في ذكراه السبعين.. باندونغ المؤتمر والمدينة


رشيد غويلب
الحوار المتمدن - العدد: 8382 - 2025 / 6 / 23 - 14:01
المحور: الإستعمار وتجارب التحرّر الوطني     

قبل سبعين عامًا، تم زرع بذور النظام العالمي الجديد في باندونغ بإندونيسيا. ففي قاعة المهرجانات الاستعمارية السابقة "سوسيتيه كونكورديا"، اجتمع قادة بلدان آسيوية وأفريقية لتشكيل جبهة مشتركة ضد الإمبريالية والهيمنة. وأصبح المبنى ـ الذي علقت في مدخله لافتة كُتب عليها "ممنوع دخول الكلاب والسكان الأصليين"، حيث كان الضباط ورجال الأعمال وكبار الشخصيات الهولنديون يحتفلون ذات يوم بقوتهم الاستعمارية ـ مسرحًا لمؤتمر باندونغ، وهو معلم بارز في النضال من أجل الاستقلال وتقرير المصير. لقد أصبح ما كان في الأصل معقلاً للغطرسة الاستعمارية رمزاً للتحرر.

رمزية المدينة
في قلب مدينة باندونغ، المدينة التي اكتسبت لقب "باريس جاوة" بسبب جمالها وموقعها الاستراتيجي، يقف مبنى يجسد الغطرسة والرضا عن الحكم الاستعماري الهولندي على نحو لا مثيل له: مبنى سوسيتيه كونكورديا. تم تأسيس هذا المعقل الحصري في عام 1895 وتمت إعادة بنائه في عشرينيات القرن العشرين. وقد كانت بمثابة مكان اجتماع للنخبة الاستعمارية الهولندية - أصحاب المزارع وكبار المسؤولين والضباط العسكريين، الذين قرروا مصير ملايين الإندونيسيين.

بين جدران كونكورديا الرخامية، تم إبرام عقود مربحة لتوريد الشاي والقهوة والمطاط والكينين، المنتجات التي كانت أساس لقوة هولندا الاقتصادية. وكلما اندلعت ثورة في أي مكان في جاوة أو سومطرة، كان الأمر الاستراتيجي بإرسال القوات واستعادة "النظام والاستقرار" يصدر من معبد القوة الاستعمارية هذا.

وفي جمعية كونكورديا، لم يتم وضع خطط لإنشاء خطوط سكك حديدية ومزارع جديدة فقط، بل تم أيضًا وضع الأساس لنظام قمع منهجي. وفي أماكن مثل جمعية كونكورديا، تم تحسين وتوسيع نظام الزراعة، حيث كان على المزارعين الإندونيسيين التنازل عن جزء من محاصيلهم للحكومة الاستعمارية. وناقشت شبكات من المزارعين والمسؤولين الاستعماريين كيفية تنظيم العمالة المهاجرة، ومضاعفة الأرباح، وقمع حركة التحرر الإندونيسية المتنامية. لكن باندونغ لن تظل جنة الحكام الاستعماريين إلى الأبد.

باندونغ مركز المقاومة
بينما كان الاحتفال داخل أسوار كونكورديا بالاستعمار الهولندي الأبدي، بدأت الثورة تكتسب زخمًا خارج الأسوار. في عشرينيات القرن العشرين، أصبحت باندونغ مركزاً للوعي السياسي. هناك، أسس مهندس شاب يدعى سوكارنو ورفاقه الحزب الوطني الإندونيسي. وأصبحت باندونغ المركز الفكري للمقاومة، والمكان الذي توزع فيه المنشورات المعادية للاستعمار، حيث نظم الطلاب في الجامعة التقنية صفوفهم ضد قوات الاحتلال.

لقد أدت الحرب العالمية الثانية إلى تغيير موازين القوى مؤقتًا. طرد اليابانيون الهولنديين من إندونيسيا، وعلى الرغم من قسوتهم، سمحوا للإندونيسيين ببناء هياكلهم السياسية. عندما استسلمت اليابان في عام 1945، أعلن سوكارنو ومحمد حتا الاستقلال. ردت هولندا بغضب. وفي محاولة أخيرة للحفاظ على المستعمرة، أرسلت الى البلاد عشرات الآلاف من الجنود.

