أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - جواد بشارة - هل هي حقاً مبادرة الفرصة الأخيرة؟















المزيد.....


هل هي حقاً مبادرة الفرصة الأخيرة؟


جواد بشارة
كاتب ومحلل سياسي وباحث علمي في مجال الكوسمولوجيا وناقد سينمائي وإعلامي

(Bashara Jawad)


الحوار المتمدن-العدد: 1622 - 2006 / 7 / 25 - 12:01
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


كلما وصل مسؤول أمريكي رفيع المستوى في زيارة مفاجئة إلى العراق تنطلق الأقلام والحناجر لتسطّر لنا سيلا لايعد ولايحصى من الاحتمالات والفرضيات والتكهنات وكان آخرها وليس أخيرها الزيارة المفاجئة التي قام بها وزير الدفاع الأمريكي دونالد رامسفليد إلى بغداد قادماً من أفغانستان يوم الأربعاء 12تموز 2006 بدون سابق إنذار أو إذن ـ بلا إحم ولا دستور كما يقول المثل الشعبي ـ في وقت عاشت فيه العاصمة العراقية ومازالت تعيش تصاعداً لم يسبق له مثيل في عمليات العنف والإقتتال الطائفي إذ يدفع سكانها ثمن التفاقم الخطير في استمرار نزيف الدم والمواجهات الطائفية التي باتت معلنة بين متطرفين من السنة والشيعة على السواء في ظل تبادل علني للاتهامات والتهديدات اللفظية والإعلامية بين بعض قادة الإئتلاف العراقي الموحد ، الشيعي في غالبيته العظمى، وهيئة علماء المسلمين ، السنية في تركيبتها الأساسية، وبعض من يدور حولها من القوى السنية المشاركة في العملية السياسية كجبهة التوافق العراقية وجبهة الحوار الوطني، وصار بعض الزعماء يشيرون بأصابع الإتهام وبالإسم إلى حارث الضاري وإبنه مثنى حارث الضاري والشيخ الكبيسي والشيخ الفيضي وغيرهم وهؤلاء بدورهم يوجهون ذات الإتهامات لخصومهم وينعتونهم بأبشع الصفات والإتهامات ويشيرون بالإسم إلى مقتدى الصدر وعبد العزيز الحكيم وعمار الحكيم وهادي العامري وغيرهم من قادة المجلس الإعلى للثورة الإسلامية ومنظمة بدر وجيش المهدي والتيار الصدري ككل .يدور هذا المشهد المأساوي الخطير أمام مرأى ومسمع وعجز قوات الاحتلال الأمريكية والبريطانية عن التدخل أو عدم رغبتها في ذلك كما هو حال القوات العراقية المخترقة في الجيش والشرطة وقوات الأمن والاستخبارات الحديثة المنشأ والتابعة لوزارتي الدفاع والداخلية حيث بات واضحاً أن تلك القوات العراقية غير قادرة على احتواء الأزمة ووقف هذا التداعي الخطير في الموقف الأمني الذي توشح الآن بوشاح الحرب الأهلية ـ الطائفية البغيضة التي يدفع ثمنها المدنيون الأبرياء والعزّل من أبناء الطائفتين حيثما يتواجدون.
