أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - جواد بشارة - كتاب العراق وأمريكا وحافة الهاوية















المزيد.....



كتاب العراق وأمريكا وحافة الهاوية


جواد بشارة
كاتب ومحلل سياسي وباحث علمي في مجال الكوسمولوجيا وناقد سينمائي وإعلامي

(Bashara Jawad)


الحوار المتمدن-العدد: 1286 - 2005 / 8 / 14 - 10:22
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


تمهيد

إن الكتابة عن العراق المعاصر وتفاصيل القضية العراقية ماقبل ومابعد نظام صدام حسين ليس بالأمر الهين فكل شيء مغلف بالأسرار، والتطورات حبلى بالمفاجئات غير المتوقعة ويكتنفها الغموض والمؤامرات والصفقات المشبوهة.
الرهط السياسي العراقي المحترف الذي جاء بديلاً عن نظام صدام حسين المنهار قبل أكثر من عام، تصرف من منظور المصالح الذاتية والحزبية والطائفية والعرقية الضيقة وأصر على مبدأ المحاصصة على حساب مبدأ المواطنة مما أدخل البلاد في نفق الصراع المستتر والتنافس غير الشريف بين مختلف الأطياف التي تدعي تمثيل الشعب العراقي وحصل ما حصل من فساد وسرقات واختلاسات ومحسوبية ومنسوبية وشيوع مبدأ الواسطة وممارسة النفوذ واستغلال المناصب لأغراض شخصية والإثراء غير المشروع وإهمال للوطن والمواطن الى جانب تدهور الأوضاع الأمنية التي وصلت الى درجة خطيرة وانعدام الخدمات الأساسية الضرورية لأي مجتمع حديث كالكهرباء والنقل والوقود والماء الصالح للشرب وتفاقم الأزمة المعاشية والبطالة وغلاء المعيشة.
واليوم بعد أن دخل العراق في النفق المظلم على الرغم من الخدعة الكبرى التي قد تنطلي على الكثيرين حول مسرحية تسليم السلطة والسيادة للعراقيين ومهزلة الانتخابات يتساءل الشارع العراقي من هم هؤلاء العراقيون الذين سيتسلمون السلطة وماهو الثمن الذي سيدفعوه لقاء بقائهم في مراكزهم؟ إنهم ذات القوى والشخصيات المكروهه والمشتبه باخلاصها ونزاهتها التي كانت تعشعش داخل أروقة مجلس الحكم أعادت اليوم توزيع الأوراق فيما بينها ضاربة بعرض الحائط بإرادة الشعب الرافضة ومشاعره الغاضبة تجاهها لتتشبث بمخالبها وأنيابها بهذه السلطة الوهمية والسيادة المنقوصة والملغومة وسط أجواء محمومة تشبه تلك التي تسبق عادة انفجار حرب أهلية مدمرة تأكل الأخضر واليابس . من هنا جاءت الرغبة في إخراج هذا الكتاب الذي كان نصفه الأول مكتوبا قبل أكثر من عام من سقوط النظام وقررت تركه كما هو دون تغيير أو تعديل ليكون شاهدا حياً على نمط معين من التفكير والتحليل، ليقرأ الأحداث ويستبق وقوعها. ثم أضفت عليه بعض الكتابات التي صغتها بعد انهيار النظام وعودتي من المنفى واقامتي في العراق، أي أنها كتبت من داخل العراق على ضوء معايشة يومية داخل حيثيات الجحيم العراقي الناجم عن افتقاد كل شيء كالأمن والكهرباء والمال والأمل.






















القسم الأول







ماقبل الكارثة

أو قبل الدخول الى النفق المظلم

















مقدمة
حلول اللحظة الأخيرة للمحنة العراقية عندما كان صدام حسين يمتلك مفاتيح الحل
ماذا لو فعلتها أميركا وقررت عدم إطاحة صدام حسين في اللحظة الأخيرة ؟ هذا ما ردده الشارع العراقي الخائف وردده كذلك قادة المعارضة العراقية بالسر والعلن حتى ممن عارض بشدة التدخل الأمريكي والضربة العسكرية الأمريكية المحتملة على العراق ورفض التنسيق والتعاون مع الولايات المتحدة الأمريكية والمشاركة في المؤتمرات التي نظمتها أو رعتها بغية التحضير لمرحة ما بعد صدام حسين.
لم يكن هذا التصور نابع عن حدس بل عن تجربة ومرارة سابقة أثبتتها حوادث حرب الخليج الثانية ومواقف الولايات المتحدة الأمريكية فيها وتخليها عن الشعب العراقي في انتفاضة آذار 1991 وسماحها ببقاء صدام حسين في السلطة وصمتها إزاء سحقه الانتفاضة بالحديد والنار وقتل مئات الآلاف من العراقيين المدنيين ودفنهم في قبور جماعية وبعضهم كان مازال على قيد الحياة، واستخدامه أسلحة الدمار الشامل الكيماوية والأسلحة الثقيلة والطائرات والمدرعات والدبابات كأنه في حرب حقيقية ضد عدو مدجج بالسلاح بينما كان يحارب شعباً أعزل .نفس هذا الحدس راود ذهن الباحث الفرنسي الكبير المتخصص بالعراق بيير جون لويزار الذي قال:" ما أخشاه هو أن تتطيح أمريكا بصدام حسين الحالي وتأتي لكم بصدام آخر بدون شارب". ثم انتشر التساؤل التالي على كل لسان في أوساط الرأي العام العالمي والإقليمي والعربي والعراقي: هل ستقع الحرب؟ ولكن أي نوع من الحرب يعنون ؟ وأي شكل من أشكال الحرب يقصدون؟ فالحرب ليست فقط طائرات ودبابات وصواريخ وإطلاق نار وقصف جوي وبري وبحري، فهذه ليست سوى الشكل المباشر والملموس للحرب. وقد تتخذ هذه الأخيرة أشكالاً أخرى أشد قسوة ومرارة وفتكاً وتدميراً وهو ما يحصل للعراق منذ عام 1990 وحتى يوم الناس هذا. أليس الحصار والحظر حرباً راح ضحيتها مئات الآلاف من العراقيين لاسيما الأطفال والنساء وكبار السن؟ فالحرب التي كانت مرتقبة آنذاك باتت شبه مسلمة في أذهان الكثير من المتابعين للشأن العراقي.
نعم من المؤكد أن الحرب واقعة لامحالة بشكل من الأشكال المعروفة أو المجهولة، العلنية أو السرية. فحشد القوات الأمريكية بهذه الغزارة والكثافة والعتاد وتطويق العراق من كل جانب وإطباق الكماشة عليه، مع مايترتب على ذلك من توترات دولية وتكاليف باهظة ومخاطر لايمكن حصرها، لن يكن لمجرد التسلية وتزجية الوقت وممارسة الضغوط ليس إلاّ. فكافة التكهنات المرتبطة بعوامل عديدة منها المناخ، ومنها حركة الرفض المدني التي يبديها الرأي العام العالمي والتي تزداد كل يوم، تشيرإلى حتمية وقوعها في غضون شهري فبراير/ شباط أو آذار/ مارس 2003، ولكن وكما ذكرت ليس بالضرورة أن تكون حرباًعلى شكل هجوم كاسح وإحتلال أراضي وتدمير منشآت عسكرية ومدنية وتخريب البنى التحتية ووسائل الاتصال والخدمات العامة بغية القضاء على نظام معزول أو حفنة من الأفراد لايتجاوز عددهم بضعة عشرات ولكن للأسف الشديد إن هذا هو الشيء الوحيد الذي تعرفه الولايات المتحدة الأمريكية ولا تعرف غيره وستقوم به وهو الأمر الذي حدث بالفعل بكل حذافيره وقادنا إلى هذه المأساة.
فبعد أن أضفت الولايات المتحدة الأمريكية الصفات الشيطانية على صدام حسين (وهو يستحقها بالفعل) وهددت وتوعدت وفضحت ونددت بتهديدات وخطورة صدام حسين ونظامه ( إن كان ذلك حقاً أو باطلاً، خطأً أو صواباً) وأقامت الدنيا ولم تقعدها بعد، لايمكنها التراجع والانسحاب بكل بساطة وكأن شيئاً لم يكن. فهيبتها ومصداقيتها في العالم ستتعرض للاهتزاز والسخرية والشماتة. فلايمكنها والحالة هذه أن تترك صدام حسين يخرج من هذه الأزمة سالماً منتصراً وهو الذي أعتاد بحذاقة تحويل هزائمه إلى انتصارات.
لكن الواقع العالمي له حساباته هو الآخر. فهناك قوانين دولية ومواثيق ومعايير يجب إحترامها أو عدم خرقها والخروج عليها وتحديها بشكل سافر، وإلا سيشكل ذلك سابقة خطيرة قد تقود آجلاً أم عاجلاً إلى فوضى دولية وربما حرب عالمية ثالثة. وهناك الشكوك بشأن عدم توفر الأدلة القاطعة على التهم الموجهة لصدام حسين ونظامه. فالمفتشون الدوليون يقومون بعملهم بكل جدية ونشاط ليلا ونهاراً ولم يعثروا على شيء يذكر . ولكن لايشكل هذا دليلاً هو الآخر على براءة صدام حسين ولايعني بأي شكل من الأشكال أن العراق خال من أسلحة الدمار الشامل التي كان صدام يصنعها خلال العقدين المنصرمين على الأقل على الصعيد النظري على شكل مشاريع على الورق معدة للتنفيذ في أول فرصة سانحة.
فمن الممكن جداً أن صدام حسين افلح في إخفاء البلوتونيوم، المشكوك في إمتلاكه، والـ 17 طناً من السوائل، التي يمكن أن تستخدم في صناعة الأسلحة النووية، والبكتريولوجية. و باتت نواياه واضحة ومعروفة إذ كان ومايزال شخصاً مثيراً للقلق لاسيما وهو المصاب بلوثة جنون العظمة . ولكن في نظر الشرعية الدولية، ليس ذلك كافياً لشن حرب عليه وتدمير البلد الذي يحكمه هذا الديكتاتور المجنون بأكثر الأساليب وحشية وقسوة واستبداد لامثيل له في التاريخ الحديث.
وعندما وافقت الولايات المتحدة المرور عبر الأمم المتحدة ومجلس الأمن لتنفيذ مخططاتها وإصدار قرار بهذا الشأن حمل رقم 1441 صوّت عليه بالإجماع فذلك يعني أن على أمريكا الالتزام به مثلما يتعين على العراق الالتزام به وتنفيذه حرفياً، ولكن تبقى مسألة تفسير وترجمة مثل هذا القرار هي المشكلة.
فطالما استمر المفتشون الدوليون في عملهم دون أن يعثروا على دلائل مهمة تدين النظام العراقي كان من الصعب إقناع الرأي العام العالمي بضرورة الضربة العسكرية كما كان من الصعب على جورج بوش تأمين الإجماع الدولي الضروري لإضفاء الشرعية على مشروعه العسكري. فالوقت لم يكن يجر لصالح الحرب وجميع العواصم العربية والأوروبية ناورت و تناور ، كل حسب قدرتها وتأثيرها، ضد واشنطن ، لمنع وقوع الحرب بيد أنها لم تنجح. حتى لندن الحليف المطلق لواشنطن بدأت تتراجع وتوافق على ضرورة المرور عبر مجلس الأمن والأمم المتحدة والسماح للمفتشين لإتمام عملهم كما ينبغي وإعطائهم الوقت الكافي والمساعدات اللازمة لإنهاء مهمتهم الحساسة. وباريس ناشدت صدام حسين للتعاون بشكل إيجابي وفعّال من تلقاء نفسه لتدمير أسلحته المحظورة وتجنيب بلاده ويلات حرب لايمكن حساب مداها والاّ يكتفي بفتح الأبواب على حد تعبير الديبلوماسية الفرنسية. وروسيا عبرت عن امتعاضها لكنها لاتدري ماذا تفعل أمام مثل هذا التحدي الذي يفوق قدرتها الفعلية على العمل والتحرك على الساحة الدولية والجميع يعزف على معزوفة لا للحرب خاصة وأن أوروبا بدت أكثر تفاهماً واتحاداً فيما بينها حيال هذا الملف مما هي بشأن أي ملف آخر. واستخدم توني بلير ماعنده من رصيد لدى جورج دبليو بوش لإقناعه بالتمسك بالشرعية الدولية وعدم تجاهل الأمم المتحدة بل المرور من خلالها، عكس ما يعلنه صقور الإدارة الأمريكية، الذين ينادون بتجاهل المنظمة الدولية إذا رفضت إصدار قرار يتيح للولايات المتحدة توجيه ضربة عسكرية للعراق.
أما دول الجوار العراقي فلكل منها رؤيته وهمومه ومخاوفه. فالأردن تخاف من عواقب هذه الحرب اقتصادياً وسياسياً حيث قد تدفع ثمن تسفير ملايين الفلسطينيين نحو أراضيها إذا ما فلت زمام الأمور من أيدي سادة الحرب. وكذلك تخشى تركيا من إعلان الأكراد دولتهم المستقلة ورفع الغطاء عن قمقم الأكراد الأتراك وإيقاظ النزعة الانفصالية لديهم ومطالبتهم بدولة مستقلة على غرار أشقائهم في العراق. وإيران تخاف أن تكون الضربة التالية موجهة إليها هي بالذات بعد احتلال العراق عسكرياً وتواجد القوات الأمريكية بالقرب من حدودها. ودول الخليج تخاف من سياسة إعادة ترتيب الأوراق إقليمياً التي تسعى إليها أمريكا كما يشاع في وسائل الإعلام العالمية حيث سيكون العراق الخطوة الأولى في مسيرة الألف ميل، وبالتالي تتهاوى عروش وتسقط عائلات حاكمة وتعم الفوضى جميع البلاد.أما سورية فهي الخائف الأكبر من تداعيات حرب لاترغب فيها بالقرب من حدودها وحيث مازالت أمريكا تنظر إليها بعين الشك وتعتبرها من الدول الراعية للإرهاب والعدو الإسرائيلي يتربص بها ويتحين الفرص لمهاجمتها.
من هنا جاءت أهمية المبادرة التركية الأخيرة المدعومة بالثقل العربي الأهم: مصر، السعودية وسوريا والهادفة الى نزع فتيل الأزمة العراقية من خلال تقديم مقترحات كان من الممكن أن تقبلها واشنطن أو ترفضها وهو الأرجح، وكانت تلك المبادرة جادة وتدخل في صميم الهم الأستراتيجي لهذه الدول. كل الدول المعنية بالقضية العراقية «تكره» صدام حسين وتتمنى رحيله بأسرع وقت قبل فوات الأوان ولكن ليس عن طريق الحرب، إلاّ أن الخطة الأمريكية لم تترك لها خيارات مقبولة، بل على العكس فاقمت من مخاوفها حول مصير هذه المنطقة البالغة الحيوية للعالم بأسره. لاسيما ما قدمته الولايات المتحدة الأمريكية من بدائل لمستقبل العراق. وهي أفكار تتراوح ما بين احتلال عسكري مباشر، وحكم لن يكون بعيدا عن تشكيلة «مؤتمر لندن» وهي تشكيلة تثير حساسيات عديدة لدى الدول المحيطة بالعراق والمعنية بالمسألة العراقية. ترغب الدول المجاورة للعراق بالمحافظة على «الخيار السني» القائم منذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة. والذي ينسجم مع تركيبة المؤسسة العسكرية العراقية التي كانت مرشحة وفقا لكل السيناريوهات لتلعب دورا متميزا في أي تغيير مرتقب في قمة السلطة العراقية آجلاً أم عاجلاً، تداولت وسائل الإعلام شائعات منتشرة في واشنطن أن الرئيس العراقي صدام حسين لم يرفض فكرة المبادرة لكنه طالب بضمانات تعجيزية. لم تعلق دوائر البيت الأبيض على تلك المبادرة التركية لأنها لم تكن تعتقد بفرص نجاحها. فهي مبادرة تحظى بالتأييد السعودي ومن يدور في فلك العربية السعودية من قياديين عراقيين سنة وضباط سابقين منشقين في الجيش العراقي، وإنها تسعى للحصول على التأييد السوري وسعي دمشق لإقناع إيران بعدم عرقلة هذه المبادرة وهو الأمر الذي لم تفلح به دمشق حيث مازالت طهران تعارض أي حلول إقليمية لاتأخذ وجهة نظرها ورأيها في الحسبان. تكمن المشكلة فيما تريده واشنطن حقاً، فأي حل لا يضمن رحيل صدام حسين وتركه للسلطة هو حل مرفوض أمريكياً. وقد ذكرت مصادر دبلوماسية أن الأتراك يعرضون صيغة رحيل صدام عن السلطة وليس رحيله عن العراق لأن الملجأ الآمن الوحيد له هو داخل العراق وليس خارجه. وقد جرت في الكواليس مناقشة فكرة تشكيل مجلس رئاسة بديلاً عن صدام حسين يتكون من 5 أشخاص يضم أثنين من العرب السنة، أحدهما محسوب على الحكم الحالي على ألا يكون متورطا في جرائم النظام، وأثنين من الشيعة، أحدهما من العرب الشيعة من المقيمين داخل العراق، وكردي واحد. وهذا الحل يمكن أن يطمئن المؤسسة العسكرية،على أن يضمن مجلس الرئاسة المقترح حياة وأمن الرئيس العراقي وعائلته والأشخاص المقربين منه وأن تنتقل السلطة للمجلس الجديد بصورة سلمية وليس عن طريق العنف أو الإنقلاب العسكري.
لم يكن لمبادرة اللحظة الأخيرة هذه أية حظوظ في النجاح فهي تتطلب موافقة الخصمين اللدودين بوش وصدام. كما لضمانات لا يمكن لأية جهة تقديمها عدا واشنطن لكنها لم تكن مستحيلة، بل ممكنة وكان بمكن أن تلجأ إليها أمريكا إذا ما اضطرت الى ذلك.
إن هذا التشخيص الدقيق للواقع العراقي والإقليمي والدولي الذي كان سائداً آنذاك هو الذي دفعني لتقديم هذا الكتاب الذي يعالج قضية العلاقة بين أمريكا والعراق واتباعهما سياسة حافة الهاوية. فصدام حسين برفضه كافة المبادرات السلمية للتنحي عن السلطة يعني أنه قرر المقاومة وخوض الحرب وهو يعلم أنه يخوض مخاطرة غير مأمونة العواقب والتي ستكون فيها نهايته الفعلية، كما أن الولايات المتحدة الأمريكية بدورها خاضت مغامرة محفوفة بالمخاطر شكلت لها منزلقاً أخطر عليها من حرب فيتنام السيئة الصيت وهي مغامرة اضطرتها إلى قلب المعايير الدولية والمضي في نفق ليس له نهاية إذا لم تنجح في حسمها بسرعة فائقة وبأقل الخسائر الممكنة قبل أن تتفاقم تداعياتها المأساوية. والكتاب عبارة عن كتابات وتحليلات كتبت في أوقات متفرقة ومناسبات متعددة خلال سنوات وفقاً لتطورات القضية العراقية، ويجمعها قاسم مشترك واحد هو العراق وعلاقته بأمريكا وسياسة هذه الأخيرة تجاهه وتجاه منطقة الشرق الأوسط برمتها، ومايواجه العالم من مخاطر هي التي أسميناها بسياسة حافة الهاوية. فالعالم يقف على حافة بركان متفجر قد يحرق الجميع بحممه مهما كانت الاحتياطات المتّخذة.



الفصل الأول
مأزق واشنطن في العراق: نظرة تجديدية
كتب هذا التحليل سنة 1999 بعد الهجمات الجوية التي شنتها إدارة بيل كلينتون على العراق فيما عرف آنذاك بعملية ثعلب الصحراء سنة 1998 ولم ينشر. قررت وضعه حرفياً لنرى أن الواقع السياسي والعسكري والاستراتيجي والاقتصادي المتعلق بالمسألة العراقية لم يتغير وإن المعطيات مازالت كما هي وصالحة للتحليل السياسي ولن يتغير شيء في سياق وديباجة المقال سوى عبارات (آنذاك أو في ذلك الوقت أو سابقاً، مراعاة لمقتضيات التجديد والتحديث ومواكبة متغيرات الأحداث والشخصيات)، وذلك كلما ورد إسم مسؤول أمريكي كان في دفة السلطة في ذلك الوقت مثل بيل كلينتون ومادلين أولبرايت وغيرهم وستكون بين قوسين.
عندما قرر جورج بوش الأب تحرير الكويت من براثن الاحتلال الصدامي في عام 1991، لم يُخْف موقفه بأنه لم يكن ينوي فقط معاقبة صدام حسين الذي نعته بصفة " هتلر الجديد" فحسب، بل بالإضافة إلى ذلك السعي إلى عزله وإطاحته. ومرت تسعة أعوام على ذلك الخطاب وكان هذا الـ " الهتلر الجديد " مايزال موجوداً في السلطة بل حاول هو بدوره معاقبة جورج بوش الأب من خلال محاولة إغتياله أثناء زيارة هذا الأخير إلى الكويت. وإلى جانب أنه لم تبد على صدام حسين ونظامه آنذاك أية دلائل على هزاله وضعف نظامه، بل صار صار يدعو العرب إلى التحالف ضد الولايات المتحدة الأمريكية وضرب مصالحها الحيوية في كل مكان في العالم (وظل يدعوها الى يوم سقوطه). ومن جراء ذلك إقتنعت بعض الأوساط السياسية الأمريكية في الإدارة السابقة (إدارة بيل كلينتون) بأن سياسة التطويق المنتهجة ضد العراق في ذلك الوقت باتت غير مجدية، وأنه من الأفضل للولايات المتحدة الأمريكية إنتهاج سياسة العزل التي تعني في نهاية المطاف إسقاط النظام العراقي بطريقة من الطرق.
في أحد أعدادها الصادرة في شهر يناير 1998، خصصت مجلة " السياسية الخارجية ـ فورين أفيرز" النيويوركية الشهيرة مقالاً شاملاً حول هذا الموضوع. وبعد أن عرض كاتبوا المقال، وعددهم ثلاثة، الإستراتيجيات الأمريكية الثلاثة المطروحة للدرس آنذاك في قمة السلطة في واشنطن، وهي: ـ القصف الجوي المكثف، مساندة المعارضة العراقية وتأمين جيوب جغرافية لها داخل العراق، والحرب على الطريقة الأفغانية ـ، إستنتجوا أن سياسة العزل ليست سوى أوهام غير مجدية. وقد أكد أحد الخبراء بهذا الصدد وهو بنجامان ووركس في مقال نشره في صحيفة وول ستريت جورنال، إن مصر والمملكة العربية السعودية والكويت باتوا مقتنعين تماماً (آنذاك بالطبع ومازالوا يعتقدون ذلك حتى لو لم يعلنوا موقفهم علناً) بضرورة قلب نظام حكم صدام حسين كحل جذري للخروج من المأزق، لكن هذه الدول العربية الرئيسية الثلاثة تخاف من تدخل الولايات المتحدة الأمريكية المباشر في الموضوع لكنها عاجزة في نفس الوقت عن إيجاد الحل العربي للأزمة العراقية. وهناك سبب آخر وهو أن مصداقية بيل كلينتون (الرئيس الأمريكي السابق) كانت قد أصيبت بهزة عنيفة بسبب فضيحة مونيكا وتخاذله أمام التعنت الإسرائيلي ونجاة الرئيس اليوغسلافي (السابق في تلك الفترة) سلوبودان ميلوسوفيتش " الهتلر الآخر حسب وصف واشنطن " من العقاب في ذلك الحين، وفشل الوساطة الأمريكية بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية، وأخيراً بسبب العقم الظاهري الذي منيت به عملية ثعلب الصحراء. نتج عن ذلك الوضع المتأزم والعجز البادي للعيان توتر عام في العلاقات الدولية والذي يمكن القول أن أهم أسبابه تكمن في الجدل القائم حول الملف العراقي حيث أن النقاش العالمي الذي كان دائراً بهذا الشأن لم يأخذ بعين الاعتبار مسألتين هما الأكثر أهمية في نظر المجموعة الدولية ودول الجوار وهما: مستقبل العراق بدون صدام حسين أو مابعد صدام حسين ـ وكان هذا السؤال نفسه ينطبق على يوغسلافيا بدون ميلوسوفيتش، وقد نجحت المجموعة الدولية فرض حلولها وتخليص يوغسلافيا من ديكتاتورها عن طريق الحرب ـ وشرعية إستخدام دولة أجنبية منفردة لوحدها القوة العسكرية من أجل الإطاحة بزعيم دولة تعترف بها المجموعة الدولية وعضو في الأمم المتحدة.
أولاً قضية مستقبل العراق بدون صدام حسين: إذا كانت هناك دولة مصطنعة أنشأتها القوى الإستعمارية فهي العراق بلا جدال. فقد أسس البريطانيون دولة العراق الحديثة غداة الحرب العالمية الأولى من أجل السيطرة على نفطها ومن أجل إقتسام منطقة الشرق الأوسط برمتها بينها وبين فرنسا الدولة العظمى الثانية آنذاك بموجب إتفاقية سايكس بيكو. ولا شيء يدعو إلى الدهشة إذا علمنا إن العراقيين ومنذ ذلك الوقت، كلما تخلصوا من براثن ديكتاتور وقعوا في براثن ديكتاتور آخر أسوء منه وإن وعود الحكم الذاتي للأكراد العراقيين عندما يكون النظام القائم في العراقي بحاجة إليهم سرعان ما تتحول إلى قمع وبطش وإبادة ضدهم كلما طالبوا بحقوقهم المشروعة، بمجرد أن تنتفي حاجة النظام العراقي القائم إليهم وذلك عبر كافة مراحل التاريخ العراقي المعاصر.
يبدو أن جورج بوش الأب عندما دعا إلى قلب نظام حكم صدام حسين في خضم حرب الخليج الثانية كان يعتقد ويتمنى أن يقوم بهذه المهمة حفنة من الجنرالات السنة. لكن الأمور خرجت من إطار التوقعات والتمنيات عندما إنتفض الشعب العراقي بغالبيته العظمى من شيعة وسنة وأكراد وعلمانيين وديموقراطيين ويساريين في الشمال والجنوب والوسط ضد النظام في إنتفاضة آذار المجيدة سنة 1991 وفرضوا سيطرتهم على مناطق واسعة من العراق وحرروا 14 محافظة من أصل 18 يتكون منها العراق الحديث.
خشيت دول الخليج وواشنطن من وقوع بغداد بين أيدي حلفاء طهران من شيعة العراق ، وشعرت جارات العراق بالرعب وخاصة تركيا إزاء احتمالات نشوء دولة كردية مستقلة في شمال العراق ، الأمر الذي دفع الإدارة الأمريكية برئاسة جورج بوش الأب إلى فك الطوق المضروب على قوات صدام حسين المحاصرة وعلى رأسها قوات الحرس الجمهوري، والسماح لها باستخدام الطائرات والهليكوبترات والصواريخ والأسلحة الفتاكة بما فيها الكيمياوية ضد المنتفضين والمتمردين على النظام لقمع وسحق الانتفاضة بالحديد والنار وسيول من الدماء وآلاف من الضحايا المدنيين دون أن تعتبر ذلك إنتهاكاً لوقف إطلاق النار . وبعد أن إطّلع الرأي العام العالمي على حقيقة المآساة وشعوره بالأسى حيال صور المأساة الكردية التي تناقلتها وسائل الإعلام العالمية ونزوح الآلاف من الأكراد إلى الجبال المجاورة في ظروف مناخية كانت غاية في الصعوبة إضطرت الولايات المتحدة إلى التدخل وفرض مناطق آمنة للسكان المدنيين يحظر على الطيران العراقي التحليق فوقها في منطقة كردستان العراق تاركة الشيعة يواجهون مصيرهم لوحدهم في الوسط والجنوب.
ومرت سنوات على تلك الأحداث وخسر جورج بوش الأب معركة تجديد رئاسته ووصل إلى قمة الإدارة الأمريكية بيل كلينتون عن الحزب الديموقراطي فترك الأمور تجري في مجاريها دون تغيير بالرغم من صدور قانون تحرير العراق إبان فترة حكمه في ولايته الثانية. فالأكراد حاولوا مراراً وتكراراً إرضاء سيد بغداد والتفاوض معه من أجل حل يرضي الطرفين (السلطة المركزية وسلطة الحكم الذاتي الكردية) لكنهم لم يفلحوا في ذلك ونشبت بين الحزبين الكرديين الرئيسيين معارك دامية على النفوذ دامت سنوات. أما باقي قوى المعارضة العراقي فكانت مشتتة ومتناحرة وتبحث عن المناصب والحصص على أسس طائفية أو عرقية أو قومية.

