خفايا الإنقلاب على الإشتراكية السوفياتية (3)


فؤاد النمري
الحوار المتمدن - العدد: 6983 - 2021 / 8 / 9 - 19:56
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية     

كيما أحمل القراء على إدراك عبقرية الثورة الإشتراكية التي أطلقها ستالين في المؤتمر التاسع عشر للحزب في أكتوبر 52 بغير صخب والمحدودة بشخص ستالين فقط يلزم التنبيه إلى عبقرية ستالين التي شهد بها معارفه الأقربون من مثل رفيق عمره فياتشسلاف مولوتوف وصديقه وقت الضيق ونستون تشيرتشل . عبقرية ستالين تنامت على نسق عبقرية لينين التي كانت لحمتها الإنكار الكلي للذات من أجل تحرير الإنسانية من كل القيود كما في الحياة الشيوعية .

ثورة ستالين الإشتراكية اعتمدت على مسألتين حديّتين ينتهي حلّهما يتحويل دولة الحرب السوفياتية في العام 51 المنافية للإشتراكية إلى دولة اشتراكية فيها كل السلطة للبروليتاريا . المسألة الأولى تمثلت بالتحول من الصناعات الثقيلة إلى الصناعات الخقيقة بحجة تقول يكفي الشعوب السوفياتية ما عانت من ويلات الحروب وحق لها أخيراً أن تنعم بقسط من الرفاه ؛ وكان هدف ستالين الحقيقي سلب القوى العسكرية قاعدتها الأساسية وهي الإنتاج الحربي وخاصة الأسلحة . كانت الخطة الخمسية الخامسة (1951 - 55) ستجعل من الاتحاد السوفياتي أغنى دولة في الأرض، دولة اشتراكية، كل السلطة فيها للبروليتاريا .
المسألة الثانية التي طرحها ستالين على المؤتمر هي الإستغناء عن جميع أعضاء قيادة الحزب بمن في ذلك ستالين نفسه، مؤكداً أن ما كان ينتظر الدولة من أعمال عظيمة وشاقة لا يستطيع شيوخ المكتب السياسي القيام بها، ولذلك توجب استبدال أعضاء المكتب السياسي بشباب متحمسين لفكرة الشيوعية .
وافق المؤتمر على الخطة الخمسية إذ لم تسمح فذلكتها لأدنى اعتراض، وكان ذلك ليس من صالح العسكر ؛ لكن المؤتمر رفض إقتراح ستالين بالإستغناء عن الأعضا القدامى في المكتب السياسي وأعاد انتخاب جميعهم . لقد أثبت التاريخ أن رفض المؤتمر لاقتراح ستالين باستبدال الحزب قيادته القديمة بقيادة شابة جديدة كان السبب الأول والأخير لانهيار الإتحاد السوفياتي .
وهنا تتيدى عبقرية ستالين مرة أخرى وقد أصيب بالإحباط جرّاء رفض اقتراحه فعاد يؤكد أن القيادة القديمة ستشكل خطراً جديّاً على مصائر الثورة الإشتراكية، وعليه اقترح ستالين توسيع المكتب السياسي ليكون 24 عضواً بدل 12، الأمر الذي سيضمن إدارة أفضل للدولة، ونبه ستالين إلى أن يكون المنتخبون من الشباب المتحمسين لقضية الشيوعية ؛ وفعلاً انتخب المؤتمر 12 عضواً إضافياً للمكتب السياسي أسماؤهم لدي . لم ينفك ستالين يؤكد لرفاقه القدامى على أنه سيعمل على الإستغناء عنهم .

