أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - جواد بشارة - المعلن والمخفي في السياسة العراقية















المزيد.....



المعلن والمخفي في السياسة العراقية


جواد بشارة
كاتب ومحلل سياسي وباحث علمي في مجال الكوسمولوجيا وناقد سينمائي وإعلامي

(Bashara Jawad)


الحوار المتمدن-العدد: 1315 - 2005 / 9 / 12 - 10:45
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


عندما تتحدث وسائل الإعلام المكتوبة، والمرئية، والمسموعة، عن العراق تركز على الحوادث الأمنية وأعمال العنف والتفجيرات والاغتيالات، وتتعرض لتدهور الوضع الأمني والمعيشي للمواطنين، لكنها تترك المواطن العراقي في جهل تام عما يدور وراء الكواليس، فيما عدا حالات نادرة، تبادر فيها إحدى الصحف في الكشف عن سر تتناقله وسائل الإعلام الأخرى فيما بعد. ويصبح الخبر على كل لسان، لاسيما، من يسمون أنفسهم بالمحللين السياسيين على شاشات الفضائيات العربية . فلم يتطرق أحد لغاية اليوم إلى حدث قد يبدو عابرا في شكله الخارجي، بل وقد يعتبره البعض طبيعياً. بيد أنه ينذر بعاصفة جديدة قد تهب على العراق لاسمح الله في وقت قد لايكون بعيداً. فلقد تناقلت البيانات السرية الصادرة عن إدارات الجيش الأمريكي، وبالأخص شعبة المخابرات العسكرية في البنتاغون، أخباراً ومعلومات تدعو للقلق وتنذر بالأسوء إذا لم يحدث مايقف حائلا دونها. تقول المعلومات السرية لحد الآن، أن الزعيم الديني الشيعي الشاب، كما يسميه التقرير العسكري الأمريكي، أي مقتدى الصدر، يقوم حاليا باتصالات ومشاورات منتظمة، بغية التنسيق مع عدد من القادة المتمردين السنة، ممن يحملون السلاح ويمارسون أسلوب الكفاح المسلح ضد السلطة العراقية الحالية. وقد تناهت هذه المعلومات إلى أسماع المخابرات الفرنسية، بفضل عملية تسلل للمعلومات وصلتهم من زملاء لهم في المخابرات الأمريكية، أثارت فيهم القلق من هذه المعطيات الجديدة، التي قد تؤدي إلى تغيير الخطط العسكرية والاستراتيجية لقوات الاحتلال نظرا لما يتمتع به هذا الزعيم الشاب الراديكالي الجامح من شعبية وتعاطف داخل التجمعات الشيعية في العراق. حيث يبلغ تعداد الشيعة 65 بالمائة من مجموع السكان الكلي، ولديه أتباع مخلصين ومنضبطين وملتزمين بأوامره، فضلا عن كونهم مدججين بكافة أنواع الأسلحة. تجدر الإشارة إلى أن أنصار مقتدى الصدر يسيطرون فعليا على جامعة البصرة ثاني مدن العراق الجنوبية الكبرى، وعلى عدد من المستشفيات والمساجد في العديد من المدن، كما يسيطرون كليا على مدينة الثورة التي سميت بمدينة الصدر، وهي ضاحية شيعية في بغداد مكتظة بالسكان الفقراء حيث تنتشر صور الصدر الى جانب صور حسن نصر الله زعيم حزب الله اللبناني، وهو تقارب رمزي من أجل شحذ الهمم وتحشيد الجماهير بنفس أطروحات المقاومة التي يبثها حزب الله اللبناني .
قبل أكثر من عام من الآن، تعرضت القوات الأمريكية لسلسلة من الخسائر البشرية إبان المواجهات المسلحة مع ميليشيات مقتدى الصدر المسماة بجيش المهدي، وشنت القوات الأمريكية آنذاك، حملة مطاردة للقبض على الزعيم الديني الشاب حيا أو ميتاً حسب تعبير جنرال أمريكي. إلا أنهم اضطروا للتراجع عن هذا الهدف الذي ينطوي على مخاطر جمة بعد أن عاد المرجع الأعلى آية الله العظمى السيد على السيستاني من لندن على عجل، وقطع علاجه لإنقاذ الموقف وتفادي الكارثة، وحماية الزعيم الشاب ووضعه تحت عباءته كما يقول المثل. مما دفع مقتدى الصدر إلى المسايرة والاعتدال النسبي، سواء أكان ذلك بصدق أو رياءاً، كما دعا أتباعه للتريث ووقف المواجهات المسلحة. قد تكون تلك الخطوة، مجرد مناورة لكسب الوقت، والتقاط الأنفاس. فالتقارب الجاري اليوم بين الراديكاليين السنة ونظرائهم الشيعة، لايثير استغراب أحد على ما يبدو، كما لو أنه كان متوقعاً حسب صحيفة الكنار أونشينيه الفرنسية. فالراديكاليون السنة سواء كانوا من السياسيين أو من العناصر المسلحة، يرفضون الدستور أو ينتقدوه بشدة ويهددون بنسف العملية السياسية. ومقتدى الصدر ينتقد علنا مسودة الدستور المعدة تحت إشراف السفير الأمريكي في العراق، زلماي خليل زادة ودافيد ساترفيلد الدبلوماسي الأمريكي الذي أرسلته واشنطن خصيصا لمتابعة سير العملية الدستورية في العراق، والإشراف عليها عن قرب، خاصة وأن البرنامج السياسي لمقتدى الصدر بات ذو ملامح قومية ـ عروبية، إلى جانب مطالبته بإلحاح بمغادرة القوات الأجنبية، بل وحتى، استقالة الحكومة العراقية الحالية، وحل الجمعية الوطنية المنتخبة، مثلما يطالب المتطرفون السنة تحت ذريعة عجز وعدم قدرة الحكومة العراقية، التي يقودها الدكتور إبراهيم الجعفري، عن توفير الخدمات الأساسية، من كهرباء وماء ووقود ووظائف، أي الأساسيات التي يعاني من فقدانها المواطن العراقي بشدة. فالصحة والعلاج الصحي والأدوية مفقودة، والبطالة متفشية، علاوة على أن مقتدى الصدر صار يعزف على معزوفة الوحدة الإسلامية، بالرغم من التنافس التاريخي بين السنة