اليسار هو العدو الأخير للشيوعية (1/2)


فؤاد النمري
الحوار المتمدن - العدد: 7037 - 2021 / 10 / 4 - 16:44
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية     

اليسار هو العدو الأخير للشيوعية (1/2)

في العام 1922 كتب لينين في كتابة "الضريبة العينية" يقول ...
we must expose the error of those who fail to see the petty-bourgeois economic conditions and the petty-bourgeois element as the principal enemy of socialism in our country
"يجب فضح أخطاء أولئك الذين فشلوا في إدراك أثر البورجوازية الوضيعة في الإقتصاد وأن شريحة البورجوازية الوضيعة هي العدو الرئيسي للإشتراكية في بلادنا" .
ليس هناك في المجتمع من لا ينتمي إلى طبقة إجتماعية بعينها سوى البورجوازية الوضيعة فهي لا تنتج بل تخدم الإنتاج دون أن تمتلك عصبة توحدها ولذلك تبقى أشتاتاً متفرقة لا يجمعها جامع ولا تمتلك اهدافاً سياسية واحدة وتفشل في بناء حزب يمثل مختلف الأشتات .
البورجوازية الوضيعة هي مفرخة اليسار، يرث منها كل مساوئها وخاصة ما أشارإليه ماركس في البيان الشيوعي (they are reactionary for they try to roll back the wheel of history) أي أنهم رجعيون لأنهم يحاولون إدارة عجلة التاريخ إلى الخلف
أول مقتضيات دعوى اليساروية هو إغفال أصولها الطبقية وهو ما يستجر بالضرورة إنتفاء الصراع الطبقي لينتهي بعدمية الدعوى، ومن هنا قيل بـ "اليسار الألكتروني" أي أن عصبته هي التواصل الإجتماعي وليس الإنتماء الطبقي . ومع ذلك يملأ اليساريون فضاء العالم زعيقاً ينادون بالتغيير !! لكن تغيير ماذا، وتغييره إلى ماذا ؟ فذلك لا يتعيّن بغير استخدام الصراع الطبقي وهو مغفل في العصابة الألكترونية خليك عن أن الإنتماء الطبقي هو مغفل أصلاً في دعوى اليساروية غير الألكترونية طالما أن البورجوازية الوضيعة وهي التربة الخصبة التي تنبت فيها اليساروية . ة.
أهم قضايا العصر هي أن ما يسمى بـ "اليسار" يملأ الفضاء السياسي الدولي زعيقاً داعياً للتغيير الإجتماعي دون أن يحدد جنس التغيير المقصود !! . مثل هذه القضية الطارئة في الفكر السياسي تقتضي بالضرورة تقصّي أصولها وشروط وجودها ومدى جدية دعواها .
نظراً للأهمية الفائقة لهذه القضية التي تشكل عقبة كأداء على طريق التطور الإجتماعي كنت كتبت خلال ما تقدم من القرن الحادي والعشرون أكثر من عشرين مقالة تبحث في أصول اليسار ودعواه المثالية التي لا تمت للواقع بصلة بغير كونه عقبة كأداء على طريق الثورة الإشتراكية .

ليس بلا سبب أن توسعت الحركة المسماة باليسار بصورة متعاظمة في العقود الثلاثة الأخيرة مع أنها من تأسيس "المرتد كاوتسكي" نقيضاً للبلشفية في صدر القرن العشرين . الأحزاب الشيوعية التي ظلت موالية للحزب الشيوعي السوفياتي رغم انحرافاته الخطيرة في الخمسينيات، لا بل خيانته للثورة، فوجئت بانهيار الاتحاد السوفياتي في العام 91 وهو ما أكد لها فشل خطها السياسي الذي كانت تظنه خطاً شيوعياً ودعاها للتغيير فذهبت إلى خط جديد مختلف أسمته اليسار . يسار ماذا !؟ اليساريون لا يعلنون ذلك حيث الهوية المفتوحة تجلب المزيد من أدعيائها الأفّاقين ؛ لكنهم حين يضيق الخناق عليهم ينسبون يساريتهم للماركسية والماركسية براء منهم حيث هي نظرية علمية وفي القوانين العلمية ينتفي اليسار واليمين كلاهما . ينسبون يسارهم زوراً للماركسية بينما استراتيجتهم المعلنة المتمثلة بالديموقراطية (البورجوازية) والعدالة الإجتماعية تنتسب للنظام الرأسمالي وهو ما أكده طوني بلير القائد السابق لحزب العمال البريطاني إذ قال أن يساريتنا تتحقق بالرأسمالية "الحديثة" حسب وصفه . بلير لم يقل هذا إلا بعد الإجتماع الشهير الذي عقده قادة الدول الرأسمالية الأربعة الكبرى في لندن وراء أبواب مغلفة لثلاثة أيام من نهاية الألفية الثانية وتصادف أن كان أربعتهم يساريين، الرئيس الأميركي كلنتون ورئيس وزراء بريظانيا بلير ورئيس وزراء فرنسا جوسبان ومشتشار ألمانيا شرويدر، وقد تحققوا من تهالك النظام الرأسمالي فتوافقوا على استنباط "الطريق الثالث" لا رأسمالي ولا اشتراكي وفشلوا في مسعاهم – لعل هذا يكون عبرة ليساريي الأحزاب الشيوعية "سابقاً" وهم ليسوا في كل الأحوال بمستوى يسار قادة الدول الرأسمالية الكبرى .
وهكذا فإن اليسار يالإجمال هو الأحزاب الشيوعية التي واجهت الإفلاس في العام 91 . الأحزاب الشيوعية في العراق وفي لبنان وفي مصر وفي السودان لا تعمل بغير البحث عن قوى اليسار المفترضة وتوحيدها في كتلة واحدة لا عصبة فيها سوى امتلاك وسيلة التخاطب الألكتروني لدى مجموعة (eleft) قصراً .
طبعاً ما كانت هذه الأحزاب لتذهب في مذهب جديد تسميه اليسار إلا لأنها فوجئت بانهيار الاتحاد السوفياتي في العام 91 وباتت على ثقة بأنها كانت مضللة وأن مشروع لينين في الثورة الإشتراكية العالمية 1917 ليس هو الثورة الإشتراكية الحقيقية الناجزة التي استشرفها ماركس وإنجلز في بيانهما الشيوعي في العام 1848 كما باتت مقتنعة وفق ضلالتها .
ليسمح لنا هؤلاء اليساريون الطارئون أن نفترض دون مجانبة للمنطق أن الشيوعيين المضللين فيما قبل العام 91 هم أنفسهم اليساريون المضللون فيما بعد العام 91، دون ادعاء أي مبرر لافتراض العكس !؟


