليست مجرد شعور عابر، بل هي نتيجة للتغيرات الاجتماعية والسياسية التي فرضتها الحداثة. أدى تفكك الروابط العائلية التقليدية وتصاعد النزعات الفردية إلى إحساس بالوحدة لدى النساء اللواتي حاولن تحديد ذواتهن بعيدًا عن الأدوار النمطية.
رغم أن الكوجيتو الديكارتي يوفر يقينًا وجوديًا عبر التفكير، إلا أنه لا يقدم حلولًا للمعاناة الإنسانية الناتجة عن هذه الصراعات. ومع ذلك، وجدت النساء المفكرات قوتهن في الكتابة والفكر لمواجهة هذه التحديات. استخدمت فروغ فرخزاد الشعر للتعبير عن صراعاتها ومعاناتها النفسية، بينما بلورت صديقة دولت آبادي أفكارها عبر الصحافة والعمل النسوي. تعكس أعمالهما قوة المعرفة ودورها في إعادة صياغة الأدوار التقليدية للمرأة.
شهد مفهوم الوحدة تحولًا جذريًا مع الحداثة، فبعد أن كان يُنظر إليه تقليديًا كحالة من العزلة الروحية المرتبطة بالتأمل، أصبح يرمز إلى "الانفصال العاطفي وعدم الانتماء".
هذا التحول يعود إلى عوامل مثل التصنيع، والفردية، والتحضر. فبينما كانت "الخلوة" في المجتمعات الزراعية التقليدية فرصة للتأمل والإبداع، أصبحت "الوحدة" في المجتمع الحضري الحديث أزمة نفسية ناتجة عن تفكك الروابط الاجتماعية.
أدى الانتقال من مجتمع زراعي مترابط إلى مجتمع حضري قائم على الاستقلال الأسري والتنافس الفردي إلى خلق فجوة عاطفية ووجودية. وفي ظل تلاشي التصورات الروحية التقليدية، أصبح البحث عن الانتماء يتركز على الحب الحديث كوسيلة لتجاوز الفقدان الداخلي.
تُجسد تجربة فروغ فرخزاد هذا الاغتراب في شعرها الذي يعبر عن صراعها الداخلي ورؤيتها للحب والحداثة. أما صديقة دولت آبادي، فقد حولت وحدتها إلى قوة منتجة، واستخدمت أفكارها السياسية والاجتماعية في النضال من أجل حقوق المرأة.
شهدت مؤسسة الزواج تحولًا كبيرًا؛ فبعد أن كانت عقدًا يربط بين عائلتين لتحقيق مصالح مادية واجتماعية، أصبحت ترتكز على التعلق والحب الرومانسي. هذا التحول وضع المرأة المثقفة أمام تحدٍ مزدوج:
صراع داخلي: بين رغبتها في تحقيق ذاتها عبر التعليم والعمل، وبين دورها التقليدي كزوجة وأم.1
تحدٍ خارجي: ضرورة الانضمام إلى الحركات الحقوقية للدفاع عن قضاياهن .2
كان وعد "الحب الحديث" هو التحرر والاستقلالية، لكنه أصبح في كثير من الأحيان مصدرًا جديدًا للوحدة. فبينما يتميز هذا الحب بالحميمة والتعاطف، إلا أنه يميل إلى التمرد وتجنب الالتزام، مما يؤدي إلى الإحباط عند عدم تلبية التوقعات.
تجربة فروغ فرخزاد: تمرد شعري وتحدٍ شخصي
تُعتبر فروغ فرخزاد (1935-1967) أيقونة للتمرد والتحرر. تزوجت في سن مبكرة، لكنها طلقت وفقدت حضانة ابنها، وهي خطوة كانت تعتبر فضيحة اجتماعية. انعكس هذا الألم العميق في شعرها الجريء الذي كسر تابوهات الجسد والأنوثة، وعبّر عن الذات الأنثوية بصوتها الخاص. كانت وحدتها "اغترابًا وجوديًا" نابعًا من وعيها بالتناقضات المحيطة بها، حيث عاشت صراعًا بين رغبتها في الانتماء للمجتمع واستقلالها الفكري الذي وضعها على الهامش.
تجربة صديقة دولت آبادي: نضال سياسي ونسوي
اختلفت تجربة "صديقة دولت آبادي" (1882-1961) عن تجربة فرخزاد في تركيزها على النضال السياسي المباشر. لم تكن شاعرة، بل كانت صحفية وناشطة كرست حياتها للدفاع عن حقوق المرأة. أسست مجلة "لسان النساء"، التي كانت تطالب بحقوق المرأة وتدعو إلى التحرر من الحجاب. تعرضت للاضطهاد والملاحقة، لكنها لم تتراجع، بل واجهت التهديدات بشجاعة. لم تكن وحدتها عزلة عاطفية، بل كانت "وحدة المقاومة" التي يفرضها النضال ضد تيار مجتمعي قوي.
لقد كانت تجارب فروغ فرخزاد وصديقة دولت آبادي مع الوحدة انعكاسًا دقيقًا لتحولات مجتمعية كبرى في إيران. دفعتا ثمنًا باهظًا لكونهما رائدتين، لكن مساهماتهما مهدت الطريق لأجيال قادمة من النساء لمواصلة النضال من أجل الحرية الفكرية والاجتماعية. ويبقى السؤال: هل تقدم الحداثة الأدوات اللازمة لتخفيف وطأة الوحدة التي تسهم في خلقها؟ أم أنها تمثل معضلة وجودية تزداد حدة مع تعقيد العالم؟