والشيعة في العراق، كما يقول المحللون الغربيون في دراساتهم استنادا إلى مؤشرات وحوادث وقعت في مناطق عراقية، كالمدائن، وتلعفر، واللطيفية وغيرها. حيث تم تهجير عائلات بأكملها، وقتل أفراد من الطائفتين، وتم تفجير بعض الجوامع السنية والمساجد الشيعية هنا وهناك، لإثارة الفتنة الطائفية. أثناء ذلك، كانت القوات الأمريكية تراقب وتتابع بحذر وخوف هذا التقارب بين تيار مقتدى الصدر والعناصر المتطرفة والمسلحة المحسوبة على السنة، لأنها قد تؤدي على المدى المتوسط إلى تشكيل كواليس، أو إئتلاف معادي لأمريكا وحلفائها المحليين بإسم القومية والإسلام. أمام مثل هذا التحدي، تراجع الأمريكيون عن تعنتهم وإصرارهم فيما يخص لون الدستور ودور الدين فيه. فوافقوا على أن يكون الإسلام مصدر أساسي للتشريع، وألا يسمح بسن قوانين تتعارض مع ثوابت الإسلام، التي يحددها بالطبع رجال الدين من سنة وشيعة على السواء. وبهذا، وضعت الأسس المنشودة للدولة الدينية والإسلامية في العراق على حساب مطالب القوى الديموقراطية والليبرالية والعلمانية التي وجدت نفسها شبه مهمشة في الوقت الحاضر، فيما توسع الجارة الإسلامية إيران نفوذها وتأثيرها على أرض الواقع العراقي، خاصة في مناطق الجنوب العراقي، حيث جرى منع تناول الكحول وسماع الموسيقى والاتجار بها، وغلق دور السينما ومحلات الحلاقة النسائية، وفرض الحجاب على النساء ومنعهن من السير في الطرقات لوحدهن، ومنع اختلاط الجنسين إلا للمتزوجين الذين عليهم إثبات شرعية علاقتهم الزوجية. ولم يبق أمام الأقليات الدينية سوى الانصياع أو الهجرة. هذا هو المناخ الاجتماعي السائد في المناطق التي تسيطر عليها القوى الدينية الشيعية والسنية في جنوب وغرب العراق.
إن قلق الدوائر المخابراتية الأمريكية، واشتداد وتيرة الأعمال والنشاطات الإرهابية، سدت الطريق أمام تفاؤل الإدارة الأمريكية، وفضح زعماء البيت الأبيض والبنتاغون الذين يحاولون بلا طائل طمأنة أهالي الجنود الأمريكيين، واستعادة شعبية الرئيس الأمريكي جورج بوش الإبن التي تعرضت للاهتزاز، لاسيما إثر تسرب تصريحات لأثنين من المسؤولين العسكريين الأمريكيين لصحيفة نيوزويك بشأن التفكير بتقليص عدد القوات الأمريكية الموجودة في العراق إلى النصف ابتداءً من أواسط شهر آيار 2006 . وسرعان ما انتشر هذا الخبر في أركان الأرض الأربعة، وجال حول العالم يحمل خلفه العديد من التعليقات والتأويلات قبل أن يمر بغربال الربح والخسارة. لم تقتنع السكرتارية العامة للدفاع الوطني في باريس بهذه الأقاويل لأول وهلة، بالرغم من الكشف عن وثيقة صادرة عن وزارة الخارجية الأمريكية، تشير إلى التنافس والصراع بين الديبلوماسيين والعسكريين في الولايات المتحدة بخصوص الملف العراقي وعدم القدرة على التفاهم بينهما حول الخطط اللازمة لمرحلة مابعد الحرب. وهي الوثيقة التي أطلع عليها الفرنسيون بفضل عملية تسريب مقصودة لإحراج الإدارة الأمريكية، لأنها وثيقة تتضمن نقد ذاتي صريح واعتراف بالفشل. وقد أشارت الوثيقة إلى جهل وسذاجة المسؤولين في وزارة الخارجية الأمريكية سنة 2003 الذين تصوروا أن مرحلة مابعد الحرب، ستقتصر على الأعمال الإنسانية، مما أثار حفيظة الجنرالات والعسكريين المحترفين في البنتاغون، الذين لايشرفهم الدور المناط إلى جنودهم بتوزيع الحلوى على الأطفال العراقيين وحزمات الطعام الجاهزة للمحتاجين، وتعداد قتلاهم، وهم الذين اعتادوا على نوع آخر من الرياضة أكثر صرامة وقسوة وفظاظة، وأكثر سرعة ووحشية. ولم يتصور أحد منهم أن مستقبلهم لم يبرمج مسبقاً. فلم يطرح أحد منهم في البداية أي تساؤل حول ماينبغي عليهم فعله بعد الحرب، وماهو دورهم في مرحلة إعادة البناء والإعمار. ولكن بعد تفاقم تدهور الوضع الأمني والاقتصادي، لاحت أشباح الحرب الأهلية ومخاطر تقسيم العراق في الأفق كما تناقلتها وسائل الإعلام المختلفة، مما دعى الحكومة الأمريكية إلى تغيير أولوياتها في العراق، فخصصت القسم الأكبر من الأموال التي رصدتها لإعادة الإعمار في العراق ـ أي مبلغ الـ 18 مليار دولار تقريباـ لتغطية نفقات العمليات الأمنية، وإهمال إعادة بناء البنى التحتية المدمرة بسبب إهمال النظام السابق لها، وتعرضها للتخريب في الهجمات الحربية على مدى العقدين المنصرمين، ابتداءً من الحرب مع إيران مروراً بحرب الكويت وانتهاءً بحرب إسقاط النظام الصدامي وغزو العراق . الدول المانحة لم تقدم شيئا من المبالغ التي وعدت بتقديمها للعراق والبالغة 34 مليار دولار لأسباب واهية أغلبها سياسية، بينما ذهبت أموال المنحة الأمريكية للشركات الأمنية الخاصة ولشركات أمريكية عملاقة مثل هاليبيرتون وبيكتيل وغيرها. أما أموال عائدات النفط العراقي التي بلغت حوالي 50 مليار دولار منذ إطاحة الطاغية إلى اليوم، فلم ير الشعب العراقي لونها ولم يشم رائحتها، ولا يدري أحد كيف صرفت في ظل فساد مستشري في مفاصل الدولة والمجتمع العراقي إلى حد الوباء المستعصي على العلاج، فضلاً عن الشفاء فما العمل؟.