الشق الثاني من المعادلة الاستراتيجية الأمريكية في الشرق الأوسط عامة وفي العراق خاصة يتعلق بالتدخل الأمريكي المباشر في شؤون المنطقة. فهناك سؤال لايقل أهمية عما سبق طرحه وهو: هل يحق للولايات المتحدة الأمريكية إستخدام القوة على انفراد للتخلص من صدام حسين؟ رد البعض على مثل هذا التساؤل بأن واشنطن لم تستأذن أحد عندما تدخلت في مناطق أخرى من العالم مثل غواتيمالا عام 1954، أو في سانت دومينيك عام 1965، وكان جون كندي قد إتخذ وحيداً قرار إنزال القوات الأمريكية في خليج الخنازير في كوبا سنة 1962، والكل يعلم إن جون كندي كان ينوي إغتيال فيدل كاسترو. بيد أن كل ذلك كان يتم في فترة أصبح مجلس الأمن فيها مشلولاً بسبب فيتو الإتحاد السوفيتي ذو القوة العسكرية والنووية المرعبة والموازية للقوة العسكرية والنووية الأمريكية في ظل ما كان يسمى بتوازن الرعب، حيث لم يكن الاتحاد السوفيتي ليتردد لحظة من أجل الحفاظ على امتيازاته الدولية والاستراتيجية هو الآخر ليغزو هنغاريا أو تشيكوسلوفاكيا أو أفغانستان والتلويح باستخدام أسلحة الدمار الشامل. وبما أن الشعب الأمريكي كان دائماً على قناعة بوجوب تطويق الخطر الشيوعي فإنه كان دائماً على إستعداد للتصفيق للرئيس في جميع خطواته وقراراته.
أدت نهاية الحرب الباردة إلى تلاشي الخوف من شبح الدمار الشامل، وبالتالي إلى إنخفاض حدة التأييد الشعبي للرئيس والتصفيق له بلا شروط من قبل شعب كان ينعم بنوع من الإزدهار والأمن الداخلي الذي لم يسبق له مثيل. ثم توالت النكبات والإخفاقات التي منيت بها الإدارات الأمريكية المتعاقبة من مأساة فشل التدخل الأمريكي في الصومال وخروج القوات الأمريكية من لبنان وفشلها في التدخل في إيران لتحرير الرهائن (إلى تاريخ وقوع هجمات الحادي عشر من أيلول / سبتمبر 2001) مما أدى إلى إنحدار شعبية الرؤوساء وتزايد الخوف من المجازفة بحياة الجنود الأمريكيين على المسارح العسكرية الخارجية خاصة في أعقاب ماساة حرب فيتنام الدامية. نتيجة لذلك لم يبق أمام الإدارات الأمريكية السابقة سوى أسلوب شن الهجمات بالصواريخ البعيدة المدى التي لاتستطيع إسقاط أي نظام حكم، بل بالعكس إذ أنها تؤدي دائماً إلى وقوع ضحايا من المدنيين الأبرياء مما يؤدي إلى زيادة الحقد على الأمريكيين في الأوساط الشعبية لشعوب المناطق الفقيرة والضعيفة في العالمين العربي والإسلامي وتفاقم روح الثأر والانتقام وازدهار الحركات المتطرفة والأصولية.
أستوعب طغاة وديكتاتوريون في كافة مناطق العالم من أمثال صدام حسين وسلبودان ميلوسوفيتش وكيم جونغ إيل ولورن ديزيريه كابيلا وغيرهم هذا الدرس جيداً وبنوا حسباتهم بناءً عليه وصاروا يوسعون أكثر فأكثر مجال إستفزازاتهم، أما أوروبا التي يجري الحديث عنها وعن دورها في كل مناسبة فلم يحن الوقت بعد لتضع بصماتها في مجال السياسية الخارجية الدولية والأمن العالمي المشترك. فهي لاتفعل في الوقت الحاضر سوى التطلع والمراقبة والانتظار وأحياناً الشجب والتنديد والتحفظ ولكن ماذا يمكن لهذه المواقف الكلامية أن تفعل وماذا يمكنها أن تغيّر؟ كل واحد من أعضاء مجلس الأمن الدائمي العضوية بات يمتلك فجأة حلاً أو إقتراحاً للخروج من الأزمة العراقية وكان آخرها (قبل وقوع تفجيرات وأحداث أيلول/ سبتمبر 2001 في واشنطن ونيويورك) إقتراحاً روسياً قدمته موسكو لمجلس الأمن في 15 يناير/ كانون الثاني 1999 وكانت فرنسا قد أعلنت عن مشروعها الخاص قبل ذلك التاريخ بثلاثة أيام كما قدمت واشنطن أفكارها الخاصة آنذاك للخروج من المأزق العراقي.
إعتمدت كافة الأفكار والمقترحات المقدمة (في ذلك الوقت) على محورين رئيسيين وهما، الأول : أن بغداد لم تعد تخضع للمراقبة الدولية منذ مغادرة المفتشين الدوليين في لجنة الأونيسكوم السابقة للعراق بعد القصف الصاروخي والجوي الأمريكي ضد هذا البلد سنة 1998 ولم يعد العراق يخضع إلى أي نوع من أنواع التفتيش على الأسلحة المحرمة دولياً كأسلحة الدمار الشامل الكيمياوية والبيولوجية أو الجرثومية والنووية، وبالتالي تستطيع بغداد (من الناحية النظرية على الأقل) إعادة بناء وترميم وتطوير أسلحة الدمار الشامل التي دمرت أو نزعت منها. المحور الثاني هو أنه: بعد ثمانية أعوام (أصبحت اليوم إثني عشر عاماً) من الحصار والحظر والتفتيش تغيرت الأمور كثيراً لاسيما داخل العراق نفسه فلم يعد المواطن العراقي بنفس المعنويات والأخلاقيات السابقة.
كان هدف جميع تلك المقترحات هو تغيير كل أو جزء من حالة الجمود السائدة منذ عام 1991، أي منذ وقف إطلاق النار، إذ لم يحدث شيء جوهري يذكر باستثناء اتفاق النفط مقابل الغذاء.
لم تدّع أيٌّ من تلك المقترحات الشمولية والكمال، لأن أيٌّ منها لم يقدم كمشروع كامل وناجع غير قابل للتفاوض والتعديل. ولأنه لا أحد في مجلس الأمن الدولي [في ذلك الوقت ـ بل وحتى في الوقت الحاضر سنة 2005] يمتلك العصا السحرية للوصول إلى حل، ولا أحد يود إحداث إنقسام أو شرخ عميق في مجلس الأمن وإثارة الخلافات والإختلافات والاجتهادات، والنتيجة الناجمة عن ذلك تعكس حيرة واضطراب أصحاب المقترحات الذين يريدون تغيير الأمور في العراق دون أن يقطف النظام العراقي ثمار هذا التغيير الذي لن يطاله.
تقاسمت روسيا وفرنسا فكرة وجوب الإنتقال إلى مرحلة المراقبة الإلكترونية الطويلة الأمد، أو الدائمة على العراق مع إعادة الاعتبار للنظام العراقي تدريجياً ودمجه من جديد في المجموعة الدولية وذلك لاعتبارات اقتصادية واستراتيجية للدولتين باتت معروفة. بعبارة أخرى اعتقدت الدولتان أن مرحلة البحث عن الأسلحة التي كان العراق يمتلكها قبل غزو الكويت قد انتهت وحان وقت الإنتقال إلى مرحلة الإجراءات الوقائية سلمياً والتي تمنع بغداد من إعادة بناء وتكوين ترسانة أسلحة الدمار الشامل بالرغم من وجود فروقات هامة وجوهرية بين المقترحات الفرنسية والمقترحات الروسية بهذا الشأن. فبناءاً على الأفكار الفرنسية يتوجب على مجلس الأمن الاعتراف بفشله وعجزه في تحقيق أي تقدم إضافي فيما يتعلق بنزع أسلحة الدمار الشامل العراقية ، وبالتالي ينبغي عليه إتخاذ قرار التحول إلى مرحلة المراقبة الإلكترونية الدائمة والمستمرة مع الإقرار بضرورة رفع الحظر الدولي عن العراق تدريجياً بدءاً برفع الحظر النفطي . أما روسيا فإنها كانت تقترح إرسال لجنة خبراء جديدة في الأسلحة النووية والكيمياوية والبيولوجية يتم تكليفها بدراسة وتقويم ما تم تحقيقه بخصوص نزع الأسلحة العراقية المحظورة دولياً. وعلى ضوء التقرير الذي تقدمه تلك اللجنة يتخذ مجلس الأمن قرار الانتقال والتحول أو عدم التحول إلى مرحلة المراقبة الدائمة، الذي يتوقف عليه قرار رفع أو عدم رفع الحظر البترولي. لكن المقترحات الروسية لاتطرح ولا تجيب على السؤال التالي: ما العمل فيما لو كان تقرير اللجنة الدولية المقترحة سلبياً ؟ هل يترك العراق أم يعاقب على انتهاكاته؟ وكيف يتتم معاقبته إذا ثبت إرتكابه للذنب ؟ (وهو نفس التساؤل الذي طرح فيما بعد إثر تقديم لجنة أنموفيك تقريرها في نهاية شهر كانون الثاني / يناير 2003 فهل سيعاقب العراق ومن الذي سيعاقبه هل هي الولايات المتحدة وبريطانيا وحدهما أم قوات تحالف دولية بقرار من الأمم المتحدة ومجلس الأمن ؟ أي أن هذه الحالة كانت قائمة لغاية شهر نيسان2003 بوجود لجنة دولية جديدة للتفتيش بإسم أنموفيك تعمل في العراق بسرعة فائقة قبل بدء العمليات العسكرية الأمريكية المرتقبة). أما موقف الولايات المتحدة الأمريكية فهو كان، وظل ثابتاً على ماكان عليه، إذ تعتقد واشنطن ولندن أن العراق مازال غير منزوع السلاح وإنه يمتلك أسلحة دمار شامل خطيرة خاصة منذ سنة 1998 وخروج المفتشين الدوليين منه، وإنه مازال يشكل خطراً على جيرانه وعلى المنطقة وعلى السلام العالمي وأنه ينبغي عودة الخبراء الدوليين ومفتشي الأمم المتحد بأسرع وقت وبصلاحيات جديدة وواسعة أو غير محدودة بما فيها استجواب العلماء العراقيين خارج العراق وتفتيش قصور صدام حسين وبيوت المسؤولين والعلماء العراقيين، عند استئنافهم لمهامهم ومواصلة نشاطاتهم التفتيشية. ومن جهة ثانية تعتقد واشنطن أنه من غير الممكن رفع الحظر النفطي عن العراق بلا قيد أو شرط وبدون قيود تكبيليية، بل من الممكن إتخاذ المزيد من الإجراءات الإنسانية لصالح المدنيين العراقيين لتخفيف معاناتهم كإلغاء الحد الأقصى لمبيعات النفط العراقي التي حددت بـ 5.2 مليار دولار كل ستة اشهر (وهو الأمر الذي تم بالفعل فيما بعد) وهذا السقف فرضه اتفاق النفط مقابل الغذاء (الذي تمت مراجعته فيما بعد)، و تسهيل إجراءات المقايضة والبيع والشراء التي تقيّد بغداد فيما يتعلق بتوقيع عقودها التجارية وشراؤها السلع والمنتجات الغذائية والدوائية. والجدير بالذكر أنه يسمح للعراق نظرياً بشراء واستيراد قطع الغيار اللازمة لتصليح وتجديد منشآته النفطية ، ولكن واشنطن تصر على أن تمر جميع المشتريات العراقية والأموال المستحصلة، الداخلة والخارجة من وإلى العراق، عبر قنوات الأمم المتحدة طبعاً عدا أموال النفط العراقي المهرّب التي لايمكن السيطرة عليها.
إن التسهيلات التي اقترحتها واشنطن في ذلك الوقت تضمنتها الخطة السعودية بخصوص رفع الحظر النفطي والغذائي وإبقاء الحظر العسكري والصناعي على بغداد، وهو نفسه المطلب الفرنسي برفع الحظر النفطي وإبقاء باقي أنواع الحظر والعقوبات، ولكن دون ذكر الأسماء حتى لايساء إستغلاله من قبل الدعاية الإعلامية العراقية وامتداداتها الدولية. لكن الجهات الأكثر إرتياباً رأت في ذلك وسيلة استخدمتها واشنطن لراحة الضمير عن طريق التركيز على النواحي الإنسانية، يضاف إلى ذلك حسب اعتقاد المتشككين، إن العراق، ونظراً لتردي منشآته النفطية، لايستطيع إنتاج نفط يتجاوز مردوده المادي أكثر من 3 مليار دولار، فلا داعي، كما يقول المتشككون، الإدعاء بالإهتمام بأحوال المواطنين العراقيين عندما لايمكن ترجمة هذا الإهتمام والتمني إلى أفعال.
لايلح الفرنسيون والروس على تجديد اتفاق النفط مقابل الغذاء إذا تمكنوا من إيجاد بديل أفضل له، بينما تركز واشنطن عليه باعتباره بديلاً مقبولاً عن رفع الحظر، ليس لأن الفرنسيين والروس لايعيرون إهتماماً لهذا الاتفاق ولكن لأنهما يركّزان على مسألة رفع الحظر ورفع العقوبات إن عاجلاً أم آجلاً والتي تجعل هذا الاتفاق لاغياً ضمنياً. ولم يقل الروس ولا الفرنسيون شيئاً، على الأقل بشكل صريح، عن كيفية ضمان الولايات المتحدة بقيام النظام العراقي بتوزيع عوائد النفط بصورة عادلة وبالتساوي على جميع فئات وطوائف الشعب العراقي وترشيد مشترياته حسب احتياجات المواطنين الضرورية، في حين أن اتفاق النفط مقابل الغذاء يضمن هذا الأمر من الناحية النظرية على الأقل عن طريق مراقبي الأمم المتحدة. وفي المقابل يقترح الفرنسيون والروس بضعة إجراءات لضمان الشفافية المالية للحيلولة دون استخدام النظام العراقي لأموال النفط لأغراض وأهداف وغايات عسكرية بعد رفع الحظر النفطي عنه لذلك يقترح الروس تكوين لجنة لمراقبة الصفقات تنتمي إلى مركز مراقبة التسليح توضع تحت إشراف أمانة الأمم المتحدة وتقوم في نفس الوقت بتقنين جدول تسديد الديون المستحقة على العراق من هذه الأموال الموجودة تحت يديها. أما فرنسا فتقترح أن يقوم المتاجرون مع العراق، أو يقوم العراق نفسه بإشعار وإعلام الأمانة العامة للأمم المتحدة بكل صفقة يتم التوقيع عليها ، إلى جانب وضع إجراءات تدقيق وتفتيش عملية وفعالة أخرى.
التاريخ يكرر نفسه كما يقول المثل. ففي يوم 26/1/1999 رفضت موسكو رفضاً قاطعاً مناقشة تقرير لجنة الأونيسكوم المكلفة بنزع السلاح العراقي المحرم دولياً آنذاك بصورة رسمية داخل مجلس الأمن. وبما أنها كانت عازمة في ذلك الوقت على وضع حد لنشاطات تلك اللجنة فإنها لم تكن ترغب أن يعتمد نقاش مجلس الأمن بشأن المسألة العراقية على نتائج تقرير تلك اللجنة لكن ذلك لم يمنع تلك اللجنة من تقديم تقريرها بصورة غير رسمية للمجلس بتشجيع من الولايات المتحدة الأمريكية. ترك التقرير السالف الذكر، للمرة الأولى، منذ إنشاء الأونيسكوم، الباب مفتوحاً أمام إمكانية العبور إلى مرحلة المراقبة الإلكترونية الدائمة. حيث أخذ ريتتشارد بتلر رئيس اللجنة الدولية لتفتيش ونزع ومراقبة التسلح العراقي السابق "الأونيسكوم" بعين الإعتبار إحتمالات عدم إستطاعة لجنته إحصاء الأسلحة الممنوعة التي يمتلكها العراق إحصاءاً تاماً لكنه في نفس الوقت حذّر من أنه إذا طوى مجلس الأمن صفحة نزع السلاح العراقي فإنه سيتوجب عليه تحمل مسؤولية النتائج المترتبة على ذلك. وكان نزيهاً في موقفه تبعاً لتقويم الأمريكيين للتقرير.
وبعد أن عرض التقرير الآنف الذكر الحصيلة المفصلة والتامة لنشاطات اللجنة الدولية السابقة الأونيسكوم منذ العام 1991، أكد بأنه مازال أمام اللجنة عمل شاق وطويل لإتمام مهمة نزع أسلحة العراق المحرمة دولياً[ وهو نفس التعبير الذي استخدمه هانس بليكس رئيس لجنة انموفيك الدولية الجديدة ومحمد البرادعي رئيس لجنة الطاقة الذرية الدولية فيما بعد]، ثم يذكر في التقرير للمرة الأولى الوسائل التقنية الضرورية لمرحلة المراقبة الدائمة والطويلة الأمد والتي تتطلب تعاوناً عراقياً كاملاً وغير مشروط.
أعتقد ريتشارد بتلر الرئيس السابق للجنة الدولية لتفتيش ونزع وتدمير أسلحة الدمار الشامل العراقية السابقة الأونيسكوم إن تعزيز الرقابة على حدود العراق للحيلولة دون إستيراد هذا البلد للمواد والمعدات الممنوعة يعتبر أمراَ ضرورياً وعاجلاً ويتطلب هذا الأمر توفير عدد هائل من المراقبين التابعين للأمم المتحدة وهذا أمر شبه مستحيل. واقترح كذلك أن تمنح الأمم المتحدة الوسائل التقنية الضرورية والكافية لكي تستطيع تحليل العينات الكيمياوية والبيولوجية داخل العراق دون الحاجة إلى نقلها للخارج إلى مختبرات دولية. واقترح أن تتمكن لجنته الأونيسكوم (قبل طردها من العراق بالطبع سنة 1998) من الهبوط والإقلاع بطائراتها الخاصة بكل سهولة ويسر في أي مكان في العراق بهدف القيام بعمليات التفتيش المباغتة بسرعة وفعالية. ولكن وبناءاً على طلب روسيا والصين لم ينشر هذا التقرير الخطير للرأي العام ولم تعترض أية دولة في مجلس الأمن آنذاك على المطلب الروسي ـ الصيني بل لم تطالب أية دولة أخرى بتخزين التقرير والمحافظة عليه كوثيقة رسمية في أرشيف مجلس الأمن. ولهذا الموقف دلالة ومغزى عميقين لأن ذلك يثبت أن الجميع (بما فيهم الولايات المتحدة في ذلك الوقت) رغم الخلافات الموجودة بينهم ، مقتنعون بوجود حقائق تتطلب حلاً جديداً بدون الأونيسكوم في شكلها السابق . ويعتقد الكثير من ديبلوماسيو الأمم المتحدة أن تقريراً جديداً يشرح ما لم يفعله العراق لن يؤدي إلى حل الأزمة. وهكذا تفادى أعضاء مجلس الأمن في ذلك التاريخ في إجتماعهم الذي دام أكثر من أربع ساعات التطرق إلى تلك الوثيقة الدامغة وتلافوا ايضاً الحديث عن الصاروخ الأمريكي الذي إنحرف عن مساره وسقط على حي سكني في العراق وأدى إلى قتل عدد كبير من المدنيين الأبرياء، هل تم ذلك من قبيل المساومة؟. أما المنطق الفرنسي، الذي يفرض نفسه رويداً رويداً بشكل بطيء لكنه أكيد، فإنه يتمثل في الإعتقاد بأنه، من أجل الخروج من المأزق العراقي دون خسائر كبيرة، فإنه يتوجب الإختيار بين أمرين لا ثالث لهما: أما حرب شاملة على العراق أو العثور على وسائل تضمن تواجد دولي هناك لكي لايتمكن النظام العراقي من إعادة بناء ترسانته العسكرية وإمتلاك أسلحة الدمار الشامل من جديد، (وهي تميل للخيار الثاني بالطبع ولم تغير موقفها حتى اليوم بعد كل ما حصل من تغيرات دولية خاصة بعد أحداث الحادي عشر من ايلول / سبتمبر 2001 وبروز مفهوم الحرب الوقائية والاستباقية أو الاحترازية ومحاربة الإرهاب في عقر داره و الاتخاذ أمريكا لقرارها بغزو العراق في اليوم الثالث لانتخاب جورج بوش الإبن رئيسا للولايات المتحدة الأمريكية في ولايته الأولىعام 2000). إلاّ أن بعض الدول خاصة الولايات المتحدة وبريطانيا ترفضان الحل الذي اقترحته باريس والذي يتمثل في نهاية المطاف برفع العقوبات وإنهاء الحظر عن العراق. اعتقدت باريس أنه، لكي يوافق العراق على مبدأ المراقبة الدائمة على صناعاته العسكرية، يتعين على مجلس الأمن الموافقة على مبدأ رفع الحظر المفروض عليه، (متجاهلة عمداً إن الحظر ساهم في تعزيز سلطة صدام حسين وتقوية نظامه وإن النظام العراقي غير جاد فعلياً برفع الحظر بل إستغلاله دعائياً وإعلامياً لصالحه وهذا ما لايختلف عليه إثنان). وفي ختام هذا التحليل الذي كتب سنة 1999 صيغ النص التالي: " يعير مجلس الأمن الدولي إهتماماً بارزاً للنقاش من أجل الخروج من المأزق العراقي والولايات المتحدة تعمل في الخفاء لتحضير استعداداتها العسكرية ومناوراتها الديبلوماسية بينما تخوض بريطانيا علناً صراعها ضد العراق متضامنة بلا قيد أو شرط مع الجهود الأمريكية، إلاّ أن المناخ في مجلس الأمن مازال متوتراً حيث يبدو هذا الخيار عاجزاً عن الخروج من هذا المأزق أو الطريق المسدود. لاسيما بعد الأحداث الأخيرة وتحريك القوات العراقية باتجاه الجنوب على الحدود الكويتية وتزايد الاشتباكات الجوية بين الطائرات الأمريكية والبريطانية من جهة ومضادات الدفاع الجوي العراقية ورادارته وطيرانه التي تزداد وتيرتها يوماً بعد يوم من هنا تنبع دلالة جولة وزيرة الخارجية الأمريكية (السابقة مادلين أولبرايت) في كل من فرنسا وبريطانيا وروسيا ودول الخليج ومصر لتنسيق المواقف حيال العراق، بعد فشل هذه الأخيرة في كسب الدول العربية في إجتماع وزراء الخارجية العرب آنذاك في القاهرة عندما طالبهم العراق بخرق الحظر الدولي وكسر طوق العقوبات وإدانة العدوان الأمريكي إلاّ أن البيان الختامي للإجتماع حمّل النظام العراقي مسؤولية ما آلت إليه الأمورومسؤولية تفاقم الوضع وتصعيده وأدان مجلس الوزراء العرب حينذاك التحريض العراقي للشعوب العربية بالثورة على أنظمتها وإهانته لرؤوساء وحكام الدول العربية حينما أعتقد حاكم بغداد أن تظاهرات التأييد والاستنكار التي عبرت عنها الشعوب العربية كانت له ولنظامه وليس تضماناً مع الشعب العراقي الذي يدفع وحده ثمن الاعتداءات والهجمات عليه. مازالت كافة الإحتمالات مفتوحة والأزمة قائمة والضربة العسكرية الكبرى في الأفق ما لم يتحقق في أقرب وقت ممكن هدف التخلص من صدام حسين ونظامه لتفادي وقوع الحرب "... هل تغيرت هذه اللوحة المرسومة قبل أربع سنوات أم أنها إزدادت وضوحاً اليوم حيث استمر النظام العراقي يراكم الأخطاء والحسابات الخاطئة ويكذب ويناور ليكسب الوقت والبلد معرض للإنفجار الشامل خلال أسابيع أو أشهر قليلة. فما العمل؟ علينا أن نكون واضحين وصريحين مع الشعب العراقي ومع الرأي العام العربي والعالمي ونقدم له الصورة واضحة ونقية عن طبيعة النظام العراقي الإجرامية والتدميرية وخدمته للمصالح الغربية طيلة أكثر من ثلث قرن وعن الطبيعة العدوانية للهجمة الأمريكية ـ البريطانية وأهدافهما وأطماعهما في ثروات المنطقة التي يعتبر العراق جزءاً أساسياً فيها خاصة فيما يتعلق ببرامجه التسليحية من هنا ينبغي علينا الاطلاع على خفايا العلاقات التي كانت تربط صدام حسين بالولايات المتحدة الأمريكية.
علاقة صدام بأمريكا وتطوراتها

في أعقاب هجمات 11 سبتمبر (ايلول) 2001 انحصر اهتمام الولايات المتحدة وتركيزها على التطرف الاصولي الاسلامي. وظل الرئيس العراقي صدام حسين في منأى عن هذا الاهتمام إعلامياً، فهو ونظامه الدكتاتوري يتخذان موقفا معاديا ازاء المتطرفين الدينيين، اذ خاض العراق خلال عقد الثمانينات حربا ضد ايران، بعد سيطرة رجال الدين على مقاليد السلطة فيها. ولكن بدخول الحرب ضد الارهاب مرحلتها الثانية لتعقب كل من يحتمل ان يصبح في المستقبل اسامة بن لادن آخر والقضاء عليه، وجد صدام حسين نفسه فجأة في مواجهة موقف متشدد من جانب ادارة الرئيس جورج بوش التي باتت تتحدث باستمرار وبصوت عال عما وصفته آنذاك تهذيبا «بـتغيير النظام» في العراق. وعلى مدى اشهر من المواجهة من جانب البيت الابيض، ظهر صدام حسين ونظامه من بين مجموعة الدول المسماة «الدول المارقة»، التي تنظر اليها وكالة الاستخبارات المركزية الاميركية (سي آي إيه)، وبعضها اكثر سوءا من العراق، كتجسيد لكل ما يمكن ان يشكل تهديدا للاميركيين. ومؤخرا قال وزير الدفاع الاميركي دونالد رامسفيلد: «لا يوجد بين الحكام الدكتاتوريين من جمع بين العزم على القتل والقابلية على تنفيذ هذه الرغبة مثل صدام حسين».
وكان رامسفيلد قد طار الى بغداد عامي 1983 و1984 كمبعوث خاص للتفاهم مع صدام حسين على استمرار تدفق نفط الشرق الاوسط الى الغرب ومواجهة المد الاسلامي الاصولي في المنطقة.
والواقع ان العلاقة بين صدام حسين والولايات المتحدة لها تاريخ طويل. فالنظام الذي حرص الرئيس الاميركي الحالي جورج بوش على القضاء عليه على وجه السرعة وجد رعاية وتمويلا وحماية من الرئيسين السابقين الديمقراطي جيمي كارتر والجمهوري رونالد ريغان.
في عام 1979، وهو اول عام لصدام حسين في السلطة كدكتاتور، تجاهلت ادارة الرئيس كارتر موقع العراق في القائمة الاميركية كدولة ارهابية. وشجعته على الهجوم على ايران. وطبقا لسجلات الكونغرس الاميركي، فإن الولايات المتحدة باعت لصدام حسين وسائل وقدرات لصناعة الانثراكس والتسميم عن طريق اكل اللحوم وبكتيريا أي كولاي لانتاج اسلحة بيولوجية اخرى خلال عقد الثمانينات حتى بعد الكشف عن استخدام النظام العراقي اسلحة كيماوية ضد الاكراد والايرانيين. وحتى عشية غزو القوات العراقية للكويت عام 1991، ظل صدام حسين في نظر الكثير من صناع القرار في واشنطن، رغم بغضهم له، قوة اقليمية فاعلة ومتراسا ضد العناصر الراديكالية الاسلامية.
وقال القانوني العراقي فيصل امين الاسترابادي في شهادة ادلى بها في الآونة الاخيرة أمام لجنة الشؤون الخارجية التابعة لمجلس الشيوخ الاميركي: «الانتقاد الموجه الى اميركا في الشرق الاوسط يتلخص في ان الولايات المتحدة دائما ما تكون راضية ومقتنعة بالدكتاتوريات في غالبية دول العالم العربي لأن التعامل معها اسهل من التعامل مع الحكومات التي تعتمد نظاما تعدديا حقيقيا». والرئيس العراقي رحب في البداية بعروض الولايات المتحدة، اذ انه كان دكتاتورا شابا وصاعدا، فيما كانت الولايات المتحدة مسرورة لوجود وكيل علماني في المنطقة لمراقبة موجة الاصولية الاسلامية المعادية للولايات المتحدة.
صعودصدام:
نزح صدام حسين من منطقة ريفية فقيرة شمال العاصمة بغداد واستولى على السلطة في انقلاب عسكري، شأنه في ذلك شأن حكام الانظمة الدكتاتورية في جمهوريات الموز (اميركا اللاتينية) خلال حقبة الرئيس الاميركي الاسبق جون كينيدي. عداء صدام المبكر للغرب، وهو عداء لم يسمح له صدام نفسه بأن يكون سافرا حتى لا يعرقل حصوله على الاسلحة، كان نابعا من الاحتلال الاستعماري للعالم العربي وفق منهج وتربية حزب البعث القومية العربية. وحتى قبل ان يصبح رئيسا للعراق، كان صدام ينظر الى نفسه كبطل لكل العرب وكان يحلم بإنشاء دولة قومية عربية حديثة تملك سلاحا نوويا. ولدى صعوده على سلم حزب البعث العراقي الاشتراكي العلماني خلال حقبتي الستينات والسبعينات، تحاشى صدام حسين ارتداء الازياء العربية التقليدية وفضل عليها البدلات المدنية الاوروبية او الزي العسكري والمسدس الذي يتدلى من الحزام. اما مهارته في التعذيب والاغتيال، فقد جعلت منه عنصرا مهما وثمينا في قيادة حزب البعث المتميزة بالوحشية.
وصدام شخص براغماتي، فقد عرف كيف ينجح في التعامل والتعاون مع القوتين العظميين في فترة الحرب الباردة من اجل مصلحته.
وبعدما اعلن نفسه رئيسا في عام 1979، سيطر تماما على صناعة النفط العراقي، ثم دعا على الفور الشركات الغربية للبحث عن النفط. فقد كان الدكتاتور في حاجة الى الاموال لبناء قوة عسكرية من الدرجة الاولى، وكانت هذه هي الطريقة التي يمكن بها تحقيق ذلك. ويقول خضير حمزة، وهو فيزيائي عراقي فر الى الولايات المتحدة عام 1995 «لقد طور نظاما اقتصاديا على النمط السوفياتي، موجها اساسا نحو الحرب». وهو امر ليس بالغريب على شخص قرأ بنهم كتابات ستالين وايديولوجيته.
منهج التحالفات وفق المصالح"

عندما وصل صدام حسين الى السلطة، لم يكن لدى اي شخص في الولايات المتحدة اي اوهام بخصوص طموحاته واسلوبه. ولكن صدام عاش طبقا للمثل العربي القائل «عدو عدوي صديقي» ولاكثر من عقد من الزمن كان عدو اعداء الولايات المتحدة.
فعندما اسقطت ايران نظام الشاه الموالي للولايات المتحدة عام 1979 واحتلت السفارة الاميركية، كشف صدام عن رغبته في ان ينوب عن الولايات المتحدة في شن حرب دموية ضد «الفرس» الذين يحتقرهم مثلما يحتقر اليهود تقريبا. وقد حصل على مكافأة في عام 1982 عندما اخرجت الولايات المتحدة العراق من قائمة الدول الارهابية وبعدها بأربع سنوات حظي بمساعدة عسكرية هامة. وفي عام 1983 بدأت الولايات المتحدة في امداد صدام بصور الاقمار الصناعية لمواقع القوات الايرانية، بل ان ادارة ريغان ذهبت الى حد التغطية على صدام، حيث شاركته في اتهام ايران في البداية بقتل العراقيين الاكراد بالغاز عام 1988.
واوضح فيليس بنيس من معهد الدراسات السياسية وهو مركز ابحاث ليبرالي «مما لاشك فيه ان صدام ليس مجرد دكتاتور اخر، فعلاقتنا معه كانت علاقة استراتيجية ايضا».
وكان الاستقرار في الشرق الاوسط في الماضي كما هو الان قضية هامة. وكما كان الامر في الماضي مثلما هو الان ترددت بعض الاصوات القائلة بأن اطاحة صدام حسين ستفسح المجال لشخص اسوأ منه ولنشر الفوضى في المنطقة.
وبدأت تهديدات صدام بـ«حرق اسرائيل» في اثارة قلق اجهزة الاستخبارات الاميركية، ولكنه استمر في دوره كلاعب مفيد.
وبحلول عام 1989، بدأ المخططون الاميركيون في اعداد سيناريوهات يظهر فيها صدام حسين كتهديد رئيسي في الشرق الاوسط. ولكن بحلول يناير (كانون الثاني) عام 1990 اشار تقرير لكلية الحرب الى انه «لا يجب توقع ان تثير بغداد مواجهات عسكرية متعمدة مع اي جهة، فافضل تأمين لمصالحه الان وفي المستقبل القريب هو السلام». ولكن في الصيف التالي اتهم صدام حسين الذي كان محتاجا الى الاموال الكويت بالتعدي على حقول النفط العراقية الهائلة في الرميلة والزبير وغزا الكويت.
ويمكن للولايات المتحدة تجاهل جرائم الحرب ولكن وقف تدفق النفط امر غير مقبول. وبعد القضاء على قوات صدام حسين في الكويت، بدأت الولايات المتحدة في حملة غير منتظمة لاسقاطه من الداخل، وشجعت سلسلة من الانقلابات والانتفاضات فشلت كلها. غير ان الرئيس الحالي جورج بوش يبدو مصمما على انهاء لعبة «القط والفأر» بحملة شاملة لتخليص العراق من اسلحة الدمار الشامل.
وهناك العديد من الاراء التي تشير الى انه لا يمكن القيام بذلك الا عبر «تغيير النظام».
الاستفادة من درس فيتنام:

عندما بدأ بوش في ملاحقة صدام، واجه معارضة حادة لسياسته بتغيير الانظمة من الامم المتحدة والكونغرس. ولكنه اخذ في تغيير وجهات نظر المتشككين بنفس الطريقة التي تعامل بها مع الكونغرس لتحقيق مطالبه بخفض الضرائب وهيئة الترويج للتجارة والانسحاب من معاهد حظر انتشار الاسلحة البالستية: وذلك بمواجهتهم بدون توقف.
ففي خطبته في 12 سبتمبر الماضي امام الجمعية العامة للامم المتحدة تحدى اعضاء مجلس الامن لتطبيق قرارات المجلس الخاصة بالتفتيش على الاسلحة التي تجاهلها صدام.
وفي مجلس الشيوخ الواقع تحت سيطرة الحزب الديمقراطي وصفت بعض شخصيات المجلس طلب بوش بالهجوم على العراق من طرف واحد، اذا لزم الامر، بأنه صك مفتوح.
ولم يقتنع العديد بمحاولته الربط بين صدام واسامة بن لادن، حتى على مستوى الاتفاق على الاهداف.
واوضح السناتور راسل فينغولد في كلمة القاها في مجلس الشيوخ «عليهم القيام بشيء افضل من مجرد من تجميع معلومات معا». وفينغولد هو واحد من بين 23 من اعضاء مجلس الشيوخ الذين صوتوا ضد استخدام القوة في العراق.
وبعد مناقشات طويلة في الكونغرس والتصويت، حصل بوش على قرار من المجلسين يحتوي على معظم المطالب الخاصة بشن الحرب على صدام حسين من طرف واحد.
وفشلت فشلا ذريعا المقترحات التي هدفت الى تخفيف القرار الذي يخول الرئيس سلطة استخدام القوة العسكرية وربط ذلك بموافقة مجلس الامن.
وهكذا واجه صدام رئيسا اميركيا يملك سلطات مطلقة اكثر لشن حرب من اي رئيس اميركي اخر منذ ليندون جونسون عندما حصل على قرار خليج تونكين عام 1964، وهو القرار الذي مهد الطريق الى الحرب في فيتنام.
قال الرئيس بوش إنه لم يأمر باستخدام القوة العسكرية ضد العراق، معربا عن أمله في ألا تكون هناك ضرورة لذلك. ولكنه أضاف بأن "التصدي للتهديد الذي يمثله العراق أمر ضروري بأية وسائل قد يقتضيها ذلك." وزاد أنه "إما أن يتخلى النظام العراقي عن اسلحة الدمار الشامل لديه وبنفسه طوعاً ويقدم الدليل على ذلك، وإلا – ومن اجل السلام - فإن الولايات المتحدة ستقود ائتلافا عالميا لنزع اسلحة ذلك النظام بالقوة العسكرية. واذا كان هناك أي شك في عزيمة أمتنا او اصرارها فانه ليس من الحكمة لهم ان يمتحنوها."
وجاءت أقوال بوش هذه لدى توقيعه القرار المشترك لمجلسي الكونغرس الذي فوض الرئيس سلطة استخدام جميع الوسائل الضرورية، بما فيها خيار القوة العسكرية، لحمل العراق على نزع اسلحة الدمار الشامل لديه.
وقال بوش، الذي أحاط به حشد من أعضاء الكونغرس ومجلس وزرائه في البيت الأبيض: "ان هذا القرار هو من بين اصعب واخطر القرارات التي يمكن لمشرّع ان يواجهها. وقد تداول أعضاء المجلسين، واعضاء من الحزبين السياسيين، بعناية كما أنهم تحدثوا بجلاء نيابة عن الشعب الأميركي قائلين :"نحن سنواجه المخاطر بصراحة، وسنواجهها غير خائفين."
وخاطب الرئيس بوش الشعب العراقي بقوله: "إنني آمل أن يتذكر شعب العراق الطيب تاريخنا، ولا يولي دعاية الكراهية التي تبثها حكومته أي اهتمام. إن أميركا لم تسع قط إلى السيطرة أو الإخضاع. لقد سعينا دائما إلى التحرير والإنقاذ. ورغبتنا هي مساعدة المواطنين العراقيين على أن يجدوا بركات الحرية ضمن ثقافتهم وتقاليدهم. الشعب العراقي لا يستطيع أن يزدهر في ظل حكم دكتاتور يضطهده ويهدده. الشعب العراقي الموهوب سيزدهر إذا رفع عن كاهله الاضطهاد."
ان هذا القرار هو من بين اصعب واخطر القرارات التي يمكن لمشرّع ان يواجهها. وقد تداول أعضاء المجلسين، واعضاء من الحزبين السياسيين، بعناية كما أنهم تحدثوا بجلاء نيابة عن الشعب الأميركي. ونحن سنواجه المخاطر بصراحة، وسنواجهها غير خائفين. وأردف الرئيس الأمريكية معلقا بزهو وثقة بالنفس :
"بهذا القرار، يكون الكونغرس قد فوض باستخدام القوة. ولكنني لم أوعز باستعمال القوة. وآمل الا يكون استخدام القوة ضروريا. لكن التصدي للتهديد الذي يمثله العراق أمر ضروري بأية وسائل قد يقتضيها ذلك.
ان النظام العراقي يمثل تهديدا خطيرا ومتناميا للسلام. فبناء على أوامر دكتاتور بات النظام مسلحا بأسلحة كيميائية وبيولوجية، ويمتلك اسلحة باليستيكية، ويروج للإرهاب الدولي ويسعى للحصول على اسلحة نووية. ولنفس هذا الدكتاتور سجل بالقتل الجماعي وضرب دول أخرى دون انذار، وبكراهية شديدة لأميركا، وباحتقار مطالب العالم المتحضر.
واذا اكتسب العراق حتى قوة تدميرية أكبر ستواجه بلدان الشرق الأوسط الابتزاز، او الترهيب او الهجوم. وستشعر أوروبا وما وراءها بالفوضى التي ستعم تلك المنطقة. كما ان ما يجمعه العراق من أسلحة دمار شامل، علاوة على صلاته بجماعات إرهابية، وصواريخ باليستيكية سيهدد سلام وأمن أمم كثيرة. وأولئك الذين يختارون ان يحيوا منكرين لهذا قد يضطرون للعيش بالخوف في نهاية المطاف.
وكل أمة تتشاطر مزايا السلام تتشاطر ايضا مهام الدفاع عن السلام. وقد حان الوقت ثانية للأمم المتحدة كي تفي بغايات تأسيسها لحماية امننا الجماعي. وقد حان الوقت ثانية للأمم الحرة ان تتحمل مسؤولياتها العالمية وتتصدى لخطر آخذ في التجمع.
في عام 1991 منح العراق مهلة 15 يوما للكشف التام عن كل اسلحة الدمار الشامل (في حوزته). وقد نجح الدكتاتور في تحدي ذلك الالتزام على مدى 4199 يوما. وقد أصبح الدكتاتور – بل هذا النظام الدكتاتوري خلال فترة 11 عاما -- ماهرا جدا في اساليب الخداع. فقد اعترض التفتيشات الفعالة لما يسمى بالمواقع الرئاسية – في الحقيقة مساحة (احدها) 12 ميلا مربعا ويحتوي مئات المباني حيث يمكن ان تكون مواد حساسة مخبأة فيها. وقد زور النظام وثائق وعطل آلات الاستطلاع وطور منشآت اسلحة نقالة لاستباق المفتشين.
وقد احبط النظام العراقي عمل المفتشين الدوليين باطلاقه طلقات تحذيرية، وبالتنصت على الهواتف، وبمصادرة وثائقهم، واعتراض التفتيشات الجوية، ومنع الوصول الى مواقع لساعات ريثما تنقل الأدلة منها. وفي أحد المواقع شاهد المفتشون حراسا عراقيين فعلا وهم ينقلون ملفات ويضرمون النار بالوثائق، ثم القاء الرماد في النهر. وعلى متن مروحيات الأمم المتحدة حاول مرافقون عراقيون التعرض جسديا للمفتشين لغرض الحيلولة دون اقتراب اولئك من مواقع معينة.
وبالنسبة إلى العراق، فإن عملية التفتيش القديمة عن الأسلحة لم تكن أكثر من لعبة، حيث الخداع لم يعاقب عليه إطلاقا. ولكن تلك اللعبة قد انتهت. فألاعيب ووعود النظام العراقي لم يعد لها شأن. النظام حر في أن يستمر في قول ما يشاء؛ فمصيره يعتمد كليا على ما يفعله واقعيا.
وواصل جورج دبليو بوش كلامه التحذيري لنظام صدام حسين قائلا :"هدفنا ليس مجرد الحد من انتهاكات العراق لقرارات مجلس الأمن، أو إبطاء برنامجه الخاص بالأسلحة. هدفنا هو أن نزيل كليا ونهائيا تهديدا حقيقيا للسلام العالمي ولأميركا. ونأمل أن يكون ممكنا تحقيق هذا بصورة سلمية. ونأمل أن نستطيع تحقيق هذا بدون أي إجراء عسكري. ومع ذلك، إذا كان للعراق أن يتجنب إجراء عسكريا من قبل المجتمع الدولي، فعليه التزام أن يثبت امتثاله لجميع مطالب العالم. إنه التزام العراق.
وسيبدأ الامتثال بحساب دقيق، شامل وكامل عن جميع المواد الكيميائية، والبيولوجية والنووية، فضلا عن الصواريخ والوسائل الأخرى للإطلاق في أي مكان في العراق. والتخلف عن تقديم مثل هذا الحساب سيكون دليلا آخر على سوء نوايا النظام وقصده العدائي. يجب أن يكون للمفتشين وصول إلى أي موقع في العراق، في أي وقت، بدون إذن مسبق، بدون تأخير، وبدون استثناء. ويجب أن يسمح للمفتشين بالعمل وفق أنظمة جديدة فعالة. وعلى النظام العراقي أن يقبل تلك الأنظمة بدون تقييد أو تفاوض.
ولضمان أننا نعرف الحقيقة، ينبغي على النظام أن يسمح بمقابلة علماء وشهود خارج البلاد على نشاطاته غير المشروعة. ويجب أن يكون أولئك الشهود أحرارا بإحضار كامل عائلاتهم معهم، كي يكونوا بعيدا عن متناول إرهاب ، وتعذيب ، وقتل نظام صدام حسين. وجلاوزته.
وإضافة إلى إعلان العراق عن جميع أسلحة الدمار الشامل لديه وتدميرها، يتوجب عليه، بمقتضى مطالب مجلس الأمن أن ينهي دعمه للإرهاب. وكما تطلب الأمم المتحدة، ينبغي على العراق أن يوقف اضطهاده لسكانه المدنيين. وكما تطلب الأمم المتحدة، ينبغي على العراق أن يوقف جميع التجارة غير المشروعة خارج نطاق برنامج النفط مقابل الغذاء. وينبغي على العراق أيضا أن يفرج عن جميع أسرى حرب الخليج أو يعلن عن مكان وجودهم، بمن فيهم طيار أميركي لا يزال مصيره مجهولا.
إن الولايات المتحدة تأخذ قرارات مجلس الأمن بجدية. ونحن نهيب بالدول الأخرى أن تفعل الشيء نفسه. وإننا نعمل على بناء أوسع تحالف ممكن لتنفيذ مطالب العالم من النظام العراقي. وقد أبلغت جميع أعضاء الأمم المتحدة، أن أميركا ستقوم بدورها التاريخي بهزم الطغيان العدواني.لنظام صدام حسين.
إنني آمل أن يتذكر شعب العراق الطيب تاريخنا، ولا يولي دعاية الكراهية التي تبثها حكومته أي اهتمام. إن أميركا لم تسع قط إلى السيطرة أو الإخضاع. لقد سعينا دائما إلى التحرير والإنقاذ. ورغبتنا هي مساعدة المواطنين العراقيين على أن يجدوا بركات الحرية ضمن ثقافتهم وتقاليدهم. الشعب العراقي لا يستطيع أن يزدهر في ظل حكم دكتاتور يضطهده ويهدده. الشعب العراقي الموهوب سيزدهر إذا رفع عن كاهله الاضطهاد.
وعندما تتوفر للعراق حكومة ملتزمة بحرية شعبها ورفاهيته، ستتحمل أميركا، مع دول أخرى عديدة، مسؤولية مساعدة العراق على أن ينعم بالإصلاح والازدهار. وسنفي بمسؤولياتنا. ذلك هو تعهدنا للشعب العراقي.
وكما فعل أعضاء الكونغرس هنا اليوم، فقد وزنت بعناية الكلفة البشرية لكل خيار أمامنا. إننا إذا خضنا المعركة، كملاذ أخير، فسنجابه عدوا قادرا على اجراء حسابات خاطئة متهورة، وقادر على القيام بأعمال مخيفة. إنني واع بصفتي قائدا عاما للمخاطر التي يتعرض لها بلدنا. وأنا مسؤول كليا عن الشبان والشابات الذين يرتدون البزات العسكرية والذين قد يواجهون هذه المخاطر. ومع ذلك فإن تلك المخاطر ستزداد مع الوقت. ويمكن أن تكون التكاليف أكبر بكثير في الأعوام القادمة.
إن الانكماش في وجه هذا التهديد سيجلب شعورا كاذبا بسلام مؤقت يؤدي إلى مستقبل حيث يعيش الملايين أو يموتون حسب مزاج دكتاتور قاس. وذلك ليس سلاما حقيقيا، ولن نقبله.
إن هجمات 2001 كانت نذيرا لبلدنا. فنحن لسنا محصنين ضد أخطار العالم وكراهيته. وقد عقدنا العزم كدولة، خلال أحداث 11 أيلول / سبتمبر على أن نقاوم كل تهديد من أي مصدر كان يمكن أن يجلب مأساة مفاجئة إلى الشعب الأميركي. هذه الدولة لن تعيش تحت رحمة أي دولة أو مؤامرة أجنبية. إن مجابهة الأخطار الجسيمة هي أضمن طريق إلى السلام والأمن. هذا ما يتوقعه الشعب الأميركي، وهذا هو قرار ممثليه المنتخبين.
إنني أشكر الكونغرس على مناقشته الشاملة وعلى بيان تأييد ساحق. وقد أصبح تصميم حكومتنا الواسع النطاق واضحا الآن للجميع، واضحا ليراه كل شخص: إننا سندافع عن بلدنا، وسنقود الآخرين في الدفاع عن السلام.
على مدى الاسابيع القليلة الماضية، تحول انتباه البلاد الى العراق وإلى الخطر الشديد المتنامي الذي يمثله صدام حسين للولايات المتحدة والمجتمع العالمي. وهناك مداولات هامة حول سبل التصدي لهذا التهديد في جميع نواحي المجتمع الأميركي – من قاعات مجلس الشيوخ ومجلس النواب الى غرف الاجتماعات في البيت الأبيض، ومن الزوايا التي توجد فيها برادات المياه في المكاتب، وفي شوارع المدن العامة، وصولا الى المنازل. ثم استشهد جورج دبليو بوش بالتاريخ الحديث ووقائع الحرب العالمية الثانية قائلاً:"لقد قد شهد جيلنا أمما أخرى تواجه قرارا مهيبا مشابها ، ويسعدنا انه يتم استحضار عبر التاريخ.
وكثير من الأميركيين يذكرون تماما الأحداث التي آلت الى الحرب العالمية الثانية. فقد درسنا أعمال أدولف هتلر في صفوف التاريخ والتربية الوطنية. وشاهدنا العالم وهو يقوم باسترضاء هتلر في الوقت الذي كان ينتهج فيه مواقف عدوانية ترمي الى الهيمنة على العالم. وكنا شهودا، شهرا تلو آخر، على معاناة بشرية لا يمكن تصورها على أيدي نظام هتلر النازي.
وقد تجاهل هتلر اتفاقيات الاستسلام التي وقعتها ألمانيا بعد الحرب العالمية الأولى. واحتقر معاهدة فرساي للسلام وعصبة الأمم التي أسست للمحافظة على السلام العالمي. وقام هتلر باحتلال الراينلاند فيما غزا النمسا. ولم يحاول أحد ايقافه. وحولت الدول أنظارها بعيدا عما يعمله بدلا من مواجهة الحرب. وفي أيلول/سبتمبر 1939 شاهد العالم ألمانيا تغزو بولندا، فاندلعت حرب رهيبة دامت خمس سنوات ونصف السنة.
وانضم كثيرون من جيلنا الى القوات المسلحة لوضع حد لعدوان هتلر. وحيث أننا اثنان من سبعة أعضاء حاليين في مجلس الشيوخ خدما في الحرب العالمية الثانية، فاننا نشاهد هتلر القادم متمثلا في صدام حسين.
إن هناك شبها بين الأحداث التي سبقت الحرب العالمية الثانية وأحداث الحاضر باستثناء فارق كبير واحد، وهو ان صدام يقوم ببناء ترسانة أسلحة ذات قدرة تدميرية أكبر بكثير للبشرية من تلك التي كان يمتلكها هتلر.
وقد بين النظام العراقي بصورة منتظمة تجاهله الدنيء لتعليمات القانون الدولي ولقدسية حياة البشر. وقد وظف صدام أسلحة الدمار الشامل ضد جيرانه وشعبه بالذات. وعقب حرب الخليج في 1991 أصدر مجلس الأمن 16 قرارا في مسعى منه لوقف برامج أسلحة صدام حسين ولإعادة العراق الى حظيرة المجتمع الدولي. وقد تحدى العراق تلك القرارات 16 مرة.
ويواصل النظام العراقي اتخاذ تدابير عدوانية ضد القوات الأميركية. ويقوم طيارونا الى جانب طيارين بريطانيين بتطبيق فرض منطقتي حظر الطيران في العراق عملا بقرارات الأمم المتحدة. ولكنهم يتعرضون لإطلاق النار عليهم في كل يوم تقريبا. وفي شهر واحدا أطلقت عليهم النار أكثر من 60 مرة.
ونحن نعلم انه خلال السنوات الأربع منذ طرد المفتشين من العراق وسع صدام حسين برامج اسلحة الدمار الشامل لديه. ونحن نعلم ان بامكانه ان ينتج أسلحة كيميائية وبيولوجية ونحن نعلم انه مع مرور الوقت سيتمكن العراق من انتاج اسلحة نووية.
لقد تطلب الأمر من أميركا عامين لتصنيع الأسلحة وتدريب القوات الضرورية للتغلب (على اليابان) بعد الهجوم على بيرل هاربور في كانون الأول/ديسمبر 1941. وفي عالم اليوم فان انتشار أسلحة الدمار الشامل يوجد تهديدا سريعا وكاسحا وحاسما. ولا يسعنا الانتظار في ضوء امتلاك أعدائنا المستعدين لتوجيه ضربة أولى باسلحة من هذا القبيل.
وفي عام 1945 التأمت الأسرة الدولية لتشكيل الأمم المتحدة وحماية الأجيال القادمة من بلاء الحرب. وعلى الأمم المتحدة الآن أن تفي بذلك الالتزام وان تصدر قرارا بأنها لن تتساهل بعد الآن حيال أنظمة حكم تخرق قرارات متكررة للأمم المتحدة، وترتكب أعمال إبادة ضد شعوبها بالذات، وتستخدم اسلحة دمار شامل، وتؤوي إرهابيين. واذا فشلت الأمم المتحدة بالتصرف، فإن لدى الرئيس الأمريكي السلطة الدستورية لحماية مواطني الولايات المتحدة وضمان استقرار المجتمع العالمي.
ونحن نتمنى نهاية دبلوماسية لهذه الأزمة كما يعمل رئيسنا على تحقيقها. الا أن عبر التاريخ علمتنا بان أفضل رجاء بحصول حل دبلوماسي يكون في دعمه بالعزيمة على استخدام القوة في حال فشلت الدبلوماسية.
وقد علمتنا الحرب العالمية الثانية عدم جواز استرضاء الطغاة. وعلى أمم العالم أن تتكاتف للتصدي لهم. وقد اتحدت أميركا وراء رئيسها ونحن نتكلم بصوت واحد للحرية. وهذه الرسالة يجب ان يصغي اليها هتلر المقبل.
هذه وثيقة مهمة جداً في فهم الأجواء والاستعدادات والنوايا التي سبقت الحرب على لسان كبار المسؤولين الأمريكيين.