ردد سيد البنتاغون مزاعمه أن بلده عازم على إيجاد السبل الكفيلة بإعادة الهدوء والاستقرار للعراق ولكن يتعين أولاً على جميع الأطراف اللجوء إلى الحل السياسي وليس العسكري لحل الخلافات القائمة بينها لأن هذا هو الطريق الوحيدة لوقف دوامة العنف والقتل على الهوية . كما يعتقد وزير الدفاع الأمريكي أن على الحكومة العراقية ، التي يفترض بها أن تكون حكومة لكل العراقيين، أن تتصالح مع الأطراف السنية المناوئة أو المعارضة لها قبل أن تتصدى للميليشيات الشيعية المتمردة هي الأخرى على السلطة المركزية على حد تعبير رامسفيلد. وأضاف قائلاً : " عند ذلك يمكن للمسؤولين العراقيين استخدام القوة ضد المتمرسين على العنف والتمرد العسكري المسلح أي كانت إنتماءاتهم ،كما ذكر الوزير الأمريكي أن عدد القوات الأمريكية في بغداد ارتفع من 40 إلى 50 ألف عسكري، في حين يعتقد قائد القوات الأمريكية المحتلة في العراق الجنرال جورج كيسي إلى أن تفاقم موجة العنف وتحليل أسبابها ودوافعها يمكن فهمها من خلال القراءة التقليدية للحرب الشاملة ضد الإرهاب ، ووضع على مستوى واحد تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين الإرهابي وفرق الموت ـ الشيعية حسب زعمه ـ فالإثنان مسؤولان عن نسف وتعطيل العملية السياسية وتقويض الأمن في العاصمة العراقية، وقال بالحرف الواحد:" نواجه اليوم فرق الموت التي شكلها المتطرفون الشيعة الذين يقودون عمليات ثأرية وإنتقامية ضد المدنيين السنة مثلما يقوم المتطرفون السنة من التكفيريين وفلول النظام السابق بمهاجمة وذبح المدنيين الشيعة وبذلك تحول المدنيون الأبرياء إلى أهداف مفضلة لهجمات الجانبين وبات علينا أن نعمل باستمرار وبلا توقف على تكييف خططنا لملاحقة ومطاردة فرق الموت وأتباع الزرقاوي زعيم تنظيم القاعدة والجهاد في بلاد الرافدين الذي قتل في غارة جوية أمريكية في 7 حزيران وسوف نستمر في عملنا هذا " . وكذلك بدت الحكومة العراقية الحالية بدورها عاجزة عن وقف نزيف الدم بعد أن تجاوزتها الأحداث وعبثاً حاول رئيس الوزراء العراقي المنتخب نوري المالكي أن يهدئ الأوضاع أو أن يفرض هدنة على الأقل ولم يفلح بأخذ زمام المبادرة لذلك قام بتحذير جميع الأطراف من مغبة ماهم مقبلون على تنفيذه معرباً عن قلقه من إنفلات زمام الأمور من يد الحكومة والانزلاق في دوامة الحرب الأهلية ـ الطائفية الشاملة التي ستحرق الأخضر واليابس وصرّح أمام مجلس النوّاب في 12 تموز 2006 أن مبادرة المصالحة الوطنية هي الفرصة الأخيرة الباقية أمام العراقيين معترفاً بأن الشعب العراقي بات على قاب قوسين أو أدنى من حرب أهلية دامية إذا ما فشلت المبادرة ، واختتم قائلاً:" لا أدري ماذا سيكون عليه مصير العراق حينذاك" وعبّر عن حزنه وألمه على الضحايا المدنيين من الجانبين وعبر عن أسفه على استمرار أعمال العنف والخطف والقتل على الهوية بوتيرة عالية مكرراً عزمه على السيطرة على الموقف الأمني في العاصمة والمناطق الساخنة والمتأزمة لاسيما بعد ظهور تهديد جلي لتقسيم العاصمة بغداد والسيطرة على جانب الكرخ من قبل العناصر التكفيرية المتشددة وفصل ضفتي دجلة عن بعضهما، وسيعمل على حماية قوات الأمن والجيش من أي تأثير سياسي أو إختراق من جانب المليشيات المتمردة أو تلك التابعة لأحزاب سياسية معروفة لاسيما الشيعية منها التي تمنح ولائها لأحزابها وقادتها الحزبيين وليس للقادة العسكريين الرسميين وقد رحل السيد المالكي في جولة عربية ودولية للدفاع عن رؤيته هذه وطلب المساعدة من الدول الخليجية التي زارها ومن بريطانيا وأمريكا التي يزورها الآن. كما حذر سفير الولايات المتحدة الأمريكية في العراق زلماي خليل زادة من مخاطر نشوب حرب أهلية شاملة ومعلنة مع ما ينطوي عليها من عمليات تطهير عرقي وطائفي وديني :" فقبل عام كان هناك إرهابيون تكفيريون ومتمردون مسلحون يقاتلون قوات التحالف والقوات العراقية كأهداف أساسية ومفضلة لها مستغلة إنعدام الأمن وضعف الحكومة المركزية فيما بات الصراع الطائفي المسلح اليوم هو مصدر التهديد الرئيسي إلى جانب أعمال العنف القائمة أساساً بين القوى المذكورة آنفاً.
