خفايا الإنقلاب على الإشتراكية السوفياتية (4)


فؤاد النمري
الحوار المتمدن - العدد: 6990 - 2021 / 8 / 16 - 19:18
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية     

خفايا الإنقلاب على الإشتراكية السوفياتية (4)

شرع ستالين بإطلاق ثورته الإشتراكية الثانية، أو الثورة التي تستعيد النظام الإشتراكي الذي كان قد فرمته جنازير الدبابات الهتلرية من جهة والسوفياتية من جهة أخرى، بدأ بتطبيق الخطة الخمسية الخامسة التي قضت بالتحول من الصناعات الحربية الثقيلة إلى الصناعات المدنية الخفيفة وليكون الإتحاد السوفيات في العام 1955 أغنى دولة في الأرض . وقرن ذلك بتغيير قيادة الحزب القديمة يقيادة شابة جدديدة يأخذها الحماس لفكرة الشيوعية . تلكم كانت مواضيع مؤتمر الحزب التاسع عشر في أكتوبر 1952 .
وافق المؤتمر على الخطة الخمسية لكنه رفض إقتراح ستالين بتغيير القيادة وهو ما تسبب بانحراف عربة التاريخ بعيداً عن سكة الشيوعية وصولاً إلى الفوضى التي يعاني منها عالم اليوم .

في 5 مارس 53 أعلنت وفاة ستالين وفي صباح 6 مارس إجتمع أعضاء المكتب السياسي السبعة الذين أصر ستالين على إزاحتهم من القيادة وقرروا إبطال انتخاب الأعضاء الإثني عشر الذين أصر ستالين على انتخابهم في مؤتمر الحزب العام كأعضاء في المكتب السياسي درءاً للأخطار الجدية التي أحاقت بالثورة كما أكد ستالين . قرار العجزة السبعة كان مخالفة قانونية وخيانة لتقاليد الحزب الشيوعي كما أن قرارات المؤتمر العام للحزب لا تقبل المراجعة وإعادة النظر .
شهادة ستالين في مؤتمر الحزب العام بأن أعضاء القيادة العجزة لم يعودوا على مستوى المسائل المطروحة على الإتحاد السوفياتي ومستقبل الثورة الشيوعية،
مثل هذه الحقيقة الحاسمة في تقرير مستقبل البلاد لم تفت قيادة الجيش التي سرعان ما قبضت على كل السلطة حال رحيل ستالين وجعلت من الحزب كراكوزاً خيوطه في قبضة العسكر خاصة وأن الحزب كان قد بات في بنية متهالكة بفعل الحرب .
في سبتمبر 53 أرغم الجيش قيادة الحزب ممثلة بلجنته المركزية أن تقرر إلغاء الخطة الخمسية لأنها "توهن وسائل الدفاع عن الوطن" كما سمعت أنا نفسي نص القرار من راديو موسكو آنذاك . أعضا اللجنة المركزية كانوا يعلمون حق العلم يأنه لا يحق لهم أن يلغوا قرارات كان قد اتخذها المؤتمر العام للحزب . كان ذلك بمثابة الإنقلاب العميق على الإشتراكية من أجل الإنصراف إلى التسلح، التسلح ليس لمواجهة الأعداء إذ كان مجمل الأعداء في حلف شمال الأطلسي محل سخرية وازدراء من قبل ستالين في العام 49 حتى قبل أن يمتلك الإتحاد السوفياتي القنبلة الذرية، بل لمواجهة القوى الإشتراكية الأمر الذي لم يفهمه الأمريكان وقد اعتبروه سباقاً للتسلح . مَن فرض سياسة سباق التسلح هو الإتحاد السوفياتي وليس الولايات المتحدة خلافاً لما يعتقد عامة المراقبين – كان بفوت علينا نحن شيوعيي الخمسينيات أن صناعة الأسلحة ليست صناعة رأسماية . الإتحاد السوفياتي انقلب ليكون مصنعاً للأسلحة وأعلنت وزارة الدفاع الروسية أنها جربت في سوريا 200 سلاحاً جديداً خلال سنتين فقط .