الفصل الثاني
مشاريع التسلح العراقية: واقعها ومخاطرها *

مما لا ريب فيه أن العراق شكل ويشكل دائماً ركناً أساسياً في المعادلة الاستراتيجية والعسكرية الشرق أوسطية، وعامل مهم في عملية التوازن العسكري في سيرورة الصراع القائم في المنطقة منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية.
ولا شك في أن العراق كان ومايزال يعي موقعه وأهميته الاستراتيجية والاقتصادية في العالم العربي وفي توازنات القوى في المنطقة، لذلك سعى بكل ما أوتي من قدرة وامكانيات لتحقيق تفوقه العسكري في المنطقة والتطلع إلى موقع القيادة الإقليمية، ولايزال المراقبون والمحللون يتذكرون تصريح صدام حسين ذو الدلالات العميقة الذي أدلى به في اليوم الرابع لزيارته اليتيمة إلى باريس في 5 أيلول/ سبتمبر 1975، وذلك في حديث أعطاه لمجلة الأسبوع العربي في 9 / أيلول ـ سبتمبر / 1975 وقال فيه: " إن الاتفاق مع فرنسا في مجال التعاون النووي يعد بمثابة الخطوة الأولى الملموسة والحقيقية نحو إنتاج السلاح النووي العربي ".
ويعود الطرح العراقي لامتلاك السلاح النووي وتحقيق انعطافة في التوازن العسكري الإقليمي إلى عام 1959 منذ توقيع اتفاق مباديء مع الاتحاد السوفيتي السابق من أجل التعاون النووي. وتم التوقيع في تموز / يوليو 1960 بين العراق والاتحاد السوفيتي على اتفاق بروتوكول لبناء مفاعل نووي تجريبي صغير للأغراض السلمية بطاقة 2 ميغاواط في التويثة ، وبالفعل سلمت موسكو إلى بغداد اليورانيوم 235 المخصب بنسبة 10 % وبادرت إلى تأهيل وتدريب وتعليم خبراء وتقنيين عراقيين لإدارته.
ومنذ عام 1970 ـ 1971 التفت العراقيون إلى فرنسا للحصول على التقنيات الغربية المتقدمة والمتطورة في مجال التسلح النووي والذي تكرّس بزيارة جاك شيراك إلى بغداد في ديسمبر عام 1975 عندما كان رئيساً لوزراء فاليري جيسكار ديستان. وتكلل التعاون الاستراتيجي الفرنسي ـ العراقي بتزويد باريس إلى بغداد المفاعل النووي أوزيراك OSIRAK الذي يعتبر نسخة مشابهة لمفاعل أوزيريس الفرنسي OSIRIS الذي يعمل بالماء المخفف وباليورانيوم المخصب بنسبة 93 % مما يوفر الفرصة عملياً للعراق باستخدام هذا الفاعل للأغراض العسكرية وهو الأمر الذي اثار مخاوف وهلع الدولة العبرية التي قامت بقصفه في عام 1981. وكانت باريس قد تعهدت بتزويد العراق بثمانين كيلو من الوقود النووية Combustibel هذا إلى جانب الأسلحة التقليدية المتطورة التي باعتها فرنسا للعراق خلال سنوات طويلة من طائرات الميراج F1 والميراج 2000 والمدافع المتطور من مختلف العيارات وطائرات الهيلكوبتر والدبابات والذخيرة الخ حتى وصلت فرنسا إلى المرتبة الأولى لبائعي السلاح للعراق سنة 1973، بل وصل الأمر إلى حد مشاركة العراق في حربه ضد إيران ومشاركة طيارين ومرتزقة فرنسيين حتى أن الدولة الفرنسية اخذت من جيشها أربع طائرات متطورة هي طائرات ايتاندار الشهيرة وأعارتها للعراق لضرب الناقلات والسفن البحرية الإيرانية في عرض الخليج وفي الموانيء الإيرانية البعيدة. كما وقعت فرتسا صفقة تاريخية مهمة جداً من الناحية الاستراتيجية وفي مجال نقل التكنولوجيا الحديثة، تقضي بموجبها بيع العراق مصنعاً متقدماً جداً للإلكترونيات من قبل شركة طومسون Thomson – CISوتم تشييده في منطقة الدوره التي تبعد 40 كيلومترا شمال شرقي العاصمة العراقية بغداد.
وعند اشتداد حدة الحرب مع إيران ابتداء من عام 1982 وتعرض العراق لسلسلة من الهزائم العسكرية في مختلف المعارك حتى أواسط عام 1983 قرر صدام حسين تكثيف وتسريع أبحاثه السرية في مجال الأسلحة الكيماوية والبيولوجية ـ الجرثومية ـ بغية وقف الهجمات الإيرانية الانتحارية آنذاك. كان ريتشارد مورفي ومسؤولين أميركيين آخرين يعرفون نوايا العراق ومدى خطورتها لكنهم قرروا غض النظر عنها باعترافهم في مناسبات عديدة. ثم بادر الدكتور العاني المسؤول عن انتاج السلاح الكيماوي في العراق آنذاك بالاتصال برجل الأعمال الأميركي من أصل عراقي صاحب الحداد المقيم في ناشفيل في ولاية تنيسيس في أميركا والذي يملك شركة للاستيراد والتصدير تتعامل مع العراق في مجال تصدير الحبوب والمواد الغذائية والقمح والسكر التي حققت أرباحاً هائلة من جراء ذلك وهي شركة Hadad Brothers Trading Company، وطلب منه على عجل تأمين مواد ومنتجات كيماوية وبكميات كبيرة، فما كان منه إلاّ أن يلبي هذا الطلب العاجل، وهي المواد التي استخدمت في إنتاج غاز السارين Sarin كما صدّر للعراق 74 طن من فليورور البوتاسيوم Fluoror Potasium كدفعة أولى. ثم استورد العراق من جميع أنحاء العالم مواد كيماوية لتغذية مصانع الموت التي شيدها له الغرب، فاستورد 500 طن من مادة التثيوديغليكول Thiodiglycol التي تستخدم في إنتاج غاز الخردل Moutard وبلغت كلفة هذه الصفقة مليون دولاركما استورد العراق من بلجيكا ومن ألمانيا مواد كيماوية لإنتاج غاز التابون وكانت الشركة الألمانية هيربيجرHerberger قد استلمت مبلغ 7.2 مليون مارك لأجل هذا الغرض .
ولم يتورع النظام العراقي من استخدام هذه الأسلحة الفتاكة المحظورة دولياً في حربه ضد الإيرانيين، ولم يتردد صدام حسين في استخدام الأسلحة الكيماوية كذلك ضد أبناء الشعب العراقي من الأكراد والشيعة المناوئين لنظامه.
هذه هي البدايات المعروفة لمشاريع التسلح التي بنيت عليها الصناعة العسكرية العراقية المحرمة دولياً قبل حرب الخليج الثانية.
ثم يأتي موضوع محاولات العراق الحثيثة للتزود بالصواريخ الباليستية القصيرة والمتوسطة والبعيدة المدى. ففي ديسمبر 1986 رصدت الأقمار الصناعية التجسسية الأميركية نشاطات وتحركات مكثفة في جنوب وسط العراق. وسجلت حركة غير طبيعية للشاحنات بين ميناء العقبة وداخل العراق حيث كانت الشاحنات تحمل شحنات من صواريخ سكود ب التي كان الاتحاد السوفيتي قد سلمها لأوروبا الشرقية وقدرت المخابرات الأميركية آنذاك عدد الصواريخ التي وصلت للعراق بـ 300 صاروخ. وكان صدام حسين قد طلب شراء صواريخSS-12 و SS-20 التي يصل مداها إلى 900 كلم و 1200 كلم ويمكن تطويرها ليصل مداها إلى 1500 و 2000 كلم بهدف قصف طهران من بغداد، بينما صواريخ سكود ب تغطي ثلث المسافة بين بغداد وطهران. كما اشترى العراق من البرازيل صواريخ أرض ـ أرض من طرازSS-300 التي يصل مداها إلى 300 كلم. وفي مصنع الفلوجة تمكن التقنيون العراقيون والأجانب (كوريون وصينيون) من إنقاص وزن الرأس الحامل للمتفجرات من 800 كلغم إلى 190 كلغم مما أتاح إمكانية زيادة المسافة التي يقطعها الصاروخ. ومن هنا ولد صاروخ سعد 16 وصاروخ العباس وصاروخ الحسين الخ .. وفي مصنع التاجي كان العراق ينفق بسخاء لشراء وتصنيع الأسلحة حتى أن صناعة الأسلحة الفرنسية وحدها حققت أرباحاً تجاوزت 90 مليار فرنك فرنسي في سنوات الثمانينات.
ثم جاءت حرب الخليج الثانية وأثبت صدام حسين للعالم أنه يمتلك أسلحة التدمير الشامل وبكميات كبيرة وأنه لن يتردد في استخدامها ضد جيرانه سواء أكانوا عرباً (السعودية، الكويت) أم غير عرب (تركيا، إيران، إسرائيل)، مما اثار دهشة وهلع العالم من هذه الحقيقة المخيفة التي شاركت الدول الغربية بنفسها في خلقها.
وبعد انتهاء الحرب وهزيمة الجيش العراقي حاولت فرق التفتيش والرقابة الدولية ما وسعها ذلك تدمير البنية التحتية والمراكز الانتاجية لهذا النوع من الأسلحة المحرمة دولياً وتدمير ما تم صنعه والعثور عليه منها طيلة سنوات عديدة وبذلك تحطم حلم العراق وبرنامجه الاستراتيجي القاضي بتطوير القدرات العراقية العسكرية وتحويل الإمكانيات المتوفرة إلى غايات أخرى غير سلمية، والمقصود بالبرنامج الاستراتيجي بالطبع هو انتاج السلاح النووي أي القنبلة الذرية العراقية من خلال برامج تخصيب اليورانيوم الذي يمكن الاستفادة منه في التفجيرات النووية.
لقد اعترف برزان التكريتي، الأخ غير الشقيق لصدام حسين (أخوه من أمه) في يونيو/ حزيران عام 1980 أثناء مقابلته للدكتور حسين الشهرساتني في زنزانته التي سجن فيها لميوله الدينية الشيعية، بهذا الهدف المعلن أي البرنامج الاستراتيجي لصدام حسين، حيث طلب من الدكتور الشهرستاني الخروج من السجن إلى لجنة الطاقة الذرية والمساهمة في صنع القنبلة الذرية العراقية وذلك من أجل: " تغيير خارطة الشرق الأوسط " على حد تعبير برزان التكريتي. وكان الدكتور عبد الرزاق الهاشمي حاضراً في تلك المقابلة وهو عالم عراقي وسفير سابق للعراق في باريس. وكان الدكتور حسين الشهرستاني برفقة الدكتور جعفر ضياء جعفر من أوائل الخبراء العراقيين الكبار في المجال النووي منذ عام 1970 إلى 1980، الأول متخصص بالكيمياء النووية والثاني بالفيزياء النووية وأحدهما يكمل الآخر، وكانا مستشارين لرئيس لجنة الطاقة الذرية العراقية الذي هو صدام حسين نفسه. ويوجد معهما داخل اللجنة الدكتور عبد الرزاق الهاشمي وهمام عبد الخالق اللذان يمثلان القصر الجمهوري في اللجنة.
والجدير ذكره بهذا الصدد أن هناك 700 شركة غربية، أكثرها أميركية وكندية وجنوب أفريقية واسترالية وأوروبية، أنشأت خصيصاً لدعم وتطوير البرامج العراقية النووية والكيماوية والجرثومية، وبرامج الصورايخ الباليستية القريبة والمتوسطة والبعيدة المدى بعلم ومباركة الحكومات الغربية وأجهزة المخابرات فيها. وقد أعترف العراق لفرق التفتيش الدولية عن الأسلحة المحرمة دولياً والتابعة للأم المتحدة (ومنها لجنة الأونيسكوم) بأن العراق قد أنتج فعلاً قبل غزو الكويت في 2 آب 1990، حوالي نصف كيلو من اليورانيوم المخصب بدرجة 4 %، ولكن هذا لايكفي لانتاج سلاح نووي لأن درجة التخصيب المطلوبة يجب ألاّ تقل عن 93 %، حيث يوجد نظيران لليورانيوم الصنعي هما اليورانيوم 235 القابل للانشطار النووي واليورانيوم 238 غير القابل للانشطار النووي، وان التخصيب هو رفع النسبة التي تعادل 007 .0 % إلى 93 % وهي نسبة مرتفعة جداً حتى يكون اليورانيوم المستخدم قابل للاستخدام العسكري النووي وصنع قنبلة ذرية كما يقول الخبراء.
وقد تمكن العراق في الواقع كما ذكر الخبراء من انتاج هذا النوع من اليورانيوم أيضاً بطريقة " الطرد المركزي " في مصنع التاجي مما يتيح للعراق إمكانية صنع قنبلة أو قنبلتين نوويتين تجريبيتين في السنة. وكان من المتوقع أن تتكلل مشاريع العراق بالنجاح ويتوصل إلى صنع القنبلة النووية سنة 1992، وفي أسوأ الاحتمالات عام 1993 لولا وقوع كارثة غزو الكويت.
كان العراق يريد معادلة أو موازنة القوة النووية الإسرائيلية إذ أن إسرائيل كانت حتى ذلك الوقت تمتلك أكثر من 200 قنبلة نووية، ولديها برامج متطورة ومتقدمة جداً لصنع الأسلحة البيولوجية (الجرثومية) والكيماوية بالاضافة إلى وجود منظومة مضادة للصواريخ (باتريوت) ومجموعة كبيرة من الصواريخ الباليستية بعيدة ومتوسطة المدى..
وعندما باشر العراق ببرنامجه الكيماوي والبيولوجي إلى جانب البرنامج النووي، تمكن من صنع كميات لابأس بها في سنوات الثمانينات ولم يحجم عن استخدامها أو إخفائها كما تفعل إسرائيل بل بالعكس أعلن عنها وتفاخر بها ولم يتورع عن استخدامها ضد إيران وضرب المدنيين في قلب المدن حتى في قلب طهران العاصمة إذ كانت صواريخها تصل إليها وهي محملة بالاسلحة الكيماوية، لإجبارها على القبول بوقف إطلاق النار، وكذلك استخدمها ضد الأكراد الثائرين على حكمه في حلبجة في 17/3/1988 مما أدى إلى مقتل 5540 شخصاً في ثواني معدودات و إصابة وتشريد 70 ألف آخرين ليس فيهم من لم يصب بجروح أو تشويهات أو آثار التعرض للغازات السامة، وقد توفي منهم بعد اقل من عام 6 آلاف شخص ليرتفع عدد ضحايا تلك المجزرة المروعة إلى 11540 ألف ضحية ومازال الكثير من الأكراد يعاني من آثار تلك الكارثة البيئية بعد مرور 13 سنة عليها.
إن آثار استخدام السلاح الكيماوي ستبقى باقية لأجيال عديدة لاحقة وستظهر على شكل تشويهات خلقية وجنينية وحالات عقم وإسقاط مبكر الخ .. إلى جانب التلوث البيئي بعد إلقاء كميات كبيرة منها في نهري دجلة والفرات. فمن المعروف أن النظام العراقي كان يلعب لعبة القطة والفأر مع لجان الأمم المتحدة المكلفة بالتفتيش عن أسلحة الإبادة الجماعية وتدميرها، حيث كان يرواغ معها محاولاً التهرب منها وعدم الكشف عمّا لديه من هذه الأسلحة وعدم تسليمها بل وإنكار وجودها ما أمكنه ذلك.
كان النظام العراقي يضع المواد الكيماوية والبايولوجية (الجرثومية) التي تستخدم في صناعة الأسلحة المحرمة دولياً، في حاويات وشاحنات تشبه تلك المخصصة لنقل وحفظ المواد الغذائية من ثلاجات وبرادات متنقلة ويكتب عليها أسماء مثل (آيس كريم) و(ألبان وحليب)( ومواد غذائية) و(مشروبات غازية) ألخ ثم ترسل الشاحنات لتختبيء بين الأزقة والأحياء السكنية الشعبية ريثما تنتهي لجان التفتيش من مهمتها وبعد ذلك تعاد المواد الخطيرة إلى مخازنها. ويعتقد الخبراء أن جزء من هذه المواد قد تسرب إلى خارج الشاحنات ولوثت البيئة وتسببت في العديد من الأمراض للناس الأبرياء لأن الشاحنات ليست مصممة لهذا الغرض وليست محكمة الإغلاق ولكن لا أحد يتجرأ على التحدث في هذا الموضوع أو انتقاد الحكومة العراقية وتحميلها مسؤولية ذلك. وعندما تباغت لجان التفتيش المخازن في فترة لم يكن النظام العراقي مستعداً فيها لاخفاء ما عنده من مواد كيماوية وبيولوجية، يقوم رجال النظام بإلقاء تلك المواد السامة في نهري دجلة والفرات للتخلص منها على عجل. كما حفظت بعض هذه المواد في ثكنات الجيش بعد إخراجها من مخازن هيئة التصنيع العسكري التي تتعرض للتفتيش المستمر. وعندما فاجأت فرق التفتيش معسكر الرشيد قام الضباط والعساكر بالقاء ما عندهم في نهر دجلة. وقد تكررت هذه العملية عدة مرات في مناطق أخرى من العراق والقيت المواد في نهر الفرات.
أنتج العراقيون غازات سامة مثل الخردل والسارين والتابون وجرّبوها على أرض الواقع في إيران وفي حلبجة كما ذكرنا قبل قليل ولم يتوان النظام العراقي في استخدامها بعد ذلك في مدن عراقية أخرى بعد سنوات قليلة بعد هزيمته في حرب الخليج الثانية بمرآى من قوات التحالف وذلك لقمع الانتفاضة الشعبية ضده في آذار 1991. فقد قصف مدينة كربلاء بمادة أفلاتوكسين وهي مادة بيولوجية سامة تسبب أمراض السرطان مما رفع نسبة الاصابة بالسرطان بين أبناء المدينة إلى 50 % أكثر من المعدل العادي في الظروف الطبيعية. ومن جهة أخرى قال ضابط عراقي هارب لجأ في 12/11/2001 إلى ألمانيا، أن السلطات العراقية دفنت في أيار/ مايو 1993 مواد كيماوية وبيولوجية شديدة الخطورة، ومحرّمة في مقبرة الكرخ التي تبعد مسافة 25 كلم من مركز العاصمة بغداد، بعد أن وضعت تلك المواد في تسع توابيت محكمة الإغلاق وفرضت رقابة مشددة على المقبرة وحراسة دائمية 24 ساعة على 24 ساعة واستغرقت عملية الدفن أربعة ايام حيث وضعت أسماء وهمية لضباط "استشهدوا خلال تأدية الواجب المقدس" على تسعة قبور، ولكن لم يزرها أحد. وبعد فترة من الزمن تمت تسوية القبور مع الأرض وأزيلت كابينة الحراسة وهذا يشير إلى أن السلطات العراقية استرجعت المواد المدفونة لإعادة استخدامها في برامجها اللاحقة بعد خروج فرق التفتيش الدولية. وهذا إن دل على شيء فهو يدل على أن النظام العراقي كان مازال مصراً في المضي في برامجه ومخططاته التسليحية السابقة وكأن شيئاً لم يكن وأن حرباً لم تقع.
كان العاملون في هيئة التصنيع العسكري يعانون من الفراغ والملل لعدم وجود عمل يقومون به، أبان وجود لجان التفتيش الدولية ويمضون أوقاتهم بالسباحة ولعبة النرد والطاولة والدومينو والورق في الفنادق السياحية والنوادي الخاصة بهم. ولكن ومن سنتين أو اكثر بقليل لم يعد يراهم أحد أو يلتقي بأحدهم إلاّ نادراً وبالصدفة كما نقل شاهد عيان خرج من العراق مؤخراً تربطه علاقة عائلية مع أحد هؤلاء العلماء .
ثم أعترف عالم نووي عراقي آخر هو سلمان ياسين زوير، الذي هرب مؤخراً من العراق، بأن صدام حسين أمر العلماء العراقيين في آب/ أغسطس سنة 1998 باستئناف نشاطهم السري على قدم وساق لتنفيذ البرنامج النووي العراقي الذي توقف مؤقتاً بسبب الحرب، خاصة بعد خروج لجنة الأونيسكوم من العراق، وكان هذا العالم قد خدم مدة 13 سنة في هذا البرنامج وقال أن التجارب تجري اليوم في منطقة الجادرية في بغداد. وفهم العالم العراقي الهارب ان صدام حسين لم يغيّر رأيه وهو فخور بفريقه النووي لأنه ما زال يطمح ويحلم أن يكون أول رئيس عربي يملك القنبلة النووية العربية. " فالعراق لم يتوقف حقاً عن إنتاج أسلحة التدمير الشامل (نووية وكيماوية وبيولوجية)، ووسائل إيصالها إلى أهدافها الاستراتيجية أي الصواريخ الباليستية البعيدة والمتوسطة والقصيرة المدى " وقد سبق لصدام حسين أن صرح في إحدى خطبه قائلاً: " إن طموحات الشعب العراقي وآماله تتعدى حدود العراق إلى ما ورائه ".
كما أكد عالم نووي عراقي آخر هذا الكلام وهو الدكتور خضر حمزة الذي صرح: " إن كلفة البرنامج النووي العراقي بلغت 10 مليار دولار، وهو مازال مستمراً، حيث نجح العراق في خداع وكالة الطاقة الذرية الدولية إذ أفلح في إختراق هذه الوكالة الدولية من خلال تعيين أحد عملائه في داخلها وهو الدكتور عبد الواحد ساجي في مقر الوكالة في جنيف ومن خلاله تمكن العراق من معرفة أساليب عمل الوكالة في إجراء التفتيشات وعمليات الاستشعارعن بعد بواسطة الأقمار الصناعية. وأكد خضر حمزة أن صدام حسين كان قريباً جداً من تحقيق حلمه في انتاج القنبلة النووية العراقية، وإنه كانت لديه عبوة نووية قادرة على إحداث انفجار نووي يعادل 1 ـ 3 كيلو طن ، أي حوالي 100 ـ 3000 كيلوغرام من مادة التي أن تي TNT وامتلك 25 كيلو غرام من اليورانيوم المخصب 235 الصالح والجاهز للاستخدام لصنع القنبلة النووية وكان يختزن هذه الكمية في مجمع الأثير لكن عاصفة الصحراء دمرت هذا المجمع الصناعي إلاّ أن صدام نجح في إنقاذ هذه الكمية من اليورانيوم رغم إدعائه بفقدانها ، وقد نقل صدام حسين نشاطه إلى دول صديقة ومؤازرة له لمواصلة مشاريعه التسليحية كما صرح بذلك عالم نووي عراقي آخر هرب من العراق مؤخراً هو الدكتور إبراهيم ياوي . وقد سبق للعالم العراقي سالم ياسين زوير أن صرح لصحيفة الصنداي تايمز البريطانية في 17 ديسمبر 2000 "إن العراق مايزال قادر على إنتاج القنبلة الذرية" وهو الأمر الذي اشار إليه سكوت ريتر عضو لجنة التفتيش الدولية المتعاون مع إسرائيل، وقال إن العراق مايزال يمتلك 18 صاروخ باليستي بعيد المدى يمكن تسليحها برؤوس نووية إذا توفرت للعراق الكمية اللازمة من اليورانيوم المخصب 235 وهو ما قد يكون قد حصل عليه من روسيا من خلال التهريب والسوق السوداء. وقد يكون العراق أخفى ثلاث قنابل جاهزة لللاستخدام بمجرد توفر مايلزمها من اليورانيوم المشار إليه. وان لجنة الأونيسكوم على علم بذلك وتعرف الكثير من التفاصيل بهذا الشأن وعن كيفية إخفائها.
ثم نشرت صحيفة " بيلد " الألمانية، نقلاً عن جهاز المخابرات الألماني ب ن د، إن العراق يستخدم مصنعاً سرياً لتطوير صواريخ باليستية في مصنع يقع شمال شرقي بغداد بـ 40 كلم وقد أجرى ثلاث تجارب ناجحة بصواريخ يبلغ مداها 3000 كلم، بينما أكدت نشرة فورين ريبورت في أيلول/ سبتمبر الماضي أن هناك تعاون نووي بين العراق والجزائر. ولا يزال العالم يتذكر اعترافات صهر الرئيس العراقي حسن كامل، الذي هرب من العراق إلى الأردن ثم عاد إلى العراق وقتل هناك حين قال: " إن صدام حسين ما يزال يمتلك قدراً من الأسلحة الفتاكة وأسلحة التدمير الشامل المتنوعة التي يهدد باستخدامها إذا ما أحكم الطوق على رقبته باعتبارها أسلحة الملاذ الأخير للمحافظة على نفسه ونظامه" لكنه لم يستخدمها في حرب الخليج الثانية ضد قوات التحالف خوفاً من ردة فعل عنيفة بضربه بالقنابل النووية وبعد أن حصل على ضمانات بابقاءه ونظامه في السلطة والسماح له فيما بعد كدليل على هذا الالتزام، بسحق الانتفاظة الشعبية واستخدام الأسلحة الثقيلة والمروحيات والأسلحة الكيماوية.
وكان تقرير لوكالة المخابرات المركزية الأميركية قد اشار إلى إحتمال إجراء العراق لتجارب نووية قبل حلول عام 2015 لكن ذلك يبقى مرتبطاً بمدى تأثير ونجاح أوعدم نجاح مساعي مجلس الأمن في إحتواء العراق وتطويقه ومنعه من مواصلة مشاريعه التسليحية وتطوير قدراته الصاروخية وامكانياته التصنيعية.
وكانت محاكمة المتهم المصري بالتجسس شريف فوزي الفيلالي قد كشفت عن تنسيق بينه وبين متهم روسي يدعى غريغوري غيفنس لبيع اسلحة محرمة دولياً للعراق تم تهريبها من مخازن الجيش الروسي، ومن أوروبا الشرقية ومن السوق السوداء في الغرب.
من الثابت اليوم أن العراق تمكن بأمواله وبكوادره الوطنية وأموال بعض دول الخليج ووساطاتهم لصالحه في سنوات الثمانينات مع دول العالم، من تكوين قوة استراتيجية لايستهان بها، ولولا أوهام العظمة والغرور والاستهانة بالآخرين والانزلاق إلى مغامرات غير محمودة العواقب كحربي إيران والكويت، لتمكن العراق من الانضمام إلى النادي النووي أسوة بالباكستان والهند وإسرائيل ولأصبحت صواريخه تبلغ في مداها 3000 كلم منذ العام 1992، حسب تقديرات مدير الاستخبارات العسكرية العراقي الهارب الجنرال وفيق السامرائي.
وأخيراً، إذا كانت استحقاقات الحروب قد جردت العراق من إمكانات صنع أول قنبلة نووية عربية (وهو حق مشروع طالما تمتلك إسرائيل مثل هذا السلاح)، فهل تستطيع سيروة السلام، إذا ما تم التوقيع على معاهداتها، تجريد إسرائيل من سلاحها النووي ؟ وهل ستكون الولايات المتحدة الأميركية قادرة على كبح الطموحات الإيرانية في إمتلاك السلاح النووي كما أمتلكته كل من الهند والباكستان، وهل يستطيع السلاح النووي أن يحافظ على قامته وقيمته العسكرية والسياسية السابقة أمام السلاح الكيماوي والجرثومي والصواريخ الباليستية البعيدة المدى التي يمكنها إيصاله إلى أي مكان (باعتباره سلاح الفقراء الفتاك)، والذي مازال يتطور يوماً بعد يوم بأساليبه المتطورة من ناحية الاطلاق والتفجير؟ العبرة ليست في نوعية السلاح بل في طبيعة من يمتلكه وهل يمكن أن يستخدمه إذا دعته الضرورة إلى ذلك وهنا تكمن خطورة الموضوع. والسؤال الأخطر هو هل من المتوقع أن يسلم صدام حسين هذا النوع من الأسلحة الممنوعة دولياً والخطيرة إلى إرهابيين دوليين من أمثال أسامة بن لادن؟ وهذا يقودنا إلى موضوع آخر تتذرع به الولايات المتحدة الأمريكية حول علاقة النظام العراقي بمنظمات إرهابية دولية وبإرهابيين عالميين فما حقيقة ذلك؟
* كتبت هذه الدراسة عام 2001 وتركت كما هي من دون تعديل







الفصل الثالث
هل هناك حقاً إتصالات بين أسامة بن لادن والنظام العراقي؟*
وهل سيكون العراق الهدف القادم للحرب الأميركية بعد أفغانستان على ضوء التقارير الإعلامية الدولية ؟