إن هذا التشخيص الطويل للواقع الميداني في العراق ضروري لفهم أسباب ودوافع وأهداف المأزق الذي دخله العراق في الوقت الحاضر والذي تقول المؤشرات أنه يقودنا حتما نحو التقسيم والتفتت. السبب الأول والجوهري لكل مآسي العراق قبل وبعد سقوط النظام المنهار هو سياسة الولايات المتحدة الأمريكية تجاه العراق منذ العام 1972 عندما قرر العراق تأميم النفط وهو الأمر الذي لم يرق للإدارة الأمريكية ودول الغرب عموماً، إذ خلق ذلك الحدث سابقة خطيرة قادت إلى أن يتجرأ العرب ولأول مرة على التفكير باستخدام النفط كسلاح، خاصة في حرب أكتوبر 1973، فقد خصصت واشنطن للعراق موقعاً خاصاً نظراً لطبيعة النظام الحاكم فيه وتقربه من الاتحاد السوفيتي آنذاك، فأعدت له الخطط والمشاريع الإجرامية بغض النظر عن نوع النظام الذي يقوده أو سيقوده في المستقبل . ولقد تتوجت تلك المخططات والمشاريع بثلاث مراحل خطيرة : الأولى عند دفعه لمهاجمة إيران وخوض حرب عبثية استنزفت قواه البشرية والاقتصادية والعسكرية أي المادية والمعنوية. والثانية عند إغرائه ودفعه لغزو الكويت ومن ثم معاقبته وطرده منها بالقوة للإجهاز على ماتبقى لديه من قوة وإخراجه من معادلة توازن القوى الشرق اوسطية كلاعب أساسي ومؤثر فيها ومن ثم أطبقت عليه حصاراً ظالماً وعقوبات قاسية ومدمرة للشعب العراقي الذي دفع ثمنها وحده باهظاً دون أن يتأثر بها النظام الحاكم. والثالثة غزو العراق وإطاحة النظام الديكتاتوري فيه وتحطيم ماتبقى لديه من بنى تحتية ونسيج اجتماعي متماسك وإحكام القبضة على نفطه وثرواته الطبيعية وكوادره البشرية . بيد أن حسابات واشنطن لم تكن دقيقة سيما لمرحلة مابعد الغزو والاحتلال حيث وجدت الولايات المتحدة نفسها تغوص في وحل ما سمي بالورطة العراقية التي أصبحت بمثابة العبء الأكبر الذي يثقل كاهل دافع الضرائب الأمريكي ناهيك عن تزايد أعداد القتلى الأمريكيين والذي بات يقترب من رقم 3000 قتيل إلى جانب آلاف الجرحى والمعوقين بعد أن كان الرئيس الأمريكي قد تعهد لرجل الدين والواعظ الأنجليكي الشهير باث روبرتسون ، قبل شن الحرب ، بأنه لن يكون هناك أية ضحية أمريكي في المغامرة العراقية، والحال أن المعادلة أصبحت الآن هي كيف يمكن تبرير التضحيات والقتلى والجرحى والمليارات التي أنفقت وستنفق أو تسرق في هذه الحملة العراقية العبثية التي كشفت عن عجز أمريكا عن مواجهة الإرهاب وجلب الأمان والرخاء والازدهار والحربة والديموقراطية للعراق وجعله الأنموذج الأفضل الذي ينبغي أن يحتذى في خارطة الشرق الأوسط الكبير أو الشرق الأوسط الجديد.