ليس إلا من قبيل الإحساس بفظاعة الجريمة وهي الإنقلاب على الإشتراكية وإنكار كل التضحيات الهائلة وخاصة في الحرب الأهلية 1918 – 1921 وفي الحرب العالمية الثانية من أجل بناء الإشتراكية التي تكبدتها شعوب الإتحاد السوفياتي، لمثل هذا الإحساس ظل شبح ستالين يطارد العسكر ليل نهار ويملؤهم رعباً خشية أن ينجح الستالينيون في أن يعطلوا الإنقلاب، فكان أن كلفوا أحد المعادين للإشتراكية لأن يدبّج خطاباً يدين ستالين والنظام الإشتراكي باعتباره غير ديموقراطي وأقيم بالقمع وبالحديد والنار وأعطوا ذلك الخطاب المسموم لخروشتشوف من أجل إلقائه على مؤتمر الحزب العشرين في مارس 56 . خروشتشوف لم يجرؤ على كشف الخطاب لأعضاء المكتب السياسي لأنهم لن يوافقوا على كلمة فيه ولن يسطيع بالتالي إلقاءه في المؤتمر . وهكذا احتال خروشتشوف على الحزب وعلى العسكر فكان بعد انتها المؤتمر أن طلب خروشتشوف من المسؤولين عن تنظيم المؤتمرعقد اجتماع خاص ليتحدث فيه . وافق المسؤولون على الطلب دون أن يعلموا شيئاً عن موضوع الحديث . ما زال ذلك الخطاب الرجعي المعادي للشيوعية يعتبر من أعمال المؤتمر العشرين وهو ليس كذلك وما زال ذلك الخطاب الكسموم هو السلاح الأمضى في مقاومة الشيوعية وحتى الأحزاب الشيوعية تأخذ به .

بعد أن فعل خروشتشوف ما فعل في محاولته الحقيرة لتحطيم إيقونة ستالين الممجد بالشيوعية أخذ يشعر بالنفور والعزلة بين صفوف وكوادر الحزب فكان أن عالج ذلك بإقتراح برنامج لإصلاح الزراعة تحت عنوان "إصلاح الأراضي البكر والبور" طالما أن الجيش يمنع التنمية الصناعية وكان المؤتمر العشرين سيء الذكر للحزب هو أول مؤتمر يخلو من إقتراح خطة خماسية منذ العام 1928 فالإنفاق كان مكرساً بكليته للتسلح منذ الإنقلاب عام 53 وهو ما كانت تشكو منه وزارة الخارجية الأمريكية في تقرير سنوي . مراجعة خطة خروشتشوف الزراعية في مذكراته تدهش المراجع كيف لمثل هذا الأخرق يصل لأن يكون الأمين العام للحزب الشيوعي حزب لينين وستالين حتى ليكاد المرء يكفر بالنظام السوفياتي لولا أن وصول خروشتشوف لمركز القيادة كان قد تم عبر مؤامرات خيانية وكان تعيينه في مركز الأمين العام من فبل الجيش وليس عبر انتخابات حزبية كما الأصل .
إزاء طرح المشروع الزراعي الأخرق على المكتب السباسي في اجتماعه في أواسط يونيو 57 طُرح إقتراح سحب الثقة من خروشتشوف فكان أن وافق على الإقتراح سبعة أعضا ومعارضة إثنين فقط وهما خروشتشوف وميكويان وهو ما رتب سقوط خروشتشوف كأمين عام للحزب . كان يحضر الجلسة الماريشال جوكوف كمرشح للمكتب السياسي يمنع عليه الكلام والتصويت لكنه خرق القواعد وصاح مستنكرا "الجيش لن يوافق على هذا" وهذا دلالة قاطعة على أن الحزب كان قد فقد كل السلطة منذ العام 53 حين كان جوكوف مرذولاً في بيته بعد إدانته بجرم السرقة أما بعد الإنقلاب وتعيين خروشتشوف أمينا عاماً للحزب فقد أعيد تاهيل جوكوف وتعيينه وزيراً للدفاع ومرشحاً لعضوية المكتب السياسي . منع الجيش إعلان سحب الثقة وفي اليوم النالي نظم جوكوف انفلاباً عسكريا انتهى إلى طرد الأعضا السبعة الذين أيدوا سحب الثقة من المكتب السياسي وبعضهم من الحزب أيضا .