في أعقاب ما بدا بأنه انهيار كامل لنظام طالبان في الحرب التي شنتها ومازالت تشنها الولايات المتحدة وحلفائها على أفغانستان، وفي غمرة ترقب المجتمع الدولي للخطوة التالية التي سوف تقدم عليها الولايات المتحدة في حربها على الإرهاب، ترددت أنباء عن أن العراق سوف يكون الهدف التالي لهذه الحرب، وبخاصة أن الملف العراقي ما زال مفتوحاً منذ عهد الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الأب ، وأن هناك مسألة لم تسوى بعد على حد تعبير رئيس وزراء أستراليا الذي تؤيد حكومته توجيه ضربة للعراق و" أن قرار غزو العراق أتخذ في اليوم الثالث بعد انتخاب جورج دبليو بوش عام 2000 كما نشر ئلك "جون فرانسوا كاهن" المحلل السياسي الفرنسي في كتابه " معسكر الحرب. كذلك حاولت الأوساط السياسية والصحافة العالمية التنبؤ بالخيارات البديلة التي يمكن أن تنتقل إليها الحرب على الإرهاب والتي قد تطال الصومال وسوريا واليمن وإيران إلى جانب العراق.
غيرأن "التمهيد النفسي" لهذه الضربة الذي قدمت له الصحافة الأمريكية في الأيام الأخيرة، والذي حمل في طياته أخباراً شبه مؤكدة من أن هجوماً عسكرياً على العراق أصبح وشيكاً، معتمدةً في ذلك على التصريحات التي ألقى بها الرئيس الأمريكي جورج بوش ووزير خارجيته كولن باول ومستشارة الأمن القومي كونداليزا رايس وعدد آخر من المسئولين الأمريكيين _ قد غلًب الرأي القائل بأن العراق سوف يكون الهدف التالي لهذه الحرب.
وقد رافق هذه الحملة النفسية الإعلان عن نتائج استطلاع للرأي في أمريكا أظهر أن 78% ممن شملتهم العينة يؤيدون قيام الولايات المتحدة بعملية عسكرية ضد العراق بهدف إسقاط نظام صدام حسين وإجباره على التنازل عن السلطة، كما أظهر أن 81% منهم يؤيدون العمل العسكري ضد أي دولة أخرى تقوم بمساعدة الإرهابيين أو توفير الملاذ الآمن لهم. غير أن صحيفة نيويورك تايمز حذرت من أن الإدارة الأمريكية تخطئ إذا ما اتجهت في هذا الوقت بالذات لضرب العراق، لأنها لا تملك خيارات على المدى القصير للإطاحة بنظام صدام حسين، كما أن غياب دليل قاطع يربط بين العراق وبين أحداث الحادي عشر من سبتمبر الماضي سوف يضعها وبريطانيا وحيدتين في حربهما مع العراق، مما قد يقضي على التحالف القائم على محاربة الإرهاب، هذا فضلاً عن أن هذه الحرب سوف تقلل من فرص تخفيف حدة العنف الدائر حالياً في الشرق الأوسط بين الفلسطينيين والإسرائيليين.
وخلصت الصحيفة إلى القول بأن على أمريكا أن تؤجل خططها الرامية لإسقاط صدام حسين، حتى يحين الوقت الذي تتمكن فيه من تقديم دعم قوي وفعال يمكّن المعارضة العراقية من أداء ذات الدور الذي قامت به قوى التحالـف الشمالي لإسقاط نظام طالبان في أفغانستان.
وكان الرئيس الأمريكي قد صرح بأن أي شخص يعمل على تطوير أسلحة الدمار الشامل.. سوف يحاسب، وأن على الرئيس العراقي صدام حسين أن يسمح بعودة مفتشي الأسلحة الدوليين إلى بلاده لإنجاز مهامهم، حتى "يبرهن للعالم أنه لا يقوم بتطوير أسلحة الدمار الشامل"، وإذا لم يفعل ذلك، فسوف يكتشف نتائج رفضه بنفسه He, ll Find Out.
والواقع، إن قلق واشنطن من انتشار تنظيم القاعدة في عدد من الدول، وتفكيرها نحو تحديد الخطوة التالية في الحرب الدولية على الإرهاب، وإعلانها المتواصل بأن الحرب على الإرهاب التي بدأت في أفغانستان لن تنتهي عندها _ قد وجه الأنظار إلى عدد من الدول الأخرى التي قد تكون مرشحة للمرحلة التالية من هذه الحرب مثل اليمن والصومال والسودان كما ذكرنا، باعتبار أن لتنظيم القاعدة فروعاً له في هذه البلدان. ومع ذلك، وكما يقول جوناثان ماركوس: يظل العراق لا محالة مستهدفاً، ليس بسبب وجود أو عدم وجود علاقات له مع تنظيم القاعدة، وإنما لشكوك أمريكا في أنه ما زال يسعى لتطوير أسلحة الدمار الشامل، ما يعني أن رفض بغداد لعودة المفتشين إلى العراق سوف يواجه بقصف عنيف للمرافق المشتبه فيها. ومع ذلك فأن الهجوم على العراق لا يبدو- في نظر جوناثان - حتمياً، حيث من المتوقع أن ينجح التيار المعتدل في الإدارة الأمريكية الذي يتزعمه وزير الخارجية، والذي يتسم بالحذر، في "بذل جهود لمحاولة استنباط" برنامج جديد للتفتيش عن أسلحة الدمار الشامل في العراق ومنعه من محاولة تطويرها، وأن اللجوء إلى العمل العسكري سيتم فقط في حال فشل تلك الجهود.
ويبدو أن توقعات جوناثان جاءت غير صائبة حين قال بأن ضرب العراق ليس أمراً محتوما.وقد عتمت الولايات المتحدة الأمريكية على نواياها الحقيقية التي باتت معروفة. فقد حاول كولن باول التخفيف من حدة التكهنات حول توسيع الحرب لتشمل العراق، وقال: إن أي تكهنات بوقوع هجوم أمريكي وشيك على العراق لا صحة لها، كما أوضح أن الرئيس بوش لم يتخذ بعد قراراً بشأن المرحلة التالية من الحرب. كذلك صرح الرئيس الفرنسي جاك شيراك أثناء زيارته لتونس بأن المرحلة القادمة من الحرب على الإرهاب لن تطال العراق أو أي بلد في المنطقة.(وكان مخطئاً في توقعاته إذ كذبتها الحملة الأمريكية الحالية لشن الحرب الوقائية أو الاحترازية ضد العراق في هذه الأيام)
وكانت تصريحات بوش وكولن باول حول هذا الموضوع قد أحدثت قلقـاً لدى الدول الغربية الرئيسة الحليفة والدول العربيـة المعتدلة. وفي هذا السياق، أعرب المستشار الألماني جيرهارد شرودر (قبل حملته الانتخابية الأخيرة بعام واحد والتي فاز فيها في أيلول 2002 بفضل شعار معارضة الحرب ضد العراق) عن قلقه من فكرة إقحام القوات الألمانية - التي وصفها بأنها غير قتالية - في حرب موسعة خارج نطاق الحملة الحالية على الإرهاب، كما صرح بأن على الجميع أن يتوخى الحذر وبخاصة حين يجري الحديث عن توسيع الحرب لتشمل أهدافاً جديدة في منطقة الشرق الأوسط، حيث هناك الكثير من الأمور التي قد تنفجر فجأة ولا يستطيع أحد مجابهتها. كذلك أوضح شرودر بأن تعهده بإرسال نحو أربعة آلاف جندي ألماني للمساعدة في الحملة على الإرهاب لا ينبغي أن يفهم منها على أن ألمانيا تقبل بمبدأ توسيع الحرب، كما أن ألمانيا لا تسعى إلى التدخل في بلدان أخرى مثل العراق أو الصومال.
وقد جاء هذا الموقف الألماني من فكرة توسيع الحرب الحالية ضد الإرهاب متطابقاً مع الموقف الفرنسي، حيث ألقى وزير دفاع فرنسا السابق"آلان ريشار" ظلالاً من الشك حول هذه الفكرة التي بدأ الحديث عنها بكثرة على المستوى الدولي بسبب التصريحات التي صدرت في معظمها عن مسئولين أمريكيين، كما صرح بأنه لا يرى أي ضرورة للقيام بأعمال عسكرية ضد العراق أو أية دولة أخرى.
أما رئيس وزراء بريطانيا توني بلير فقد كان مصراً على إمكانية توسيع الحرب لتشمل بلداناً أخرى غير أفغانستان، حيث صرح بأنه سوف تكون هناك مرحلة أخرى لمحاربة الإرهاب العالمي بكافة أشكاله، وأنه سيتم دراسة هذه المرحلة جيداً قبل الشروع في تنفيذها. بيد أن هذا الموقف كما يبدو ظاهرياً قد تبدّل بالنسبة للعراق على الأقل، حيث استبعد وزير الدفاع البريطاني السابق "جيف هون" وقوع أي هجوم على بغداد، وأن العمل العسكري لا بد وأن يوجه إلى الأماكن التي ينشط فيها تنظيم القاعدة والمنظمات الإرهابية المماثلة.
أما روسيا الاتحادية التي تربطها بالعراق روابط قوية، وتطمح في أن يكون لها النصيب الأوفر من حجم التعامل التجاري والاقتصادي والصناعي مع بغداد، والتي دأبت على مطالبة مجلس الأمن برفع العقوبات الاقتصادية التي فرضها على بغداد منذ عام 1991م _ فتقف موقفاً معارضاً للتدخل العسكري الأمريكي في العراق. ويبدو أنها حققت بعض النجاح نسبياً في هذا الاتجاه، حيث توصلت مع الولايات المتحدة إلى اتفاق وسط يقضي بتجديد برنامج النفط مقابل الغذاء لمدة ستة أشهر أخرى، ما يعني أن ثمة تفاهمات قد تم التوصل إليها بشأن المضي قدماً نحو بذل محاولة جادة لتعليق العقوبات الاقتصادية والعسكرية المفروضة عليه، تمهيدا لرفعها كلية مقابل إجراءات تكفل التأكد من عدم قيام بغداد على المدى البعيد بتطوير أسلحة الدمار الشامل. وهذا ما عبر عنه المسئولون الروس بقولهم: إنهم سيقنعون الرئيس العراقي صدام حسين بالسماح لعودة المفتشين الدوليين لبلاده.
وقد وقعت روسيا في أيلول 2002 اتفاقاً تجاريا واقتصادياً بقيمة 40 مليار دولار مع النظام العراقي بغية الحصول على تأييدها السياسي في مجلس الأمن وعرقلة المخططات الأمريكية)
وعلى المستوى العربي صرح الأمين العام للجامعة العربية عمرو موسى بأن الجامعة ترفض القيام بأي عمليات عسكرية ضد العراق أو أي دولة عربية أخرى، كما أعلن أن توجيه ضربة لأي بلد عربي سوف ينهي التوازن القائم في التحالف ضد الإرهاب.
كذلك، استبعد وزير الخارجية المصري أحمد ماهر في تصريح له في واشنطن، وقوع هجوم على العراق أو أي بلد آخر في المنطقة قائلاً بأن شيئاً من هذا لن يحدث، ومذكراً بأن وقوع شيء من هذا القبيل سوف يجر مآس على الجميع.
أما سوريا التي ظلت مدرجة لزمن طويل على قائمة الدول المتهمة بدعم الإرهاب التي تعدها وزارة الخارجية الأمريكية سنوياً، فقد صرح وزير الخارجية فاروق الشرع خلال زيارة له للبنان، بأن أي هجوم أمريكي على أي بلد عربي بحجة القضاء على الإرهاب سيكون بمثابة غلطة قاتلة Fatal Mistake ترتكبها أمريكا في المنطقة. وتابع قوله بأن أي تهديد لأي بلد عربي أمر مرفوض، وأن أي عمل عسكري ضد أي بلد عربي سوف يجر المنطقة لمشاكل لا نهاية لها.
أما العراق، فقد رفض أول وهلة عودة المفتشين الدوليين قبل أن يجري رفع العقوبات الاقتصادية عنه. وصرح السفير العراقي في الأمم المتحدة بأن بغداد لن تسمح بعودة المفتشين ما دامت الأمم المتحدة تبقي على العقوبات المفروضة على العراق منذ عام 1991م، كما أنه لا توجد لدى بغداد ما يستحق التفتيش عنه، كما صرح ناطق باسم الحكومة العراقية بأنه يخطئ من يعتقد أن العراق يمكن أن يوافق على رغبة متغطرسة تصدر عن هذا الطرف أو ذاك، كما طالب الأمم المتحدة برفع العقوبات التي تفرضها على العراق، وطالب أمريكا بإلغاء مناطق الحظر الجوي التي فرضتها على شمال العراق وجنوبه. لكنه إنصاع صاغراً لمجلس الأمن ووافق على تطبيق القرار 1441 بحذافيره والذي يسلبه إرادته وسيادته كلياً.
وعلى الصعيد الإقليمي، رفضت إيران قيام الولايات المتحدة بأي هجوم على العراق، كما أعلن بولند أجاويد رئيس وزراء تركيا السابق موقف بلاده الرافض لتوجيه ضربة عسكرية لبغداد في نطاق الحرب الأمريكية على الإرهاب (لكن حكومة عبد الله أوغال التركية الجديدة وافقت على تعاون محدود مع واشنطن لتنفيذ الهجوم العسكري المنتظر). وكان وزير الدفاع التركي قد ألقى في وقت سابق بتصريحات أوحت بأن تركيا قد توافق على توجيه ضربة عسكرية لبغداد إذا ما تبدلت الظروف القائمة حاليا وسارت في هذا الاتجاه. غير أن أجاويد سارع إلى إزالة هذا الفهم الخاطئ لسياسة تركيا حيال العراق، مما حدا بالحكومة العراقية إلى نفي الخبر الذي سبق نشره عن استدعاء سفيرها في أنقرة.
(تجدر الإشارة إلى أن العراق غيّر موقفه كلياً وأعلن موافقته على عودة المفتشين الدوليين بلا قيد أو شرط أملاً بتفادي الضربة الأمريكية وإحراج الولايات المتحدة الأمريكية سياسياً ودبلوماسياً)
وعلى النقيض من مواقف دول المنطقة حيال فكرة توسيع الحرب، تقف إسرائيل موقفاً مغايراً حيث تدعو أمريكا للقيام بعمل عسكري ضد بغداد بهدف إسقاط نظام صدام حسين وإجهاض المحاولات التي يبذلها من أجل تطوير أسلحة الدمار الشامل، ولما يشكله النظام العراقي من خطر على إسرائيل وعلى موازين القوى إقليمياً.
وفي هذا السياق أعرب "آلوف بن" الصحفي في جريدة هاآرتس الإسرائيلية عن اعتقاده بأن المرحلـة التاليـة من الحرب الأمريكيـة ضد الإرهاب سوف تحتل - من بين أمور أخرى - جزءاً رئيساً من المباحثات التي سيجريها شارون مع المسئولين الأمريكيين، كما يعتقد بأن شارون سوف يطلب من الإدارة الأمريكية إطلاعه على خططها تجاه العراق، وكذلك إخطار إسرائيل مقدما بأي قرار تتخذه الولايات المتحدة بشأن مهاجمة العراق حتى تتمكن من اتخاذ الإجراءات الوقائية المناسبة بصورة جيدة.
والحقيقة أنه إزاء هذه المواقف والتطورات لا بد للمراقب أن يتساءل: ما الذي يدفع أمريكا إلى التعامل مع العراق على نحو ينطوي على التهديد المبطن أحياناً، وعلى التهديدات الواضحة والصريحة أحياناً أخرى، برغم أنها تعلم جيداً أن العراق غير معني بأمور الإرهاب، وأن كل ما يشغله الآن هو التخلص من العقوبات الاقتصادية المفروضة عليه ؟ وهل انتهاج أمريكا لهذا الأسلوب في معالجة هذا الموضوع ناجم عن عدم توصلها لتحديد واضح وحاسم للمرحلة التالية من الحرب، أم أنها لم تتوصل بعد إلى خطة واضحة المعالم محددة الأهداف تكفل لها نجاحها في أي حملة عسكريـة تقوم بها على العراق ؟ والأهم من ذلك كله، هل ضرب العراق يشكل بالنسبة لأمريكا- على حد قول بعض المراقبين - مفردة أساسية من مفردات استراتيجية ثابتة تستهدف خلق نظام عالمي جديد يدين لها بالطاعة والولاء، أم أنه من قبيل الانتقام أو تصفية الحسابات أو مجرد أنموذج من الإرهاب تظهره أمريكا لمن تواتيه الشجاعة من دول الجنوب في الخروج على طاعتها وهيمنتها ؟ . ثم أخيراً وليس آخراً، هل حقاً يستطيع العراق- في ظل الظروف الدولية الراهنة - أن يستمر في رفضه لعودة المفتشين الدوليين لأراضيه ؟
أغلب الظن أن الولايات المتحدة تعتبر موضوع نقل الحرب إلى العراق والقضاء على نظام صدام حسين، يقع في نطاق استراتيجيتها الهادفة إلى السيطرة على منابع النفط في المنطقة والهيمنة على مقدراتها الاقتصادية والتحكم في قرارها السياسي. ثم لا بأس - بعد ذلك - أن تأتي رغبتها في الانتقام من صدام حسين لخروجه على الخطوط الحمراء التي وضعتها وما زالت تلتزم بها في التعامل مع منطقة الخليج والجزيرة العربية التي تعتبرها بعداً استراتيجياً هاماً لأمنها القومي بحكم اعتمادها المستقبلي على إمدادات المنطقة من النفط.
أما التساؤل عما إذا كان العراق سيوافق على عودة المفتشين الدوليين لأراضيه، فإن ما تؤكده الشواهد ويقره المنطق أن العراق لا يستطيع الاستمرار في السباحة ضد أعتى قوة في هذا الزمان إلى ما لا نهاية، ما يعني أنه قد يجبر على تلبية مطلب بوش في عودة المفتشين الدوليين لبغداد (وهذا ماحصل بالفعل)، بالرغم من علم العراق اليقيني بأن تحقيق هذا المطلب لن يكون نهاية المطاف بالنسبة للعلاقة العدائية القائمة بينه وبين الولايات المتحدة الأمريكية. ولعل من أظهر الأسباب التي تؤيد صحة هذا الرأي:
أ - إن العراق لم يعلن عن قبوله أو رفضه الصريح والقاطع لعودة المفتشين الدوليين لأراضيه، وكل ما قاله في هذا الصدد أنه لن يسمح بعودتهم قبل أن تقوم الأمم المتحدة بإنهاء العقوبات الاقتصادية المفروضة عليه.(قبل انصياعه الكلي والتام للأمر الدولي وإعلان موافقته),
ب - التصريحات التي صدرت مؤخراً عن الرئيس الفرنسي جاك شيراك والمستشار الألماني جيرهارد شرودر ورئيس الوزراء البريطاني توني بلير وحتى وزير الخارجية الأمريكي كولن باول، والتي تصب جميعها باتجاه التأكيد على عدم توسيع الحرب في المنطقة _ ما كان لها أن تُعلـن دون أن يقبل العراق بعودة المفتشين الدوليين لأراضيه.
ج - القرار الذي صدر عن مجلس الأمن بشأن تمديد برنامج النفط مقابل الغذاء، ما كان له أن يمر لولا وجود تفاهم بين الولايات المتحدة وروسيا الاتحادية على قبول العراق لعودة هؤلاء المفتشين لبغداد.
ومع ذلك فسوف يبقى العراق وأمثاله من دول المنطقة بخاصة ودول العالم الثالث بعامة، هدفاً دائماً لغطرسة القوة التي تتعامل بها أمريكا مع الدول الأخرى وبخاصة الدول المستضعفة في عالم اليوم. ولعل أخطر ما في الأمر أن الرأي العام الأمريكي الذي يؤيد نقل الحرب إلى العراق تحت دعوى القضاء على نظام صدام حسين الدكتاتوري، يجهل تماماً أن المحرك الأول لسياسات الإدارات الأمريكية المتعاقبة، كان دوما السيطرة على البلدان التي خضعت للاستعمار القديم واستنزاف ثرواتها وتوظيف هذه الثروات لصالح الشركات الأمريكية العملاقة وبخاصة العاملة منها في حقل الصناعات العسكرية والبترولية. لذلك يسود العاصمة العراقية اليوم مخاوف جدية، بل شبه متيقنة من أن تكون بغداد " الهدف الثاني " للحملة العسكرية التي تقودها واشنطن ضد الإرهاب. وصدام حسين ونظامه في قلب النقاشات الاستراتيجية الأميركية منذ أحداث الحادي عشر من أيلول. ويتساءل العديد من المحللين والاستراتيجيين الأميركيين فيما لو أن بغداد هي حقاً الجذر الخفي للإرهاب. وقد تفاقمت المخاوف بعد موجة الرسائل المفخخة بجراثيم الجمرة الخبيثة التي أحدثت العديد من الإصابات بعضها كان قاتلاً، فقد عمل صدام حسين المستحيل وبثمن باهظ لكي يتخلص من المراقبين والمفتشين الدوليين التابعين للأمم المتحدة ليبعدهم عن برنامجه للأسلحة البيولوجية ـ الجرثومية أو البكتريولوجية. والحكومة الأميركية محرجة من هذا النقاش العام والعلني لأنها لاتريد أن تثير الرأي العام العربي والإسلامي ضدها في الوقت الحاضر فهي لم تحصل إلاّ على تأييد شكلي ودعم كلامي على طرف اللسان من جانب حلفائها وأصدقائها العرب في حربها ضد الطالبان لهذا تتفادى توجيه تهمة مباشرة إلى بغداد حالياً ولكي تطمئن واشنطن حلفائها في العالم العربي صرّح الناطق الرسمي باسم الخارجية الأميركية فيليب ريكر بأنه لا يعتقد بوجود صلة بين انتشار جرثومة الجمرة الخبيثة ونظام صدام حسين. ولكن من الواضح أن هناك إنقسام داخل الإدارة الأميركية بشأن موضوع العراق. فنائب وزير الدفاع بول فولفوفيتز يدعو علناً إلى توسيع دائرة الحرب لتشمل العراق بأسرع وقت، وبالضد منه يقف وزير الخارجية كولن باول ـ الذي كان رئيساً لأركان الجيش الأميركي إبان حرب الخليج الثانية ضد العراق ـ ولا أحد يعرف في الوقت الحاضر ماذا يدور في رأس الرئيس بوش بهذا الصدد. فهو وغيره الكثير من الأميركيين لن ينسوا أن صدام حسين حاول اغتيال والده الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش الأب الذي شن الحرب ضد العراق عام 1991 وذلك أثناء زيارة جورج بوش الأب للكويت في ربيع 1993. . إن توازن القوى والنفوذ داخل الإدارة الأميركية يميل في الوقت الحاضر إلى جانب وزير الخارجية كولن باول ويجد الفريق الآخر الأكثر تشدداً صعوبة في فرض آرائه ووجهات نضره وخياراته. ولكن من الصحيح القول أن من الصعب جداً معرفة ماذا يدور وراء الكواليس في هذه الإدارة الغامضة والمتكتمة جداً. فعلى عكس فريق بيل كلينتون الرئيس السابق، فإن فريق جورج دبليو بوش يخفي صراعاته الداخلية ولايظهرها إلى العلن. إلاّ أنه من الواضح أن هناك نزوع داخل أوساط قريبة من الجمهوريين نحو توجيه هجوم سريع ضد العراق خاصة من بين الريغانيين أو المحافظين الجدد" والأوساط الموالية لإسرائيل التي تعتقد أن الولايات الأميركية أخطأت خطأً فادحاً بعدم السماح لقواتها بالزحف على بغداد وإطاحة نظام صدام حسين آنذاك أي سنة 1991. وكذلك السيناتور الديموقراطي والمرشح لمنصب نائب الرئيس إبان الحملة الرئاسية الأميركية الأخيرة جو ليبرمان الصهيوني المتعصب الذي صرح قائلاً: " طالما بقي صدام حسين في السلطة فإن العراق يظل بالنسبة لنا مصدراً للقلاقل والاضطراب ويشكل تهديداً على أرواحنا ". فهل النظام العراقي متلبس، بشكل أو بآخر، في هجمات الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول على واشنطن ونيويورك؟ تسرّب الإدارة الأميركية حالياً بعض الدلائل التي تشير إلى أن عملاء في أجهزة المخابرات العراقية كانوا على إتصال بشبكات أسامة بن لادن. في مقال كتبه جيمس وولسي، رئيس وكالة المخابرات المركزية الأميركية CIA بين 1993 ـ 1995 ونشرته صحيفة وول ستريت جورنال يقول: " تكمن المسألة الرئيسية في معرفة إمكانية مشاركة دولة في هذه العمليات، وللإجابة على ذلك، يتوجب تحديد إطار الإرهاب الذي واجهناه خلال العقد المنصرم". يعتبر هذا المسؤول الأميركي (كجزء من أعضاء إدارة بوش) من أهم الداعين إلى اغتنام فرصة الأزمة الحالية للقضاء على نظام بغداد. فقبل أن يغادر إلى نيوجرسي، إجتمع محمد عطا، زعيم المجموعة الإنتحارية التي نفذت هجوم الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر، في مطار براغ في حزيران/ يونيو عام 2000 بالدبلوماسي العراقي أحمد خليل إبراهيم الذي طرد في شهر أبريل/ نيسان 2001 من دولة التشيك بسبب " نشاطات لا تتوافق مع منصبه الدبلوماسي " (منها التخطيط لضرب إذاعة العراق الحر المعارضة التي تبث من براغ) وبناءً على مصادر أجهزة المخابرات التشيكية ، حدث بعد هذا اللقاء لقاءان آخران بين الرجلين، آخرهما في آذار/ مارس 2001. لا تعني هذه اللقاءات أن نظام صدام حسين شارك في تحضير عمليات واشنطن ونيويورك، ولا تعني أنه كان على علم مسبق بها. ولكن بعض المصادر الأميركية تؤكد أن محمد عطا إستلم أثناء اللقاء الأخير عينات من جرثومة الجمرة الخبيثة وهذا ما أكده ريشارد بتلر المسؤول السابق عن لجنة التفتيش الدولية في العراق الذي نوّه إلى إحتمال أن تكون جرثومة الجمرة الخبيثة قد جاءت من بغداد في مقال له في صحية نيويورك تايمز. رغم التناقض الأيديولوجي بين نظام بغداد وتنظيم ابن لادن، فقد حصلت لقاءات عديدة في سابق الوقت بين النظام العراقي البعثي وجماعة القاعدة الإسلامية المتطرفة، خصوصاً عن طريق فاروق الحجازي الذي كان يعتبر على مدار زمن طويل الرجل الثاني في المخابرات العراقية، والذي يشغل منذ ثلاث سنوات منصب السفير العراقي في أنقرة. بناءاً على مصادر المخابرات الأميركية، إجتمع الحجازي مع بن لادن للمرة الأولى عام 1994 في السودان. ثم بعد ذلك، وفي عام 1998، استقبل العديد من مسؤولي حركة القاعدة في بغداد. يؤكد أحد المسؤولين أجهزة المخابرات الأميركية (وهو فانسان كاريسترارو) أن الحجازي ذهب في ديسمبر 1998 إلى أفغانستان ليعرض على أسامة بن لادن مساعدات لوجيستيكية، وليعرض عليه أيضاً اللجوء إلى العراق بصورة دائمة. رفض بن لادن اللجوء إلى العراق، ولكن مسؤول المخابرات الأميركي لا يستثني أن تكون قد حدثت اتصالات بين الطرفين منذ ذلك الوقت وأن يكون بن لادن قد وافق على مساعدة العراق اللوجيستيكية. ويعتمد بعض الزعماء الأميركيين على تقرير أعدته وكالة المخابرات الكويتية يفيد بأن خبراء عسكريين عراقيين يتواجدون في معسكرات القاعدة لتدريب ميليشياتها على استخدام الأسلحة الكيمياوية والبيولوجية ويؤكد ضابط عراقي كان مسؤولاً عن تدريب وحدات الحرس الجمهوري العراقي، ثم انشق وهرب إلى تركيا (وهو صباح خليفة العلمي) أنه شاهد تدريبات على عمليات اختطاف الطائرات، خصوصاً البوينغ، في مركز تدريب سلمان باك قرب بغداد. إذا صدقت أقوال هذا الضابط التي نشرتها العديد من الصحف الأميركية، فإن بعض الرجال الذين تم تدريبهم هم "عرب أفغان ينتمون إلى منظمة القاعدة ". وهناك شهادات أخرى مماثلة لضابطين عراقيين منشقين تفيدان "بإمكانية وجود روابط بين العراق وعمليات الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر" وذلك بناءاً على أقوال نبيل موسوي، أحد ممثلي المؤتمر الوطني العراقي والتي نشرتها صحيفة إيطالية. لايمكن أن نستثني احتمال أن هذه الشهادات التي أفاد بها الشهود الهاربون، (قد تكون مزورة أو مختلقة) لكي يحظون برضى السلطات الأميركية التي تأويهم. ولكن العديد من الخبراء الأميركيين يشددون التهمة الموجهة للعراق لأن وكالة المخابرات العراقية كانت قد اتهمت من ذي قبل بالمشاركة في تدبير الانفجار الأول ضد مركز التجارة العالمي في سنة 1993. كان رمزي يوسف، الذي يعتبر العقل المدبر لهذا الإنفجار والذي ألقي القبض عليه في باكستان ثم سلّم إلى الولايات المتحدة الأميركية وحكم عليه بالسجن لمدة 249 سنة، كان على ارتباط وثيق بتنظيم القاعدة وبنظام بغداد. أكد هذا الشخص أنه يدعى عبد الباسط ويحمل جنسية باكستانية وهو من أصل كويتي. تؤكد وكالة المخابرات المركزية الأميركية أن هذه الهوية مزورة اختلقتها الأجهزة المخابراتية العراقية أثناء سيطرتها على سجلات الأحوال المدنية الكويتية سنة 1990. وهنالك مشبوه آخر هو عبدو رمضان ياسين ، استطاع الهرب. ويؤكد مسؤول في أجهزة البوليس الفيدرالي الأميركية (مكتب التحقيقات الفيدرالي FBI) أن هذا الأخير لجأ إلى بلاده الأصلية العراق بعد هروبه.ولكن ماذا سيحدث لو تحقق السيناريو الكارثي وامتدت الحرب بذيولها من كابول إلى بغداد ؟