لقد اضمحلت الفكرة التي كانت راسخة في أذهان المواطن الأمريكي عن وجود علاقة جدلية أو شبهة بديهية بين الحملة على العراق ومكافحة الإرهاب الدولي فلم يعد هناك من يصدق بهذه الكذبة بل أن الوضع المعاكس هو الذي ترسخ أي أن غزو العراق كان أحد الأسباب الرئيسية في انتعاش الأعمال الإرهابية ووفر ملاذاً آمناً وملائماً جديداً للإرهابيين الذي فروا من أفغانستان ووجدوا بديلاً له في العراق . ويبدو أن أمريكا كانت تعتقد بغباء ودناءة أنها يمكن أن تستدرج الإرهابيين التكفيريين والمتطرفين الإسلامويين إلى العراق ومن ثم تحويل أرض الرافدين إلى مقبرة لهم ولكن العكس هو الذي حدث . فبعد أن كان 46 بالمائة من الأمريكيين يصدق أن الحرب على العراق فعّالة ومؤثرة في سياق محاربة الإرهاب العالمي لم يعد هناك سوى 10 بالمائة فقط ممن يعتقدون بهذه الأطروحة. وبدا أن 90 بالمائة يعتقدون أن الحرب في العراق هي التي تغذي الإرهاب الدولي وتوسعه وتجذب الشباب العقائدي للإنخراط في صفوف الإرهابيين والتكفيريين الذين يسمون أنفسهم بالجهاديين ويصدقهم العامة من المسلمين السذج. وبعد أن كان 72 بالمائة من الأمريكيين يصدق بأن صدام حسين يمتلك أسلحة تدمير شامل لم يعد بذلك سوى 12 بالمائة في حين لم يعد أحد يصدق مسلمة أن صدام حسين كان يساعد ويساند ويدعم ويموّل ويدرب عناصر من تنظيم القاعدة الذي يقوده أسامة بن لادن وتفشى شعور بالمرارة بين صفوف الرأي العام الأمريكي الذي تيقّن الآن بأن جورج بوش الإبن أهمل هدف محاربة الإرهاب الذي أعلنه في أعقاب أحداث الحادي عشر من أيلول، وانزلق برجليه إلى الفخ العراقي الذي أوقعه فيه مساعدوه من المحافظين الجدد، فقد كشفت صحيفة الواشنطن بوست أن وكالة المخابرات المركزية الأمريكية سي آي أ اضطرت إلى تخفيض عدد عملائها في أفغانستان في آذار 2002 وهي في أوج عملية مطاردة أسامة بن لادن وتعقّبه بغية تكريس جهودها للمغامرة العراقية الفاشلة وبالتالي فإن فكرة بأن الحرب على العراق هي التي أنعشت الإرهاب ووفّرت له الذرائع لم تعد هرطقة أوروبية أو هذيان فرنسي كما كان يعتقد الشارع الأمريكي في باديء الأمر ومعه العديد من المسؤولين الأمريكيين الكبار فها هو الجنرال المتقاعد والمسؤول عن مكتب مكافحة الإرهاب في البيت الأبيض بين ايلول 2001 و حزيران 2002 واين دوانينغ يصرّح لصحيفة الواشنطن بوست قائلاً :" لقد نجح أسامة بن لادن في إقناع العالم الإسلامي بأن الولايات المتحدة الأمريكية هي العدو الأول والمشترك بينما لم نفعل نحن شيئاً لمكافحة هذا الشعور ودحضه وهنا يكمن إخفاقنا الكبير" . فإلى متى ستبقى أمريكا تخوض حرباً بلا قضية بعد أن تهاوت الذرائع والحجج والمبررات التي أعلنتها واتضح زيفها لاسيما أسلحة التدمير الشامل والعلاقة بين صدام والقاعدة وحماية الشعب العراقي من بطش الديكتاتورية الصدامية ونشر الديموقراطية وحقوق الإنسان إذ أن ما يسود في العراق اليوم هو الفوضى العارمة والفلتان الأمني وانتهاكات خطيرة في كل لحظة لبسط حقوق الإنسان والحرب الأهلية والتطهير الطائفي والنزوح السكاني الداخلي لآلاف العائلات السنية والشيعية وهجرة الأدمغة والكفاءات العراقية وهروب الطبقة الوسطى أي تفاقم حرب مسعورة لم تتمكن الولايات المتحدة الأمريكية من احتواءها ولن تتمكن من السيطرة عليها إلا بزيادة هائلة لقواتها المتواجدة على الأرض .