كان العراق في ظل النظام السابق، يعيش في ظروف استثنائية بالغة الصعوبة، ولا مثيل لها في أي بلد آخر في العالم. فالنظام الديكتاتوري خنق الحريات ودمر البلد بفعل حروبه العبثية، ولكن أخطر ما قام به، هو تدمير النفس العراقية، وتشويه أخلاقيات الفرد العراقي، وقلب منظومة القيم التي كانت سائدة في العراق منذ قرون، وذلك خلال 35 عاماً من الحكم الاستبدادي. لذلك، كان التغيير حلم كل عراقي يرنو إلى الحرية، وكان سقوط النظام بمثابة نهاية كابوس كان جاثما على أنفاس الشعب العراقي. إلا أن طريقة التغيير التي حدثت، والبديل الذي جلبته، لم يرق إلى مستوى الطموحات والأمنيات، وأصاب الناس بحالة من الإحباط التام واليأس من أي تغيير يرتجى. فقد زادت الأحوال سوءاً، وتفاقم الفساد و تدهورت الأوضاع المعيشية، وغرق المجتمع العراقي في حالة من الفوضى والانفلات لم يسبق لها مثيل في تاريخ العراق الحديث، وصار إبن الشارع العراقي يردد " كنّا بصدام واحد فأبتلينا بعشرات الصداميين". لم تكن صيغة مجلس الحكم والحكومة المؤقتة بشكلها المعروف مطروحة على طاولة المداولات بين القوى السياسية الوطنية العراقية في الأيام الأولى لسقوط النظام السابق. كانت هناك رؤيتان للقضية العراقية لمرحلة مابعد صدام:
أولاً الرؤية العراقية الوطنية، وتتلخص بأن يتسلم العراقيون السلطة فور سقوط نظام صدام حسين ويشكلوا حكومة إئتلافية، أي حكومة وفاق وطني، تتمثل فيها جميع القوى والحركات والتيارات والفعاليات وكافة أطياف الشعب العراقي، وتتكفل بمهمة سد الفراغ السياسي الخطير الناجم عن إنهيار النظام السابق ومؤسساته القمعية، وتصريف أعمال الدولة اليومية من دون صلاحيات تشريعية، إلى حين موعد تنظيم انتخابات وطنية حرة ومستقلة ونزيهة، تفرز حكومة عراقية شرعية يحق لها التعامل مع قوات الاحتلال كأمر واقع، مع الحد من نفوذها والضغط عليها دولياً وإقليمياً ومحلياً، لتحديد سقف زمني لانسحابها تدريجياً وليس دفعة واحدة لسد الطريق أمام عودة العناصر الصدامية المسلحة المتعاونة، مع المتسللين الإرهابيين من خارج البلاد، والعصابات المنظمة المتكونة من مجرمين، كان صدام حسين قد أطلق سراحهم ليعيثوا في الأرض فساداً.
ثانياً: الرؤية الأمريكية الغامضة، التي ترى في العراق غنيمة كبرى تريد أن تستأثر بها لوحدها، وتحكم العراق على نحو مباشر من خلال تنصيب حاكم عسكري أو مدني يتلقى أوامره من واشنطن، ويمليها على الشعب العراقي بالتواطؤ مع ثلة من السياسيين العراقيين المحترفين ممن كانوا يعملون في صفوف المعارضة.
كل ذلك كان يدور في السر بعيداً عن أعين واهتمام ومشاركة المواطنين العراقيين، بالرغم من أنهم أكثر المعنيين بهذا الأمر.