في آذار 1946، حدثت نقطة تحول في النضال من أجل استقلال إندونيسيا في باندونغ. دخل الجنود البريطانيون المدينة، لمساعدة الهولنديين في استعادة مستعمرتهم السابقة، لكنهم واجهوا مقاومة شرسة. قرر المقاتلون الإندونيسيون إخلاء مدينتهم وإشعال النار فيها. وأصبح الجحيم الناتج عن ذلك يُعرف باسم "بحر نار باندونغ". وبعد ذلك سمح البريطانيون للجنود الهولنديين بالزحف إلى مدينة ميتة، الأمر الذي أدى إلى تحطيم وهم استعادة الاستعمار. وبعد ثلاث سنوات استسلموا. وأصبحت اندونيسيا حرة. استولت الحكومة الإندونيسية على جمعية كونكورديا، التي كانت في يوم من الأيام رمزاً للهيمنة الغربية، وعندها أصبحت تسمى "مبنى الحرية".

مؤتمر باندونغ
بعد ست سنوات من إجبار هولندا على سحب قواتها والاعتراف باستقلال إندونيسيا، اجتمع زعماء 29 دولة من آسيا وأفريقيا في باندونغ لحضور مؤتمر تاريخي. ولأول مرة في التاريخ الحديث، اجتمعت المستعمرات السابقة دون حضور ممثلي البلدان الغربية.

في 18 نيسان 1955، افتتح الرئيس الإندونيسي أحمد سوكارنو في باندونغ، ثالث أكبر مدينة في البلاد المؤتمر، الذي شارك في اعماله أكثر من 300 مندوب من 29 مستعمرة وشبه مستعمرة سابقة تمثل أكثر من نصف سكان العالم في ذلك الوقت. وكانت هناك تباينات في الرأي في ما يتعلق بطبيعة الاستعمار، وتخللت المؤتمر في بعض الأحيان مناقشات ساخنة. ولكن عندما انتهت اعمال المؤتمر في 24 نيسان، تم الاتفاق على مبادئ مناهضة الاستعمار ومناهضة العسكرة: كرس إعلان باندونغ المكون من عشر نقاط مبادئ "التعايش السلمي" و"عدم الانحياز". لقد كانت لحظة حاسمة في تاريخ القرن العشرين.

وكانت قائمة الضيوف مثيرة للإعجاب. وكان من بين المشاركين شخصيات بارزة: جواهر لال نهرو، رئيس الوزراء الهندي صاحب الرؤية؛ الرئيس المصري جمال عبد الناصر، صاحب التأثير الكبير حينها في البلاد العربية، الذي ألهم تأميمه لقناة السويس في وقت لاحق نضال مناهضة الاستعمار؛ وتشو إن لاي، رئيس الوزراء ووزير الخارجية لجمهورية الصين الشعبية. كان الضيوف يمثلون البلدان التي تحررت من قيود الاستعمار، وبلدان أخرى ما زالت تناضل من أجل حريتها.

كان جدول أعمال المؤتمر واضحا: إنهاء الاستعمار، ورفض التحالفات العسكرية، وتعزيز التعاون الاقتصادي دون تدخل غربي. وفي الجلسة الختامية، تم اعتماد عشرة مبادئ، من بينها احترام السيادة وعدم التدخل في الشؤون الداخلية والتعايش السلمي.

ولم تكن هذه المبادئ العشرة بمثابة بوصلة أخلاقية للعالم الناشئ بعد الاستعمار فقط، بل شكلت أيضا الأساس لحركة عدم الانحياز التي ظهرت في وقت لاحق. وقد تم تطوير الأفكار التي ظهرت في باندونغ في مؤتمر حركة عدم الانحياز الأول في عاصمة يوغسلافيا الاشتراكية بلغراد عام 1961، وأدت في نهاية المطاف إلى إنشاء مجموعة الـ 77 داخل الأمم المتحدة.