وكان سيء الصيت بول بريمر الحاكم المدني الأمريكي السابق في العراق قد أثار حفيظة البيت الأبيض عندما صرّح لوسائل الإعلام بأنه كان طالب بلا طائل تحقيق زيادة مهمة وملموسة في عدد القوات الأمريكية على أرض الميدان لكن وزير الدفاع رامسفيلد والقادة الميدانيون رفضوا ذلك الاقتراح والحال بات من الصعب جداً إن لم نقل من المستحيل إحتواء الأوضاع المتدهورة في العراق فضلاً عن السيطرة عليها وإخمادها. فهذا أمر مستحيل تحقيقه مع 134000 جندي فقط مما شجع القوى المسلحة المتمردة على خوض حرب استنزاف والسيطرة على مناطق واسعة من العراق ومنها ما هو موجود حتى داخل قلب العاصمة العراقية بغداد بعد أن استعادت أنفاسها وإعادة ترتيب نفسها وتنظيم صفوفها وتوفير الدعم المالي واللوجستي والتسليحي لعملياتها مما حدّ من دور الحكومة وفعّاليتها واقتصر وجود هذه الأخيرة على المنطقة الخضراء بينما تفلت من يدها محافظات كاملة ومدن وقرى كثيرة وبالذات في الليل كما هو الحال في الأنبار وصلاح الدين والموصل وكركوك وديالى بمدنها وأقضيتها ونواحيها وقراها وباتت أسماء مناطق كثيرة تتمتع بالشهرة في جميع أنحاء العالم كالرمادي والفلوجة وحديثة والقائم والمدائن وبعقوبة وسامراء والحويجة واللطيفية واليوسفية وهيت الخ حيث تصاعدت في كل هذه المدن والمناطق وتيرة الاستقطاب الطائفي والخوف من الآخر . وهكذا أوصل الاحتلال العراق إلى وضع شاذ وخطير يقف على حافة التقسيم والتشرذم وتفكك مؤسسات الدولة المركزية وعجزها عن الإمساك بزمام الأمور والسيطرة على الأوضاع . نفس الشيء يمكن أن يقال عن الجيش الأمريكي الذي صار يعاني صعوبات في التعبئة ونقص خطير في الأعداد المؤهلة للقتال ولم ينس الشعب الأمريكي بعد أن أكثر من 50000 من أبناءه سقطوا قتلى في فيتنام ولم ينس الزعماء دروس فيتنام بهذه السرعة حتى أن رامسفيلد وعد بعد سقوط نظام صدام حسين بعودة القوات الأمريكية إلى بلدها بأقصى سرعة ممكنة فهل نسي الأمريكيون أن وزير الدفاع الأمريكي الأسبق روبيرت ماكنامارا كان قد قطع على نفسه وعداً مماثلاً سنة 1965 لكنه لم يف بوعده وبقيت القوات الأمريكية متورطة في الجحيم الفيتنامي لمدة عشر سنوات ؟ وقد كتب مانامارا بنفسه بعد عقد من الزمان في كتابه " مأساة فيتنام ودروسها" إنه ذهب إلى فيتنام وهو يجهل كل شيء عن ثقافتها وتاريخها وكان ذلك خطأ فادحاً" ألا ينطبق ذلك على العراق ووعود رامسفيلد فيه وهو الذي اعترف أيضاً أنه يجهل كل شيء عن بلاد الرافدين؟
الطرف الثاني المسبب لمأساة العراق الحالية بعد الاحتلال هو القوى السياسية المتصارعة على السلطة التي طغت عليها الأنانية والمصالح الذاتية على حساب المصالح الوطنية وضاع العراق بين الديموقراطية الطوباوية والثيوقراطية الواقعية. لم يتحقق الأمن الموعود في العاصمة العراقية بغداد وباقي المدن والمناطق الساخنة في جميع أرجاء الوطن بالرغم من الوعود والتعهدات والخطط الأمنية التي طبّلت لها وسائل الإعلام ولم نر منها سوى الأسماء والعناوين كما هو