أهم المسائل في الماركسية المعاصرة (3)


فؤاد النمري
الحوار المتمدن - العدد: 6839 - 2021 / 3 / 13 - 20:29
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية     

لم يكن في حسبان كارل ماركس وفردريك إنجلز في العام 1848 أن حرباً إمبريالية كبرى ستنشب في أوروبا في صدر القرن العشرين بين ألمانيا وحلفائها من جهة وبريطانيا وفرنسا وحلفائهما من جهة أخرى، حرباً مكنت الشيوعيين في روسيا الفيصرية من الفيام بثورة شيوعية ناجحة في العام 1917 ومكنت بذات الوقت الذئاب الإمبريالية الكاسرة في لندن وباريس من فرض وثيقة استسلام وحشية بموجب معاهدة فرساي (Versailles) في العام 1919 والتي سدت مختلف طرق التطور أمام قوى الإنتاج الكبرى في ألمانيا باستثناء طريق النازية وقد تجاوب مع هذا المخطط الحزب الإشتراكي، حزب كاوتسكي موئل الخيانة فشارك بالسلاح في القضاء على الجمهورية السوفياتية في بافاريا 1919 وعلى الثورة الشيوعية في العام 1923 .
.
تنامت النازية في ألمانيا والفاشية في إيطاليا برعاية المخابرات الانجليزية بصورة رئيسية والمخابرات الفرنسية مؤملة أن تتمكن ألمانيا النازية المسلحة إلى ما فوق الأسنان بالقضاء على الثورة الإشتراكية في الإتحاد السوفياتي التي تهدد مستقبل الإمبريالية في العالم . بدا ذلك جليّاً دون أدنى ارتياب في مؤتمر ميونخ سبتمبر 1938 حيث قدم رئيس الوزراء البريطاني نفيل تشيمبرلن والرئيس الفرنسي إدوار دالادييه جائزتي تهدئة (Appeasement) لهتلر وهما احتلال النمسا ومنطقة السوديت من تشيكوسلوفلكيا، وقدم تشيمبرلين القرن الأفريقي عربون صداقة للفاشي موسوليني . إذاك بدا أن مؤامرة كبرى في الأفق تستهدف الثورة الإشتراكية ووجود الإتحاد السوفياتي فكان أن رأى ستالين أن من واجبه الملح تفتيت تلك المؤامرة فأرسل وزير الخارجية إلى عواصم إنجلترا وفرنسا والولايات المتحدة يقترح تحالفاً لمقاومة النازية ولما رفضت الدول الثلاث اقتراح ستالين رفضاً قاطعاً وهو ما أكد لستالين حقيقة المؤامرة فكان أن حاول التفتيت من الجهة المقابلة، فكانت اتفاقية "مولوتوف – رابنتروب" في 23 أوغست 39 القاضية بعدم الإعتداء بين الاتحاد السوفياتي وألمانيا الهتلرية . في الحقيقة أن تلك الاتفاقية المشؤومة إنعكست سلباً على الإتحاد السوفياتي ومكنت هتلر من شن عدوان غادر على الإتحاد السوفياتي في 22 يونيو 41 .
وهكذا بدأت الحرب العالمية الثانية الهمجية بقسمة ضيزى .. الدول الغربية الكبرى الثلاث تحارب إيطاليا على شواطئ المتوسط والإتحاد السوفياتي يواجه ألمانيا النازية ومعها ثلاث عشرة دولة أوروبية أخرى . في الحقيقة ما كان الاتحاد السوفياتي ليقهر ألمانيا النازية، وكانت إذّاك أعتى قوة ظهرت في الأرض، بغير استنزاف كامل قواه في العمق وأهمها قوى الإشتراكية .

ما يتوجب أن يتوقف عنده أهل الفكر والمحللون من مختلف الأجناس هو أن الحرب العالمية الثانية بلغت همجيتها الهتلرية حدوداً تجاوزت حدود إنسانية الأنسان حتى كان أن تفتت كامل بنى طبقات الإنتاج الدينامية في العالم . قضى هتلر على الإمبريالية في أكبر إمبراطوريتين إمبرياليتين، بريطانيا وفرنسا، أما الرأسمالية في الولايات المتحدة فقد استنفذت كامل قواها في مقاومة الشيوعية بموجب السياسة التي اعتمدها مجرم الحرب ترومان منذ العام 1945 وحتى العام 1971 دون أن يدرك بأنه لم تعد هناك شيوعية في الاتحاد السوفياتي بعد الحرب . كان ستالين قد همَّ وهو أقوى القادة في كل العصور لأن يستعيد الاشتراكية وسلطة البروليتاريا في العام 52 فما لاقى غير الإغتيال والإلغاء التعسفي لكل أفكاره وقد تجسدت في قرارات المؤتمر العام للحزب الشيوعي التاسع عشر 1952 وأهمها الخطة الخمسية الخامسة التي كان مقدراً لها أن تنقل الاتحاد السوفياتي ليكون أغنى دولة في العالم في العام 1955 .
طبقة البورجوازية الوطنية التي قادت حركة التحرر الوطني 1946 – 1972 إنهارت أيضا حيث اعتمد تطورها على تطور الإشتراكية التي لم تعد موجودة قي الإتحاد السوفياتي .
قيل يوماً، على سيبيل الإبهار ليس إلاّ، بانهيار العوالم الثلاث الموروثة من الحرب لكن هذا هو كبد الحقيقة . النازية وهي بنيوياً منافية للرأسمالية كما للإشتراكية يمكن اعتبارها المنتصر الوحيد في الحرب العالمية الثانية رغم نجاح السوفييت في سحقها . إنتهت النازية، الإبنة الشرعية لمعاهدة فرساي، إلى تفكيك الرأسمالية والاشتراكية ودفع طبقات الإنتاج الدينامية، الرأسمالين والبروليتاريا والبورجوازية الوطنية في دول العالم الثالث إلى خارج التاريخ . فلول طبقة البروليتاريا وطبقة الرأسماليين المتواجدة حتى اليوم في العالم لم يعد لها شأن في صناعة التاريخ .
إنتهى العالم ومنذ سبعينيات القرن الماضي بلا طبقات، وهو العالم الذي لا يوازيه في هذه الخصيصة المتميزة سوى العالم الشيوعي .