طبيعة حركة عدم الانحياز
إن حركة عدم الانحياز التي تطورت في السنوات التي أعقبت مؤتمر باندونغ لا يمكن فهمها إلا في السياق التاريخي للوضع العالمي حينها. لقد سعت الدول الإمبريالية إلى دمج مستعمراتها السابقة في "الحرب الباردة" ضد بلدان المنظومة الاشتراكية وحركات التحرر الوطني، عبر سلسلة من الاتفاقيات العسكرية. على سبيل المثال، تم إنشاء حلف بغداد في 24 شباط 1955 من قِبل إيران والعراق الملكي وباكستان وتركيا والمملكة المتحدة. كامتداد لحلف الناتو على الحدود الجنوبية الغربية للاتحاد السوفييتي، وكان مقره الرئيس في بغداد، حتى انتصار ثورة 14 تموز 1958 وخروج العراق من الحلف، الذي عرف لاحقا بحلف المعاهدة المركزية (السنتو)، الذي استضافته تركيا، حتى حله رسميا في 16 اذار 1979. وكان السعي للحياد الإيجابي حينها موضوعيا موجها ضد هذه السياسة الإمبريالية. وتحدث رئيس الوزراء الهندي نهرو عن "الحياد الإيجابي" لتمييزه عن النموذج السويسري للحياد السلبي. كانت "روح باندونغ" تتألف من المقاومة النشطة ضد المؤامرات الإمبريالية في المستعمرات السابقة والقائمة.

عكس قيام حركة عدم الانحياز الطبيعة الطبقية وتعبيراتها السياسية في الحكومات الجديدة في الدول المستقلة حديثا. لقد كانت حركات التحرر في هذه البلدان بقيادة البرجوازية الوطنية: المثقفين البرجوازيين الصغار مثل سوكارنو ونهرو أو الضباط الأحرار، كما هو الحال في التجربة المصرية. لقد سعى هؤلاء الزعماء إلى مزيد من الاستقلال عن الإمبريالية، ولكن موقعهم الطبقي منعهم من الانحياز بشكل واضح ومتسق إلى الدول الاشتراكية.

بعد الاستقلال، حدثت عملية تمييز طبقي في هذه البلدان، وفي سياق الصراع بشأن توجهها اللاحق. في حين اقتربت بعض الحكومات من المعسكر الاشتراكي، بل وتبنت بعضها الماركسية، أصبحت حكومات أخرى صديقة بشكل متزايد للغرب، واتخذت إجراءات قمعية ضد الشيوعيين والديمقراطيين في بلدانها.

في المعسكر الاشتراكي، قوبل تشكيل حركة عدم الانحياز في البداية بتحفظ. لكن مع مرور الوقت، تم التوصل إلى استنتاج مفاده أن التحالف كان ظاهرة متناقضة ولكنها حقيقية للغاية ولا يمكن تجاهلها. كمفهوم في السياسة الخارجية، عكس عدم الانحياز المصالح الطبقية للبرجوازية الوطنية ذات التطلعات القومية ومع ذلك، في سياق "الحياد الإيجابي"، خلص ديثيلم فايدمان، أستاذ نظرية وتاريخ العلاقات الدولية في آسيا بجامعة هومبولت في برلين الشرقية عاصمة المانيا الديمقراطية السابقة عام ١٩٧٤، إلى أن "عدم الانحياز كان متأصلًا بلا شك في نزعة أساسية مناهضة للاستعمار والإمبريالية". وأضاف: "على الرغم من التقلبات والتناقضات العديدة، وبغض النظر عن إرادة القادة البرجوازيين في بعض البلدان، فإن الموقف الأساسي في السياسة الخارجية لدول عدم الانحياز قد أنتج، موضوعيًا، آثارًا مناهضة للإمبريالية، وعرقل الاستراتيجية والسياسة الإمبريالية، وأضعف مكانة الإمبريالية في العلاقات الدولية".