حال مبادرة المصالحة الوطنية التي لاتزال حبراً على ورق. فمهما كان نوع السلاح المحمول وعدد الحماية الخاصة للشخصيات البارزة لا يوجد أحد بمنأى عن خطر القتل والاغتيال والخطف والتفجير وخير دليل على ذلك خطف النائبة عن جبهة التوافق السنية تيسير المشهداني في الأول من تموز والتي لاندري إن كانت حقيقية أم تمثيلية مقصودة لأغراض سياسية ودعائية ، وكذلك خطف وكيل وزارة الكهرباء وحراسه رعد الحارس في الرابع من تموز وحدثت عمليات الخطف في وضح النهار بالرغم من انتشار قوات الجيش والشرطة العراقية بكثافة ومعها أعداد هائلة من قوات الاحتلال الأمريكي إلى جانب آلاف من المسلحين التابعين لميليشيات كجيش المهدي التي تجوب بغداد وتسيطر على أغلب أحيائها وسط سيل من الاتهامات الطائفية المتبادلة علناً عبر وسائل الإعلام . وقد تم إطلاق سراح وكيل وزارة الكهرباء بعد ساعات من خطفه وسبعة من حراسه في أعقاب صفقة سرية لم تعرف تفاصيلها بعد بينما لايزال التيار الكهربائي غائباً عن العاصمة العراقية وباقي مدن العراق ولايصل منه سوى أربع ساعات فقط خلال أربع وعشرين ساعة أي ساعة كهرباء مقابل خمسة ساعات انقطاع للتيار بينما تصل درجة الحرارة في الظل إلى 75 درجة مئوية . أما الواقع اليومي للجحيم العراقي فقد عبرت عنه الصحافة البغدادية والتي قالت أن البلد يقف على حافة الهاوية فالخراب والموت والعنف والقتل والخطف والتعذيب ظواهر تنتشر في الشوارع والأحياء وتحول العراق إلى ما يشبه الغابة حيث يفترس القوي الضعيف واختفت مباديء المروء والتسامح ومباديء الجوار والتضامن وسط أجواء المجابهة الطائفية إلى درجة أن عدد كبير من المواطنين صار يتمنى الخلاص من هذا الجحيم ولو بثمن التقسيم إلى ثلاث دويلات أو حتى عشرة إذا استدعى الأمر للهروب من الموت المحقق المتربص بالجميع في كل زاوية وكل لحظة. وبهذا يكون الأمريكيون والبريطانيون والسياسيون العراقيون قد قادوا البلد إلى مثل هذه الخيارات المؤلمة إذ أصبحت أخبث وأسوء وأفضع الخيارات مقبولة وليس هناك أسوء من التفتيت والتقسيم وغياب الحكومة المركزية وعجزها عن وضع حد لهذه الظواهر الخطيرة ووقف الانحدار نحو الفوضى التامة والشاملة والفتنة التي ستأكل الأخضر واليابس . فالحكومة تتمترس خلف أسوار المنطقة الخضراء مع وزراء بالإسم ونواب لايبحثون سوى عن امتيازاتهم وحمايتهم ورواتبهم العالية ومساكن مرفهة ومحمية ويفتقدون لأي تواصل عملي ملموس مع مختلف فئات الشعب التي انتخبتهم لتلك المواقع . هذه هي باختصار الصورة التي ترسمها الصحافة العراقية التي تركز على ظاهرة سيطرة وهيمنة القوى السياسية الدينية والجماعات الإسلاموية المتطرفة والمتشددة على الشارع العراقي ومؤسساته المدنية والتربوية من الطائفتين السنية والشيعية كلّ في مناطق نفوذها وتهميش العلمانيين والليبراليين والديموقراطيين المعتدلين . وعلى صعيد طغيان الثيوقراطية على إيقاع الواقع الحياتي تأتي ظاهرة دعوة أئمة الجوامع السنية لجنود وضباط الجيش العراقي المنحل إلى التطوع لتشكيل جيش الأحياء كجيش الأعظمية وجيش الدورة للدفاع عن الأحياء السنية من هجمات الميليشيات الشيعية كما حصل مع نداء الشيخ أحمد طه