كان في المجموعة الأولى، قوى ذات باع طويل في النضال كالحزب الشيوعي العراقي والحركة الاشتراكية العربية، إلى جانب حركة المستقلين الديموقراطيين والحزب الوطني العراقي، وتأييد شكلي وظاهري من جانب الحزبيين الكرديين الرئيسيين، حيث تشكل ما أطلق عليه أسم "اللقاء الديموقراطي". أما في المجموعة الثانية، المتحالفة مع الولايات المتحدة الأمريكية منذ البداية وقبل إطاحة نظام صدام حسين، فكانت تضم المؤتمر الوطني وحركة الوفاق والحركة الملكية الدستورية وحزب الأمة والحزب الإسلامي العراقي، إلى جانب الحزبين الكرديين الرئيسيين. كان هناك طرف ثالث يراقب وينتظر ويناور منذ شهور عديدة قبل شن الحرب وإسقاط النظام، ويتمثل بالتيار الإسلامي الشيعي المكون أساساً من المجلس الأعلى للثورة الإسلامية وحزب الدعوة الإسلامية ومنظمة العمل الإسلامي، وبعض الشخصيات الدينية والحركات الصغيرة ذات الاتجاه الديني، وكلها مقربة من إيران بشكل أو بآخر. كان بعض أقطاب هذا التيار يميلون للرؤية الأمريكية كموقف براغماتي مفروض ومفروغ منه لاقدرة لأحد على معارضته، فضلاً عن مقاومته. مما أمال الكفة لصالح الرؤية الأمريكية، التي انحاز إليها في اللحظة الأخيرة خمسة من مجموع ستة أعضاء في اللقاء الديموقراطي، عدا الحركة الاشتراكية العربية، والتي أدت إلى تنصيب حاكم عسكري لبضعة أسابيع هو جي غارنر والذي سرعان ما أستبدل بحاكم مدني هو بول بريمر، وابتكار صيغة مجلس الحكم والرئاسة الدورية على أساس المحاصصة على حساب مبدأ المواطنة، مما أدى إلى عزل قوى فاعلة في المجتمع العراقي، كالتيار الصدري وهيئة علماء المسلمين ومجلس الحوار الوطني والتيار السلفي السني والتيار القومي الكبير جداً في العراق. وضعت قوات الاحتلال يدها على الثروة النفطية العراقية والاقتصاد العراقي برمته، وهيمنت كلياً على صندوق التنمية والإعمار الذي يحتوي على ميزانية العراق. ومن بين هذه التشكيلة السياسية، ظهرت شخصيات نكرة مجهولة وغير معروفة، ومنها من كان مشبوهاً وانتهازياً ليتقاسموا فيما بينهم مناصب الدولة العليا، ويبرموا الصفقات المشبوهة بملايين الدولارات من دون النظر لمصلحة الوطن والمواطنـ وأغلبها مع شركات أمريكية تأخذ الصفقات وتعطيها لشركات مشبوهة عربية وعراقية للتنفيذ بأرخص الأسعار مع مايترتب على ذلك من غش وتهريب للأموال بالطائرات بحجة شراء مواد ومعدات بلا فواتير ولا حسابات مدونة أو عقود موثقة. فمن البديهي أن تكون هناك حالات من الفوضى الأمنية والسرقات والخطف والشعارات البراقة، ومئات من الأحزاب والصحف في غياب سلطة مرجعية ـ شرعية معترف بها، ذات هيبة وصرامة، تطبق القوانين وتحافظ على الأمن والاستقرار، وتحمي المواطنين . إن الغائب الكبير عن كل هذه الفوضى العارمة هو الشعب العراقي المغيّب كلياً والضائع الذي لايرى أمامه سوى المجهول .
الذي زعزع أمن الوطن هم الأمريكيون الذين لم يفعلوا ماينبغي فعله في مثل هذه الحالات لتفادى الكارثة، فربحوا الحرب وخسروا السلام ودفع الشعب العراقي ثمن هذه الحماقة . تجدر الإشارة إلى نقطة مهمة، وهي أنه لايجب التعميم، فليس كل من عاد من المنافي جاء على ظهر الدبابات الأمريكية كما يشاع، لكن هناك فئة استثمرت بالفعل هذا الظرف الاستثنائي الخطير. وبدعم من القوت المحتلة، سرقت الأموال من البنوك وصادرت ممتلكات الدولة، واحتلت بيوت المسؤولين السابقين ومقرات السلطة والحزب الحاكم، وفرضت نفسها كأمر واقع على الشارع العراقي. الخطأ الأمريكي الأول والأهم بهذا الصدد هو عدم التحضير بجدية كافية لمرحلة مابعد صدام حسين، والتصديق بتقارير ساذجة أقنعتهم بأن الشعب العراقي سيستقبلهم بالورود، وأن الفتيات العراقيات سيعانقن الجنود الأمريكيين عرفاناً بالجميل، على غرار ماحصل إبان تحرير باريس من الاحتلال النازي. الخطأ الثاني، هو قرار قوات الاحتلال بحل الجيش العراقي وقوات الأمن الداخلي والشرطة والمخابرات والاستخبارات، وحل وزارات كاملة، كالدفاع والداخلية والإعلام وديوان الرئاسة الخ.. أي حل مفاصل السلطة ومرتكزاتها الرئيسية من دون تحضير البديل الكفء. فلا جيش ولا شرطة ولا قوات أمن في شورا ع المدن العراقية لأسابيع بل لأشهر طويلة. ثم سن الحاكم المدني الأمريكي بول بريمر قانون إجتثاث البعث على نحو اعتباطي، وفتح المجال أمام عمليات تصفية الحسابات والثأر والانتقام بالوسائل المسلحة. وترك الأمريكيون كميات هائلة من الأسلحة الخفيفة والمتوسطة وحتى الثقيلة بيد المدنيين من مختلف الانتماءات، بل والأدهي من ذلك، تركوا المجال مفتوحاً أمام عمليات السلب والنهب والسطو لمؤسسات الدولة وممتلكاتها، فيما عرف بسياسة الحواسم المشتقة من تسمية صدام لمواجهة الغزو الأمريكي حين سماها معركة الحواسم، والتي لم تقع. وبالطبع حدث الأمر تحت أنظار قوات الاحتلال وعدم مبالاتها . فكلما ازدادت الأوضاع توترا وخطورة، كلما تمسك الناس ببقاء القوات المحتلة لفرض الأمن والنظام على حد اعتقاد الأمريكيين الذي عملوا بهذه الفرضية بحذافيرها، تحت ذريعة محاربة الإرهاب الذي لم يصل إلى العراق بهذه الكثافة إلا بسبب تواجدهم العسكري المكثف، والذي أعطى الذريعة للإرهابيين والمغرر بهم من الانتحاريين العرب بحجة الجهاد ضد المحتل الأمريكي.