نحن عندما نقول أنه لم يعد في العالم مجتمعات طبقية فنحن إنما نقرأ التاريخ كما هو منذ انهيار دولة دكتاتورية البروليتاريا في الاتحاد السوفياتي في خمسينيات القرن العشرين وانهيار النظام الرأسمالي في السبعينيات . نؤكد هذا باعتبار ان التعريف العلمي للطبقة هو جماعة من الشعب تتبنى وسيلة إنتاج خاصة بها تساهم في إنتاج ما يكفل حياة المجتمع .
عالم اليوم بلا إنتاج ؛ ففي العام 1970 كان مجموع ديون العالم 0.07 ترليون دولار أما اليوم فتزيد ديونه بموجب صندوق النقد الدولي على 180 ترليون أي أن ديونه قد تضاعفت 257 ضعفاً خلال خمسين عاماً ؛ ذلك يعني أنه يستدين بالمتوسط 3.6 ترليون دولاراً سنوياً . مثل هذا العالم الذي يستدين سنويا 3.6 ترليون دولارا ليحافظ على استمراره في الحياة هو عالم لاطبقي خلو من أيٍ من طبقات الإنتاج الكلاسيكية . حوالي 80% من مجمل الإنتاج البضاعي في العالم يعود إلى الصين ودول شرق آسيا . هناك زرعت الولايات المتحدة في نهجها في مقاومة الشيوعية إقتصادات غير وطنية تعتمد التصدير المغطى بالدولار غير الشرعي . وعلية يمكن القول بأن المجتمعات في تلك الدول الشرق أسيوية ليست طبقية حيث الجماعات شبه العمالية وتلك التي شبه الرأسمالية هي "طبقات" مصطنعة وليست طبيعية .

تفتيت طبفات الإنتاج الرئيسة ودفعها إلى خارج التاريخ وفر الفرصة للبورجوازية الوضيعة لأن تقبض على صولجان السلطة خلافاً لمنطق التاريخ لتنكل بأعدائها الرأسماليين والعمال أيّما تنكيل . العداء بين البورجوازية الوضيعة من جهة والعمال أو الرأسماليين من الجهة المقابلة ليس هو التناقض الديالكتيكي الطبيعي الذي لا يتواجد إلا متزامناً في الأشياء المكتملة البنيان . البناءات الإقتصادية في مختلف بلدان العالم ومنذ سبعينيات القرن الماضي إقتصادات اصطناعية غير مكتملة البنيان ؛ إنها فوضى الهروب من الإستحقاق الإشتراكي التي بدأتها البورجوازية الوضيعة السوفياتية مغتنمة مخلفات الحرب الهمجية على المجتمع السوفياتي . هذه البناءات خالية تماماً من أي تناقض ديالكتيكي معروف وهي لذلك تتخلف على الدوام بدل أن تتطور .
الصراع الطبقي الذي كتب تاريخ البشرية منذ البدء إنما هو ناجم عن وحدة النقيضين أي تواجد النقيضين في نفس الشيء وفي نفس الوقت . في البناءات الإقتصادية القائمة اليوم في مختلف بلدان العالم لا تتواجد البنية الواحدة المكتملة ولا تتواجد وحدة النقيضين ولذلك يغيب الصراع الطبقي نهائياً ولن يعود ثانية .

وهكذا انتهى التاريخ إلى غير النهاية الشيوعية التي استشرفها ماركس وإنجلز ؛ ما عاكس إستشرافهما هو أن عجلة التاريخ دُفع بها إلى خارج مسارها الطبيعي .
عالم اليوم هو عالم البورجوازية الوضيعة، عالم بلا طبقات، بلا صراع طبقي، بلا تناقض ديالكتيكي يسلرع نحو الموات وهو نهاية التاريخ .