في العام 59 وقد أحسّ خروتشوف بعزلته داخل الحزب دعا إلى مؤتمر استثنائي للحزب هو المؤتمر الحادي والعشرون . ومن الظاهر أن خروشتشوف كان قد قايض الجيش بأن يسمحوا له بإطراء ستالين ويعلن برنامج تنمية سباعي دون أدنى اعتمادات مالية فكل الأموال مكرسة للتسلح مقابل أن يعلن إبطال المبدأ اللينيني القائل بالوحدة العضوية للثورة الإشتراكية وثورة التحرر الوطني .
إفتتح خروشتشوف المؤتمر الحادي والعشرين للحزب في يناير 59 يقول .. "تجح حزبنا بقيادة ستالين لفترة طويلة في أن يتغلب على سائر الأعداء وبنى لنا دولة اشتراكية عظمى نعتز بها"، وأعلن عن خطة تنمية سباعية خالية من الأرقام ومن الأموال . مقابل ذلك أعلن قرار الحزب برسم خط فاصل بين الثورة الإشتراكية وثورة التحرر الوطني التي يقودها أحياناً مغامرون يجلبون للإتحاد السوفياتي متاعب هو في غنى عنها، كما ادعى خروشتشوف .
الولايات المتحدة المكلفة بمحاربة الشيوعية منذ إعتلاء مجرم الحرب هاري ترومان سدة الرئاسة استقبلت قرار خروشتشوف بالكف عن تأمين حركة التحرر الوطني بفرح غامر وهدية غير متوقعة وهوما ميّز عقد الستينيات بعشرات الإنقلابات العسكرية في الدول المستقلة حديثاً واصطفافها في صف الولايات المتخدة في الحرب على الشيوعية وفقد مئات ألوف الشيوعيين حياتهم في أندونيسيا والعراق ودول أمريكا اللاتينية وصولا لمساهمة الاتحاد السوفياتي في هزيمة ناصر في حرب 67 .

وأخيراً قرر العسكر الروس ألا يدخل الإتحاد السوفياتي عقد الستينيات من القرن العشرين وفيه أثر من الشيوعية ولم يجرؤ خرشتشوف وعصابته في الحزب أن تعارض القرار فكان المؤتمر العام الثاني والعشرون للحزب الشيوعي السوفياتي في أكتوبر 1961 التصفية النهائية لكل أثر للإشتراكية السوفياتية بدءاً بتفكيك دولة دكتاتورية البروليتاريا التي هي الشرط المسبق للإشتراكية واستبدالها بما أسماه المؤتمر "دولة الشعب كله" وهو العنوان العريض لقطع الطريق على الإشتراكية . وبلغ مندوبو المؤتمر قمة الإنحطاط البورجوازي إذ قرروا الإستقلال المالي لمختلف مؤسسات الإنتاج وهو ما يعني أن تمتلك إدارة المؤسسة إنتاج المؤسسة ولها حق التصرف فيه بما يحقق المرابحة التي أجازها المؤتمر .

كيف بعد كل هذا أن يدعي أحدهم بأن الإتحاد السوفياتي ما زال إشتراكياً !!؟
في العام 1965 أكدت لقيادة الحزب الشيوعي الأردني أن الإتحاد السوفياتي بات معادياً للشيوعية وكنت أكدت لرفاقي في السجن في العام 1963 أن الإتحاد السوفياتي سينهار في العام 1990 وتركت الحزب ,
ما انهار في العام 1991 ليس الإتحاد السوفياتي الشيوعي بل الإتحاد السوفياتي المعادي للشيوعية .