في الواقع إن الحرب ضد العراق لم تتوقف منذ عام 1991 لكنها اتخذت أشكال أخرى (نفسية، اقتصادية) إضافة للعسكرية من خلال استمرار عمليات القصف الجوي اليومية تقريباً بطائرات أميركية ـ بريطانية، يسميها العراقيون بغربان الشيطان ففي شهر أكتوبر / تشرين أول، قامت طيور الشؤوم حسب تعبير التلفزيون العراقي، القادمة من الكويت وتركيا بـ 33397 غارة جوية على العراق خلال السنوات العشرة المنصرمة تحت أنظار العالم اللامبالية بينما تنهار أفغانستان تحت القنابل اليوم. وإذا كان هناك كابوس يقلق مضاجع القادة العرب وبعض الأوروبيين هو إمكانية أمتداد الحرب الأميركية ـ البريطانية من كابول إلى بغداد في إطار عملية ـ علاجية ضد جرثومة الإرهاب وإن غربان الشيطان لن تكتف بضرب الأهداف العسكرية المعزولة في الصحراء العراقية فحسب، بل ستدك عاصمة حاكم العراق صدام حسين وما يمكن أن يثيره هذا الحدث من تداعيات وعواقب وخيمة على حد توقعات مجلة جون أفريك الفرنسية الأسبوعية. من المؤكد أن اضطرابات واحتجاجات وتظاهرات تنديد ستندلع في كل مكان من العالم العربي والإسلامي وسوف تحرق الأعلام الأميركية في الرباط والقاهرة ودمشق وعمان ولكن الأمور لن تتوقف عند هذا الحد بالتأكيد فسوف تتزعزع أنظمة وتهتز أركان بعضها وقد تسقط أو يطاح بها بانقلابات عسكرية أو انتفاضات جماهيرية غاضبة وستكون النتيجة فلتان يصعب حصره أو السيطرة عليه في أكثر مناطق العالم حساسية وأهمية اقتصادية وحيوية للدول العظمى. وستكون الصدمة في نظر الشارع العربي عميقة جداً وغير قابلة للامتصاص ولن تمر بسهولة. هذا ما تصورته المجلة الفرنسية المتخصصة بالشؤون الأفريقية والعربية ‘إن هذا الاحتمال الذي يسيطر على أذهان القادة المسلمين الذين اجتمعوا في شهر أكتوبر/ تشرين أول في الدوحة في قطر مثلما يقلق الفرنسيين والألمان بل وحتى البريطانيين، ليس مجرد احتمال في مجال المتخيل بل يمكن أن يصبح حقيقة واقعة خاصة وأن هناك أصوات في واشنطن تعتقد أنه آن الأوان لإنهاء العمل الذي لم ينته في حرب الخليج الثانية، وأن خطط استكمال تلك الحرب موجودة بالفعل وجاهزة للتنفيذ.
فبعد مرور ثمانية أيام على الهجمات الانتحارية في نيويورك وواشنطن وبنسلفانيا في 19 و 20 أيلول/ سبتمبر 2001 حدث اجتماع على مستوى عالي في العاصمة الفيدرالية الأميركية في منظمة تهتم بالسياسة الدفاعية وتضم خبراء في مجال الأمن الوطني المكلفين بتقديم النصح والمشورة للبنتاغون والبيت الأبيض بشأن المواضيع الحساسة. ويصل عددهم ثمانية عشر خبيراً من بينهم هنري كيسنجر الذي لايحتاج إلى تعريف ونائب الرئيس الأميركي الأسبق دان كيلي ووزير الدفاع الأسبق جيمس شلزنجر، وهارولد براون، والأميرال دافيد جيرمياه، والمحافظ جداً المتشدد نويت غانغريش، المتحدث السابق باسم مجلس النواب والرئيس السابق للمخابرات المركزية الأميركية جيمس ووسلي بين 1993 و 1995 |، وريشار بيرل العضو السابق في فريق رونالد ريغان والعضو المؤثر في وزارة الدفاع الأميركية. وعلى مدى يومين استغرقهما هذا الاجتماع غير العادي، وبعد 20 ساعة من المداولات تمخض عن قرار حول ضرورة زعزعة النظام العراقي بغية إطاحته كشرط لابد منه لاستئصال شافة مجموعة اسامة بن لادن. وقد أرسل المشاركون في الإجتماع رسالة جماعية للرئيس الأميركي جورج دبليو بوش يقولون له فيها" إن ضرب أفغانستان ومهاجمتها بدون إسقاط العمق العراقي سون لن يكون له جدوى " ويبدو أن ريشار بيرل وجيمس ووسلي، الذي استقال من المخابرات الأميركية احتجاجاً على السياسة الخارجية لحكومة بيل كلينتون السابقة المتساهلة جداً وغير القادرة على حماية البلاد، لعبا دوراً محركاً في طرح وفرض هذه الاستراتيجية بعيدة المدى, فجيمس ووسلي مقتنع تماماً إن صدام حسن رعى ودعم، بل وربما أمر، بتخطيط وتنفيذ إعتداءات الحادي عشر من أيلول في نيويورك وواشنطن مثلما كان وراء تفجير المركز التجاري سنة 1993. فحسب اعتقاده فإن رمزي يوسف الشاب الباكستاني الجنسية الذي كان العقل المدبر الذي تم تسليمه للولايات المتحدة وحكم عليه بالسجن المؤبد سنة 1997، هو عميل مخابرات عراقي وهذا أمر مؤكد بالنسبة له. ويستند بتشخيصه هذا على أبحاثه هو وتحقيقاته الشخصية وعلى أعمال باحثة جامعية متخصصة بالشؤون العراقية ومعادية جداً لصدام حسين هي لوري ميلروا ناشرة للنشرة الإخبارية المتخصصة " أخبار العراق ـ Iraq News " وصاحبة أهم كتاب عن سيرة حياة صدام حسين باللغة الانجليزية. لوري ميلروا تذهب إلى أبعد مما يتوقعه جيمس وولسي، لأنها ترى أصابع النظام العراقي البعثي وراء كافة الأعمال الإرهابية ضد المصالح الأميركية بما فيها تفجير سفارتي الولايات المتحدة في نيروبي ودار السلام سنة 1998. لكن إدارة بيل كلينتون قد أخفت وطمست كل الدلائل والإثباتات، على حد ادعائها، " لأن إدارة كلينتون لم تكن تحبذ التورط في جبهة جديدة".
وقد قدم ووسلي لزملائه في اللجنة الاستشارية المذكورة معلومات إضافية تدين النظام العراقي وتثبت عليه التهم فيما يتعلق بالاتصالات والارتباطات العراقية بشبكة بن لادن المنفذة لإرادة بغداد. مثل اللقاء الذي تم في قندهار سنة 1998 بين فاروق الحجازي (سفير العراق الحالي في أنقرة) مع أسامة بن لادن والمواعيد واللقاءات الغامضة والسرية في مطار براغ في حزيران/ يونيو 2000 بين الدبلوماسي العراقي ـ عضو المخابرات العراقية ـ سمير العاني (الذي طردته السلطات التشيكية لقيامه بأنشطة لا تتلائم مع منصبه الدبلوماسي ـ أي التجسس والتخطيط لأعمال إرهابية كمحاولة ضرب إذاعة العراق الحر المعارضة التي تمولها المخابرات الأميركية والتي تبث برامجها من براغ)، مع زعيم المجموعة الانتحارية في هجمات نيويورك وواشنطن محمد عطا " فمهما كان بن لادن غنياً فسوف لن يكون بوسعه وحده قيادة وإدارة هذه العمليات المتقنة من بعيد من خيمته الخالية من التلفون والضائعة في البراري " كما يختتم ووسلي مضيفاً: "ينبغي والحال هذا تصفية نظام صدام حسين بكل الوسائل اللازمة والضرورية " وعندما استجوبته جهات إعلاميةعن هشاشة اتهاماته أجاب رئيس الـ CIA السابق " بأن غياب الدليل ليس دليلاً على غياب الدليل " وحتى تتوصل حملة " تصفية صدام حسين جسدياً وإنهاء نظامه "إلى نتيجة عملية ملموسة فلن تكفي آراء ونصائح لجنة استشارية مثل the Defense Board ولذلك فهو بحاجة إلى شخصية قيادية داخل السلطة التنفيذية، وقد وجد ضالته في شخص بول فولفوفيتز البالغ من العمر 57 عاماً والذي يشغل منصب نائب وزير الدفاع، وصديق ريشار بيرل وهو مستعد لتصديق أقوال وولسي.بول فولفيتز من أنصار استخدام القوة والوقاية بالقوة ومدافع عن سياسة خارجية مبنية على العمل الفردي المسلح للولايات المتحدة الأميركية بدلاً من البحث عن وفاق عالمي لاطائل منه. كان سفيراً سابقاً للولايات المتحدة الأميركية في أندونيسيا وعمل تحت إدارة رونالد ريغان وجورج بوش الأب ومن ميزاته التي تحسب له في بعد نظره ورجاحة توقعاته أنه كتب سنة 1977 عندما كان من المكلفين بصياغة برامج أقليمية للبنتاغون، أنه قدم سيناريو جريء في حينه يصف فيه قيام صدام حسين بغزو الكويت وتهديد المملكة العربية السعودية وذلك قبل ثلاثة عشر عاماً من تحقيق هذا السيناريو التخيلي على أرض الواقع كما تخيله هو. وخلال حرب الخليج الثانية اصبح مساعداً لوزير الدفاع آنذاك ديك شيني نائب الرئيس الحالي ، وكان من بين الأشخاص الذين يحثون على مواصلة الحرب حتى سقوط صدام حسين لكنه أزيح عن موقع القرار لصالح خط كولن باول الذي كان يدفع باتجاه وقف الحرب بمجرد الانتهاء من تحرير الكويت ، لذلك شعر ببعض المرارة ورغبة في الانتقام من خصومه خاصة بعد أن صحت مقولاته وتوقعاته . وقال معلقاً على سياسة وزير الخارجية الحالي كولن باول " المشكلة مع باول أن سياسة الكواليس ـ التحالف ـ المناهضة للإرهاب باتت بالنسبة له هدفاً بحد ذاتها ونسي أنها مجرد وسيلة لتحقيق غاية أعظم وهي تصفية الإرهاب " فإلى أي مدى يساند وزير الدفاع الحالي دونالد رامسفيلد افكار وطروحات نائبه وإلى أي مدى تحظى أفكاره بهذا الصدد بتأييد كوندوليزا رايس مستشارة الرئيس بوش لشؤون الأمن القومي ؟ خلال الأسابيع الأولى كان شبح صدام هو الذي يخيم على كواليس الإدارة الأميركية والاحتمال الأكثر رجوحاً على خلفية صراع نفوذ بين البنتاغون ووزارة الخارجية حيث يحاول كولن باول محاطاً بمساعديه ريشار آرميتاج وريشار هاس ، إبعاد هذا الإحتمال الخطير والكارثي وبناء تحالف دولي عقلاني ومعتدل حول هدف مقبول عالمياً وهو تدمير " منظمة القاعدة " وزعيمها أسامة بن لادن، وإطاحة نظام طالبان. وبدا رامسفيلد ورايس بمثابة قادة معسكر الصقور في الإدارة الأميركية يضغطون على الرئيس بوش المتردد لجهله التام بمعطيات وحيثيات و أسرار السياسة الخارجية. فعندما اعتقد الملك عبد الله الثاني ملك الأردن وعلي ماهر وزير الخارجية المصري أنهما حصلاً من الولايات المتحدة ألأميركية على تعهدات بعدم ضرب أي هدف عربي، سارع البيت الأبيض إلى تكذيب مثل هذا التعهد واتضح ذلك بجلاء من خلال الرسالة التي كتبها جون نيغروبونتي سفير الولايات المتحدة لدى الأم المتحدة بشأن النوايا الأميركية وجهها لمجلس الأمن، ودس فيها عبارة مسمومة ومحيرة على عكس رغبة كولن باول، صاغها ستيفن هادلي مساعد كونداليزا رايس قال فيها: " إن حماية مصالحنا يمكن أن تستدعي منّا أعمال أخرى تخص منظمات أخرى أو دولاً أخرى" . وهكذا ضمن جيمس وولسي تكليفاً من أعلى الهيئات القيادية في البنتاغون ووزارة الخارجية للذهاب إلى لندن بغية جمع الدلائل والإثباتات عن تورط ومشاركة صدام حسين والالتقاء بقادة المعارضة العراقية المقيمين في العاصمة البريطانية. وواصل تحركاته على الصعيد الإعلامي المتشدد "وليم سافير" في صحيفة نيويورك تايمز وشارل كروتامنير الذي قال" إن الحرب بدأت في كابول وستنتهي في بغداد". بمساندة ودعم السيناتور الجمهوري جيس هيلمز الذي صرح بلا تردد" أعتقد أن العراق هو هدفنا القادم " الحملة الإعلامية فعّالة لحد الآن، والخبراء العسكريون في البنتاغون يعملون على إعداد خطط حربية جادة تتمثل باحتلال أراضي وحقول نفط في البصرة وتنظيم هجوم مشترك على العاصمة العراقية من جانب المتمردين الأكراد في الشمال والشيعة في الجنوب. وهو عبارة عن تكرار ما كان متوقعاً حدوثه سنة 1991 عند اندلاع الانتفاضة الشعبية مع فرق توفر إرادة سياسية بإسقاط النظام كانت غائبة آنذاك.
وبالرغم من ضغط الصقور ومنظّرهم ريشار بيرل، إلاّ أن " الحمائم" الذين لايريدون سوى ضرب أفغانستان فقط كانوا قبل الحرب هم المسيطرون على طبيعة القرار السياسي في واشنطن وذلك بعد انحياز ثقل الإدارة الثاني المتمثل بنائب الرئيس ديك شيني إلى جانب " خط كولن باول" واقناع جورج دبليو بوش بالاكتفاء بضرب أفغانستان في الوقت الحاضر. ومنذ بدء الضربات الأميركية على أفغانستان ساد صمت داخل صفوف الإدارة وتكفل ديك شيني بإسكات مساعده السابق ونائب وزير الدفاع الحالي أي بول فولفوفيتز وكونداليزا رايس لم تعد تنطق بكلمة بهذا الشأن ورامسفيلد الذي عاد من جولة إقليمية، تمكن خلالها من حساب مدى القلق الذي يعتري محاوريه الإقليميين العرب والحلفاء الأوروبيين، صار يتحدث لأول مرة عن "تحالف مرن" أي نوع من تجمعات متحالفة كل واحد منها يؤدي جزء من المهمة الملقاة على عاتقه دون أن تكون هناك حاجة لاتفاق الجميع فيما بينهم والالتقاء حول نفس الهدف في نفس الوقت. الجناح المتشدد في الإدارة يطبق المثل القائل " غرام من الوقاية خير من قنطار من العلاج "، لكن الجناح المعتدل يسعى جاهداً لمراعاة جانب الحلفاء العرب حيث الاستقرار في الأنظمة يأتي قبل كل شيء. ويأتي في هذا السياق أيضاً ضغط الحليف الأكبر لواشنطن توني بلير والأوروبيين ليصب في هذا الاتجاه المعتدل. لكن الأميركيين استخدموا أسلوب الاستفزاز عندما ذهب جون نيغروبونتي سفير واشنطن في الأمم المتحدة في 10 أكتوبر/ تشرين اول إلى مقر البعثة العراقية في الأمم المتحدة محاطاً بمساعديه بطريقة الكابوي الأميركي وأمام دهشة السفير العراقي السابق محمد الدوري الذي لم يكن على علم بالزيارة، ويعلن السفير الأميركي لنظيره العراقي رسالة مكتوبة سلفاً تقول بصيغة الإنذار:" لا تحاولوا استغلال الوضع إذ سيكون لذلك ثمن باهظ تدفعونه ستكون هناك ضربة عسكرية موجعة وسوف تقهرون". قبل أن يغادر البعثة العراقية. وفي اليوم التالي يرد محمد الدوري له الزيارة ويقول له:" الولايات المتحدة في حالة حرب ضدنا منذ أحد عشر عاماً فلماذا نعلن نحن حرباً أخرى، فالحرب موجود أساساً". وبغض النظر عمّا يثيره إسم صدام حسين من استياء نفسي وعصبية في واشنطن حيث وصفه جورج بوش بالشيطاني في 11 أكتوبر/ تشرين أول، لايوجد لدى الأميركيين أي دليل ساطع لايقبل الدحض ضد صدام حسين. إن مصلحة النظام العراقي المتمركز بقوة في السلطة هو تأمين بقائه على قيد الحياة وتنظيم خلافته واستعادة أراضيه كاملة وفرض سيادته عليها وكسب معركة الحصار والعقوبات التي يتعامل معها بنجاح منذ أكثر من 12 عاماً. فلا مصلحة له للمشاركة في عملية إرهابية على مستوى دولي ليس لديه فيها أية مصلحة تذكر وقد تقود إلى تدميره فهذا تصرف انتحاري لايتناسب مع سلوك صدام حسين . ولكن ليس مستبعداً أن المخابرات العراقية حاولت الاتصال باسامة بن لادن ومحاولة تحريكه والتلاعب به لصالحها ولكن، وحسب أقوال فانسان كانيسترارو رئيس قسم مكافحة الإرهاب السابق في المخابرات الأميركية CIA، فإن زعيم تنظيم القاعدة رفض اقتراحاً عراقياً قدم له سنة 1998 للجوء إلى العراق والإقامة فيه لكون بن لادن يرتاب بنوايا النظام العراقي ولايثق بصدام حسين خاصة بعد تحوير هذا الأخير لرمز الجهاد خلال حرب الخليج. يبقى أن فكرة "إنهاء العمل الذي توقف قبل إثني عشر عاماً" مطروح على طاولة البحث في واشنطن وينتظر الخروج إلى العلن مرة أخرى بمجرد توفر الفرصة. وبمجرد ظهور تهديد البكتريا المعروفة بالانثراكس ـ الجمرة الخبيثة ـ انتفض الصقور في الإدارة الأميركية مرة أخرى وشمروا عن سواعدهم ودفعوا إلى مقدمة المسرح الرئيس السابق للجنة التفتيش الدولية عن أسلحة الدمار الشامل في العراقي ريشار بيتلر الذي شعر بواجب توجيه أصابع الاتهام للنظام العراقي واتهام بغداد من جديد بتصنيع الانثراكس لأغراض عسكرية انطلاقاً من عينة اشتراها العراق من مختبر أميركي. يبقى هدف صدام حسين معلقاً في دائرة الأهداف التي ستوجه إليها السهام الأميركية آجلاً أم عاجلاً خاصة قدرة النظام العراقي على تصنيع الأنثراكس ومطالبته لاحقاً بالسماح بعودة لجنة التفتيش الدولية التابعة للأمم المتحدة وإلاّ سيتعرض للعقاب الصارم وأصابع المتشددين الأميركيين مازالت على الزناد تنتظر الأوامر. ولو فشلت الحملة الأميركية على أفغانستان أو طالت كثيراً ولم تحقق واشنطن الأهداف منها فإن الرئيس العراقي سيصبح الهدف البديل للتستر على أي إخفاق في أفغانستان لن يتقبله الشارع الأميركي. ولو انتهت الحملة بتنفيذ المطالب الأميركية وتغيير النظام في كابول (وهو ماحصل بالفعل) فسوف يكون هناك تشجيع وإغراء بتكرار السيناريو في بغداد. ولو من باب تنفيذ الوعود التي أطلقت للشعب الأميركي من قبل الرئيس بوش للانتهاء مرة وإلى الأبد من مصادر وجذور الإرهاب الدولي حتى لو أدى ذلك إلى خلق الحيرة والاضطراب والبلبلة في صفوف بعض حلفاء واشنطن الذي اعتقدوا بقدرة المظلة الأميركية على حمايتهم واستبدالهم بحلفاء جدد أكثر شباباً ووفاءً وتفانياً من سابقيهم تجاه سادتهم في واشنطن.
لذا يمكننا القول أنه بات في شبه المؤكد أن واشنطن قد عقدت العزم على توجيه ضربة قاصمة للعراق وذلك فى غضون المرحلة الثانية من حربها المعلنة على ما تسميه واشنطن الحرب ضد الإرهاب. وفي هذا السياق أيضاً أعلنت نائبة وزير الدفاع الإسرائيلية داليا رابين ونيلورزف " ليس هناك شك في أن العراق هو من بين أهداف الولايات المتحدة عاجلا أم آجلا". وكانت الإدارة الأمريكية قد سعت منذ أول يوم إلى إيجاد صلة ما بين العراق والتفجيرات الانتحارية التى شهدتها نيويورك، وفى هذا السياق كذلك سربت المخابرات الأمريكية العديد من التقارير التى تدين العراق، ومن بينها ما أشارت إليه جريدة" الجارديان" من أن العراق متهم بحيازة ما وصفته بأنه كمية ضخمة من فيروس الجمرة الخبيثة وقالت أنه تمكن من تحويلها إلى أسلحة بيولوجية".
وأشارت الصحيفة إلى ما وصفته "تقريرا سريا" يشير إلى أن العراق بدأ في أبحاثه المتعلقة بجرثومة الجمرة الخبيثة عام 1985 كجزء من الحرب طويلة الأمد مع إيران التي كانت تدعمه فيها أمريكا، ولفتت الانتباه إلى أن وزير الخارجية التشيكي توجه إلى واشنطن لتقديم معلومات إلى الإدارة الأمريكية بشأن اجتماعات جرت بين عراقيين والإرهابيين وذلك في محاولة لمعرفة مدي علاقة العراق بعمليات الحادي عشر من سبتمبر الماضي.
تركز الدوائر المخابراتية الأميركية على دليل غير مؤكد حالياً وهو إدّعاء مسؤولين تشيكيين كما أشرنا أعلاه بأن محمد عطا الذي يعتقد بأنه أحد الطيارين الإنتحاريين وقائد المجموعات الإرهابية الذين قادوا إحدى طائرات نيويورك الشهيرة قد تقابل في براغ مع أحمد خليل إبراهيم السكرتير الثاني للسفارة العراقية ببراغ قبل سفره للولايات المتحدة في نيويورك 2001 ولذلك بادرت السلطات التشيكية إلى استبعاد الدبلوماسي العراقي وعميل المخابرات العراقية من جمهورية التشيك لما وصفته وزارة الخارجية التشيكية حينذاك بممارسته لأنشطة لا تتفق مع وضعه الدبلوماسي. وزعمت صحيفة " الصانداي تايمز " البريطانية إلى أن أحد أسباب بروز فكرة قصف العراق أن مسئولين عراقيين التقوا بعدد من أعوان أسامة بن لادن الذي يعتقد أنه يودع بعضا من أمواله في المصارف العراقية، وكذا المبالغ المالية التي يخصصها صدام حسين لعائلات منفذي العمليات الإستشهادية في الأراضي المحتلة، إلى ذلك سلطت وسائل الإعلام العالمية الأضواء على موقف الشعب العراقي المؤيد لبن لادن، و للمظاهرات المليونية التي شهدتها شوارع بغداد تعبيرا عن الدعم العراقي للحكومة الأفغانية إزاء الضربات الأمريكية. ولفتت إلى أن بن لادن تحول إلى بطل شعبي في العراق، وإن صورته تصدرت الصفحة الأولى لجريدة بابل التي يشرف عليها نجل الرئيس العراقي عدى وكتب تحتها "بن لادن على خطى جيفارا". وفى هذا الإطار أصدر علماء المسلمين وقادة العمل الإسلامي بالعراق فتوى بعدم جواز تقديم أي دعم إسلامي لواشنطن أو أي جهة غربية للقيام بالعدوان على أمتنا الإسلامية و دولها و أفرداها. ووجهوا دعوة إلى عموم المسلمين في كل مكان بالجهاد ضد الكفار ودفع العدوان.
وبعيدا عن حملة التحريض التي تقودها الصحف الأجنبية ضد بغداد، فإن ثمة تكهنات وتفسيرات للأسباب التى تقف وراء اختيار واشنطن للعراق لكى يكون المحطة الثانية لقطار الهجوم الأمريكي الذي انطلق من نيويورك إلى أفغانستان ولا يعرف أحد أين ومتى سيتوقف ؟
يرى فريق من المحللين أن ضرب العراق يشكل انتصارا معنويا للولايات المتحدة التي دخلت إلى المستنقع الأفغاني ولا تعرف حتى الآن كيف ستخرج منه، وليست واثقة من نجاحها في تحقيق أهدافها المعلنة، لا سيما وأن ضرب العراق بات أمرا روتينيا، اعتاد سماع أخباره الرأي العام العربي و المجتمع الدولي إجمالا، ومن ثم فإن واشنطن قد تعتقد إنه لن يزعج أحدا. ومن جهة أخرى فإن هناك اتجاها قويا داخل الإدارة الأمريكية يرى أن واشنطن أخطأت كثيرا عندما لم تطح بصدام أثناء حرب الخليج الأولى وإنه قد آن الأوان لإنهاء هذه المهمة المؤجلة. ويرى أنصار هذا الاتجاه أن للعراق رصيد طويل في دعم الجماعات الإرهابية وإنه خلال حرب الخليج خطط لعدد من الهجمات الإرهابية ضد أهداف أمريكية فى كافة أنحاء العالم، ولكن معظمها تم إجهاضها عبر المجهودات المضادة للإرهاب وذلك بالتنسيق بين الاستخبارات الأمريكية وبين عدد واسع من الحكومات الأجنبية.
وفى هذا السياق تقول جريدة الهيرالد تريبيون الأمريكية إن الحرب ضد الإرهاب ستحتاج بالقطع إلى محو بن لادن من على ظهر الأرض واقتلاع حكومة طالبان من أفغانستان، ولكن هذا فقط لن يكون كافيا لإيقاف الإرهاب. وتضيف الجريدة الأمريكية بغض النظر عن مدى تورط العراق فى الأحداث الأخيرة فإن أى حرب ضد الإرهاب تترك صدام حسين حيا سيكتب عليها الفشل. فالنظام العراقي لا يحيا إلا بإرهاب خصومه و معارضيه. ومن الممكن أن يكون أكثر خطورة إذا ما وضعنا فى الاعتبار سعيه الحثيث للحصول أسلحة دمار شامل. وتعتبر جريدة الواشنطن بوست أن هناك أسبابا مقنعة لتوجيه ضربات ساحقة للنظام العراقى، وتنقل على لسان ديبلوماسيين أمريكيين قولهم إن "العراق قد قام بانتهاك اتفاقية وقف إطلاق النار بشكل مستمر، والتي تم على أساسها إنهاء حرب الخليج، واكثر من هذا فإن الإدارة الأمريكية لم ترد بشكل ملائم على المحاولة الفاشلة لاغتيال الرئيس الأمريكى الأسبق جورج بوش، والتي تشير الدلائل إلى تورط العراق فيها، هذا وقد انتظرت إدارة الرئيس السابق كلينتون طويلا قبل أن تشن هجمات بالصواريخ على أحد مقار الاستخبارات العراقية في يونيو 1993، وإن مثل هذه الردود المحدودة تعجز عن شل قدرة صدام عن القيام بهجمات مستقبلية". وتضيف: يشكل العراق تهديدا كبيرا للمصالح الأمريكية يفوق التهديدات التي يمثلها بن لادن، فبرنامجه السري لبناء أسلحة دمار شامل نووية وكيماوية وبيولوجية ما زال مستمرا، كما تسارعت عملية حصول العراق على الصواريخ، دونما أي تدخل أجنبي، منذ انهيار عمليات المراقبة التي تنظمها الأمم المتحدة وذلك منذ عام 1998. كما يعتقد على نطاق واسع إن النظام العراقي يمتلك المواد اللازمة لإنتاج قنبلتين ذريتين. وتخلص الجريدة الأمريكية إلى القول: إن الخطوة الضرورية لمنع العراق من عبور عتبة الحاجز النووى ومنعه من أن يكون أخطر دولة إرهابية، هو أن تتخذ إدارة بوش خطوات عسكرية واسعة النطاق لنزع سلاح العراق، وللإطاحة بنظام صدام".
واللافت أيضا إن إسرائيل لا تخفى رغبتها الجارفة في أن تطال الضربات الأمريكية العراق، وفى هذا السياق يقول الباحث دانيال باى مان بمركز أبحاث الشرق الأوسط، في عدد الخريف من دورية "واشنطن" إن إسرائيل ستكون سعيدة بتغيير النظام في العراق وإنه بالرغم من أن النظام الذي سيخلف صدام لن يكون ذا علاقات جيدة مع إسرائيل إلا إن هناك توقعات أن يتبنى سياسات تجاه الدولة العبرية قريبة من تلك التي تتبناها الدول المعتدلة. وحتى الآن، تشير الدورية الأمريكية الفصلية، إن المسئولين الإسرائيليين شكلوا تكتلا لكي يتم وضع تعريف فضفاض للإرهاب يتضمن الجماعات والدول التي تناهض الوجود الإسرائيلي، وإن رئيس الوزراء الإسرائيلي حرص أثناء زياراته لواشنطن أن تكون معظم حواراته مع الرئيس بوش منصبة على التهديدات الخطيرة التي تواجه إسرائيل نتيجة لامتلاك كل من العراق وإيران، لأسلحة الدمار الشامل. إلى ذلك فجرت جريدة الوول ستريت جورنال مفاجأة من العيار الثقيل عندما أزاحت النقاب عن السيناريوهات الأمريكية الجديدة للتعامل مع العراق خلال الفترة القادمة حيث أشارت الجريدة إلى أن واشنطن ستضع كل ثقلها لدعم المعارضة وخصوصا المؤتمر الوطني العراقي، الذي لم يأخذ من إدارة كلينتون سوى الوعود. ويلي ذلك أن تقوم الولايات المتحدة عبر تعاونها الوثيق مع تركيا، ببناء تحالف عسكري وسياسي متين بين المؤتمر الوطني والأكراد، وعندها يجب أن تعود كوادر المؤتمر الوطني إلى شمال العراق لتأسيس حكومة إقليمية تكون محمية بواسطة الطيران الأمريكى. وفي غضون ذلك تستولي القوات المسلحة الأمريكية على منابع البترول في جنوب العراق وتفرض سيطرتها على عوائده بحيث يكون متاحا في يد حكومة إقليمية. وعند ذلك لا يتبقى سوى الخطوة الأخيرة وهى تحريض الجماهير على الثورة للتخلص من صدام ولتحقيق ذلك يجب رفع الحصار الاقتصادي من الأراضى التي تسيطر عليها الحكومة الإقليمية، و أن تعلن واشنطن بوضوح إنها ستوافق على رفع كل أشكال الحظر المفروض عبر الأمم المتحدة بمجرد الإطاحة بنظام صدام. وتعتبر الجريدة الأمريكية إن هذا هو الطريق الوحيد لإيقاف برامج التسليح العراقية ولكي يحيا جيران العراق في سلام. غير أن الطريق إلى ضرب العراق لن يكون مفروشا بالورود أمام الإدارة الأمريكية، فهناك بداية خلاف عميق داخل الإدارة الأمريكية حول ما إذا كان يتعين توسيع نطاق الحرب بحيث تمتد إلى العراق أم لا.وفى هذا السياق ذكرت وسائل الإعلام البريطانية أن خلافا دب بين المسئولين في إدارة الرئيس الأمريكي جورج بوش وذلك بعد أن تم كشف النقاب عن أن العناصر المتشددة في داخل البنتاجون قامت بإيفاد جيمس وولسي المدير السابق لوكالة المخابرات المركزية سي‏.‏ آي‏.‏ إيه إلي بريطانيا بدون علم وزارة الخارجية أو حتى القيادة الحالية للـسي‏.‏ آي‏.‏ إيه من أجل البحث عن أدلة يكون من شأنها البرهنة علي تورط العراق في ما يوصف بالإرهاب‏.
وكان المسؤولون بوزارة الخارجية في واشنطن وعلي رأسهم الوزير كولن باول قد تمكنوا لفترة وجيزة من إقناع الرئيس بوش بأنه ليست هناك أدلة واضحة تنم عن تورط بغداد في الهجمات الإرهابية علي نيويورك وواشنطن ومن ثم فإنه يتعين ألا يتم ضم العراق إلي قائمة أهداف الحملة الجارية لمكافحة ما تعتبره واشنطن "إرهابا دوليا" , ‏ لأن الإقدام علي مثل هذا التصرف قد يؤدي إلي تقويض التحالف الهش .غير أن المتشددين داخل إدارة بوش وحدوا صفوفهم وراء بول ولفوفيتز نائب وزير الدفاع وعقدوا عزمهم علي استغلال الإجماع القائم في داخل الولايات المتحدة علي ضرورة توجيه رد عسكري علي الهجمات الأخيرة واستغلاله في الإطاحة بالرئيس العراقي صدام حسين‏.
وعلى صعيد آخر لا تبدو بريطانيا متحمسة، لأسباب متنوعة، كما يقول خبراء العلاقات الدولية للقيام بهجوم شامل على العراق يعيد إلى الأذهان أجواء حرب الخليج، وأشارت صحيفة الجارديان الإنجليزية في هذا السياق إلي أن وزارتي الخارجية والدفاع البريطانيين نصحتا رئيس الوزراء البريطاني توني بلير بعدم الانسياق وراء توسيع نطاق الصراع‏,‏ لأن من شأن هذا ـ في رأيهما ـ تقويض التحالف الهش ليس فقط مع الدول الإسلامية‏,‏ ولكن مع الصين وروسيا أيضا‏.‏ وأضافت أنه في ضوء المواقف السابقة التي كان بلير يحشد فيها الصفوف إلي جانب الولايات المتحدة دائما فربما يكون قد وضع نفسه في الزاوية وسيجد من الصعب استثناء بريطانيا من عملية ضد العراق‏.‏ وكشفت الجارديان أن بلير مارس كل ما لديه من نفوذ لمساندة كولن باول وزير الخارجية الأمريكي وكوندوليزا رايس مستشارة الأمن القومي ضد الخط المتشدد في الإدارة الأمريكية الذي يقوده وزير الدفاع دونالد رامسفيلد ونائبه بول فولفوفيتز الذي يدعو إلي الإطاحة بالرئيس العراقي‏.‏ ولا يبدو إن الموقف الروسي أو الفرنسي سيختلف كثيرا عن الموقف البريطاني السابق إزاء العدوان الأمريكي المحتمل ضد العراق بل يتوقع المحللون أن يكون أكثر عنفا، خاصة في ضوء شبكة العلاقات التجارية والمصالح المباشرة التي تربط بين كل من فرنسا وروسيا وبين العراق.ومن المعروف إن الطائرات الروسية كانت من أوائل الطائرات التي كسرت الحصار الجوى المفروض على العراق.
إلى ذلك انضمت تركيا، التي تعد الحليف الوثيق لواشنطن في أسيا، إلى قائمة الدول التي أعلنت رفضها للعدوان الأمريكي المتوقع على العراق، وأعلن نائب رئيس الوزراء التركي السابق مسعود يلماظ «لا نريد بالتأكيد أن تتسع العملية لتمتد إلى العراق، ولكن هذا الاحتمال قائم». وأشار إلى أن «تركيا ستحاول بكل الوسائل تفادي مثل هذا الاحتمال». وتخشى تركيا من أن تؤدي امتداد حملة مكافحة ما يوصف بـ "الإرهاب" إلى جارها الجنوبي (العراق) إلى مزيد من تفاقم وضعها الاقتصادي الغارق أصلا في أزمة خانقة.
كما تخشى أن يؤدي الإخلال باستقرار العراق إلى إقامة دولة كردية مستقلة في شمال البلاد الذي لا يخضع لسيطرة بغداد منذ انتهاء حرب الخليج في 1991 والذي يسيطر عليه فصيلان كرديان منذ ذلك التاريخ.
وعلى المستوى العربي.. أكد عمرو موسى الأمين العام للجامعة العربية أن قيام أمريكا بضرب أية دولة عربية في إطار حملتها العسكرية الأخيرة أمر مرفوض، مما سيعنى أن الدول العربية ستكون عمليا خارج إطار التحالف. وأشار إلى أن هذا القرار تم تأكيده في اجتماع وزراء الخارجية بالدوحة، بالإجماع وليس بالأغلبية .واعتبر موسى أن ضرب أية دولة عربية سيكون في مصلحة إسرائيل التي تقوم بالعدوان الآن على الشعب الفلسطيني. والأمر بهذا سيعنى حملة ضد العرب. ومن جهة أخرى فمن المتوقع أن يتصاعد الغضب في الشارعين العربي والإسلامي إذا امتد العدوان إلى دول أخرى وهو أمر تضعه واشنطن في حساباتها وفى هذا السياق نقلت مجلة الإيكونوميست البريطانية عن ديبلوماسيين أمريكيين قولهم: إن واشنطن تتابع عن كثب ردود الفعل الشعبية في العالمين العربي والإسلامي تجاه الضربات الأمريكية الموجهة لأفغانستان، وإن هناك قرارا غير معلن بإعادة النظر في استمرار هذه الحملة إذا ما شعرت واشنطن إن هذه التحركات الشعبية قد تهدد باستقرار الدول الصديقة لواشنطن وعلى رأسها العربية السعودية ومصر وباكستان. وأخيرا ليس خافيا على أحد حجم التعاطف المتزايد لمعاناة الشعب العراقي سواء على المستوى العربي أو العالمي، خاصة وأن الحصار المفروض على العراق منذ 12عاما كاملة قد أودى بحياة ما يزيد على مليون عراقي، وهو ما يشير إلى حجم المعارضة التي ستواجه واشنطن إذا ما قررت شن هجوما شاملا على العراق في الفترة القادمة.
يبقىالعراق في مرمى الإصابة للإدارة الأميركية كما صرّحت مستشارة الرئيس الأميركي جورج بوش لشؤون الأمن القومي الأميركي كونداليزا رايس في 18 نوفمبر/ تشرين ثاني 2001 قائلة: "إن الرئيس العراقي صدام حسين "رجل خطير جداً ، فهو يشكل تهديداً على شعبه، وتهديداً على المنطقة، وتهديداً لنا، بسبب عزمه وإصراره على امتلاك أسلحة الدمار الشامل "وأضاف نائب وزير الدفاع الأميركي بول فولفوفيتز في نفس اليوم قائلاً: "إن صدام حسين هو أحد دعائم الإرهاب وأهم مسانديه، حتى وإن لم يكن الوحيد". ومن المعروف إن نائب وزير الدفاع الأميركي هو أحد الصقور في إدارة جورج بوش وأكثر المتحمسين الداعين لشن هجوم ضد العراق. وشدد المسؤولان الأميركيان على أن الأولوية الآن بالنسبة لواشنطن هي أفغانستان وتفكيك تنظيم القاعدة. هذا صحيح ومؤكد ولكن ما ذا بعد ؟ بعد ذلك... كتب كاتب الإفتتاحيات في صحيفة الواشنطن بوست، " يجم هوغلاند قائلاً: " لايجب أن يوفر أو ينجو أي ممن أعلن نفسه أو نصّب نفسه عدواً لأميركا ولتكن البداية بعد أفغانستان، العراق الذي تركه العالم يتعفن بين يدي عصابة إجرامية مريضة نفسياً وعصابية تدعي كونها حكومة طبيعية " وأضاف يقول: " كل من يبحث عن روابط وصلات بين الملا عمر (أمير الطالبان) وصدام حسين، ما عليه إلاّ أن يرى الطريقة التي يعذب فيها كل منهما شعبه ويعلن أنه سيستخدم وسائل مشابهة لتدمير أميركا " ويعتقد صاحب الافتتاحية: "أنه لايجب منح أية ضمانة أو حصانة للنظام الإرهابي العراقي". وفي نفس اليوم وبمناسبة افتتاح المؤتمر الخامس في جنيف لمراجعة الاتفاقيات المتعلقة بالأسلحة البيولوجية والبكتريولوجية لسنة 1972، قدّر نائب وزير الخارجية الأميركي لمراقبة الأسلحة والأمن الدولي جون بولتون: " أنه فيما يتعدى تنظيم القاعدة (شبكة أسامة ابن لادن الإرهابية) فإن أكبر تهديد جدي خطير هو العراق. فبرامج الأسلحة البيولوجية للعراق يبقى هو التهديد الجدي الخطير على الأمن العالمي". من المؤكد إن العراق لم يحد أو يخرج أبداً عن مرمى الإصابة للإدارة الجمهورية التي، منذ أن بدأت مهامها، أعلنت أن هدفها الأول في الشرق الأوسط هو تضييق الخناق حول الرئيس العراقي. وبالرغم من انها لم تفلح لحد الآن في إيجاد أية صلة أو علاقة بين بغداد وتفجيرات 11 ايلول/ سبتمبر في نيويورك وواشنطن ولا مع إرسال الرسائل المفخخة بجراثيم الجمرة الخبيثة إلا أن تحذيرات وإنذارات وتهديدات مختلف المسؤولين الأميركيين تواصلت وتضاعفت في الآونة الأخيرة لكن المخاوف ـ أو التمنيات، حسب الجهة التي تريد ذلك ـ لم تتبدد بشأن نوايا الإدارة الأميركية في الإنتهاء من الأزمة العراقية والتخلص من ملف العراق بصورة نهائية بالرغم من نصائح الدول الصديقة لواشنطن سواء العربية منها أو الأوروبية كالفرنسية والبريطانية، خوفاً من إنهيار التحالف الدولي الهش المضاد للإرهاب في حالة مهاجمة الأميركيين للعراق.
هناك موعد حاسم ومصيري بات يقترب ويمكن أن يتحول إلى " ساعة الحقيقة " ففي نهاية شهر نوفمبر/ تشرين ثاني من المنتظر أن يعلن مجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة بشأن تجديد أو تعديل أو إلغاء القرار حول العراق والمعروف أكثر بقرار "النفط مقابل الغذاء ".
منيت بريطانيا وأميركا في شهر تموز الماضي بفشل ذريع في مجلس الأمن الدولي عندما لم يحقق مشروعهما المشترك الذي قدمتاه إلى المجلس تحت عنوان "العقوبات الذكية" أي نجاح ولم يتمكنا حتى من عرضه للتصويت ـ بالرغم من تأييد فرنسا والصين له ـ وذلك بسبب تهديد إستخدام حق النقض ـ الفيتو ـ الروسي وكان هدف واشنطن ولندن تسهيل استيراد بغداد للمواد والبضائع المدنية ووضع آلية للمراقبة المالية التي تتيح إمكانية وضع حد وإنهاء عمليات التهريب للنفط ولبضائع الأخرى التي تتمتع بها وتستفيد منها فقط النخبة الحاكمة العراقية والتي تتيح عائدات عمليات التهريب للسلطة الحاكمة تعزيز وتجديد ترسانتها العسكرية. فمشاريع التسلح العراقي باتت بمنأى عن أية رقابة منذ أن طرد النظام العراقي في ديسمبر/ كانون الأول 1998 فرق التفتيش الدولية عشية إندلاع العمليات الجوية الأميركية ـ البريطانية الكبيرة ضد العراق والمسماة "ثعلب الصحراء" حيث انسحبت لجنة الأونيسكوم بمبادرة من رئيسها ريتشارد بتلر. وفي مواجهة اعتراضات موسكو تم تمديد صيغة "النفط مقابل الغذا " لمدة ستة أشهر بالرغم من احتجاج العراق ورفضه الذي يطالب بالرفع الفوري والنهائي للعقوبات لأنه يعتقد بأنه نفذ كافة الشروط المطلوبة منه وتؤيده موسكو في ادعائه هذا. كان ذلك قبل أحداث 11 أيلول/ سبتمبر 2001 وتشكيل التحالف الدولي الجديد ضد الإرهاب الذي انضمت إليه روسيا في نفس وقت الذي اندفعت فيه مع الولايات المتحدة في علاقة "ثقة متبادلة" واضعة نهاية للنزعة المعادية لأميركا التي كانت توسم سياستها الخارجية. فإلى جانب مصالحها النفطية والتجارية وديونها في العراق، فإن تقاربها مع بغداد كان يشكل أحد أوراق الضغط في مواجهة الولايات المتحدة الأميركية. فما هي قيمة الورقة العراقية اليوم بيد موسكو؟ هل ستستمر في معارضة القرار البريطاني ـ الأميركي في الأمم المتحدة ومشروعهما مهما كانت تسميته ؟ حسب روسيا ما زالت المفاوضات السرية مع روسيا بهذا الصدد جارية. ويبدو أن العراق لا يعير أي اهتمام للمعطيات الدولية الجديدة التي ظهرت بعد اعتداءات نيويورك وواشنطن الانتحارية مع يقينه بأنه مازال موجوداً في مرمى الولايات المتحدة حيث أن الأميركيون والبريطانيون يحضّرون ويخططون لعدوان كبير ضد الشعب العراقي على حد تعبير نائب رئيس الوزراء العراقي طارق عزيز وهو ما يردده أغلب المسؤولين العراقيين منذ ايلول/ سبتمبر. ويردد العراق بإلحاح بأنه يرفض وسيرفض تجديد وتمديد برنامج النفط مقابل الغذاء ويستمر يعارض القرار الصادر عن الأمم المتحدة الذي يتضمن عودة المفتشين الدوليين عن أسلحة الدمار الشامل ومراقبة التسلح العراقي مع وعد بوقف العقوبات ضد بغداد إذا تعاونت بصورة تامة مع اللجنة الدولية الجديدة في مجال نزح السلاح العراقي. وتتهم بغداد واشنطن بعرقلتها في لجنة العقوبات الدولية وبصورة اعتباطية وتعسفية عقود وصفقات أبرمت في |طار برنامج النفط مقابل الغذاء وبشكل منتظم ومقصود. ويصرخ العراق بأنه يتعرض لإرهاب الدولة بخصوص تحليق الطائرات المقاتلة الأميركية والبريطانية في جنوب العراق وشماله والمكلفة بمراقبة الأجواء في مناطق الحظر الجوي شمال خط العرض 6 وجنوب خط العرض ويستمر العراق في بيع نفطه بطريقة التهريب عبر تركيا وإيران والأردن وسوريا إضافة للكميات المسموح بها ضمن نطاق برنامج النفط مقابل الغذاء وهذا ما تعرفه واشنطن جيداً.