من يدقق في الخارطة الاستراتيجية الأمريكية للشرق الأوسط عامة، والعراق بشكل خاص، يجد الجواب البديهي لهذا المشهد المعقد. فأحد أسباب ودوافع الحرب على العراق هو إخراجه من المعادلة الشرق أوسطية المناوئة لإسرائيل كقوة إقليمية مؤثرة، وترويضه وتدجينه لجره فيما بعد في الوقت المناسب لتطبيع علاقاته مع إسرائيل أسوة ببقية العرب، بل وليكون أحد أضلاع المثلث الاستراتيجي الأمريكي الجديد الذي سيتكون من تركيا وإسرائيل والعراق مستقبلا.ً وهناك من هو مستعد لتنفيذ ذلك من السياسيين العراقيين الموجودين في السلطة أو الذين سيصلون إليها لاحقا من الذين يسيرون على قاعدة " لانريد أن نكون ملكيين أكثر من الملك". فباعتقادهم إذا كان الفلسطينيون والكثير من العرب يتفاوضون مع إسرائيل ويريدون التطبيع معها، فلماذا يحرم هذا الأمر على العراق ويحلل لغيره؟
لقد أعلن الأمريكيون أنهم يسعون لخلق عراق ديموقراطي يكون إنموذجاً يحتذى في العالم العربي. فهل سيسمح العالم العربي والإسلامي بمثل هذه التجربة، مع ماسيترتب على ذلك من مخاطر وعدوى ؟ وهل سيستوعب العراقيون أنفسهم أهمية وتبعات النظام الديمقراطي الإيجابية منها والسلبية؟ لاأحد يمكنه الإجابة على مثل هذا التساؤل الحساس، ولكن ينبغي أن ندرك أن العراق يعيش اليوم على مفترق طرق، فإما الديموقراطية الحقيقية، وإما بداية صراع دامي يأكل الأخضر واليابس. فالوضع في العراق اليوم في غاية الخطورة، وأتمنى ألا تتكرر تجربة سنوات العشرينات إبان الاستعمار والاحتلال ومن ثم الانتداب البريطاني وما أفرزه من سياسات استئثار بالسلطة وإقصاء للآخر.
إن مايعيشه العراق اليوم هو أشبه بما عاشته الجزائر قبل عشرة أعوام على الصعيد الميداني على الأقل، ومحاولة التيار الإسلامي السلفي بقيادة جبهة الإنقاذ الوصول إلى السلطة عن طريق الانتخابات، ومن ثم إلغاء العملية الديموقراطية وترسيخ النظام الإسلامي بقوة السلاح. والعراق يمر اليوم بنفس المخاض الصعب الذي عاشته شعوب أخرى غيره كالشعب الأفغاني والشعب واللبناني وفي البلقان . إنه يخضع الآن لما يسمى بثقافة العنف مقابل ثقافة التسامح والاعتدال التي سادت في سنوات الخمسينات والستينات وبداية السبعينات، مع استثناءات معروفة في تاريخ العراق السياسي الدامي كتجربة 59 وتجربة 63 وبالطبع السنوات الثلاثين ونيف العجاف التي عاشها العراق في بحر من الخوف والدم . فالعنف المسلح متوقع ولايدهش أحد وهو يأخذ اليوم شكل الإرهاب المنظّم والمخطط تخطيطاً جيداً .فقد اكتسب إمكانات وخبرات وتجارب وتراكم معرفي على الصعيد العملي والميداني لايستهان بها. ولكن لابد له من نهاية، فلكل حدث بداية ونهاية وهذا هو منطق التاريخ. لا أدري متى سينتهي الإرهاب وماهو الثمن الذي سيدفعه الشعب العراقي، لكنه سينتهي إن آجلاً أم عاجلاً. الظروف الدولية السائدة وتجسد مقولة صدام الحضارات لصاموئيل هينتغتون عملياً على أرض الشرق الأوسط، والمناورات الأمريكية والسوفياتية سابقاً على الأرض الأفغانية، كانت الأرضية التي ترعرع فوقها الإرهاب المعاصر. ولكن علينا التفريق والحذر في استخدام التسميات والمصطلحات لأنها توقعنا في الكثير من الإشكالات والأخطاء الفادحة.
عندما تأسست حركة الأخوان المسلمين في مصر في سنوات العشرينات على يد حسن البنا تبنت أسلوب العمل المسلح والعنف المسلح ضد السلطة، ثم ظهر لها منظّرون من أمثال سيد قطب الذي أعدمه جمال عبد الناصر بعد فشل محاولة اغتيال هذا الأخير، على يد عناصر من تنظيم الأخوان المسلمين. وكانت تلك سابقة خطيرة، سار على خطاها أمثال عمر عبد الرحمن وأيمن الظواهري وأسامة بن لادن والملا عمر والزرقاوي وغيرهم. لقد استغل هؤلاء غموض وضبابية بعض النصوص الدينية المقدسة القابلة للتأويل حسب الأغراض والغايات المنشودة لتبرير نشاطاتهم وافعالهم وجرائمهم، التي صارت تنفذ بإسم الجهاد . وقد تلقف الإسلام السياسي تلك التأويلات النظرية ليبني عليها استراتيجية قتالية ـ انتحارية لإرباك الخصم وإنهاكه بغية الانقضاض عليه في نهاية المطاف . التمييز بين الإرهاب والمقاومة أمر عسير للغاية، وهو مفهوم نسبي يعتمد على الزاوية التي تأتي منها المقاربة. فالفلسطيني الذي يضحي بنفسه في عملية انتحارية يسميها هو جهادية ويعتبرها المواطن العربي مقاومة واستشهاد، بينما ينظر إليها المواطن الإسرائيلي والأمريكي على أنها إرهاب محض وانتحار مجاني. بالنسبة للتجربة العراقية، يمكننا القول أن من حق أي شعب محتل أن يقاوم الاحتلال، وهو حق مشروع تكفله وتنص عليه القوانين والأعراف الدولية. فقد قاوم الفرنسيون المحتل النازي وكانوا أبطالا في نظر مواطنيهم، وقاوم الفيتناميون الاحتلال الأمريكي، وقاوم الأفغانيون الغزو السوفيتي ـ وكانوا يسمونوهم المقاتلين من أجل الحريةـ الخ... فمن حق العراقيين إذاً أن يقاوموا المحتل الأمريكي. ولكن لكل مقاومة ظروف وشروط عملية وعملياتية ومتطلبات لوجستيكية واقتصادية ومعايير وخطط وأهداف استراتيجية وآنية وتأييد جماهيري. فوراء كل عملية هدف محدد وخطوات سياسية مناسبة وهذا مالم يتوفر لحد الآن على أرض العراق .العنف المسلح في العراق الذي تقوم به عناصر مسلحة مختلطة وغير متجانسة أو معروفة الهوية، يجعل التداخل بين الإرهاب والمقاومة كاملا إلى حد التماهي . فكل ما يصيب القوات الأمريكية والبريطانية حصراً يمكن تسميته بالعمل المقاوم أياً كان الطرف المنفذ له، ولكن ما أن يمس الشعب العراقي وبناه التحتية ومنشآته الوطنية، فهو تخريب وإرهاب لامحالة . وبما أن الولايات المتحدة قرنت الإرهاب بالإسلام السني والشيعي على السواء، فإنها قررت منع التيار الديني العراقي من الاستفراد بالسلطة مهما كلف الأمر ومهما كانت النتائج.. لكن نتائج الانتخابات، أثبتت أن هذه القراءة لم تستقريء المتغيرات الكبيرة في الواقع العراقي الذي فرض صوته على الإدارة الأمريكية، ولم يعد التيار الديني العراقي فعلا يهدد الوجود الأمريكي.