شيوعيو النصف الثاني من القرن العشرين لم يكونوا شيوعيين على الإطلاق بل الأحرى أن كانوا أعداء للشيوعية . الإتحاد السوفياتي انقلب على الشيوعية في العام 1953 إذ قام أبرز ثلاثة في المكتب السياسي للحزب وهم مالنكوف وبيريا وخروشتشوف باغتيال ستالين بالسم في مارس 53 وفي سبتمبر من نفس العام قررت اللجنة المركزية للحزب قراراً من خارج صلاحياتها قضى بإلغاء مقررات المؤتمر العام التاسع عشر للحزب من أجل الإنصراف إلى التسلح كما أفاد القرار وهي السياسة التي ما زالت قائمة حتى اليوم حيث هي السياسة المناقضة للإشتراكية، وفي يونيو 57 جرى انقلاب عسكري انتهى إلى طرد أعضاء المكتب السياسي من الحزب، وفي العام 61 قرر مؤتمر الحزب الثاني والعشرون إلغاء دولة دكتاتورية البروليتاريا واستبدالها بما سمي "دولة الشعب كله" وهو الدمغة الفاقعة الرافضة للإشتراكية حسب الدلالة الماركسية القاطعة . شيوعيو ستينيات القرن الماضي وما بعد ليسوا شيوعيين على الإطلاق . إنقلبوا دون وعي منهم إلى أعداء للشيوعية كما هم يساريو العصر
مشروع لينين في الثورة الإشتراكية الدائمة الذي تفجّر بانتفاضة أكتوبر 1917 ثبت بالوقائع أنه الثورة الإشتراكية الدائمة التي استشرفها ماركس وإنجلز والعصية على الإلغاء أو الإبطال مهما كانت القوى المعادية . قراءة التاريخ كما هو منذ العام 53 وحتى اليوم تؤكد مثل هذه الحقيقة التي لا يعتورها أدنى اشتباه . تكفي الإشارة هنا إلى انعدام تواجد نظام إنتاج مستقر وثابت في أيٍ من بلدان العالم، لا في الصين ولا في الولايات المتحدة وهما عمودا "النظام" الدولي القائم . ثورة أكتوبر البلشفية نقلت العالم إلى مسار جديد هو مسار الإشتراكية وليس من مسار آخر متاحًاً سوى الفوضى الماثلة اليوم هرباً من استحقاق الإشتراكية .

في العام 1952 لدى انعقاد المؤتمر العام التاسع عشر للحزب بعد غياب الحزب أربعة عشر عاماً ليقرر الخطة الخمسية الخامسة التي كانت ستحول الإتجاد السوفياتي من دولة حرب تفوقت على ألمانيا النازية بقواها الحربية، وتعود به إلى دولة مدنية اشتراكية وتجعل من الإتحاد السوفياتي في العام 55 أغنى دولة في الأرض ؛ في تلك الأثناء لم تكن إمتيازات مشروع لينين في الثورة الإشتراكية العالمية موضع تساؤل فكان حتى ونستون تشيرتشل أن بشّر ستالين في مؤتمر يالطا 1945 بأن شعوب بريطانيا تقديراً منها للنظام السوفياتي ستنتخب حزب العمال اليساري ضد حزب المحافظين بقيادة تشيرتشل، وبدا أن الخبر لم يعجب ستالين لعلمه المسبق أن الرجل الثاني في حزب العمال وهو ارنست بيفن (Ernest Bvin) كان عميلاً مأجوراً لمكتب التحقيقات الفدرالي الأمريكي وأن حزب العمال اليساري بات على يمين تشيرتشل وحزب المحافظين فما كان من الرئيس روزفلت إلا أن تساءل غامزا .. "لماذا لا يعجبك ذلك يا رفيق ستالين !؟
تكفي الإشارة في هذا السياق إلى أن الدول الرأسمالية الكبرى الثلاث تحولت في الحرب العالمية الثانية إلى دول حرب بقدر استطاعتها لكن مجموع قواها الحربية لم تعادل ربع قوى دولة الحرب التي تحول إليها الإتحاد السوفياتي ولذلك كان له الفضل الكبير في حماية الدول الرأسمالية الكبرى الثلاث من النازية الهتلرية والكميكازية اليابانية .

الأفكار السقيمة التي تشكلت منها "إيديولوجيا" اليسار بمختلف أطيافه إن هي إلا تلك الأكاذيب الواردة في خطاب خروشتشوف السري سيء الذكر المنسوب زوراً لأعمال المؤتمر العشرين في العام 56 للحزب الذي ادعى أن الدولة السوفياتية لم تكن اشتراكية بقيادة ستالين ولم تكن ديموقراطية، بل دولة بناها بالحديد والنار مجرم طاعية ودكتاتور دموي هو ستالين.