نزاعات مسلحة في كردستان العراق
ابو عبدالله الشافعي، اسم جديد من الرموز المتداولة حديثاً في بورصة البحث عن شبكات القاعدة وخلاياها، بزعامة اسامة بن لادن. واذ يؤكد معارضون عراقيون ان بن لادن هو الذي رشح ابو عبدالله ليقود مجموعات جند الاسلام في شمال العراق، يصرّ آخرون، في المعارضة ايضاً، علي التذكير بمعلومات وزعتها اوساط المجلس الاعلى للثورة الاسلامية (بزعامة محمد باقر الحكيم) بعد تفجير السفارتين الاميركيتين في نيروبي ودار السلام، عام 1998، تشير الي زيارة الذراع اليمين لبن لادن، وهو ايمن الظواهري العراق ولقائه نائب الرئيس طه ياسين رمضان مرتين.
تقول اوساط المجلس المعارض للنظام العراقي ان الظواهري زار معسكرات في الناصرية بين 28/6/1998 و2/7/1998، وعرضت بغداد مشروعاً لانتقال بن لادن الي العراق، بعد تفجير السفارتين، علي ان تؤمن له معسكرات لتدريب مجموعاته، ويعدّ هو لضرب منشآت ومصالح اميركية. وفيما يشكو الاكراد في الشمال، الطالبانيون تحديداً ـ نسبة الي زعيم الاتحاد الوطني الكردستاني جلال طالباني ـ ما يصفونه بـ التطرف الوحشي لعناصر جند الاسلام، تتواصل الاشتباكات بين الطرفين علي خاصرة محافظة السليمانية، وتطرح اوساط المجلس معطيات جديدة عما تسميه تعاوناً بين بن لادن ومنظمة مجاهدين خلق الايرانية المعارضة. وتوضح ان هدف المنظمة من هذا التعاون كان تسهيل تسللها عبر اراضٍ افغانية الي الحدود المشتركة مع ايران، لضرب منشآت ايرانية، واثارة فتنة طائفية بين السنة والشيعة في المناطق الشرقية من ايران. وتحذر من ظاهرة جديدة تتمثل في تجنيد جند الاسلام عناصر عراقية غير كردية، تنتمي الي الموصل والرمادي، علماً ان منطقة النزاع بين هؤلاء المنشقين عن الملا عمر عبدالعزيز (الحركة الاسلامية) والطالبانيين هي منطقة في محافظة السليمانية علي الحدود مع ايران. وكان اكراد اتهموا جند الاسلام او من يسمونهم الآن بـ جماعة بن لادن في كردستان، بارتكاب فظائع وفرض اجواء رعب باقتداء نموذج طالبان الافغانية: حظر الموسيقي، وفرض اطلاق اللحي، وإلزام النساء بالقوة ارتداء الحجاب…وتتفق مصادر المعارضة العراقية الكردية والشيعية علي وجود اكثر من مئتي عنصر من الافغان العرب في صفوف جند الاسلام، ومعهم افغان يشرفون علي مهمات التدريب. وتروي مصادر مطلعة ان هؤلاء كانوا تسللوا الي العراق عبر ايران، تحت غطاء الانتماء الي الحركة التي يقودها الملا عبدالعزيز، وهي ترتبط بعلاقات جيدة مع طهران، وتعرضت هذه السنة لانشقاقات، ابرزها الذي قاده ابو عبدالله الشافعي.
وتؤكد المصادر ذاتها ان معتقلين من انصار الشافعي – أحدهم يدعى ريا اربيلي ـ ما زالوا يخضعون للتحقيق لدي الاجهزة الامنية التابعة لادارة الاتحاد الوطني الكردستاني و بعضهم اعترف بعلاقة مع تنظيم القاعدة. وتشير الي ان ستة آلاف مقاتل من الاتحاد يحاصرون معقل جند الاسلام في منطقة هورمان، وكان آخر جولات القتال بين الطرفين اشتباكات مسلحة أوقعت عشرات القتلي، بينهم قياديان في جماعة الشافعي التي يتهمها طالباني بذبح مدنيين في ايلول (سبتمبر). وتقول مصادر الاتحاد ان جند الاسلام ائتلاف متطرف تشكل من ثلاث مجموعات متشددة: تنظيم الحماس الاسلامي، جماعة التوحيد الاسلامية، والقوة 2 سوران التي انشقت عن حركة الوحدة الاسلامية في آب (اغسطس) الماضي. وتتحدث عن كتيبة النصر التي انشأها جند الاسلام وتضم العناصر العربية فقط، وعن مستشفي افغاني في قضاء حلبجة.هذا إلى جانب معلومات تفيد بوجود إرهابي أردني من أصل فلسطيني من جماعة القاعدة بصورة شرعية على الأراضي العراقية بمعرفة ومباركة النظام العراقي والمعروف بإسم أبو مصعب الزرقاوي وإسمه الحقيقي هو أحمد فضل نزال الخلايلي من مواليد مدينة الزرقاء تسلل إلى العراق بمساعدة تنظيم أنصار الإسلام المتطرف وشكل تنظيمه السري في العراق كامتداد لتنظيم القاعدة بقيادة أسامة بن لادن .
وقد أشارت صحيفة لوموند الفرنسية إلى انه في منتصف التسعينيات تم ايفاد مبعوث من تنظيم القاعدة الى بغداد هو عبد الله العراقي من اصل عراقي للحصول على تعاون حول استخدام الغازات السامة ولهذا الغرض تم ارسال عدد من عناصر الوحدة الشهيرة (999) التابعة للمباحث العامة العراقية إلى افغانستان كما تقول الصحيفة الفرنسية.
وتابعت الصحيفة قائلة إن هناك عراقيا آخر عضو في تنظيم القاعدة هو أبو هاجر العراقي القى القبض عليه في المانيا عام 1998 وتم تسليمة الى الولايات المتحدة وقد قام بدور رجل الاتصال، وهناك ثالث يدعى ابو وائل كان مكلفا بالاتصالات مع بغداد في منطقة الادغال التي يختفي فيها الاسلاميون من جماعة (أنصار الاسلام) الذين كانوا يسيطرون حينئذ عليها ضمن منطقة نائية ووعرة شمال العراق وبطول الحدود مع ايران.
واختتمت الصحيفة قائلة إن هذه الجماعة ربما كانت على صلة بتنظيم القاعدة وتوفر ملاذ لـ (جند الشمس) الذين ينشطون في سوريا والاردن حيث دبروا محاولة الاعتداء التي استهدفت دبلوماسيا أميركيا في الأردن يوم 28 تشرين الأول (أكتوبر) من العام الماضي، وكان قائد هذه الجماعة أبو مصعب الزرقاوي وهو اردني تؤكد معلومات الاستخبارات المركزية انه تلقى علاجاً في بغداد اثر اصابته اثناء الحرب الأميركية في أفغانستان.
وأخيراً تبرز هنا تساؤلات حول علاقة الزعيم السوداني بالأصولي الشهير أسامة بن لادن زعيم شبكة "القاعدة"وماهي حقيقة الخلافات التي شابت علاقة الترابي بابن لادن الذي غادر على إثرها مقر إقامته في حي "المنشية" جنوب الخرطوم ، متنقلا بين البلقان والصومال .. حتى استقر به المقام في قندهار بأفغانستان؟
ولماذا منع عراب النظام حينذاك حليفه بن لادن عن الخطابة في مساجد السودان ؟
وهل لعب الترابي حقاً دوراً في اتصالات "القاعدة" بالنظام العراقي ؟ تقول التقارير أن الترابي هو الواسطة بين بن لادن وصدام حسين وان المخابرات الأمريكية عازمة على استجوابه حول هذا الموضوع وهو في سجنه في السودان.

ادعى رجائي قوطان زعيم حزب السعادة التركي بأن الولايات المتحدة الأميركية ستشن حملة عسكرية على العراق خلال شهر آذار/ مارس القادم وقال: "واشنطن لا تشن هذه العمليات على بغداد بقصد مكافحة الإرهاب فقط وإنما لأهداف أخرى لا تتوافق مع أهدافنا نحن". وقيم قوطان في حديثه أمام المجموعة البرلمانية لحزبه زيارة بولنت أجاويد لواشنطن. وقال إن "الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش أكد خلال مباحثاته مع بولنت أجاويد أنه لن يدع الرئيس العراقي صدام حسين يعيش وهذا يعني أن الإدارة ستسخن الوضع قريبا وتشن حربا على بغداد خلال شهر آذار القادم كما نحن واثقون أنها لن تستشير تركيا بأي موضوع مثلما أعلن أجاويد". وأضاف قوطان ان الحرب على العراق لن تؤثر على القطاع التجاري والسياحي والاقتصادي فقط وإنما سيكون لها تأثير سلبي قوي على العلاقات الثنائية التي تربط تركيا بدول المنطقة ومن الممكن أن تشغل الخريطة المحتملة للعراق ما بعد الحرب تركيا لسنوات عديدة وقال "إن هذه المسألة خطيرة جدا لا يمكن الاعتماد على الحكومة الحالية فيها وعلى السيد أجاويد أن يعرض على زعماء الأحزاب المعارضة في البرلمان معلومات مفصلة عن هذا الموضوع لأننا لن نسمح لهم بالعبث في مستقبل البلاد والشعب التركي". وتابع يقول" من الممكن أن تكون واشنطن صديقتنا وحليفتنا الكبيرة ومن الممكن أيضا أن نشارك معها مكافحتها للإرهاب لكن يجب أن نتعلم أيضا عدم الاستجابة لهذا التحالف في الوقت الذي تكون أهدافه مغايرة لأهدافنا. حسب وجهة نظرنا فأن واشنطن لن تشن هذه العملية ضد العراق بقصد مكافحة الإرهاب فقط وإنما لأهداف أخرى لا تتوافق مع أهدافنا لذا فإن الوضع أخطر بكثير من التحالف معها"وكان رئيس الوزراء التركي السابق بولنت اجاويد قد حثّ، الرئيس العراقي صدام حسين ان يأخذ على محمل الجد التحذيرات الاميركية والموافقة على عودة المفتشين الدوليين. وحذرت واشنطن العراق مجددا من صنع اسلحة نووية او رفض السماح بتفتيش المنشآت. وقال اجاويد في كلمة له امام كتلة حزبه "اليسار الديمقراطي" في البرلمان " انه سمع رسالة قوية جدا، وانه يأمل ان يأخذها صدام حسين على محمل الجد". وكان اجاويد يتحدث لاعضاء حزبه عن نتائج زيارته لاميركا واجتماعه بالرئيس الاميركي جورج بوش خلال زيارته لواشنطن. وطلب بوش عقب اجتماعه باجاويد من العراق السماح بعودة المفتشين الدوليين، مهددا بان "الولايات المتحدة سترد في الوقت المناسب". وقال اجاويد "لا جدوى من مواصلة مقاومة لا معنى لها وتحدي العالم باسره". واكد انه دون "مساهمة" تركية "بسبب موقعها الجغرافي"، سيكون "من المستحيل" على الولايات المتحدة شن عملية عسكرية ضد العراق دون ان يعطي مزيدا من الايضاحات. واوضح رئيس الحكومة التركي الذي اكد مرارا معارضته لتوسيع عملية مكافحة الارهاب الاميركية لتشمل العراق ان الادارة الاميركية منقسمة حول هذه الامكانية. وتابع اجاويد ان "بوش قال لي بوضوح انه لا يستطيع تحمل صدام حسين وان على العراق التخلص منه باي طريقة".
ولا زالت تركيا ترفض توجيه ضربة عسكرية اميركية للعراق خشية من استغلال الاكراد للحالة واقامة دولة لهم في الشمال. غير ان تركيا تحبذ سقوط صدام حسين الذي تعتبره مسؤولا عن توتر دائم وقيام حربين لا طائل منهما. وكان اجاويد اكد لصحيفة تركية ان "صدام لا يهمني ولا اكترث لمن يحكم العراق" مؤكدا انه قلق فقط على وحدة الاراضي العراقية. واليوم عادت الولايات المتحدة الى تحذير العراق وكوريا الشمالية من تطوير اسلحة نووية او رفض تفتيش منشآتها.
واعلن مساعد وزير الخارجية المكلف مراقبة الاسلحة والامن الدولي جون بولتون امام مؤتمر الامم المتحدة لنزع الاسلحة "يجب ان يتوقف عدد من الدول مثل العراق وكوريا الشمالية عن انتهاك معاهدة انتشار الاسلحة النووية وان تتمكن الوكالة الدولية للطاقة النووية من القيام بعملها". وقال "احذر الذين يعتقدون ان بامكانهم مواصلة برامجهم للتسليح النووي من دون علم احد ان الولايات المتحدة ستبرهن لكم مع حلفائها انكم على خطأ". ولا تعترف معاهدة عدم انتشار الاسلحة النووية التي تم تمديد العمل بها الى ما لا نهاية في 1995، سوى بخمس دول نووية في العالم (وهي الولايات المتحدة وروسيا والصين وفرنسا وبريطانيا) وتتوقع في المقابل مساعدة من هذه الدول لتطوير الطاقة النووية المدنية. ولكن المعاهدة لا تشير الى البلدان الثلاثة الاخرى التي تملك السلاح النووي وهي اسرائيل والهند وباكستان.
وشدد بولتون على ان الولايات المتحدة تعتبر "ان انتشار تكنولوجيا الاسلحة النووية يشكل تهديدا مباشرا للامن الدولي ويجب التعامل معه على هذا الاساس". واضاف ان ذلك ينطبق ايضا على الاسلحة الكيميائية والبيولوجية وانظمة الصواريخ العابرة للقارات والبعيدة والمتوسطة المدى.وبخصوص آخر التطورات التي تناقلتها وسائل الإعلام العربية والدولية بشأن المسألة العراقية وبخاصة جريدة الوطن الكويتية، فإن مسودة تفويض الكونغرس لبوش أصبحت جاهزة. (وقد تم التصويت عليها في الكونغرس بالاتجاه الذي يريده الرئيس بوش) وهناك اتفاق أمريكي ـ بريطاني على القرار الجديد الذي قدمه الجانبان لمجلس الأمن للتصويت عليه والضغط على باقي الأعضاء في مجلس الأمن للموافقة عليه بأي ثمن وقد حاولت أمريكا أن تثبت علاقة العراق بالقاعدة.. و كان كولن باول متفائلاً بإمكانية تحويل العراق إلى «دولة أنموذجية تحتذى في المنطقة. فقد اقترح زعماء مجلس الشيوخ الأمريكي من جمهوريين وديموقراطيين مسودة قرار لسلطات الحرب يجيز استخدام القوة العسكرية ضد العراق إذا رأى البيت الأبيض ان أي جهود دبلوماسية إضافية لن توفر بما فيه الكفاية الحماية للولايات المتحدة من التهديدات التي يشكلها العراق.
وقالت رويترز التي حصلت على نسخة من مسودة القرار الذي عرضه الزعماء على أعضاء مجلس الشيوخ الديموقراطيين وعلى الأعضاء الجمهوريين انه يدعو الرئيس جورج بوش إلى رفع تقرير الى الكونغرس مرة كل 90 يوما على الأقل بشأن الموقف.
وكان الرئيس جورج بوش أعلن ان الكونغرس توصل إلى اتفاق على «قرار قوي» يتعلق بالعراق وأكد في ختام لقاء في البيت الأبيض مع نواب جمهوريين وديموقراطيين «اننا حققنا ما أردناه بصدور قرار قوي. ، ونحن نتحدث بصوت واحد». وأضاف ان «الكونغرس أجرى نقاشا مهما، نقاشا رصينا، نقاشا تاريخيا. تم بشكل حضاري تام وبطريقة تجعل الأمريكيين فخورين». وذكر الرئيس الأمريكي أن الولايات المتحدة تريد نزع سلاح النظام العراقي ووصف صدام حسين بأنه «خطر ووحشي». وقال ان للنظام العراقي «علاقات منذ فترة طويلة مع منظمات إرهابية، وفي العراق ارهابيون من تنظيم القاعدة» ويقصد بهم جماعة أبو مصعب الزرقاوي.
وأضاف بوش ان «هذا النظام يريد امتلاك قنبلة نووية، وبواسطة المواد الانشطارية الضرورية يمكنه ان يمتلك واحدة خلال سنة». وأوضح بوش «بتصويتنا على هذا القرار نبعث برسالة واضحة إلى العالم والنظام العراقي بضرورة احترام مطالب مجلس الأمن الدولي». وكرر بوش القول «بضرورة نزع سلاح الديكتاتور العراقي»، وأشار إلى «ضرورة تنفيذ هذه الطلبات أو سيتم فرضها بالقوة. والخطرالذي يهدد بلادنا كبير ومتعاظم». وأعلن مسؤول كبير في وزارة الخارجية الأمريكية رفض الكشف عن هويته ان الولايات المتحدة وبريطانيا «متفقتان كلياً» في صياغة مشروع قرار مثير للجدل حول العراق وانهما ستعرضان نصه قريبا على أعضاء آخرين في مجلس الأمن. وجددت الادارة الامريكية اتهاماتها للعراق باقامة علاقات مع شبكة القاعدة في الوقت الذي تزداد حدة الجدل في الولايات المتحدة بين انصار ومعارضي تدخل عسكري امريكي ضد النظام العراقي. وقال وزير الدفاع دونالد رامسفيلد ان لدى الولايات المتحدة معلومات أكيدة بوجود عناصر من تنظيم القاعدة في العراق، وان الاتصالات بين العراق والقاعدة تكثفت منذ عام 1998 وأضاف: أن أعضاء بارزين في القاعدة زاروا بغداد في فترات قريبة.. وأردف قائلاً: لدينا بالتأكيد أدلة على ذلك، ولا أحد يعلم إن كانوا هناك في الوقت الحالي أم لا لأنهم أهداف متحركة. وأكد أن هذه المعلومات حديثة وهي نتاج الأسابيع الأخيرة. وقالت مستشارة الامن القومي الامريكي كوندوليزا رايس ان العراق قدم تدريبات على تطوير اسلحة كيماوية لاعضاء تنظيم القاعدة بزعامة اسامة بن لادن الذي تحمله واشنطن مسؤولية هجمات الحادي عشر من سبتمبر. وفي تصعيد للضغوط على العراق قالت رايس ان هذه المعلومات تم الحصول عليها من معتقلين على مستوى عال من اعضاء القاعدة وقعوا في الاسر في افغانستان.
واضافت رايس قائلة في مقابلة مع التلفزيون الامريكي «بي بي سي» نعرف بوضوح انه جرت في السابق اتصالات بين مسؤولين عراقيين كبار واعضاء بالقاعدة وان هذه الاتصالات بدأت منذ فترة طويلة». ومضت قائلة «ان بضعة معتقلين بينهم اعضاء على مستوى عال بالقاعدة» قالوا ان العراق قدم تدريبات للقاعدة على تطوير اسلحة كيماوية لهذا يمكنني القول نعم هناك اتصالات بين العراق والقاعدة».
وقالت رايس «نعلم ان صدام حسين له تاريخ طويل مع الارهاب بشكل عام وهناك بعض اعضاء القاعدة الذين وجدوا ملاذا في بغداد».
وقال ارى فلايشر المتحدث باسم البيت الابيض في لقائه اليومي مع الصحافيين ان القاعدة تعمل داخل العراق لكن من الصعب الحصول على التفاصيل. واضاف قائلا «الشيء المهم هو انه في عالم الارهاب الخفي فانه لا توجد احيانا طريقة محددة للحصول على معلومات قاطعة الا بعد فوات الاوان وقد رأينا ذلك في السابق ولهذا فان الخطر هو ان عمل القاعدة في العراق يمثل بالفعل تهديدا امنيا وهو مدعاة للقلق».
وفي جلسة استماع، أعلن وزير الخارجية الأمريكي كولن باول أن أمريكا سيكون لها وجود عسكري وسياسي في العراق بعد إسقاط النظام وسيكون ذلك حتى إتمام تدمير أسلحة الدمار الشامل وضمان حسن استغلال الموارد العراقية لصالح الشعب العراقي.
وقال في صيغة تفاؤلية: يمكن أن تتحول العراق إلى دولة «موديل» بمعنى إنموذج في المنطقة من حيث الديمقراطية. كما أكد باول في اتجاه آخر الاتفاق مع لندن حول عناصر قرار جديد تريدان استصداره عن مجلس الأمن الدولي بشأن نزع أسلحة العراق بالقوة.
وتستمر مقاتلات أمريكية وبريطانية في كل يوم بقصف وتدمير أنظمة الدفاع الجوي العراقية وإصابة نظام رادار متحرك للمضادات الجوية في مطار البصرة وقال الناطق باسم وزارة الدفاع الكولونيل ديفيد لابان «إننا لن نسمح لصدام حسين بنشر معدات هنا وهناك لكي يستعملها ضدنا فيما بعد». وقال ناطق عراقي إن مطار البصرة الدولي تعرض لضرب من قبل طائرات أمريكية وبريطانية تسببت في تدمير «منظومة رادار مدنية وفي أضرار لحقت ببناية الخدمة الرئيسية في المطار». و قد نفت وزارة الدفاع البريطانية هذه المزاعم وأكد ناطق باسمها أن «الطائرات استهدفت مواقع عسكرية بعد تعرضها لنيران سلاح الجو العراقي» خلال مراقبتها منطقة الحظر الجوي في جنوب العراق. وأكد الناطق أن مشاركة الطائرات البريطانية بالعملية اقتصرت على تزويد الطائرات الأمريكية بالوقود. وقالت وزارة الدفاع البريطانية «لم يتخذ بعد قرار توجيه ضربة لصدام حسين وسط تقارير عن إعادة حوالي ثلاثة آلاف جندي بريطاني كانوا مخصصين للقيام بمهام الدفاع إلى التدريب العسكري في خطوة تثير تكهنات بان بريطانيا تستعد للقيام بعمل عسكري ضد العراق. وأغلب هؤلاء الجنود وعددهم 2800 فرد من المشاة ومهندسين من قوة الرد السريع المشتركة. وقالت الوزارة في بيان «هذا تخطيط للطوارىء للسماح لهذه الوحدات الاكثر استعدادا لمواصلة التدريب العسكري ومنحنا المرونة اللازمة للقيام بعمليات اذا لزم الامر» وقال البيان ان «الحكومة لا تزال تركز بشدة على الدبلوماسية لكننا في الوزارة لابد ان نتأكد من اتخاذنا خطوات لضمان قدرتنا على الاستجابة للمتطلبات التي قد نكلف بها». وقال مسؤولون ان الوزارة تحشد المهارات والافراد والمعدات وكلها من ضروريات مهمة عاجلة بالصحراء. ويؤكد الرئيس الامريكي جورج بوش ورئيس وزراء بريطانيا ان اطاحة صدام حسين امر ضروري لمنع العراق من تطوير اسلحة دمار شامل وتهديد الجيران والسلام العالمي مع اتهامه بالارتباط بتنظيم القاعدة وتسعى الولايات المتحدة وبريطانيا لاستصدار قرار من مجلس الامن يفوض القيام بعمليات تفتيش مكثفة على اسلحة العراق ويسمح باستخدام القوة في حالة عدم السماح للمفتشين بدخول كل الاماكن المطلوب القيام بها بلا قيود. وقال دبلوماسيون ان مسؤولا امريكيا رفيعا بوزارة الخارجية توجه الى باريس وموسكو اللتين لهما تحفظات شديدة بشأن حملة واشنطن من اجل صدور قرار للامم المتحدة شديد اللهجة بشأن العراق. وقال مسؤولون في ادارة الرئيس جورج بوش ودبلوماسيون ان المسؤول مارك غروسمان وكيل وزارة الخارجية للشؤون السياسية بدأ محادثاته في باريس وتوجه بعدها الى موسكو ليكمل مشاوراته. وقال الدبلوماسيون ان عضوا في مجلس الامن القومي ومسؤولين اخرين رافقوا غروسمان الرجل الثالث في وزارة الخارجية.
وذكرت وكالة انترفاكس الروسية للانباء ان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين دعا لحل سياسي للازمة العراقية من خلال القرارات الحالية للامم المتحدة. ونقلت الوكالة عن بوتين قوله «نحن نؤيد قرارا سريعا للموقف (المحيط بالعراق) على اساس قرارات مجلس الامن الدولي الحالية وبما يتفق ومبادىء وقواعد القانون الدولي».
لكن وزير خارجية بريطانيا جاك سترو سعى خلال مؤتمر صحفي في لندن تحدث فيه عن التقرير السنوي لوزارة الخارجية عن حقوق الانسان حول العالم الى التقليل من شأن تصريحات الرئيس بوتين التي اعرب فيها عن اعتقاده بانه ليست هناك حاجة لاصدار قرار دولي جديد بشأن عودة المفتشين الدوليين الى العراق. وابلغ سترو الصحافيين انه ليس لديه ما يدعوه الى الاعتقاد بان بوتين «لن يستمر في ممارسة ادواره البناءة تجاه القضايا الدولية المختلفة». وركز سترو على تاريخ العراق في مجال حقوق الانسان ووصفه بانه ربما يكون «الاسوأ بين دول العالم» واشار تحديدا الى قيام النظام العراقي باعدام العشرات من النساء امام منازلهن بتهمة ممارسة الفاحشة والبغاء.
وأكد رئيس الوزراء الصيني زهو رونغجي خلال لقاء مع الرئيس الفرنسي جاك شيراك في باريس ان الصين «وافقت على الاقتراح الذي يتضمن مرحلتين تقدمت به فرنسا حول المشكلة العراقية في اطار الامم المتحدة». واعلنت الناطقة باسم قصر الاليزيه كاترين كولونا ان الرئيس الفرنسي ورئيس الوزراء الصيني الذي قام بزيارة رسمية لفرنسا عقدا لقاء على انفراد لمدة نصف ساعة خصص لبحث الوضع الدولي في أعقاب اعتداءات 11 سبتمبر ومسألة العراق.
وقالت الناطقة ان زهو رونغجي الذي حضر قمة اسيا ـ الاتحاد الاوروبي في كوبنهاغن «أكد مدى تقدير بلاده للموقف الذي عبر عنه الرئيس» شيراك. وطالب الرئيس المصري حسني مبارك العراق بعدم توفير «مبررات» لتوجيه ضربة اليه والالتزام بقرارات الشرعية الدولية «بشكل واضح لا لبس فيه». وقال مبارك لرؤساء تحرير الصحف المصرية أثناء رحلة العودة من الرياض ء حسب ما نقلت وكالة انباء الشرق الاوسط ان «لا أحد يستطيع ان يستبعد بشكل كامل احتمالات توجيه ضربة الى العراق». وتابع «ولهذا حرصت على ان اوضح بشكل مفصل لوزير الخارجية العراقي (ناجي صبري) ضرورة العمل الجاد لكسب مزيد من مؤازرة الرأي العام العالمي الرافض لفكرة الضرب وذلك بتجنب أي عمل أو تصريحات استفزازية وايضا من خلال الاستجابة لقرارات الشرعية الدولية».
على صعيد اخر ذي صلة بدعم أمن الكويت، فقد اكد مسؤول كويتي كبير ان الكويت تزودت بنظام للانذار المبكر من اجل كشف كل سلاح نووي وجرثومي وكيميائي، وذلك في اطار الاجراءات الدفاعية المتخذة في حال رد العراق على هجوم أمريكي محتمل. وصرح المسؤول الذي رفض الكشف عن اسمه لوكالة فرانس برس ان «الكويت تمتلك نظاما للانذار المبكر لكشف الأسلحة النووية والجرثومية والكيميائية».
وقال ان «هذا يشكل جزءا من الاجراءات التي تتخذها الكويت للدفاع عن نفسها ولحماية أهل البلد»، مشيرا الى انه تم نشر صواريخ باتريوت في محيط القواعد الجوية في البلاد. وأضاف «استطيع ان اؤكد ان هناك ما يكفي من الباتريوت لحمايتنا ولنا الحق بذلك». وأشار مصدر عسكري كويتي الى ان القوات الأمريكية الموجودة في الكويت ستزود بطاريات الصواريخ المنتشرة في المواقع العسكرية الرئيسية في الكويت بصواريخ اخرى. وأوضح المصدر ان القواعد الكويتية التي تتمركز فيها القوات الأمريكية والبريطانية مزودة ايضا بأنظمة انذار مبكر.
يوجد حوالي عشرة الاف عسكري أمريكي في الكويت (ارتفع العدد إلى 150000). وقال مصدر في قاعدة علي السالم التي توجد فيها قوات بريطانية ان «قوات وتجهيزات» عسكرية اضافية ستصل هذا الاسبوع الى القاعدة، من دون ان يعطي تفاصيل اخرى. وبدأ حوالي 2000 جندي في البحرية الأمريكية في شهر سبتمبر مناورات في الكويت تستمر ثلاثة الى أربعة اسابيع، وقد أعلنت وزارة الدفاع الأمريكية منذ بداية سبتمبر ارسال التجهيزات العسكرية المخصصة لهذه المناورات «الروتينية» الى الكويت.
* كتبت هذه الدراسة بعد أحداث أيلول مباشرة في سنة 2001 وتركت كما هي من دون تعديل