ليس هذا حكماً قطعياً استناداً إلى مؤشرات زائلة أو وقتية أو مرهونة بتطورات مرحلية أو ظرفية. فاستنادا إلى قراءات ومتابعات استراتيجية وبحثية، تبين أن لدى الولايات المتحدة خبرة عميقة وواسعة في التعامل مع التيارات الدينية ـ السياسية وخاصة الإسلاموية منها أو الأصولية ـ السلفية المتشددة، لاسيما في الجزائر وأفغانستان ومصر والأردن وتركيا والباكستان، وكانت لديها علاقات وتحالفات شبه استراتيجية مع البعض منها. ولايخفى على أحد أنها كانت وراء سطوع نجم أسامة بن لادن وتنظيم القاعدة وحركة طالبان، فهي التي أوجدتهم وسلحتهم ودربتهم. ولديها تجربة مريرة مع التيار الإسلامي الشيعي في إيران ولبنان وتعرف جيداً حيثيات وتاريخ وأطروحات التيار الديني ـ السياسي الشيعي في العراق والتيار السني، بشقيه المعتدل والسلفي المتطرف. وقد وضعت خطوطاً حمر لجميع الأطراف لايسمح لهم بتجاوزها وكل واحد من القوى السياسية العراقية يعرف حدود الحيز الذي يتحرك فوقه. من هنا، جاء التشخيص بأن أمريكا لم تكن لتسمح لأي تيار أن يستحوذ وحده على السلطة ويبقى فيها إلى مالانهاية .
ماحدث في الانتخابات الأخيرة لم يكن مفاجأة لأحد وبالذات لم يفاجيء الولايات المتحدة نفسها. لكن هذه النتيجة كان من المفرض أن تكون مؤقتة وتقتصر على تشكيل هيئة لكتابة الدستور، وتشكيل حكومة تصريف أعمال لا أكثر، مكلفة بالإعداد لانتخابات تشريعية أخرى قادمة في نهاية هذا العام. ومع ذلك يمكن الاعتقاد بأن النتيجة النهائية للتصويت لصالح شيعة العراق لاتمنحهم حق الاستئثار وحدهم بالسلطة، وفرض نظام ديني على غرار النظام الإيراني أو الأفغاني السابق . أما فيما يتعلق بكون الإسلام مصدر تهديد للغرب أم لا، فهذا موضوع متشعب ومعقد ونسبي. فهناك من يرى في الإسلام بؤرة للصراعات الفكرية والحضارية قد تأخذ أشكالاً عنيفة، وآخرون يروا فيه نافذة لحوار حضاري متطور وبنّاء. ولكن علينا أن نعرف أولا عن أي إسلام نتحدث قبل أن نقرر ما إذا كان يشكل خطراً أم لا على الحضارة الغربية. فإذا كان المقصود إسلام بن لادن والزرقاوي والملا عمر، فالجواب نعم كما يعتقد الغربيون أنفسهم. أما إذا كان المقصود به إسلام رفاعة الطهطاوي ومصطفى عبد الرازق وطه حسين وإبراهيم الجعفري وأياد جمال الدين، فالجواب بالنفي لأن هؤلاء لم يعلنوا العداء والحرب على الغرب، بل الاختلاف في بعض القيم والمباديء الأخلاقية لا أكثر.
بعد أحداث 11 سبتمبر، أسقطت الولايات المتحدة الأمريكية دولتين بالغزو العسكري، هما أفغانستان والعراق. فهل تنوي أن تسقط دولا أخرى تحت ذريعة محاربة الإرهاب ونشر الديموقراطية بوصفها المانع الحقيقي لنشوء الإرهاب وبوصفها ( أي الديموقراطية ) تؤمن السلام لأمريكا؟
لم يكن الغزو العسكري بالأمر الهين والبسيط، فهناك عدة عوامل ومعوقات تقف في طريق العمل العسكري ليس أقلها، توفر الإمكانات المادية والبشرية والذرائع القانونية والمسوغات التشريعية الدولية، إلى جانب طبيعة الهدف المقصود بالهجمة العسكرية وقدرته على الرد وموقعه الجغرافي ومحيطه الإقليمي وغير ذلك من العوامل . لذا ليس من السهل القول بجزم أن أمريكا ستضرب حتماً إيران أو سوريا كأول المرشحين على قائمة الأهداف الأمريكية المرصودة تليهما كوريا الشمالية وكوبا وغيرها.
هناك صراع مصالح معقد في العالم وتنافس شرس على النفوذ يأخذ أشكالاً متعددة ومتنوعة، فليس من المستبعد أن تتعرض دولة ديموقراطية للهجوم إذا ما أصبحت منافساً خطيراً أو قطباً مناوئاً لأمريكا. إن ذريعة محاربة الإرهاب لاتنطلي على أحد والعالم بأكمله يعرف الأهداف والدوافع الحقيقية للغزو الأمريكي لكل من العراق وأفغانستان.