وكانت حركة عدم الانحياز تعتبر أيضًا مجالًا مثيرًا للتنافس.

وكان من الضروري، من ناحية، دعم مطالبهم التقدمية في الأمم المتحدة، ولكن من ناحية أخرى، مواصلة السعي إلى مواقف مناهضة للإمبريالية ثابتة داخل التحالف، كما فعل فيدل كاسترو وآخرون.

"روح باندونغ"
في خطاب الافتتاح الذي لا ينسى، قال الرئيس سوكارنو استعارة قوية ودائمة: "روح باندونغ". وأكد على الأهمية التاريخية لهذه اللحظة ووجود "الروح الخالدة القوية، التي لا تقهر لمن سبقونا". إن نضالهم وتضحياتهم مهد الطريق لهذا الاجتماع بين اكبر زعماء الدول المستقلة وذات السيادة من اثنتين من أعظم قارات العالم".

لقد كان التأثير الحقيقي لمؤتمر باندونغ أبعد من مجرد التصريحات الدبلوماسية. وفي أروقة "مبنى الحرية"، نجح المشاركون في إقامة روابط من شأنها أن تغير مسار القرن العشرين. ووجد القادة الأفارقة الدعم في نضالهم من أجل الحرية. وفوق كل ذلك، تم إرسال رسالة إلى العالم في باندونغ: كان عصر الاستعمار قد انتهى.

باندونغ تهديد لحضارة الغرب!
في المراكز الرأسمالية، استقبل مؤتمر باندونغ باستياء شديد. وحذرت الصحف الاستعمارية من "أفكار خطيرة" من شأنها أن تعرض الاستقرار في المستعمرات المتبقية، وكثيراً ما تم تصوير المؤتمر على أنه "معاد للغرب". ولعبت الصحف الأخرى بورقة معاداة الشيوعية. وكتبت الصحف السائدة حينها، إن مؤتمر باندونغ لعبة في يد موسكو وبكين.

وحذرت جماعات الضغط الاستعمارية المؤثرة، من أن باندونغ قد يؤدي إلى "التحريض على التمرد". ووصف المؤتمر بأنه تهديد لعمل الدول الاستعمارية في آسيا وافريقيا. وبشأن الكونغو، التي كانت مستعمرة بلجيكية أعلن وزير الخارجية البلجيكي ا بول هنري سباك: "نحن نؤيد تقرير المصير، ولكن النظام والتنمية يجب أن يحتل الأولوية"، اي الاعتقاد الاستعماري بأن الكونغو "لم تنضج بعد" للاستقلال. وكان الحزب الشيوعي البلجيكي هو الوحيد الذي أعرب عن دعمه الصريح لمؤتمر باندونغ، الذي اعتبر "خطوة تاريخية ضد الإمبريالية". ولكن الموقف الاستعماري البلجيكي لم يتمكن من منع روح باندونغ من إلهام باتريس لومومبا في نضاله من أجل الاستقلال لاحقا.