في الأسبوع الأخير من فبراير 53 انعقد محلس الوزراء برئاسة ستالين وهناك أعلن ستالين قراره في التقاعد وتعيين أحد القادة البارزين في الحزب الشيوعي (بانا مارينكا) من بلاروسيا مكانه رئيساً لمجلس الوزراء فاعترض على القرار أربعة وزرا هم جورجي مالنكوف ونيكيتا خروشتشوف ولافرنتي بيريا ونيكولاي بولغانين . في 28 فبراير دعا ستالين الوزرا الأربعة ليتناولوا العشاء معه في منزله . كانت تلك الدعوة بالقطع من أجل إقناعهم بقبول قراره في التقاعد وتعيين رئيساً جديداً للوزراء . ما بات مؤكداً في تلك الليلة أن لافرنتي بيريا دس السم في شراب ستالين وامتد بهم السهر إلى الساعات الأولى من صباح الأول من مارس قبل أن يغادروا .
في صباح الأول من مارس لم ينهض ستالين من سريرة على غير العادة ليشعل النور قبل أن يستدعي الحرس . انتظر الحرس ساعتين أو أكثر دون اشتعال النور في غرفة نوم ستالين فأخذت الشكوك تستبد بهم دون أن يجرؤوا على أن يتبينوا الأمر هم أنفسهم فكان أن اضطروا إلى إعلام القيادة عن الأمر. بعد وقت طويل بتقدير الحرس وصل بيريا ودخل وحيداً غرفة نوم ستالين وخرج يأمر الحرس ألا يزعجوا ستالين وهو مستغرق في نوم عميق، وغادر ولم يعد ثانية طيلة اليوم الأول من مارس . في صباح الاوم الثاني من مارس وصل بيريا برفقة مالنكوف وخروشتشوف . فوجئ الثلاثة بستالين ملقى على أرض الغرفة والدم ينزف من فمه ولا يستطيع النطق أو الحراك . إذاك استدعوا مولوتوف ليغطوا على جريمتهم وحال وصول مولوتوف اشتبه فيهم وسألهم لماذا لم يستدعوا طبيباً لإسعافه وكان جوابهم أن الطبيب لا يستطيع الحضور بسبب الثلوج العالية !! فكان رد مولوتوف الإستهجاني هو "وكيف وصلتم أنتم !؟" وسجل مولوتوف في مذكراته أن بيريا كان بين دقيقة وأخرى ينحني ليقبل يد ستالين – يقبل يد ستالين ولا يستدعي طبيباً لإسعافه !! – تلك كانت وقائع المصادر المعاصرة .
في الحقيقة أن بيريا جاء متأخراً ليكشف عما يشكو منه الحرس متوقعا أن ستالين كان قد مات بفعل السم، وفوجئ بستالين مثلما وجده في اليوم التالي لم يمت بعد . بعد زيارته الأولى لم يعد يسأل عما إذا كان ستالين نهض من النوم أم لم ينهص . قدر بيريا لا بد أن يكون قد مات في صباح اليوم الثاني من مارس ولذلك استدعى شريكاه في الجريمة لمرافقته إلى بيت ستالين وكانت المفاجأة غير السارة لهم وهي أن ستالين ما زال حيّاً فكان استدعاء مولوتوف للتغطية .
ستالين قاوم التسمم وخشي بيريا أن يستعيد ستالين حياته فتكون نهاية بيريا . في مساء الرابع من مارس أمر بيريا بحقن ستالين بحقنة الأدرينالين كما في الوثائق فكانت نهاية ستالين .
ثمة حقيقة صارخة لم يلتفت إليها المؤرخون ومراجعو الإشتراكية السوفياتية وهي أن بيريا تطوع لتسميم ستالين ليس دفاعا عن مستقبل أعضاء المكتب السياسي القدامى كما فهم شريكاه في الجريمة مالنكوف وخروشتشوف بل لأن التحقيق في مؤامرة الأطبا اليهود في عيادة الكرملين كان سيصل إليه كرئيس ومدبر لتلك الكؤتمرة الخطيرة وسيتم إعدامه حينذاك . ولذلك أمر بيريا باطلاق سراح الأطباء اليهود وتحريم محاكمتهم وألقى القبض على المحقق وتم إعدامه واسترجع جائزة ستالين من الطبيبة التي أفشت سر مؤامرة الأطباء اليهود .
خشي شريكا بيريا في الجريمة مالنكوف وخروشتشوف على حياتهما لأن بيريا القوي يمتلك عليهما أمر خيانتهما بمشاركتهما بجريمة اغتيال ستالين ولذلك دبرا اعتقاله ومحاكمته محاكمة سرية وغير قانونية واعدامه حال صدور الحكم .

باغتيال ستالين في مارس 53 إنتهى كل نزوع للإشتراكية في الإتحاد السوفياتي . المخاوف من الأخطار الجدية التي أحاقت يالثورة الإشتراكية والتي عبر عنها ستالين بقوة في الندوة اليتيمة في العام 51 وفي مؤتمر الحزب التاسع عشر في العام 52، تمثلت بحزب لم يعد شيوعياً وقد بات هيكلاً أجوف بلا حياة منذ أن فقد وظيفته الوحيدة وهي الصراع الطبقي منذ العام 39، وقيادة ليست على مستوى المسؤولية كما وصفها ستالين في مؤتمر الحزب في أكتوبر 52، واقتصاد حربي لا ينتج غير الأسلحة عديمة القيمة – وهو ما اضطر الرئيس أندروبوف عدو الإشتراكية، عدو العمال، لأن يصرف أجور العمال في العام 82 بقناني فودكا من النوع الرخيص – وحتى البروليتاريا لم تعد بروليتاريا بالمعنى الدقيق للكلمة طالما أنها باتت متطوعة في إنتاج الأسلحة ولا تنتج أجورها أو معاشاتها .
دكتاتورية البروليتاريا في العام 38 تحولت إلى دكتاتورية العسكر في العام 52 وبرحيل ستالين إنتفى كل نزوع اشتراكي في الإتحاد السوفياتي .
الإتحاد السوفياتي هو لم يعد اشتراكياً منذ رحيل ستالين في العام 53 فقط يل منذ إنعقاد مؤتمر الحزب الثامن عشر في مارس من العام 39 حين بدأ يتحول إلى دولة حرب .

(يتبع)