يتساءل الشارع العربي عن طبيعة الدور الإيراني في العراق، وكيف يمكن تشخيصه على وجه الدقة و ماهي خطورته على مستقبل العراق؟. بالطبع، لايمكن عزل إيران عمّا يحدث في العراق، فهناك ارتباط وتداخل تاريخي ومذهبي بين البلدين لايمكن تجاهله أو التقليل من شأنه. إن ما يحدث في العراق يؤثر حتماً سلباً أو إيجاباً في إيران بحكم الجوار الجغرافي والارتباط التاريخي والديني والمذهبي. وكان العراق ساحة صراع بين الدولة الصفوية والدولة العثمانية لعقود طويلة، وكذلك بحكم تواجد المرجعيات الدينية في البلدين وتأثيرها على شعبيهما . لايمكننا أن نغير موقعنا الجغرافي ونبتعد عن إيران ولاهي يمكن أن تبتعد عنا، وبالتالي نحن محكومون بالتعايش معها وحسن الجوار والتفاهم والتشاور والتنسيق، ولكن في سياق الاحترام المتبادل وعدم التدخل في الشؤون الداخلية لكل منهما. من هنا يمكن القول أن إيران لاتشكل خطراً على العراق في الوقت الحاضر ولا في المستقبل القريب أو على المدى المنظور. بيد أن هناك بعض القوى ومراكز السلطة المتعددة فيها تتدخل بشكل خفي من وراء أعين السلطة المركزية لدوافع كثيرة، ليس أقلها الأرباح المادية لتأجيج التوتر القائم والصراع المحتدم حالياً في الداخل العراقي. أود أن أوضح بهذا الصدد، أن القوى السياسية الشيعية في العراق ليست موالية أو تابعة لإيران كما يشاع بل، هي صديقة ومتعاونة مع الجارة الشرقية وفق مبدأ الند للند، ولايمكن لإيران أن تملي على أي طرف عراقي السياسة التي يجب عليه اتباعها إذا كانت لاتصب في مصلحة الوطن. وعلى سبيل المثال لا الحصر، ما يتعلق بالتعويضات التي تطالب بها إيران، فلم يؤيد أي طرف إسلامي شيعي تصريحات عبد العزيز الحكيم بهذا الصدد، فصمت ولم يكررها ثانية . هناك بالطبع ملفات شائكة عالقة بين إيران وجاراتها العرب غير العراق، مثل أزمة الجزر الثلاث التي تحتلها إيران وتعود ملكيتها القانونية والتاريخية لدولة الإمارات العربية المتحدة، لكنها ينبغي أن تحل في المحافل الدولية، ووفق القوانين والأعراف الدولية وليس عن طريق العمل المسلح فهذا غير مقبول ولايصب في مصلحة أحد، إلا إذا صدر قرار دولي بهذا الاتجاه يرغم إيران على الإنسحاب منها، ويتكفل المجتمع الدولي بإخراجها منها بوسائله الخاصة. ولاننسى دور آية الله العظمى السيد علي السيستاني في التصدي للنفوذ الإيراني المباشرفي العراق وفي إصراره على الانتخابات العراقية في موعدها المحدد، ونجاحه في أن يجمع الشتات الشيعي في قائمة واحدة رغم تباعد بعض أطرافها فكرياً.
علينا أن نبتعد عن نظرية المؤامرة التي ترى في كل ما يحدث داخل الشيعة، أو فيما يتعلق بهم دوراً إيرانياً خفياً. وللعلم، إن الإيرانيين لايضعون السيد السيستاني في قلبوهم ولايقدسونه أكثر من مرشدهم الروحي ومرجعهم الرسمي آية الله علي خامنئي، خليفة الإمام الخميني في ولاية المسلمين الإيرانيين. كما لايمكنهم التأثير عليه لا من قريب ولا من بعيد، وهذه حقيقة يقينية ثابتة.
كان السيد السيستاني محقاً في مطالبته بإجراء الانتخابات الحرة والديموقراطية لتكون سابقة إيجابية، تؤسس لممارسات لاحقة، لكنه لم يكن محقاً في إصراره على أجرائها في موعدها المحدد، لعدم توفر الشروط والظروف الموضوعية المواتية لإشراك أكبر عدد ممكن من مكونات الشعب العراقي، حيث حرم الكثيرون ويقدر عددهم بأربع ملايين عراقي من التصويت لأسباب كثيرة معروفة للجميع ويطول شرحها . إن قائمة الإئتلاف العراقي الموحد استغلت إسم السيد السيستاني، وأقحمته في قوائمها ودعايتها الانتخابية تجاوزاً مما يعد خرقا واضحاً للمعايير والقواعد الواردة في قانون الانتخابات . لقد نجح السيد السيستاني في حقن دماء الكثير من العراقيين ولم شمل شيعة العراق بحكمته وبعد نظره. فهو لايتدخل في السياسة، لكنه لايسمح للسياسيين باستغلال مواقعهم للعبث بحقوق المواطنين والتحدث باسمهم من دون تكليف رسمي وشرعي عبر صناديق الاقتراع . السيد السيستاني يلعب رغماً عنه دور صمام الأمان أمام الاستفزازات الطائفية الإجرامية التي يمارسها أمثال الزرقاوي لجر العراقيين إلى الاحتراب الطائفي والحرب الأهلية ـ الطائفية المقيتة. كما لاينبغي أن ننسى التقاليد العريقة التي تحيط بشخصية وأداء المرجع الأعلى الذي ينأى بنفسه من الخوض شخصيا في تفصيلات الحدث السياسي اليومي، فهو يكتفي بتقديم الرأي والمشورة والفتوى إذا استدعى الأمر ذلك. وهذا ليس تعالياً أو تكبراً من جانبه، لكنه يترفع عن هذه الجزئيات والمهاترات حفاظاً على هيبته واحترام الناس له ولقدسية موقعه في نفوس مقلديه، وهو ليس المرجع الوحيد الذي تصرف على هذا النحو، بل جميع المراجع قبله فعلت ذلك، وهذا تقليد متبع في المرجعيات العليا. وبالرغم من وجود صمام الأمان المتمثل بالمرجعية، ماتزال المخاوف قائمة من تقسيم العراق إلى ثلاث دويلات، فهل ابتعد العراقيون عن شبح التقسيم والحرب الأهلية أم مازالت هذه الاحتمالات ممكنة؟