الفصل الرابع
الشرق الأوسط بين طموحات الأمريكيين وعجز الأوروبيين واستسلام العرب والمسلمين وعنجهية الصهاينة
عندما كان إسحق رابين رئيساً لوزراء إسرائيل قبل سنوات صرّح قبل اغتياله بفترة قليلة، في شباط / فبراير 1988 أي قبل أسابيع من إندلاع الإنتفاضة الأولى وذلك أمام حشد من أصدقاء إسرائيل الغربيين من بينهم مارك هالتر وإريك لورون قائلاً بمرارة: "تعلمت شيئا في الأشهر القليلة الماضية وهو إننا لا نستطيع أن نحكم عن طريق القوة أكثرمن مليون ونصف المليون فلسطيني، وهذا درس يتعين علينا أن نستخلص منه العبر". وقد أورد الإثنان هذا التصريح في كتابهما الصادر عام 1994 تحت عنوان : " قوى السلام " .
والحال إن من المؤكد بأن آرييل شارون غير مستعد للإعتراف بهذه الحقيقة أو الاقتناع بمثل هذا الاستنتاج مع إن العنف الذي يواجه قواته من قبل الفلسطينيين والمقاومة البطولية التي يبديها الشعب الفلسطيني لايقارنان برشق الحجارة على قوات الاحتلال في الانتفاضة الأولى. فبالنسبة له: "إن هؤلاء الشباب والشابات من الفلسطينيين الذين لايوجد ما يبرر يأسهم من الحياة، والذين يفجرون أنفسهم بين المدنيين ويزداد عددهم يوماً بعد يوم، ليسوا سوى مجموعة من الإرهابيين كالآخرين ممن يعملون في مؤسسات السلطة الفلسطينية بدءاً برئيسها. فتضحياتهم بحياتهم ليس دليلاً على براءتهم ولا يبريء من يقفون وراءهم أو يدفعونهم إلى مثل هذا الإنتحار". وهو غير مستعد للإعتراف بأنه إذا كان عددهم كبيراً وبإزدياد مطرد فذلك لأنه هناك نوعاً من اليأس بات يمتلك مشاعرهم ويسيطر عليهم، وإنه بخفض وإنهاء مثل هذا اليأس يتشكل بصيص الأمل الذي ينبغي أن يسعى لخلقه وتوفيره كل من يتمسك بفكرة ضرورة تعايش شعبين محكومين بالعيش معاً في رقعة جغرافية واحدة دون أن يغرقا في بحر من الخوف والحقد وروح الإنتقام بل أن يتسلحا بقناعة أنه لايمكن أن يخضع أحدهما الآخر بقوة السلاح ولغة التهديد والإبادة. والحال أصبح العالم اليوم مقتنع وواثق أنه لاسلام بدون الاعتراف المتبادل والقبول المتبادل والثقة المتبادلة بين الشعبين.
فالإسرائيليون عندما أسسوا دولتهم كانوا يهدفون لتحقيق أهداف جوهرية هي في صلب حلم مؤسس الصهيونية العالمية ثيودور هرتزل، ومن هذه الأهداف الجوهرية منح اليهود أرضاً وملجأ آمن بعيداً عن أية تهديدات رهيبة جديدة وسمت تاريخهم الطويل، وتوفير الرخاء والازدهار والطمأنينة لهم هذه هي الدعامات الرئيسية التي تستند إليها دولة إسرائيل منذ تأسيسها عام 1948 . وقد ترسخت هذه الفكرة في أذهان الإسرائيليين وبأنهم تمكنوا أخيراً من تحقيق هذه الأهداف بالرغم من حروب 48، 56، 67، 73، 82، مع الدول العربية إلى جانب الإنتفاضتين الفلسطينيتين . وفي كل مرة تخرج فيها فكرة التعايش المشترك والسلام إلى العلن، يحدث إحباط وتواجه بصدمة، ومازال الشعبان يراوحان في نفس المكان بعد إنتهاء" سيرورة أوسلو "التي أنعشت الكثير من الآمال. والذي يريد آرييل شارون تحقيقه اليوم هو تحقيق إنتصار مدوي وكبير بحيث لايمكن لأحد من خصومه أن يشكك في قدرته ومخططاته ويطعن في فاعليتها. وقد صرّح لمجلة الإكسبريس الفرنسية أنه لو كان مكلفاً بقيادة الحرب الجزائرية لكان قد إنتصر فيها وسحق الثورة الجزائرية بأسلوبه" وهذه هي الصورة التي تجول في رأسه أي "حرباً إستعمارية"، فهو مازال يفكر بعقلية أوائل هذا القرن وحروبه الإستعمارية التي ولى عهدها.
سيصل تعداد المسلمين قريباً إلى مليار نسمة في جميع أنحاء العالم من بينهم ما لايقل عن 300 مليون عربي وإن معدل الإنجاب والتكاثر عندهم أكبر بكثير مما هو عند اليهود ولايتوقع من هؤلاء أن يصفقوا ويستسلموا لمخططات رجل من أمثال شارون الذي لايفكر بنظرهم سوى بإذلالهم. وقد رفض مؤتمر كوالا لامبور الإسلامي " أي ربط بين الإرهاب ونضال الشعب الفلسطيني الذي يمارس حقه المشروع في إقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس". بينما قال الأمير عبد الله بن عبد العزيز ولي العهد السعودي لكولن باول وزير الخارجية الأميركي في لقاءهما في الرباط تحت ضغط المظاهرات الاحتجاجية الضخمة ضد جرائم الجيش الإسرائيلي في الضفة الغربية: "إن هيبة ومصداقية الأمريكيين في المنطقة في طريقها إلى الإنهيار "ولذلك صرح وزير الخارجية الأميركي إثر ذلك " بأن فرن الشرق الأوسط سوف يطفح عن قريب "وإن على الإسرائيليين، مهما كانت دوافع وتبريرات هجومهم، أن يتقبلوا حقيقة أن استراتيجيتهم وإستراتيجية الولايات المتحدة الأمريكية كذلك بدأت تتعرض للأذى والخطر، ولايمكن للبيت الأبيض أن يتجاهل خطورة تشدد وتطرف اصدقائه العرب وإنقلابهم ضده سواء في المجال النفطي أو فيما يتعلق بمشاريع الولايات المتحدة الأميركية بشأن العراق وتغيير نظام صدام حسين.
آرييل شارون يتعرض لضغوط وإبتزازات خصومه ومنافسيه في اليمين الإسرائيلي المتشدد وخاصة بينيامين نيتانياهو الذي يأمل أن يحل مكانه في قيادة الدولة، وياسر عرفات سجين مواقفه وتخلي الآخرين عنه ومع ذلك فهو يبدو بهيئة البطل المعزول الذي لايمكنه التحرك لتقديم مبادرة فعالة إزاء المقترحات الأميركية في تحريك الوضع والخروج من المأزق وكبح ماكنة الإرهاب. والحال إن رئيس الوزراء الإسرائيلي خاطر كثيراً برده على مبادرة العرب في مؤتمر قمة بيروت وخطة السلام التي تقدم بها الأمير عبد الله وحملت إسمه، وذلك بشنه هجوماً عسكرياً كاسحاً على أراضي السلطة الفلسطينية وارتكاب مجازر جنين وغيرها مما أثار ضده حفيظة الزعماء الأوروبيين خاصة بعد منع الوفد الأوروبي من مقابلة ياسر عرفات في سجنه في مقر قيادته في الضفة الغربية. والواضح إن آرييل شارون ليس فقط لايثق برئيس السلطة الفلسطينية أبداً بل إنه يكرهه شخصياً ولايطيقه ولو إن الأمر بيده لقام بتصفيته جسدياً منذ أمد طويل. وبما أنه لايستطيع في الوقت الحاضر تحقيق هذه الرغبة الدفينة في صدره، نراه يعمل بكل ما في وسعه لتقزيمه وتجريده من سلطته، " لكنه بدلاً من تدميره لعدوه معنوياً زاده مكانة ورفعه وحوله من ديكتاتور إلى بطل رمزي للمقاومة والصمود وخلق سوء تفاهم أولي بينه وبين حليفه الإستراتيجي أي الولايات المتحدة الأميركية "على حد تعبير نيقولا كريتسوف في صحيفة النيويورك تايمز. ونفس الحكم نشرته صحيفة الواشنطن بوست قائلة:"إن ما حصل عليه آرييل شارون هو عكس من كان يأمله فهجومه الوحشي لم يدمر النشاط الإنتحاري بل سيزيد من حجم الدماء المهدورة خاصة بين أبناء شعبه" بينما تطالب صحيفة الوول ستريت جورنال بتكثيف العنف على كل الجبهات. وقد أبدت الصحافة الأميركية في خضم الأزمة وتصاعد الهجمات العسكرية تحفظاً تجاه سياسة آرييل شارون دون أن تصل إلى حد إدانته . ارتفعت أصوات، حتى داخل إسرائيل، منددة ومعارضة من داخل معسكر المعارضة واليسار الإسرائيلي.
لم يقتف جورج دبليو بوش أثر أبيه أو رونالد ريغان في الضغط على الزعماء الإسرائيليين لكنه مع ذلك خرج من عزلته بشأن مسألة الشرق الأوسط وأعلن تأييده لتأسيس دولة فلسطينية وهو الأمر الذي لم يتجرأ عليه أي رئيس سابق قبله للولايات المتحدة الأميركية. ومن المؤكد أن على القادة الإسرائيليين عاجلاً أم آجلاً أن ينفذوا ما يخطط له الأمريكيون بشأن الشرق الأوسط حتى لو اضطرهم الأمر إلى الإنسحاب من الأراضي المحتلة والقبول بمبدأ الدولة الفلسطينية وإستئناف المفاوضات السلمية مع السلطة الفلسطينية التي كانت على وشك التوصل إلى حل قبل سنتين في آخر عهد بيل كلينتون وإيهود باراك.
العقبة تكمن في موقف الإدارة الأميركية من شخص الرئيس ياسر عرفات وليس من السلطة الفلسطينية ككل، وكذلك من طبيعة تشكيل هذه السلطة ورجالها وما يسودها من غموض وممارسات غير مقبولة إلى جانب الفساد المتفشي فيها.
الرد العسكري الإسرائيلي على الهجمات الإنتحارية الفلسطينية منذ أيلول/ سبتمبر 2000 أصاب ودمر بإنتظام هياكل ومؤسسات ومرتكزات وأسس البنية التحتية للسلطة الفلسطينية التي شيدها ومولها الإتحاد الأوروبي، وتم تدمير مباني الأمن الفلسطيني وتشتيت رجاله حيث لم يعد بوسع السلطة الفلسطينية أن تواجه" الإرهاب" وتعتقل "الإرهابيين" كما تطالب بذلك الولايات المتحدة الأميركية. ولكن الشارع الإسرائيلي يتساءل ماذا سيربح الإسرائيليون من جراء دفن عملية أوسلوا ونسف عملية السلام برمتها؟ يعيدنا هذا التساؤل إلى التمعن في الديناميكية الأميركية في الشرق الأوسط .
يمكننا القول أن الولايات المتحدة الأميركية دخلت القرن الواحد والعشرين في ايلول/ سبتمبر عام 2001 وفي ربيع وصيف 2002 أدركت الولايات المتحدة أبعاد هذا التدشين للقرن الجديد في المجال الإستراتيجي. لقد دشنت الولايات المتحدة المرحلة الأولى لاستراتيجيتها والخوف يمتلكها من أن كل شيء بات ممكناً بما في ذلك التهديدات الرهيبة التي لوح بها اسامة بن لادن وأمثاله هذا إذا إفترضنا أنها موجودة حقيقة . أولى إشارات التطمين جاءت من جانب الباكستانيين الذين ابدوا إستعدادهم للتعاون مع الولايات المتحدة عسكرياً لمحاربة الإرهاب وحماية المنشآت النووية للبلاد، والإشارة الثانية جاءت من جانب فلاديمير بوتين الرئيس الروسي، الذي وضع الخبرة الروسية تحت التصرف الأميركي إلى جانب الدعم والتأييد المعنوي ووقوف الشبكات النشطة في أفغانستان إلى جانب الحملة الأميركية لمكافحة الإرهاب الدولي. والفضل في ذلك يعود إلى ديبلوماسية الإعتدال التي اتبعها وزير الخارجية الأميركي كولن باول الذي وقف ضد فكرة تسليح الهند لردع الباكستان التي كان ينادي بها وزير الدفاع الأميركي دونالد رامسفيلد ومساعده بول ولفوفيتز في إطار محاصرة الطموحات الصينية، وآفاق التعاون النفطي والتكنولوجي مع موسكو الذي تخيلته مستشارة الأمن القومي كونداليزا رايس. وبعد الهجمات العسكرية على أفغانستان وطرد الطالبان من السلطة مال الميزان لصالح الرؤية التي نادى بها البنتاغون " وزارة الدفاع الأميركية " وأصبح الرئيس جورج بوش في موقع الحَكَم ، إلى حين لزوم إتخاذ القرار الحاسم فيما يتعلق بالمراحل اللاحقة للخط الإستراتيجية الأميركية في منطقة الشرق الوسط وآسيا والعالم الإسلامي برمته .
عندما قررت الولايات المتحدة الأميركية ولوج المرحلة الثانية من خطتها الإستراتيجية في المنطقة واجهت فشلين: الأول فشل الجولة التي قام بها نائب الرئيس الأميركي ديك شيني في منطقة الشرق في تحقيق أهدافها وكسب العالم العربي إلى جانب الولايات المتحدة في مكافحة الإرهاب وضرب العراق، والمعروف عنه أنه من الداعين لأسلوب القوة في فرض الإرادة الأميركية، خاصة بعد المعارضة السعودية العلنية والقوية للسياسة الأميركية العامة في المنطقة، كبداية للمرحلة الثانية المذكورة للحملة الأميركية ضد الإرهاب العالمي. والفشل الثاني هو إخفاق آرييل شارون في إخماد نار المقاومة والعنف داخل الأراضي الفلسطيني مع ما يترتب على ذلك من تبعات وإنعكاسات سلبية على السياسة الأميركية بسبب تحيزها السافر إلى جانب إسرائيل، مما أرغم الإدارة الأميركية على إعادة النظر والتفكير في إستراتيجيتها العامة في المنطقة. يكشف هذا الأمر عن ثغرة أو تصدع في النظرة الأميركية لشؤون المنطقة ناجم عن آليتين أو محركين متناقضين ومتعارضين يعملان معاً داخل هيئة القرار العليا الأميركية منذ سنوات الخمسينات: الآلية الأولى موروثة من بريطانيا والثانية نتاج مفهوم مركب تركي ـ إسرائيلي غير متجانس على المدى البعيد، وقد تعايش المفهومان أو الآليتان للنظر في شؤون المنطقة إلى أن حصل التفاقم والتدهور التراجيدي الأخير في الأحداث الدائرة حالياً في المنطقة والتي نتج عنها تفرعات مأساوية من حجم أحداث أيلول/ سبتمبر في نيويورك وواشنطن وحرب أفغانستان ومشاريع ضرب العراق وزعزعة الشرق الأوسط بأكمله.
كانت بريطانيا هي التي اختلقت " السياسة الخاصة بالعالم العربي" التي توجد نسخة باهتة عنها معروفة بإسم " السياسة العربية لفرنسا". وتستند هذه السياسة العربية البريطانية التي ورثتها عنها في أحد شطريها الديناميكية الأمريكية في الشرق الأوسط، إلى ديمومة وثبات وإستقرار الأنظمة الملكية في شبه الجزيرة العربية إلى جانب التحالف الأيديولوجي مع الإسلام المحافظ الأكثر تشدداً الذي سبق تجريبه واختباره في المختبر الكبير للسياسة البريطانية في إمبراطوريتها إبان احتلالها وإستعمارها للهند الكبيرة قبل إنسلاخ باكستان الإسلامية عنها.والذي أثبت صحته في ميلاد دولة باكستان الموالية صراحة، قلباً وقالباً، للغرب. وعند تبني الولايات المتحدة لهذا المفهوم البريطاني فذلك يعني جعل الولايات المتحدة للمملكة العربية السعودية الحليف الإستراتيجي الجوهري في المنطقة من الجانب العربي إضافة للحليف الاستراتيجي الإسرائيلي بالطبع مما يعني بالتالي الإضطرار إلى إتخاذ بعض التحفظ والتروي تجاه المخططات الصهيونية التوسعية في المنطقة. (وهناك أمثلة عملية على ذلك من خلال مواقف الشخصيات القيادية الأميركية من أمثال مارشال وآشيسون في عهد ترومان، وجورج بال في عهد جونسون في وقوفهم ضد مخططات الدولة العبرية في المنطقة آنذاك على سبيل المثال لا الحصر) وكذلك في موقف الإدارات الأميركية المتعاقبة منذ الحرب العالمية الأولى تجاه العلمانية التركية، والتي بلغت قمتها في حملة الجهاد الأفغانية في سنوات الثمانينات حيث لعبت المخابرات البريطانية من جديد دوراً أساسياً وجوهرياً في التحالف مع التيارات الإسلاموية وفي خلق النموذج الطالباني بالتعاون مع المخابرات الباكستانية في بداية سنوات التسعينات. إن ظل هذه السياسة قد بدا واضحاً في الانتقادات الشديدة التي وجهتها إدارة الرئيس بيل كلينتون السابقة للمعركة العلمانية ضد الإسلامويين الأتراك في تركيا وعبر المساعدات اللوجستيكية والسياسية التي قدمتها المخابرات البريطانية والأمريكية للإسلامويين الجزائريين والمعونات والخبرات التي قدمت للثوار الإسلامويين في كشمير (كل هذا أملته المفاهيم الأصولية والسلفية للعربية السعودية التي كانت تشعر بالتهديد الشيعي الثوري المتطرف المنطلق من طهران خاصة بعد نجاح الثورة الإسلامية فيها سنة 1979 حيث كانت السعودية، وبمساعدة أساسية ومهمة جداً من لندن وأجهزتها الأمنية والمخابراتية، وواشنطن وأجهزتها المخابراتية كالسي آي أي، تنشر وتبث سياسة " الإحتواء السني السلفي " من خلال إعادة أسلمة المجتمعات الإسلامية وفق منظار وهابي. وبإسم هذه السياسة وهذه النظرة والمفهوم الأيديولوجي قدمت مساعدات تثير الجدل والاعتراض للإنفصاليين الشيشان في زمن الجنرال دوداييف في بداية سنوات التسعينات) كما تقول مراكز الأبحاث والدراسات الأستراتيجية الغربية مثل المعهد الفرنسي للعلاقات الولية "إفري"وبعض الباحثين المتخصصين بالإسلام كجيل كبيل.
في مقابل ذلك تأتي المقاربة التركية ـ الإسرائيلية، التي لم تأخذ صيغتها الإستراتيجية الواضحة إلا بعد عام 1956 بعد أن نجح الحلف الأطلسي في صد التوسع السوفيتي في أوروبا وتحويل الإتحاد السوفيتي لجزء من ديناميكيته الأيديولوجية والسياسية والاستراتيجية نحو الشرق الأوسط حيث عقد تحالفاً ثابتاً مع القومية العربية الثورية، قومية جمال عبد الناصر والبعث العربي الإشتراكي وجبهة التحرير الجزائرية والأحزاب الشيوعية المحلية واحتاج الأمر آنذاك إلى إيجاد ردع سياسي ـ عسكري أمتن وأقوى من الجيوش الضعيفة للأنظمة المحافظة: لم يعد الجيش التركي العلماني يواجه أي حرج في حملته لمحاربة الطبقات السياسية الإسلاموية في الأناضول، وإنخراط شاه إيران في سياسة علمانية تحديثية إستبدادية وبالقوة والقسر تشبه الخطوة التركية ضد رؤية وإرادة المرجعيات الدينية الشيعية المتحفظة، وذلك بدعم وتأييد وتنسيق من جانب المخابرات الإسرائيلية. وإسرائيل التي تخلى عنها حليفها الإستراتيجي الديغولي آنذاك، بعد أن إستكملت بناء ترسانتها النووية، أصبحت بدورها خياراً عسكرياً جاداً ومهماً للولايات المتحدة الأميركية في المنطقة. إن هذا المفهوم الثاني أصبح ممكناً ومتجسداً من الناحية العملية في عهد الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون وذلك لوجود نفس الأعداء المشتركين للطرفين الإسرائيلي والسعودي والمقصود بهما السوفييت والقوميين العرب الذين تدعمهم وتسلحهم موسكو بقوة. وكانت الولايات المتحدة تدير هذا التحالف ـ المتناقض من خلال تحديد مواعيد متبانية ومتنوعة في نفس النهار لزبونيها وحليفيها في المنطقة إسرائيل والسعودية للتشاور والتنسيق دون حاجة للإلتقاء بينهما نظراً لإعتبارات نفسية كثيرة آنذاك. وقد برعت وزارة الخارجية ا|لأمريكية في تحقيق ذلك على مدى سنوات طويلة.
ولكن بعد إنتصار "المتمردين الأفغان" وإنهيار الإمبراطورية السوفيتية وإندلاع الانتفاضة الفلسطينية الأولى وتبعات حرب الخليج الأولى في نهاية سنوات الثمانينات تدهورت هذه الآلية الأميركية بالتدريج. وقد دافع جورج بوش الأب وبحماسة عن تدعيم وتمتين التحالف الأميركي ـ السعودي مقابل تثبيت مستوى التحالف الإستراتيجي الأمريكي ـ الإسرائيلي، مع اللامبالاة التامة للرأي العام الأميركي. نتج عن ذلك تفاهم بين المخابرات السعودية والمخابرات المركزية الأميركية والمخابرات البريطانية في لندن، وهذه الأخيرة أعتبرت " المدينة التي أصبحت مركزاً للنشاط الإسلاموي الأصولي والسلفي المتشدد والمتطرف إلى جانب مراكز أخرى كالخرطوم وبيشاور وكان هناك أحد النشطاء الإسلامويين يصول ويجول بكل حرية على المسرح اللندني السياسي والإعلامي يدعى أبو قتادة بلا أي رادع أو خوف أو تردد ويعمل علناً لحساب تنظيم القاعدة، وقد ساعده البريطانيون على الاختفاء حماية له غداة تفجيرات الحادي عشر من أيلول / سبتمبر 2001".
وأمام هول الهجمات الإنتحارية وما نجم عنها من خسائر حاولت بعض الأطراف الأمريكية القيادية لعب الورقة المزدوجة الإسرائيلية ـ السعودية ولكن هذه المرة مع افتراضات وإحتمالات ومعرفة أوخبرة أصبحت متقادمة تعود إلى سنوات الحرب الباردة. وقد أعتقدت واشنطن أن اسلوب القوة والبطش والقمع بلا تردد ولا تحفظ الذي طالب به آرييل شارون يمكن أن يكون وسيلة فعالة في إعطاء درس قاسي للمتطرفين الفلسطينيين مما سيتيح بالتالي إمكانية ظهور كتلة فلسطينية معتدلة تستأنف المفاوضات السلمية مع الدولة العبرية من النقطة التي توقفت عندها في خريف عام 2000. وفي نفس الوقت تخيلت واشنطن إن ولي العهد السعودي الأمير عبد الله ذو التوجهات الإصلاحية والميول القومية العربية ، قد لايتمكن من أخذ مقاليد السلطة في بلده خلفاً لأخيه الملك فهد من عائلة السديري وأن الشقيق الآخر من نفس العائلة وهو الأمير سلطان هو الذي سيسيطر على مقاليد الأمور لذا فقد أساءت تقدير دوره وتأثيره، وهو بدوره قد أدرك ضرورة التعامل والتنسيق على قدر ما مع الولايات المتحدة حفاظاً على عرش المملكة وإستقرارها وإلاّ فسوف تعم الفوضى والثورات بلاده.وقد أعتقدت أمريكا إن هذا الأخير (أي الأمير عبد الله) الذي وعد بصورة سرية بإخراج القوات الأمريكية من بلده، سوف يدخل في صفوف الحلفاء المؤيدين للمخططات الأميركية ولمشاريع ضرب العراق وتغيير نظامه وإسقاط صدام حسين الذي لايكن له الكثير من الود والإحترام كباقي الأمراء السعوديين الذين يكرهونه تماماً. والحال إتضح للأمريكيين وبوضح تام، على المستوى العلني والإعلامي على الأقل، إنه لايوجد رجل سياسي عربي واحد، ولا نظام عربي، مستعد للوقوف معهم في مناورتهم الكبرى ضد العراق الأمر الذي يتطلب نشر ما لا يقل عن 350000 رجل حسب تقديرات مسؤول مكتب العراق السابق في المخابرات المركزية الأميركية سي آي أ كينيث بولاك في مقاله في مجلة السياسة الدولية وتوقعه لحدوث إنفجار داخلي في العراق على غرار التفجير الإنقسامي في يوغسلافيا الفيدرالية بعد موت الجنرال تيتو حيث إن العراق مقسم حالياً ولو بصورة غير رسمية إلى ثلاث مناطق كردية في الشمال وعربية سنية في الوسط وعربية شيعية في الجنوب على حد تعبيره.
وقد تبين للولايات المتحدة الأميركية أنه لايمكنها التخلص بسهولة من صدام حسين كما لايقل عن ذلك صعوبة التخلص من ياسر عرفات الذي تمكن بمناورة حاذقة التنسيق مع الموجة الإسلاموية المنتشرة في الأراضي الفلسطينية لخلق ما يعرف بـ "التنظيم" بزعامة مروان برغوثي الذي اعتقلته السلطات الإسرائيلية وقدمته للمحاكمة بتهمة إرتكاب جرائم ضد المدنيين الإسرائيليين. وهذه الحركة المعروفة باسم التنظيم قامت بنشاطات لاتقل خطورة وأهمية عن نشاطات منظمتي حماس والجهاد الإسلامي مما ساعد على دفع المسألة الفلسطينية إلى مركز وقلب الأزمة الشرق أوسطية وهكذا قيض لشارون وديك شيني أن يعلنا إفلاس مشروعيهما كما هو حال إشهار شركة إنرون الأمريكية العمالقة لإفلاسها بعد أن كانت قد راهنت على حدوث إنخفاض كبير في أسعار النفط يهز السوق النفطية العالمية ويخرجها من ورطتها المالية المستعصية.
وللخروج من المأزق السياسي ـ الديبلوماسي ـ العسكري الحالي في إطار خلط الأوراق وعمليات غسل الدماغ الإعلامية، لابد والحال هذه الفصل بين الحالة السعودية والحالة الإسرائيلية وتغيير أوضاع حليفي الأمس في فترة الحرب الباردة ولكن بصورة مختلفة بالنسبة لكل واحد منهما. هذه هي مقاربة ورؤية كولن باول ومساعده ريشارد هاس، رئيس شعبة التخطيط للسياسة الخارجية في وزارة الخارجية. ويقول هذا الأخير "إذا أرادت المملكة العربية السعودية التحرر والتخلص من العباءة الأميركية فليكن لها ذلك "وقد غيرت واشنطن من طبيعة تحالفها مع السعودية ولم تعد تعتبرها من أولى أولوياتها الأمنية وقامت بنقل معظم محتويات القاعدة الأمريكية في الرياض إلى قاعدة العديد في قطر تمهيداً لخروج القوات الأمريكية من هذا البلد وكذلك إفراغ محتويات قاعدة الخبر التي سيتم استبدالها بحاملات طائرات وتسهيلات تقدم لأميركا من قبل دول خليجية أخرى كعُمان. وإذا أرادت العربية السعودية إعادة إدماج السوريين والعراقيين في العائلة العربية الواحدة تحت إشرافها فلها أن تفعل ذلك دون أن تطلب رخصة أو إذن من واشنطن وبدورها لن تأخذ هذه الأخيرة بالاعتبار الموقف السعودي ولا التقيد فيما بعد برد الفعل السعودي إذا ماقررت ضرب العراق والسماح لإسرائيل بتصفية حساباتها مع حزب الله أومع دمشق وليس للسعودية بعد ذلك أن تتدخل لدى واشنطن لتغيير مسار الأمور في الشرق اوسط وفقاً لما تشتهيه الرياض، مع إقتناع واشنطن إن مفهوم الأمير عبد الله بإعادة اللحمة للصف العربي وإندماج الأشقاء العرب هو على المدى البعيد أكثر المواقف مدعاة للإستقرار والتطور الإيجابي في المنطقة ولن توضع عراقيل أو موانع في طريق هذا المشروع التصالحي العربي ـ العربي الذي بانت ملامحه الأولى في مؤتمر القمة العربية في بيروت عام 2002. ولكن بالمقابل ستعمل الولايات المتحدة الأميركية على تعزيز التعاون والتنسيق الأميركي ـ الروسي في المجال النفطي لتأطير السياسة السعودية الجديدة في مجال زيادة الأسعار والحد من النزعة العدوانية السياسية ـ الإقتصادية للنظام العالمي الجديد. لقد إنتهى النظام العالمي القديم بحرب الخليج الثانية وسقوط جدار برلين وإنهيار الإتحاد السوفيتي، ولم ينجح جورج بوش الأب في إستكمال مقومات النظام العالمي الجديد لكن أحداث أيلول/ سبتمبر 2001 أرغمت الولايات المتحدة الأميركية على تسريع عملية تشييد هياكل وأعمدة ودعامات النظام العالمي الجديد على أسس جديد تقف هي على قمته. وهكذا بدأت عملية "إحتواء" جديدة. فمن جهتها يتعين على المملكة العربية السعودية، إذا أرادت الإستمرار والبقاء على قيد الحياة وعدم التعرض لضربات قاضية، أن تساعد الولايات المتحدة الأميركية في سعيها لتدمير تنظيم القاعدة وللقبض على أسامة بن لادن بكل السبل عندما يخرج من الباكستان التي يلجأ إليها الآن حسب كافة التقديرات كما هو حال مساعده أبو زبيدة. وعليها أن تقدم الدعم المالي والسياسي والمعنوي لحملة تطويق وشل الحركات الإسلاموية المتطرفة كحركة الإصلاح في اليمن، ووقف المساعدات التي تقدمها للجمعيات الإسلامية الخيرية المنتشرة في أنحاء العالم، ووقف الحملة الإعلامية المضادة والمناوئة للولايات المتحدة الأمريكية في وسائل الإعلام السعودية وأوساط رجال الدين، وبعد الإنتهاء من كل ذلك يمكن فك لحمة التحالف الأميركي ـ السعودي وترك المملكة العربية السعودية تواجه قدرها وحدها خاصة إذا هبت عليها رياح التغيير من الداخل. وهذا بحد ذاته تهديد مبطّن للسعوديين يدفعهم للتفكير والتأمل ملياً قبل المضي قدماً في توجهاتهم الجديدة.
ومع إسرائيل إتبعت الولايات المتحدة الأميركية الحل المعاكس: مواجهات على المدى القصير، ترك المجال للقيادة الإسرائيلية لتحقيق ما تستطيعه في أقصر فترة ممكنة وتقليم اظافر السلطة الفلسطينية وخلق أمر واقع جديد تستأنف وفقه أو على أساسه المفاوضات الجديدة من نقطة الصفر، وتحالف أوثق وامتن واقوى أكثر فاكثر على المدى البعيد مع الدولة العبرية. وقد تبين ذلك بجلاء من خلال عبارات المديح والإشادة بسياسة شارون أملاً في جعل الجنرال العجوز أكثر قابلية للتعاون مع الرغبات الأمريكية التي لاتتناقض في نهاية المطاف مع الرغبات الإسرائيلية وإن إختلفت مساراتهما خاصة فيما يتعلق بمسألة إستئناف المفاوضات والتعامل مع المستعمرات الإسرائيلية ومشكلة الدولة الفلسطينية القادمة. كولن وباول وكونداليزا رايس يسعيان خفية إلى تقويض حكومة شارون بعد إنتهاءها من عملياتها العسكرية الجارية في الأراضي المحتلة، على غرار سيناريو بيل كلينتون الناجح مع حكومة نيتانياهو سنة 1998. وفكرتهما تتلخص بتسهيل مهمة وصول حكومة إسرائيلية بديلة، والأفضل أن تكون حكومة إتحاد وطني يكون محورها يسارياً وليس يمينياً كما هو الحال اليوم، ترتكز على شخصيتين بارزتين إسرائيليتين مقبولتين على الصعيدين الداخلي والعالمي وهما زعيم يسار الليكود السابق دان مريدور، و وزعيم حزب العمال الحالي ووزير الدفاع "فؤاد" بينيامين بن اليعزر العراقي المولد والأصل. وستكون مهمة هذه الحكومة تجميد المستوطنات والبدء بإنسحابات رسمية مدروسة من الأراضي الفلسطينية المحتلة تمهيداً لتفكيك 75 % منها تقربياً وفي مقابل ذلك إبرام معاهدة تحالف جديدة بين الولايات المتحدة وإسرائيل ونشر درع صاروخي مضاد للصواريخ متطور جداً وحماية الفضاء الإسرائيلي من أية هجمات جوية أي كان نوعها في إطار منظومة حرب النجوم المستقبلية التي تشارك فيها الصناعة العسكرية الإسرائيلية إلى جانب الأمريكية.
وبمجرد الإنتهاء من هذه الإستعدادات والتحولات الإقليمية ستركز الولايات المتحدة الأمريكية جهودها بجدية على المشكلة العراقية التي بدأت التهيئة الإعلامية والنفسية لها منذ الآن لكنها لن تتحقق على أرضية الواقع قبل بداية عام 2003 وربما في تاريخ مقارب لتاريخ إنتهاء حرب الخليج الثانية حيث سيكمل الرئيس الأمريكي الإبن من النقطة التي توقف عندها الرئيس الأمريكي الأب، أي إنهاء المهمة بإسقاط النظام العراقي الذي ساعدته أمريكا على البقاء لإعتبارات أمنية وإستراتيجية وإقتصادية دولية وإقليمية ومحلية وغدرت بالإنتفاضة الشعبية التي فجرها الشعب العراقي بتحريض أمريكي واضح ومباشر. وقد سبق لتوني بلير أن صرح في نيسان/ أبريل الماضي بأن المسألة العراقية لن تحل قبل عام على الأقل وبأسلوب الإحتواء العنيف واسلوب القوة بلا شك. سوف تعمل الإدارة الأمريكية قبل ذلك على تهدئة الجبهة الفلسطينية ـ الإسرائيلية بكل الوسائل والسبل وتمهيد الطريق لخلق دولة فلسطينية بالمواصفات الأمريكية ـ الإسرائيلية المطلوبة يشرف عليها مالياً ويرعاها الإتحاد الأوروبي والعربية السعودية ودول الخليج، عندها تنتفي الحاجة إلى تشكيل تحالف عربي مناويء لصدام حسين بل تكفي مراقبته ومعاقبته من وقت لآخر إذا تجاوز الخطوط المرسومة له لحين إسقاطه عندما تحين الفرصة لذلك.وسيعمل توني كلير على إقناع جورج بوش الإبن بهذا الحل المؤقت في الوقت الحاضر إلا إذا إستفز صدام حسين المجتمع الدولي وعاند وخالف القرارات الدولية ومنع دخول المفتشين الدوليين من جديد عندها سيقدم الذريعة اللازمة للأمريكيين للقفز من مرحلة التهديد والوعيد إلى مرحلة التنفيذ.
يعمل الأمريكيون اليوم على ترسيخ التحالفات الإقليمية الجديدة المستندة على ثلاث نقاط تؤمن حالة الإستقرار في المنطقة: روسيا ـ تركيا ـ إسرائيل، وانفتاح على إيران ديموقراطية معتدلة تتعاون في تأمين تدفق نفط بحر قزوين والنفط الأذربيجاني. وبهذا تتمكن أميركا من إحتواء المد القومي ـ الإسلاموي في المشرق العربي الذي سيشهد في نفس المدى الزمني ذات الأزمات التي شهدتها الشيوعية الستالينية والتي أدت إلى فشلها السياسي والأخلاقي والمعنوي وبروز حلول أكثر ديناميكية لعالم عربي في طريق التوحد والإتحاد التدريجي عكس ما ترتأيه شهية دونالد رامسفيلد العدوانية في مقابل رؤية كولن باول الإعتدالية ورؤية كونداليزا رايس "الروسية"، لشرق أوسط مستقر بضمانة أمريكا قادرة على الدفاع عن مصالحها الحيوية، وحركة إسلاموية في طريق التراجع والتقهقر والإندحار. لاننسى أنه فلاديمير بوتين قام غداة أحداث ايلول/ سبتمبر التراجيدية بتغيير طاقم الكرملين والجيش الروسي وأقال وصفى معظم القيادات القديمة التي تحن لأيام الحرب الباردة ومحاربة الولايات المتحدة واعتبارها الخصم اللدود وبالمقابل قامت كونداليزا رايس بإبعاد كل دعاة المواجهة الأمريكية الروسية من طاقم الإدارة الأمريكية الجديدة واعتبار روسيا حليف استراتيجي. لذلك أبدت واشنطن استياءها وإمتعاضها الشديد من التقارب العراقي ـ الروسي الجديد وتوقيع إتفاقيات تجارية ونفطية بحوالي 40 مليار دولار في نهاية آب 2002 وسوف تبذل كل ما في وسعها لعرقلة مثل هذه المشاريع الاقتصادية التي تعوق وتعرقل مخططاتها في المنطقة لأن الولايات المتحدة الأمريكية تريد وحدها الإستيلاء على نفط العراق الغزير وهو ثاني أكبر إحتياطي عالمي مثبت للنفط بعد السعودية دون أن يقاسمها أحد فيه.
تشير التحليلات الغربية، وبخاصة الأوروبية منها، أن الولايات المتحدة الأمريكية لم تأخذ بعين الاعتبار المصالح الحيوية لحلفائها الأوروبيين ولم تضع نصب عينها إحتياجاتهم ومصالحهم ومواقفهم فيما يتعلق بسياستها الشرق أوسطية، حيث لايشكلون أكثر من مصدر تمويل للملفات التي تحتاج إلى الأموال للإستمرار والبقاء كملف السلطة الفلسطينية، مقابل تأمين المظلة النووية والحماية الإستراتيجية لهم من خلال منظمة حلف شمال الأطلسي. مما لايقبل الشك إن الأوروبيين اثبتوا عجزاً لامثيل له في الشرق الأوسط وهذا أمر ملموس من خلال ما تعرضوا لهم من إحتقار وتجاهل وإستبعاد عن هذا الملف الخطير على حياتهم وإستمرار نموهم وإزدهار إقتصادياتهم لإعتمادهم التام على نفط الشرق الأوسط بالدرجة الأولى، فحتى آرييل شارون تجاهلهم وأهانهم عندما حاولوا الضغط عليه ولو بخجل لكسب تعاونه معهم في الخروج من الأزمة وليس صحيحاً الإدعاء بأن الرئيس الأمريكي قرر الخوض في الملف الشرق أوسطي نتيجة لتأثير الإتحاد الأوروبي عليه كما يدعي بعض الزعماء الأوروبيين حفظاً لماء الوجه. فأوروبا موجودة كظل للولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط ويمكن الإشادة بما تقدمه أو تبذله أوروبا من جهود فقط عندما تقترب الولايات المتحدة الأمريكية من الأطروحة الأوروبية بهذا الخصوص. فعندما طالبت أوربا لقاء وفدها الدبلوماسي بالرئيس الفلسطيني ياسر عرفات اصطدمت بالرفض القاطع من قبل آرييل شارون وعدم سماحه للوفد الأوروبي بلقاء عرفات في حين أرغم على الموافقة في نفس الوقت تقريباً والسماح بلقاء الموفد الأمريكي للشرق الأوسط الجنرال أنتوني زيني لياسر عرفات بالرغم من إن هذا اللقاء لم يكن مثمراً على حد إعتقاد الأوروبيين.وإن شارون لم يخضع كلياً للضغوط الأمريكية بل إستمر في تنفيذ خطته بالرغم من إعتراضات بعض الحمائم في الإدارة الأمريكية حيال سياسته تجاه الفلسطينيين. العالم كله استغرب من هذا العجز الأوروبي أو بالأحرى هذا الغياب المفروض على الأوروبيين أمريكياً وإسرائيلياً. وقد لوح الأوربيون على لسان ميخيل أنجل موراتينوس المبعوث الخاص للاتحاد الأوروبي في الشرق الأوسط للإسرائيليين بخطأ وخطورة موقفهم الرافض للحضور الأوروبي والدور الأوروبي في هذا الملف الحساس لأن مثل هذا الموقف الإسرائيلي الخاطيء سيحرم إسرائيل من حسن النية والإرادة الإيجابية للأوروبيين تجاه إسرائيل ووقف سبل التعاون الاقتصادي معها والحال إن الفلسطينيين لن يقبلوا أية خطة سلام أمريكية لم تحصل على تاييد ومباركة الأوروبيين" بينما صرح وزير الخارجية البلجيكي لويس ميشيل إن على الدول الأوروبية الخمسة عشر أن تقيٌم سياسياً موقف الاحتقار والإهانة التي وجهتها لهم الحكومة الإسرائيلية، ولكن ما كان يمكن لإسرائيل أن تتخذ مثل هذا الموقف الوقح تجاه الأوروبيين لولا التشجيع الخفي من جانب الأمريكيين لها، كما يقول وزير الخارجية الفرنسي السابق هيوبير فيدرين في مجالسه الخاصة. لكن الألمان حاولوا تخفيف حدة التوتر بتصريحهم أنه لاينبغي أن ننظر للأمر بمنظار التنافس بين الأمريكيين والأوروبيين. وإن أوروبا ممثلة في اللجنة الرباعية الدولية المكونة من الأمم المتحدة وأمريكا وأوروبا وروسيا المكلفة بإطلاق وإنعاش مبادرة السلام الشرق اوسطي. لكن الدبلوماسيون يعتقدون إن أوروبا لن تنجح في تجاوز دور الكومبارس في هذه اللعبة الدولية لأن الإسرائيليين يعتقدون جازمين بأن الأوروبيين قد باعوا أنفسهم للعرب طمعاً بثرواتهم وبترولهم ويعقب الأمريكيون:" إن عملية السلام نحن الذين نصنعها ولا أحد غيرنا". ولاتجرأ دولة أوروبية كبيرة مثل ألمانيا، بسبب ماضيها وظروف تاريخية معروفة، أن تتخذ أي قرار أو خطوة لمعاقبة دولة إسرائيل وهذا يعني تكريس حالة الإنقسام الأوروبي عملياً في مجال السياسية الشرق أوسطية للاتحاد. والعلاقة الحميمية بين أمريكا وإسبانيا لاتتيح لهذه الأخيرة إمكانية معارضة الموقف الأمريكي أو السياسة الأمريكية في منطقة تعتبرها منطقة نفوذ خاضعة لها وحدها ناهيك عن بلدان أوروبية أخرى صغيرة تدور في الفلك الأمريكي كهولندا وغيرها. أما بريطانيا فهي كعادتها موزعة بين هويتها الأوروبية وعلاقاتها المتينة والخاصة والمتميزة مع أمريكا مما جعلها تنساق وراء السياسات الأمريكية بصورة آلية تقريباً كما هو واضح من موقفها تجاه مشروع ضرب العراق على سبيل المثال. تبقى فرنسا هي الوحيدة المتهمة من قبل الإسرائيليين والأمريكيين بصداقتها المغرضة والإنتهازية للعرب .
ولكن هل يستطيع الأوروبيون فعلاً أن يؤثروا بثقلهم في معادلة الشرق الأوسط الأمريكية ـ الإسرائيلية ؟ هذا مانشك به كثيراً . أما العالم الإسلامي فما عليه سوى تلقي الضربات والصفعات والإهانات وإستلام الأوامر وتنفيذها بلا أي نقاش أو إعتراض وإلا فإن تهمة الإرهاب سوف تسلط عليه كالسيف لتبيده عن بكرة أبيه فهل تستطيع الباكستان أن تعارض قراراً أمريكياً أم أندونيسيا أم ماليزيا أم أفريقيا الإسلامية؟. هذا هو واقع الحال الذي ينبغي علينا إدراكه وفك رموزه وطلاسمه عند الحديث عن الإستراتيجيات الدولية عندنا.