السامرائي الذي دعا إلى تشكيل جيش الأعظمية وبالمقابل دعوة أئمة وخطباء المساجد الشيعية لتشكيل لجان الدفاع الشعبية لحماية الأحياء الشيعية من هجمات الإرهابيين التكفيريين من السنة وهذه هي أبرز مظاهر الحرب الأهلية ـ الطائفية التي لن يفلت منها العراق إذا استمرت الأوضاع في التأزم والتفاقم الحاد . فالقوى الدينية ، بمختلف مشاربها وانتماءاتها، تعمل على فرض أعراف وقيم اجتماعية قسرية تحت غطاء تطبيق الشريعة الإسلامية حرفياً فتعمل على فرض الحجاب بالقوة والتهديد ومنع المرأة من ارتداء البنطلون والخروج سافرة وقيادة السيارة والسفر بدون محرم وفصل الجنسين في الجامعات وغلق صالونات الحلاقة ومحلات بيع الاسطوانات الموسيقية والسينمائية وتكريس ثقافة التدين بالقوة ومحاولة فرض النظام الثيوقراطي المؤدلج دينياً على حساب النظام الديموقراطي العلماني المنفتح على العالم والمتعدد الاتجاهات والاجتهادات ويحدث ذلك بتشجيع أو صمت رجال الدين والمراجع الدينية العليا في الطائفتين السنية والشيعية على السواء حتى تلك التي لا تؤمن بولاية الفقيه إلا أنها لاتحبذ الدول المدنية .
هناك بعض القوى الدينية الشيعية في العراق تحلم بنقل وتطبيق النموذج الإيراني في العراق أو على الأقل في الجزء الجنوبي منه ذو الأغلبية الشيعية وهم يرتبطون بإيران استراتيجياً وايديولوجياً ومالياً وعسكرياً وتسليحياً ومنهم من لاينكر ذلك بل يفتخر به بينما يحاول البعض الآخر الاحتفاظ بمسافة مع إيران ظاهرياً أو علنياً لكنهم مرتبطون بها على نحو أو آخر كالتيار الصدري مثلاً وهناك التيار الخالصي الذي لايختلف عن غيره سوى بالوسائل والطرق التي يسلكها لتطبيق مبادئه وبرامجه. أما في صفوف أهل السنة فهناك تياران متميزان هما المتشدد التكفيري والمعتدل الوسطي. الأول يتمثل بالخط التكفيري العنيف الذي يستخدم الإرهاب وسيلة لفرض رؤيته لإقامة الإمارة الإسلامية على غرار إمارة طاليان في افغانستان سابقاً وهم وهابيون في غالبيتهم الساحقة ، وهناك التيار الوسطي العلني كالحزب الإسلامي وهيئة علماء المسلمين وجبهة التوافق العراقية الذين يحلم جزء منهم بإقامة الحكومة الدينية السنية على غرار النظام السعودي لو توفرت لهم الظروف ويفرضون ذات الثقافة الاجتماعية المتدينة بالقوى في المناطق التي يسيطرون عليها . فالطرف الأول يريد فرض الشريعة بالحديد والنار من أجل إقامة الخلافة الإسلامية إنطلاقاً من العراق مع أهدافها التوسعية بينما لايعارض التيار المعتدل الثاني من أهل السنة أسلمة المجتمع من القاعدة إلى القمة وفرض مظاهر وسلوكيات التديّن القسري، والحال أن الاتجاه الديني بشقيه الشيعي والسني هو المسيطر حالياً على مفاصل السلطة السياسية والمجتمعية سواء كانت تلك القوى موجودة داخل اللعبة السياسية أم خارجها ووسطهم يقف المواطن العراقي العلماني مهزوم العزيمة خائر القوى لاحول له ولا قوة يحاول أغلب أفراد هذه الفئة الهجرة والفرار إلى خارج العراق للهروب من المجتمع التقليدي واللجوء إلى فضاءات أخرى أكثر حرية وانفتاحاً في أول فرصة تتوفر لهم لأن الأوضاع النفسية والمعيشية لم تعد تطاق ولايمكن لهم العيش تحت سياط الاستبداد الطائفي . وكما كتب