لاينبغي أن يغيب عن بالنا بأن العراق كان بالأساس مقسماً إلى مايشبه الدويلتين المستقلتين تقريباً وينقصهما الاعتراف الدولي بهما شرعيا وقانونياً، الأولى في الوسط والجنوب، والثانية في الشمال. إذا استمرت الأمور على ماهي عليه اليوم وتفاقمت، فلن يكون مستحيلاً أو مستبعداً نشوب صراعات متعددة تأخذ شكل الحرب الأهلية بين مختلف مكونات الشعب العراقي، ولاننسى بديهية تقول أن الشعوب لاتختار الحرب الأهلية، بل تنزلق إليها وتجر أقدامها نحوها عنوةً بمزيج من الانفعالات والمشاعر والاندفاعات الهوجاء والرغبة في الانتقام وتسوية الأمور بقوة السلاح، وتجميد العقل والحكمة وملكة التفكير والتروي أو التأمل . وللأسف أقول أن العراقيين لم يخرجوا بعد كلياً إلى بر الأمان، ومازالت الإحتمالات ممكنة لمثل هذا السيناريو لاسمح الله. الحل يكمن في حكومة علمانية تعددية فيدرالية تداولية تقررها صناديق الاقتراع والانتخابات الحرة النزيهة . يمكن أن يكون النظام والدستور والدولة ذات صيغة علمانية تستند إلى مبدأ المواطنة والمساواة في الحقوق والواجبات لجميع أبناء الشعب العراقي، سواء كانت الحكومة المنتخبة شيعية أو سنية أو ليبرالية أو قومية أو ماركسية. ويمكن لهذه التجربة أن تنجح إذا ما طبقت على نحو صحيح يحترم القوانين والدستور وإرادة الشعب العراقي . فالعلمانية لاتعني معاداة الدين، بل بالعكس حماية المعتقد الديني من أي تدخل ومنع المتطرفين من فرض معتقدهم على الآخرين باسم الدين، أي فصل الدين عن الدولة وليس عن الحكم. فهناك في أوروبا أحزاب مسيحية ديموقراطية حكمت وتحكم اليوم في العديد من الدول دون أن تتنكر لعلمانية الدولة . لاخيار أمام العراق والعراقيين إلا الديموقراطية أو الدمار التام والبقاء داخل النفق المظلم لسنوات طويلة تنهي فيه كل مظاهر الحياة الطبيعية. الأمر متعلق بمدى قدرة ونزاهة القوى السياسية العراقية وحسن نوايا القوات المحتلة، واستعدادها لتقبل نتائج اللعبة الديموقراطية وإن جاءت بالضد مما يرغبون ويخططون. وأن أفضل صيغة للخروج من مأزق التقسيم هو الفيدرالية لأنها صيغة حضارية متطورة ومتقدمة تحترم مباديء حقوق الإنسان وخصوصياته الثقافية وهويته الوطنية والقومية. هناك أشكال متعددة ومتنوعة للفيدرالية كما هي مطبقة بنجاح فائق في دولة الإمارات العربية المتحدة وسويسرا وكندا والولايات المتحدة الأمريكية نفسها، وقد يستوعب العراقيون هذه الصيغة ويتقبلونها بعد أن يمارسوها على أرض الواقع وعلى الصعيد التطبيقي وهي ليس بالأمر المستحيل أو الصعب التنفيذ.



#جواد_بشارة (هاشتاغ)       Bashara_Jawad#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- كتاب العراق وأمريكا وحافة الهاوية
- آفاق الحرب العالمية لمكافحة الإرهاب
- المفارقة العراقية
- دروس في الإخراج السينمائي
- العراق بين الآمال والقلق
- نشاط اللوبي الصدامي ـ الفرنسي في باريس ودمشق
- الإسلام والغرب وفن صناعة العدو
- مقابلة مع د. جواد بشارة
- إيران وسورية في مرمى الإصابة الأمريكية
- الخرائط الأمريكية للعراق والشرق الأوسط
- يوميات عراقية من مدينة بغداد الجريحة
- السينما العراقية بين الممكن والمستحيل
- الخرائط الأمريكية اللعينة للعراق والشرق الأوسط
- من أجل معالجة وانهاض النشاط السينمائي في العراق
- رأيت نهاية العالم القديم
- مراجعات في ما بعد الحداثة السينمائية من المفاهيم النظرية الي ...
- - فقه العنف المسلح في الاسلام
- التشكيلة الهلامية للميليشيات المسلحة في العراق
- محاولات التجديد للأثر الفيلمي ضوئياً
- رؤية تحليلية للسياسة الفرنسية إزاء الاستراتيجية الأمريكية -ا ...


المزيد.....




- محكمة العدل الدولية تعلن انضمام دولة عربية لدعوى جنوب إفريقي ...
- حل البرلمان وتعليق مواد دستورية.. تفاصيل قرار أمير الكويت
- -حزب الله- يعلن استهداف شمال إسرائيل مرتين بـ-صواريخ الكاتيو ...
- أمير الكويت يحل البرلمان ويعلق بعض مواد الدستور 4 سنوات
- روسيا تبدأ هجوما في خاركيف وزيلينسكي يتحدث عن معارك على طول ...
- 10 قتلى على الأقل بينهم أطفال إثر قصف إسرائيلي لوسط قطاع غزة ...
- إسرائيل تعلن تسليم 200 ألف لتر من الوقود إلى قطاع غزة
- -جريمة تستوجب العزل-.. تعليق إرسال الأسلحة لإسرائيل يضع بايد ...
- زيلينسكي: -معارك عنيفة- على -طول خط الجبهة-
- نجل ترامب ينسحب من أول نشاط سياسي له في الحزب الجمهوري


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - جواد بشارة - المعلن والمخفي في السياسة العراقية