الثورة المضادة
بعد موجة التحرر الوطني في الخمسينيات والستينيات، والتي استمرت حتى متصف السبعينيات، شنت الثورة المضادة هجوماً مضاداً شاملاً منذ منتصف العقد السادس. بعد مرور عشر سنوات على مؤتمر باندونغ، تمت الإطاحة بحكومة سوكارنو في انقلاب عسكري مدعوم من الغرب. وبمساعدة المعلومات الاستخباراتية من وكالة المخابرات المركزية الأمريكية وجهاز المخابرات الألماني، تمكنت الحكومة العسكرية الجديدة من قتل أكثر من مليون شيوعي ومناهض للإمبريالية في إندونيسيا. وتبع ذلك انقلابات مماثلة ضد الحكومات ذات التوجه الاشتراكي في غانا ومالي في عامي 1966 و1968، ومن المفيد الإشارة الى ان استراتيجية انقلابات المخابرات المركزية الامريكية سبقت انعقاد مؤتمر باندونغ، واستمرت في السنوات التي تلته، فكانت البداية مع الاطاحة بحكومة مصدق الوطنية في إيران 1953، تبعها انقلاب 8 شباط الأسود الذي أنهي مسيرة ثورة 14 تموز في العراق. وفي الوقت نفسه، كثفت الولايات المتحدة حربها ضد الشعب الفيتنامي، بحيث ارتفع عدد القوات الأمريكية المنتشرة، بحلول عام 1968، إلى أكثر من نصف مليون مقاتل. أما الحكومات التي تمكنت من الإفلات من النظام العنيف للإمبريالية فقد تم احتواؤها، أو ببساطة ابتلعها الاقتصاد الرأسمالي العالمي. فرضت سياسات المؤسسات المالية الغربية، مثل صندوق النقد الدولي، أزمة ديون على بلدان في أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية، ولا تزال مستمرة حتى اليوم. وتراجعت روح باندونغ إلى حد كبير منذ ثمانينيات القرن العشرين فصاعدا. وبتفكك الاتحاد السوفيتي والبلدان الاشتراكية في شرق أوربا، فقدت حركات التحرر شريكها الأقرب وأُجبرت على التراجع لفترة طويلة.

بين باندونغ و"بركس"
في عام 2009 تأسس تحالف "بريكس" وتوسع في عام 2024، وبالتالي السؤال المطروح: هل بمثل تأسيس بركس إحياء لروح باندونغ؟ من المؤكد أن قمة بريكس الموسعة تعالج العديد من القضايا التي تمت مناقشتها في باندونغ قبل سبعين عاماً: التعاون بين بلدان الجنوب، وعدم الانحياز، وتخفيف الديون، ومسألة الاتحاد النقدي وأنظمة الدفع البديلة. ولكن كما يشير المؤرخ الهندي والشيوعي فيجاي براشاد، فمن المضلِّل أن نزعم أن روح باندونغ قد تعافت بالفعل من الثورة المضادة: "إنها موجودة، ولكن كحنين وليس كعلاقة عضوية في اوساط الجماهير المكافحة واغلب الحركات التي تقف على عتبة السلطة". ويرى براشاد أن التطورات التي شهدناها اليوم تمثل ظهور "مزاج جديد في الجنوب العالمي". إنها "مجرد إشارة إلى إمكانية جديدة، بالإضافة الى ان مفهوم "السيادة" في جوهرها، ينطوي على إمكانيات ديمقراطية هائلة".

إن أغلب الحكومات التي اجتمعت في باندونغ عام 1955 نشأت من نضالات ضد الاستعمار. وكانوا مسؤولين إلى حد كبير امام الحركات الجماهيرية في بلدانهم. ولكن طموحات العديد من حكومات مجموعة بريكس اليوم لا تحركها الجماهير بقدر ما يحركها السعي لتوظيف التغيرات في توازن القوى العالمي. لقد مكّن النمو الصناعي في الصين وغيرها من "قاطرات الجنوب" البلدان النامية من الاعتماد بشكل متزايد على مصادر بديلة للتمويل. إنّ التفكير الجدي بإيجاد مؤسسات مالية بديلة، للمؤسسات الغربية مثل صندوق النقد الدولي يضعف الهيمنة الإمبريالية على الساحة العالمية، وبالتالي يمثل موضوعيا فعلا مناهضا للإمبريالية. إن تحالف بريكس، مثل حركة عدم الانحياز آنذاك، يظل ظاهرة متناقضة ولكنها حقيقية. ومن الضروري لقوى اليسار والتقدم أن تستوعب هذا التطور، وأن تسعى إلى تعزيز العامل الذاتي في النضالات التحررية المناهضة للإمبريالية.

ومن الضروري ايضا التأكيد ان مجموعة بريكس تعد الأكثر حظاً في خلق توازن جديد في العلاقات الدولية، إثر انتهاء حقبة انفراد الولايات وحلفائها الغربيين بالهيمنة على العالم في السنوات التي تلت اختفاء الاتحاد السوفيتي وتفكك حلف وارشو.