أحدهم هذه المرثية الحزينة وهو يقول بالحرف الواحد:" سقط الشارع العراقي بيد الجهلة والمتخلفين والمجرمين وأرباب السوابق المحترفين وقطاع الطرق والميليشيات المسلحة خالية الضمير وساد الخوف والعنف على رقاب الجميع الذين يعيشون هاجس القتل والتعذيب والاختطاف والقتل على يد عصابات ساديّة تمارس نزعاتها العدوانية ضد الأبرياء بعد أن جرّدوا أنفسهم من وخز الضمير وراحوا يمارسون لعبة الموت المجاني ضد أبناء الشعب " فما هو الحل؟ ينبغي تحقيق الخطوة الأولى بجدّية في تغيير أطراف معادلة الخوف وترهيب الإرهابيين أيّ كان انتماؤهم الديني والمذهبي على يد قوة وطنية محايدة ومخلصة للوطن وحده ولديها سلطات حقيقية واسعة وسيادة حقيقية لا تخضع لتوجيهات وضغوطات وقرارات جيش الاحتلال بل تتبع توجيهات وأوامر جبهة الخلاص الوطني التي يجب أن تتشكل من جميع القوى السياسية النزيهة غير الملوثة بالفساد والتبعية والدماء البرية للمواطنين.



#جواد_بشارة (هاشتاغ)       Bashara_Jawad#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- دردمات سعد سلمان تشريح لمأساة وطن إسمه العراق
- العراق: هل وصلنا نقطة اللاعودة؟
- أمريكا وإيران : الشرارة التي قد لاتنطفيء
- العراق: هل سيكون كعب آشيل بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية ...
- أمريكا والشرق الأوسط : نهب العراق وإيران والسعودية والخافي أ ...
- ما أشبه اليوم بالأمس هل دقت ساعة إيران بعد العراق؟
- العراق : بعد ثلاث سنوات من السقوط هل حان وقت تقديم الحسابات؟
- ماذا يخبيء لنا الغد في العراق؟
- العراق: تشاؤم أم تفاؤل؟
- العراق وأمريكا: إنعطافة تاريخية؟
- حكومة وحدة وطنية أم حكومة إستحقاقات انتخابية رسالة إلى رئيس ...
- من سيحكم العراق؟
- إلى أين يسير العراق... نحو الهاوية أم باتجاه نهاية النفق؟
- التهميش الاجتماعي أبعاد الظاهرة ودلالالتها
- العراق: تحديات الأيام المقبلة الدستور،المحاكمة،الانتخابات، و ...
- قراءة في كتاب: المذبحة تحت المجهر «الهولوكوست
- جورج دبليو بوش رئيس مسكون بلعنة العراق
- أمريكا ومعضلة دول محور الشر
- الاستقطابات المميتة في العراق
- المعلن والمخفي في السياسة العراقية


المزيد.....




- سموتريتش يهاجم نتنياهو ويصف المقترح المصري لهدنة في غزة بـ-ا ...
- اكتشاف آثار جانبية خطيرة لعلاجات يعتمدها مرضى الخرف
- الصين تدعو للتعاون النشط مع روسيا في قضية الهجوم الإرهابي عل ...
- البنتاغون يرفض التعليق على سحب دبابات -أبرامز- من ميدان القت ...
- الإفراج عن أشهر -قاتلة- في بريطانيا
- -وعدته بممارسة الجنس-.. معلمة تعترف بقتل عشيقها -الخائن- ودف ...
- مسؤول: الولايات المتحدة خسرت 3 طائرات مسيرة بالقرب من اليمن ...
- السعودية.. مقطع فيديو يوثق لحظة انفجار -قدر ضغط- في منزل وتس ...
- الحوثيون يعلنون استهداف سفينة نفط بريطانية وإسقاط مسيرة أمير ...
- 4 شهداء و30 مصابا في غارة إسرائيلية على منزل بمخيم النصيرات ...


المزيد.....

- في يوم العمَّال العالمي! / ادم عربي
- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - جواد بشارة - هل هي حقاً مبادرة الفرصة الأخيرة؟