وبالتأكيد فإن الكثير من المعطيات الجغرافية والسكانية والاقتصادية والعسكرية، التي تمتلكها البلدان الأعضاء، تقف وراء هذا الاهتمام، الذي يتوزع بدوره على مسارين:

الأول: خلق توازن جديد في العلاقات الدولية، في ضوء معايير لعبة المصالح بين المحاور والتكتلات الدولية. وهو أمر مفهوم، يضع من لا يراقب تطوره ويسعى لتوظيفه لصالح مشروعه السياسي او قضيته الوطنية، نفسه خارج اللعبة، ويسّهل على خصومه ومنافسيه تحجيمه، او حتى هزيمته.

الثاني: هو اهتمام الواهمين أو في أحسن الأحوال أصحاب التشخيص غير الدقيق ممن يرى بمثل هذه التجمعات الدولية، رافعة لبديل تنموي تحرري، يفتح الطريق لتجاوز الرأسمالية. ولعل قوى التحرر في البلدان المحتلة، وقوى اليسار الجذري والحركات الاجتماعية معنية بهذا الأمر أكثر من غيرها، لأن هذا الوهم يقود بالنتيجة الى تبني تحليلات وحسابات خاطئة، تنعكس سلبا على مسار القضايا الوطنية ومشاريع التغيير الكبيرة. والتجربة العالمية مليئة بالأمثلة على مثل هذه المراهنات التي قادت أصحابها الى اشكال متعددة من الهزائم والتراجعات المجانية. ولكيلا نبتعد كثيراً يمكننا أن نتساءل، هل تمثل مجموعة بريكس بديلاً، يحمل مضامين تنموية وتحررية، يمكن التعويل عليها؟ ان المساحة التي تمتلكها البلدان التقدمية داخلها محدودة جدا، مقارنة بتلك التي أطلقها مؤتمر باندونغ في عام 1955. ولذلك ستظل أهمية بركس محصورة بشكل كبير في خلق توازن قوى بين التكتلات الدولية افضل من تلك التي سادت عقود ما بعد 1990.

إرث باندونغ
واليوم، بعد مرور 70 عاماً، لا تزال الهياكل التي حاولت باندونغ تدميرها قائمة إلى حد كبير. لا يزال الاقتصاد العالمي خاضعًا لسيطرة القوى الاستعمارية السابقة. وتستمر الشركات المتعددة الجنسيات والمؤسسات المالية الغربية في إبقاء المستعمرات السابقة في دوامة الديون والتبعية الاقتصادية. ولا يزال صندوق النقد الدولي والبنك الدولي يفرضان شروط "التنمية"، ويواصل الغرب التدخل عسكريا في الشرق الأوسط وأفريقيا وأميركا اللاتينية.

ومع ذلك، لم يتم نسيان باندونغ. وستستمر المناقشات في إطار مجموعة الـ 77، ومجموعة البريكس، وحركات العدالة المناخية، وإنهاء الاستعمار، والتجارة العادلة. وفي كل احتجاج ضد الاستغلال الاقتصادي، وفي كل نضال من أجل السيادة الوطنية، وفي كل دعوة إلى نظام عالمي متعدد الأقطاب، نجد صدى هذا المؤتمر الذي عقد في عام 1955.

في ذلك الوقت قال سوكارنو الكلمات التالية: "لا يمكنك أن تكون نصف حر، كما لا يمكنك أن تكون نصف حي". وهذه حقيقة لا تزال مهمة اليوم كما كانت آنذاك. باندونغ ليست مجرد حاشية في التاريخ. لقد كانت بداية الانتفاضة في بلدان الجنوب. وهذه المعركة ما تزال نهايتها مفتوحة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* أُعدت هذه المادة بالاستناد إلى مقالة بقلم ماثيو ريد نشرت في جريدة الحزب الشيوعي الألماني في 18 نيسان 2025. وتحليل بقلم السكرتير العام لحزب العمل البلجيكي بيتر ماتينز، نشر على موقع الحزب في 9 أيار ـ 2025 .