الفصل الخامس
العراق وآفاق الحل العسكري الأميركي
في الوقت الذي تواصل فيه بريطانيا والولايات المتحدة الأميركية تطويق وإحتواء العراق وقصفه المستمر بطائراتهما، إنطلقت أصوات أوروبية تطالب بالرفع الفوري للعقوبات وإنهاء الحظر الدولي المفروض على الشعب العراقي منذ عام 1990 وبصورة فورية لتخفيف معاناة هذا الشعب ومنح الفرصة للمفاوضات الدولية لكي تبدأ الآن من أجل التوصل إلى اتفاق ملزم مبني على احترام الكرامة البشرية.
إن المطالبة بتعليق العقوبات أمر واقعي: لأن السلطات الأميركية لن تقبل على الإطلاق الإلغاء الفوري أو السريع للعقوبات التي فرضتها بعد الغزو العراقي للكويت بحجة أنها السلاح السياسي الفعال ضد النظام العراقي، هذه على الأقل هي القراءة الفرنسية.
من البديهي اعتبار البترول أحد المفاتيح الرئيسية لقراءة وفهم المسألة العراقية. فهذا البلد يمتلك ثاني أكبر احتياطي نفطي في العالم. كما أن التوازن في الشرق الأوسط من كافة نواحيه يدخل في الرهان والمعادلة مثلما يدخل في الحسبان تهديدات الرئيس العراقي الأخيرة التي أثارت المخاوف من إمكانية استئناف إطلاق صواريخ باليستية عراقية على السعودية والكويت وربما إسرائيل أيضاً، بينما يؤكد المفتشون والخبراء الدوليون بأن العراق لا يمتلك معدات من هذا النوع قادرة على التحليق لمسافات بعيدة تزيد على ‍كلم.
العقوبات مستمرة منذ أن فرضها مجلس الأمن إثر غزو العراق للكويت، بالرغم من تقارير مسؤولي المنظمات واللجان المكلفة بنزع التسليح العراقي وتدمير أسلحة التدمير الشامل. فقد أعلنوا مراراً وتكراراً بأن العراق لا يمتلك الوسائل والإمكانات لإحداث مثل هذا التهديد على المنطقة. والبعض الآخر الذي يبدي شكوكاً بهذا الصدد صرّح قائلاً بأن العقوبات لم تثمر شيئاً ولم تؤد إلى نتيجة تذكر في مجال نزع السلاح وان الأضرار التي سببتها العقوبات على الشعب العراقي يجب أن تتوقف فوراً" والذي تفوه بمثل هذا التصريح هو ريتشارد بتلر نفسه رئيس لجنة اليونسكوم من على محطة البي بي سي في 4 حزيران/ يونيو 2000.
وبعد تفاقم الوضع المعيشي للعراقيين وتدهور الأحوال الصحية والغذائية خاصة بين الأطفال وكبار السن والشيوخ، أوجدت الأمم المتحدة آلية جديدة سميت "النفط مقابل الغذاء" والتي سُمِح للعراق بموجبها ببيع نفطه وشراء ما يحتاجه من الأغذية والأدوية وقطع الغيار لترميم وتحسين صناعته النفطية ووسائل النقل الخ..ولكن تحت مراقبة وإشراف الأمم المتحدة، إلاّ أن المراقبة والإشراف بلغ من الشدة والتعسف درجة أن البعض صار يشك بنوايا البريطانيين والأميركيين باتباع سياسة منتظمة ومدروسة لإفقار العراق وإضعافه واستنزافه مع استمرارهما بقصفه يومياً بدون توكيل أو تكليف شرعي من قبل الأمم المتحدة، ويعملان قصداً على عرقلة المشتريات العراقية من خلال التصويت بالضد واستخدام حق النقض داخل لجنة العقوبات.
وقد استخدمت بريطانيا والولايات المتحدة الأميركية نظرية الاستخدام المزدوج لتبرير عرقلتها للمشتريات العراقية (وهي النظرية التي تقول أنه يمكن استخدام مادة الكلور لتطهير وتعقيم مياه الشرب ومادة الكوبالت للأشعة ضرورات أولية وأساسية.
فاتفاقات الاستيراد " التي تنتظر الموافقة والتنفيذ " وصلت إلى عدة مليارات من الدولارات. والعائدات العراقية من مبيعات النفط محتجزة في البنك الوطني الباريسي ـ باري با Paribas في نيويورك ويصل الرصيد العراقي فيه حسب تقديرات وزير الصحة العراقي إلى أرقام هائلة بسبب السياسة التعجيزية التي تتبعها لجنة العقوبات الدولية.وبالرغم من تصريحات منظمة اليونيسيف لرعاية الأمومة والطفولة بحسن توزيع المواد الغذائية على السكان بموجب البطاقات التموينية التي توزعها الحكومة العراقية على السكان، إلا أن العراقيين وصلوا إلى النفس الأخير في نضالهم من أجل البقاء على قيد الحياة ولأن النظام العراقي يعاملهم كأنهم رهائن ويبتزهم بهذه البطاقات التموينية ليضمن ولائهم له وتأييدهم لصدام حسين وأقطاب نظامه.
المنظمات الأهلية الإنسانية ما تزال تواصل تقديم مساعداتها الإنسانية للعراق منذ مايزيد على العشر سنوات في جميع أنحاء العراق في الوسط والجنوب والشمال. فقد استفاد من تلك المساعدات الغذائية من عام 1995 إلى عام 2000 حوالي 250000 شخص، وهناك برنامج آخر يمس 4000 طفل مصابين بسوء التغذية تقل أعمارهم عن خمسة أعوام ، ونساء حوامل أو مرضعات ، إلى جانب إنشاء وحدة لتصفية وتعقيم المياه في مدينة النجف الشيعية المقدسة وتوفيره لـ 500000 ساكن باعتبارها مدينة تستقبل زوار للعتبات المقدسة فيها، ونفس المشروع قيد البناء في مدينة الموصل لتوفير المياه لـ 500000 شخصاً في كردستان العراقية وأعيد بناء ثلاث مزارع وثلاث مدارس وثلاث كنائس .
تستمر المنظمات الإنسانية الدولية في إطلاق التحذيرات من الوضع المتدهور في العراق، فقد ذكرت اليونيسيف أن وفيات الأطفال قد تضاعفت خلال السنوات العشرة المنصرمة والبطالة بلغت نسبة 53 % من مجموع السكان واضطرت العائلات العراقية الفقيرة والمتوسطة الحال إلى بيع ممتلكاتها وأثاث بيوتها وما لديها من حلي أو كتب أو أدوات ترفيه كالتلفزيونات والبرادات أو الثلاجات والغسالات للتمكن من الاستمرار على قيد الحياة. المنسق الإنساني السابق للأمم المتحدة في العراق هانس فون سبونيك أعلن بعد استقالته من منصبه: "إننا في طريقنا لتحطيم وتدمير بلد بأكمله هذا هو الواقع الرهيب الذي أراه وبكل بساطة" ولاستكمال توفير المساعدة المادية أرسلت هيئة الإسعاف الكاثوليكية بعثات للإنقاذ إلى العراق في الآونة الأخيرة وعاد وفد من 44 دولة من المنطقة بأربعة استنتاجات ختامية لجولته هناك:
1 – ان العقوبات تسبب معاناة فظيعة للسكان المدنيين ولشرائح واسعة من العراقيين من الطبقات الفقيرة والوسطى وتحطم النسيج الاجتماعي للمجتمع. وبلغت ضحايا العقوبات حتى اليوم 1500000 شخصاً، وإن المجالات الأكثر تأثراً وإصابة هي الصحة والتغذية ونوعية وتوزيع المياه الصالحة للشرب ،وإن الأطفال والشيوخ وكبار السن والمعدمين هم أول الضحايا.
2 – إن العراق الذي كان واحداً من أغنى البلدان في العالم بدأ يفرز أزمة إنسانية لا يمكن أن تظهر إلا في البلدان المدقعة في الفقر.
3 - إن العقوبات المفروضة على العراق تتناقض مع ميثاق الأمم المتحدة ومع مختلف الاتفاقيات الدولية وتتناقض مع روحها إذ لايكفي أن يتقرر فرضها وتنفيذها من قبل مجلس الأمن حتى تكون شرعية وعادلة فالعقوبات الجائرة المفروضة منذ أكثر من عشر سنوات قد أصابت الملايين من المدنيين الأبرياء ولم تمس المذنب الحقيقي.
4 – وإزاء هذه الأزمة الإنسانية المتفاقمة في العراق لم يعد للعقوبات أي تبرير شرعي أو أخلاقي وإن البعثة الدولية المذكورة تطالب برفعها فوراً.
يعتقد البعض أن النظام العراقي هو المسؤول الأول والمذنب الأول عمّا أصاب العراق من خراب وتدمير ، لذلك يعتقد بوجوب إبقاء العقوبات لمعاقبته. ولكن إلى جانب النتيجة التي باتت معروفة وبديهية والتي تقول بأن كل العقوبات في تاريخ الأمم المتحدة لم تكل فاعلة ومثمرة، فإن هذه العقوبات الاستثنائية في شدتها وصرامتها لم تعاقب المسؤول الحقيقي بل عاقبت شعباً بريئاً يتحمل جريرة حماقة حكامه. دنيس هوليداي مساعد الأمين العام للأمم المتحدة والمنسق الإنساني الأسبق للأمم المتحدة في العراق استقال أيضاً من منصبه وصرح في 15 فبراير/ شباط 1999 أمام طلبة جامعة واشنطن في سياتيل: "إذا كان من غير الممكن الاتصال والتواصل شخصياً مع صدام حسين والحوار معه لايتقدم، فإن هذا لايعطينا الحق والسلطة في قتل أطفال العراق ومثلكم لا أريد ولا نريد أن نكون مسؤولين عن إبادة حقيقية في العراق ـ نظراً لأني لم أجد كلمة أخرى تفي بالتعبير عن الوضع القائم هناك" نظرت فرنسا بعيون إنسانية للوضع في العراق بعد أن شاركت في الحرب ضده لإخراجه من الكويت لكنها رفضت المشاركة في العدوان البريطاني ـ الأميركي اليومي عليه وقد أعرب وزير الخارجية الفرنسي السابق هيوبير فدرين عن موقف حكومته عندما صرح آنذاك: "إن العقوبات قاسية ووحشية ولا تصيب سوى الشعب العراقي فقط والفئات الضعيفة فيه على وجه الخصوص، وهي غير فعّالة لأنها لاتمس النظام ولن تثنيه أو ترغمه على الانصياع والإذعان إذ لا يشعر بالتشجيع لتعاونه، وهي خطيرة لأتها تسرّع من وتيرة تفكك وتمزق المجتمع العراقي "ولكن لايوجد أمام العراق سوى خيار التعاون مع المنظمة الدولية وتطبيق قرارتها والموافقة على آخرها وهو القرار 1284 رغم ما لدينا عليه من تحفظ. وكان قد أدلى بتصريحه هذا لوكالة رويتر في ?آب/ أغسطس .
أما البابا يوحنا بولس الثاني فقد صرح في عام 1998 أمام السلك الدبلوماسي: "أدعو الضمير الإنساني لدى أولئك الذين، في العراق وفي غيره، الذين يضعون الاعتبارات السياسية، والاقتصادية، والاستراتيجية، قبل الاحتياجات الأساسية للسكان، وأطالبهم بإبداء الشفقة والرحمة. فلا يجب أن يدفع الضعفاء والأبرياء ثمن أخطاء ليسوا مسؤولين عنها".
كما أن الخبراء الدوليون سلطوا الأضواء في الآونة الأخيرة على أخطار اليورانيوم المنضب أو الناضب الذي أستخدم بكثرة في حرب الخليج الثانية ومايترتب عليه من أعراض وقد انفجرت الفضائح بعد إصابة أفراد من القوات الأميركية والبريطانية والفرنسية بما سمي بـ " أعراض مرض الخليج"، فقد ازدادت بصورة ملحوظة الإصابات بحالات السرطان واللوكيميا في العراق وارتفاع حالات الولادات المشوهة فقد استخدمت قوات الحلفاء أكثر من 300 طن من اليورانيوم الناضب في العراق مما سيترك آثاراً ضارة وقاتلة لسنوات طويلة جداً على الحياة في العراق.
هناك فرص تتوفر اليوم مثل محاولة استئناف الحوار والمفاوضات بين الحكومة العراقية والأمم المتحدة، والنقاش بشأن العراق داخل مجلس الأمن، ورئاسة أسبانيا للاتحاد الأوروبي وهو البلد المنفتح لمثل هذه المبادرات وهذا النوع من الوساطات، ينبغي اقتناصها للخروج بموقف أوروبي متميز وإنساني مستغلين وجود قوى أوروبية فاعلة ومؤثرة داخل مجلس الأمن من أجل تأكيد ضرورة رفع العقوبات وإنقاذ الشعب العراقي والتخلي عن ذريعة واهية تتمثل بمنع النظام العراقي من حيازة أسلحة محرمة دولياً واحتوائه لمنعه من تشكيل تهديد على جيرانه في المنطقة وعلى الأمن والسلام العالميين
فلقد جاءت الضربة البريطانية ـ الأميركية الأخيرة لبغداد لتنسف محاولات التقارب والتفاوض لأن الدولتان تدرسان كل السبل لمواصلة "عزل صدام حسين" مع البحث عن سبل لتخفيف العقوبات عن الشعب العراقي. ويواصل دبلوماسيو البلدين مباحثاتهما للتنسيق فيما بينها بخصوص الملف العراقي والتمهيد للقاء القمة بين الرئيس الأميركي جورج بوش الإبن ورئيس الوزراء البريطاني توني بلير من أجل إيجاد توافق دولي أوسع لعزل الرئيس العراقي والاستمرار في سياسة الاحتواء وتشديدها وارغام العراق على قبول عودة المفتشين والخبراء الدوليين في لجنة أنموفيك الجديدة وتطبيق القرار رقم 1284، وهو الأمر الذي سعى إليه وزير الخارجية الأميركية كولن باول في جولاته الشرق أوسطية المتعددة، وكما هو متوقع أعلن العراق شروطه في استئناف التفاوض مع الأمم المتحدة وحملها وزير خارجية العراق السابق محمد سعيد الصحاف والحالي ناجي صبري، مراراً إلى نيويورك لعرضها على كوفي عنان والمتمثلة برفع العقوبات وإنهاء الحصار فوراً بلا قيد أو شرط وإلغاء منطقتي الحظر الجوي في جنوب وشمال العراق وتليين مواقف لجنة العقوبات من العقود المعلقة والمبالغ المجمدة وموضوع النقل الجوي غير القانوني وانتقال المواطنين من وإلى العراق بحرية مطلقة وإدانة العدوان الأميركي ـ البريطاني الأخير، فيما جاء نزار حمدون وغيره من أقطاب النظام العراقي عدة مرات إلى فرنسا ليطرحوا نفس الشروط السالفة الذكر ويحثوا فرنسا للعب دور أقوى داخل مجلس الأمن لتزكية الموقف العراقي ودعمه وتأييده.
وصف توني بلير صدام حسين بأنه "أخطر رجل في العالم" بينما يحاول كولن باول بيع فكرة "العقوبات الذكية" التي يعتبرها العراق سماً خطيراً، وطالب العراق على لسان نائب الرئيس العراقي طه ياسين رمضان اثناء زيارته لتونس بتنقية الأجواء العربية وإحياء التضامن العربي لإنجاح القمة العربية العادية التي عقدت في عمان في شهر آذار/ مارس 2001.
وكانت الولايات المتحدة الأميركية قد قدمت احتجاجاً رسمياً للصين بخرقها لنظام العقوبات الدولية عن طريق إرسالها لخبراء صينيين لترميم وتقوية شبكة الدفاع الجوي الصاروخي العراقية فيما نفت بكين ذلك معتبرة ذلك بمثابة محاولات عقيمة لتحويل أنظار الرأي العام وتضليل الناس.
وإذا كان هذا الواقع يعني شيئاً فهو بلا شك تذبذب وحيرة وتخبط الإدارات الأميركية حيال العراق وعدم الثبات على استراتيجية واحدة ومحددة وثابتة تجاه هذا البلد المبتلى. فتارة يبدو للمراقب أن خيار واشنطن الاستراتيجي غير المعلن هو إبقاء النظام العراقي في السلطة وإحتوائه وجعله ضعيفاً بما فيه الكفاية لكي لايهدد جيرانه بل يبقى قادراً على البقاء في السلطة ومقاومة ثورات وانتفاضات شعبه المعذب من جراء سياسته الوحشية في القمع والبطش والاستهتار بالقيم الانسانية لأن بقاء صدام حسين في السلطة هو أنجع وسيلة لتخويف وترهيب دول الخليج وابتزازها مادياً ومعنوياً لتبرير تواجدها العسكري في المنطقة الأمر الذي كانت الولايات الأميركية تحلم به منذ عقود طويلة ولم تتمكن من تحقيقه إلا بفضل رعونة وحماقة صدام حسين، إلى جانب ممارسة الضغوط على إيران والتلويح لها بفزاعة صدام حسين إذا لم تذعن وتطبع علاقاتها معها مع مرور الزمن. وتارة أخرى تبدو الولايات المتحدة وكأنها عازمة حقاً على الانتهاء من هذا النظام الذي يتصرف بعناد ويفلت من طاعتها ويتمرد عليها رغم كل ما لقنته له من دروس وضربات التي لم تمسه في الحقيقة بل مست شعبه المسالم ونالت من الأبرياء والضعفاء منهم بشكل خاص. والواضح من هذا التصرف أن أميركا ترغب في تغيير شخص صدام حسين والإبقاء على نظامه لكنها لم تجد الوسيلة لتنفيذ ذلك.وكان هذا الخيار واضحاً في عهد الرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون طيلة السنوات الثماني من حكمه. فهل سيغير الحزب الجمهوري وإدارة جورج بوش الابن الجديدة هذه المعطيات التي باتت بديهية ؟ . إن المشكلة التي تواجه كل من بريطانيا والولايات المتحدة الأميركية في تعاملهما مع الملف العراقي وفرضهما حظراً جوياً على بغداد هي أن منطقتي الحظر الجوي لاتتمتعان بالغطاء ولا بالشرعية الدولية الضرورية لأن مجلس الأمن لم يخول الدولتين المذكورتين في فرض مثل هذا الخيار الجائر حسب وصف الحكومة العراقية له وبالتالي يتعرض قرار الحظر الجوي إلى انتقادات دولية خاصة من روسيا والصين وفرنسا.
أما هذه الأخيرة (أي فرنسا) فلم تتمكن لحد الآن من فرض صوتها ولم تتجرأ على تحدي الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا في اتخاذ مواقف مبدئية ثابتة وملموسة تتميز بفرادتها وخصوصياتها كما كان الحال أيام الجنرال ديغول. فقد وعدت فرنسا العراق كثيراً عندما حاولت إقناعه بالتجاوب مع قرارات الأمم المتحدة وتنفيذها سعياً وراء إمكانية لرفع الحظر تقوم بها بالتعاون مع دول أخرى كالصين وروسيا، لكنها لم تفعل ذلك. فقد نفذ العراق قرار"النفط مقابل الغذاء الذي رفضه لفترة طويلة، إثر وعد من فرنسا بأنه ليس سوى إجراء مؤقت يخفف من معاناة العراقيين لكنه ظل ساري المفعول ويتجدد باستمرار دون أن يقود إلى رفع الحظر النفطي. كما امتنعت فرنسا عن التصويت على القرار 1284 الذي لا يترك أملاً للعراق في أن يرى في القريب العاجل نهاية للعقوبات ، وهاهي اليوم تلح على العراق لتطبيق هذا القرار ـ لأنه المنفذ الوحيد والشرط الضروري الذي لابد منه لرفع الحظر عنه ـ، والحال أن هذا القرار ينص على عودة لجنة التفتيش الدولية بصيغتها الجديدة " أنموفيك " لتستأنف نشاطاتها بلا قيد أوشرط وبلا تحديد سقف زمني لمهمتها. ولم تتجرأ فرنسا منذ عودة شعبة رعاية المصالح للبلدبن لعملها، في إستئناف العلاقات الدبلوماسية بين باريس وبغداد برغم الوعود الفرنسية في هذا الصدد. إلى ذلك فإن بغداد تعرف جيداً أنه لايمكن الاعتماد على باريس في الخروج من النفق وأن الحل موجود بيد الأميركيين والبريطانيين، وهي مستعدة للتحاور معهما شرط إعادة تأهيل النظام العراقي وتطبيع العلاقات معه مع استعداد هذا الأخير لتلبية شروطهما ومنحهما كافة الامتيازات المطلوبة.
لكن العراق لم يكتف بهذه المناورات المتعدد الوجوه بل حاول مراراً وتكراراً كسر حالة الجمود والإهمال تجاهه التي يبديها المجتمع الدولي ومنظمة الأمم المتحدة ولامبالاة العالم بالاعتداءات الأميركية البريطانية ضده.
فخلال الأعوام الثلاثة التي سبقت سقوطه، وبناءً على مصادر وزارة الدفاع البريطانية، "واجهت الطائرات البريطانية والأميركية 1800 اعتداءاً من طرف الدفاعات الجوية العراقية، وذلك أثناء المائتين وخمسين غارة التي قامت بها ضد الأراضي العراقية والتي شاركت في الأخيرة منها ما يقارب الخمسين طائرة".
من الناحية الرسمية، وفيما يتعلق بغارة يوم 16 فبراير/ شباط الماضي، يتعلق الأمر بالقضاء على ما يقارب العشرين راداراً وستة مراكز قيادة للدفاع الجوي تتواجد في ضواحي بغداد، وذلك عن طريق استخدام صوارخ جو-أرض من طراز هارم التي تستشعر الإصدارات الكهرومغناطيسية المعادية ثم تتبعها. وتؤكد نفس المصادر أن الطائرات البريطانية والأميركية واجهت مقاومة الدفاعات الجوية العراقية إحدى وعشرين مرّة منذ بداية عام 2001 و 51 مرة حتى نهاية نيسان 2002.
يشكل الدفاع الجوي العراقي جيشاً حقيقياً يتكون من 17 ألف رجل. وبالإضافة إلى المدافع السريعة من مختلف العيارات، فإنه يمتلك 600 منصة ثابتة ومتحركة لإطلاق الصواريخ المضادة أرض – جو التي تستطيع الوصول إلى جميع الارتفاعات. وهي صواريخ ذات أصول روسية وفرنسية (كصاروخ رولاند) يقوم العراق في أغلب الأحيان بترتيقها وترقيعها، ولكنها، رغم ذلك، تشكل خطراً على الطائرات الأميركية والبريطانية بسبب وجودها، وعندما يتم تشغيل نظام الدفاع الجوي، يضطر الطيارون قبل التصويب إلى الاتسام بحذر شديد: تحديد زاوية هجوم لا تعرضهم للخطر وقد تبعدهم عن الهدف، والقيام بمناورات تمويه وإطلاق أجسام تمويهية، والبقاء على ارتفاعات عالية جداً.
بين الولايات لمتحدة البريطانية من جهة، والعراق من جهة ثانية، يقول الخبراء أن الأمر يشبه "لعبة القط والفأر". واليوم، يتهم البنتاغون الصين الشعبية بأنها تساهم في تجديد وتحديث الدفاع الجوي العراقي. وعلى سبيل المثال، وحسب أقوال البنتاغون، تقوم الصين بإنشاء شبكة إتصالات مدفونة تحت الأرض بين مراكز القيادة ومنصات الصواريخ أرض – جو، وهي شبكة تزيد من سرعة الاتصال. تؤدي هذه الشبكة إلى تحسين قدرة إستشعار الرادارات وتحسين التنسيق بينها وبين الصواريخ. وبما أنها مدفونة تحت الأرض ، فإن القدرة على تدميرها تصبح عشوائية.
من المحتمل أن يكون هذا هو السبب الذي دفع إدارة بوش إلى شن غارة السادس عشر من فبراير على بغداد جاذبة وراءها حكومة توني بلير.ولكن ، ومنذ متصف عام 2000 في عهد كلينتون ، كانت الإدارة الأميركية قد أعربت عن مخاوفها من أن تشكل إعادة بناء الصناعات العسكرية العراقية خطراً على دول المنطقة. ومنذ ذلك الوقت (أي منتصف عام 2000)، استأنف العراق تجارب صواريخ الدفع السائل التي تستطيع حمل رؤوس تقليدية وكيماوية وبيولوجية والتي يقل مداها عن 150 كلم كما تشيع الدوائر الغربية. ولكن هذا لا يشكل مخالفة لقرارات الأمم المتحدة التي صدرت بعد حرب الخليج والتي تمنع العراق عن تطوير صواريخ بعيدة المدى يبلغ مداها أكثر من 150 كلم.
وفي بداية عام 2001، أكدت الولايات المتحدة الأميركية أن المصنع الكيماوي المتواجد في منطقة الفلوجة غرب بغداد قد عاد إلى مزاولة نشاطه بعد أن دمرته الطائرات البريطانية والأميركية في ديسمبر 1998. يتكون هذا المصنع من ثلاثة معامل تنتج مواد سامة يندر استخدامها لأغراض مدنية.
تقول مصادر موثوقة أن الرئيس الأميركي جورج بوش الابن شعر باستياء شديد لأن الرئيس العراقي صدام حسين "حيّاه" بعد ساعة من تنصيبه في البيت الأبيض بإطلاق صاروخ على طائرة تجسس أميركية كانت تطير في منطقة الحظر الجوي.في خضم هذه الأجواء جاء الفريق الأميركي الجديد ليتعامل مرة أخرى مع الملف العراقي الحساس على صعيد العلاقات الدولية والإقليمية في إطار حالة من التوتر العام في الشرق الوسط وتفاقم الوضع في الأراضي المحتلة مع تزايد العنف والاعتداءات الإسرائيلية على الشعب اللفلسطيني.
فشل زيارات كولن باول للشرق الأوسط
لا شك في أن المصادفات في بعض الأحيان تدعو للدهشة. ففي الوقت الذي كانت فيه الكويت تحتفل بالذكرى العاشرة لنصر الحلفاء على بغداد، قام كولن باول رئيس أركان الجيش الأميركي إبّان حرب الخليج الثانية، بجولته الشرق أوسطية الأولى ، ولكن بصفته هذه المرة وزيراً للخارجية في إدارة جورج بوش الابن. أما جورج بوش الأب، فإنه يحتل مكان الصدارة على قائمة الزعماء الأجانب المدعوين لحضور الاحتفالات.
بعد مرور عشرة أعوام على حرب الخليج، ورغم التصريحات الاضطرارية للإدارة الأميركية الجديدة حول "تمسكها بمشروع السلام في الشرق الأوسط"، فإن السياسة تجاه العراق هي التي تستحوذ على إهتمام الولايات المتحدة الأميركية. وشكلت بغداد أهم محاور المناقشات في جولة كولن باول التي بدأها في القاهرة ثم تل أبيب والأراضي الفلسطينية ثم عمّان والكويت وسورية. في جميع العواصم العربية، استطاع وزير خارجية جورج بوش الابن قياس مقدار الصعوبة التي يواجهها في إقناع الحلفاء بخطر العراق ،وبالتالي بوجوب تعزيز العقوبات أو بناء وفاق إقليمي ضد العراق. كانت حدّة الانتقادات المصرية للغارة الأميركية ـ البريطانية على العراق في ‍فبراير/ شباط، شديدة اللهجة لدرجة أن كولن باول أعرب عن "دهشته من الغضب العربي"، وأعترف بأنه "لم يكن يتوقع ردود فعل كهذه". ولكنه أعلن في تل أبيب أنه ليس لديه اعتذارات يقدمها.
مهما يكن من أمر، عاد كولن باول إلى بلاده صفر اليدين، سواء تعلق الأمر بمشروع السلام في الشرق الأوسط أو بالعراق. وتكرر هذا الأمر عدة مرات خلال السنتين الماضيتين عبر جولات وزيارات كولن باول وديك شيني المتعدد للمنطقة لبحث موضوع ضرب العراق وتغيير نظامه بالقوة بمساعدة ودعم وتأييد دول المنطقة لكنها باءت بالفشل الذريع صحيح أنه لايوجد أحد من الحكام العرب من سيذرف الدموع على صدام حسين لكنهم يخشون غضبة الشارع العربي وإنتفاضة شعوبهم ضدهم فيما لو اشتركوا بالمشروع العسكري الأميركي للعدوان على العراق,
فالعراق يراهن على العالم العربي للخروج من قبضة الحصار وصدام حسين بدأ بجني ثمار استراتيجية مقاومته للعقوبات التي فرضتها عليه المجموعة الدولية قبل أكثر من عشر سنوات. وقد تكلل مسعى النظام العراقي بالنجاح في القمد العربية الأخيرة في بيروت ومعانقة ولي العهد السعودي الأمير عبد الله لنائب رئيس الجمهورية العراقي عزت إبراهيم الدولري ومصافحة وزير الخارجية الكويتي للمسؤول العراقي الأمر الذي أثار غضب وحنق الولايات المتحدة الأميركية بشكل جدي.
في أعقاب انتهاء الجولة الأولى من المحادثات بين الوفد العراقي والأمم المتحدة والتي لم تسفر عن شيء جدي، تقرر تمديد المحادثات لأسابيع أخرى في نيويورك وصرح محمد سعيد الصحاف وزير خارجية العراق السابق بعد انتهاء مقابلته لكوفي عنان الأمين العام للأمم المتحدة أن المقترحات الأميركية الجديدة بشأن "العقوبات الذكية" غبية وخادعة " فالمقترحات التي قدمها كولن باول لمسؤولي الدول التي زارها في جولته الشرق أوسطية وأوروبا تتضمن مراجعة جدية لنظام العقوبات من شأنها تخفيف الحظر على المواد والمنتجات المدنية بما في ذلك تلك التي تزعم أميركا أنها ذات استخدام مزدوج كالثلاجات ومواد تنقية المياه ومضخاته ومحطات إنتاج الطاقة الكهربائية والسلع التي تستخدمها المختبرات والمستشفيات والشاحنات لنقل الحليب والمواد الطازجة..الخ والتسريع بتنفيذ العقود المعلقة لمختلف البضائع المدنية التي تعرقلها لجنة العقوبات حالياً وتحرم الشعب العراقي منها مع التشديد في العقوبات العسكرية وفرض حظر شديد على المواد العسكرية وأسلحة الدمار الشامل ووقف التهريب الذي يوفر لنظام صدام حسين الأموال اللازمة خارج أية رقابة لحماية نظامه وإستيراد الأسلحة والمعدات العسكرية المحظورة من السوق السوداء .وبذلك تهدف واشنطن كما تعلن المس بالنظام العراقي ومعاقبته بغية إخضاعه للقرارات الدولية .ونفس الشيء تكرر حرفياً مع جولة المفاوضات التي خاضها مؤخراً وزير الخارجية العراقي الأخير ناجي صبري مع كوفي عنان ولم تسفر عن شيء جديأو تحدث أي نقدم ملموس في المسالة العراقية.
من يزور العراق اليوم يلاحظ مظاهر السخط الرسمي على الولايات المتحدة الأميركية ففي مطار بغداد يافطة كبيرة تتصدر واجهته وجدرانه الداخلية تندد بأميركا وتقول الموت لأميركا، بعد أن عادت الحياة والحركة في هذا المطار مؤخراً بعد إغلاق دام عشر سنوات فعادت حركة الطيران المدني الداخلية رغم الحظر الدولي والمنع ووصول طائرة بوينغ 747 من دمشق وهي طائرة قدمها شيخ قطري هدية للرئيس صدام حسين وتقوم برحلات أسبوعية منذ شهر بين بغداد والدوحة.وهذا يعد بمثابة انتصار صغير لسيد بغداد الذي بات يقطف ثمار مقاومته للحظر بالرغم من استفادته القصوى منه وقد عزز مواقعه وسلطته بفضله وقوى مكانته في مواجهة الفريق الحاكم الجديد في البيت الأبيض فالضربة التي وجهتها الإدارة الأميركية الجديد لبغداد في 16 فبراير/ شباط 2001 كانت كضربة السكين في الماء فالحياة اليومية استمرت وكأن شيئاً لم يكن فقد اعتاد الناس على أسوء من ذلك بكثير. ويبقى المواطن العراقي يحلم باليوم الذي سترفع فيه العقوبات عن بلده ليستعيد حياته الطبيعية والخروج من حالة الشحة والقحط والحرمان التي يعيشها منذ أكثر من عقد من الزمن . فالوضع الصحي والاقتصادي والاجتماعي والخدماتي والتربوي والتعليمي والثقافي في البلاد على حافة الانهيار وقريب من الكارثة لكن الصمود مستمر.
الشعب جائع وعاطل عن الإنتاج والعمل الحقيقي. كل ما أضافه برنامج النفط مقابل الغذاء أنه أخّر التبعات الكارثية للحظر وجعل الإنسان العراقي يستمر على قيد الحياة ويتحمل المعاناة بصورة أطول مع إخضاعه كلياً لمزاج وإرادة النظام الذي يمسك به من خلال تحكمه بالبطاقات التموينية وتوزيعها على من هم موالين له ومنعها عن المعارضين له. وهناك معوقات كبيرة تقف في وجه هذا البرنامج حيث أحتجزت ثلاث مليارات من الدولارات بسبب تعنت لجنة العقوبات وعدم سماحها للعراق باستيراد مواد ضرورية للسكان الذين يموتون ببطء فيما عدا قلة قليلة جداً من المحظوظين والمقربين من النظام في حين أن الرئيس العراقي بات أقوى من أي وقت مضى منذ وصوله إلى السلطة عام 1968 بانقلاب عسكري. وهو ما يزال يتحدى العالم ويُفهمه أنه لا خيار له سوى التعامل معه للعقود القادمة نافياً الإشاعات التي انتشرت عن مرضه حتى أنه حضر بنفسه العرض العسكري الذي ضم مليون جندي، مع انتشار شائعات تقول أن الذي حضر العرض العسكري المذكور ليس صدام حسين بل شبيهه الذي كان ذو صحة جيدة وهو يطلق العيارات النارية من بندقيته التي يحملها بيد واحدة لساعات طويلة دون تعب أو إنهاك..
يقول أحد المراقبين الغربيين ان صدام حسين استغل الوضع الدولي والعربي إلى أقصى الحدود لصالحة ولعب على كافة المستويات مستغلا الفراغ الذي أحدثته الحملة الانتخابية الرئاسية الأميركية. ومن بعدها تفاقم الوضع في المنطقة وتصاعد أعمال العنف الإسرائيلي ضد الإنتفاضة الفلسطينية الثانية وإحتلال الأراضي الفلسطينية من جديد وفرض الحصار على عرفات ومذبحة جنين وتطويق كنيسة المهد وتزايد العمليات الإستشهادية التي شجعها صدام حسين وخصص لكل شهيد مبلغ 25 ألف دولار. وبذلك تمكن صدام حسين من إستغلال كل هذه الأوضاع وحقق ثغرات واختراقات مهمة في جدار العقوبات الدولية أي إنه إستغل بقوة الانتفاضة الفلسطينية الجديدة ليقدم نفسه بطلاً قومياً في الشارع العربي. أما العقوبات فأصبحت كالمصفاة يتسرب إليها الماء من كافة الثقوب حتى وصلت إلى حافة الإخفاق التام.وهكذا تشكلت أبعاد وملامح الاستراتيجية العراقية الجديدة منذ سنتين تقريباً. فبعد أن حاول العراق بلا طائل لسنوات طويلة الحصول من مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة من خلال أمينها العام أو الأعضاء الدائمين في المجلس، كفرنسا وروسيا والصين على أمل أو وعد بإنهاء العقوبات، غيّر من مناوراته اليوم وركّز جهوده على الشارع العربي وأعتمد على الرأي العام العربي وعلى بعض الأنظمة العربية. وقد اتضح ذلك مؤخراً من خلال سلسلة الاتفاقيات التي وقعها العراق لتأسيس مناطق تبادل تجاري حر مع كل من مصر وسورية والأردن وتونس. فمصر أخذت حصة الأسد من العقود التجارية مع العراق تليها فرنسا وروسيا ونجح العراق في الالتفاف على نظام العقوبات التجارية بعقد اتفاقات تجارية مع جيرانه أو مع دول أبعد كالهند خارج بروتوكول النفط مقابل الغذاء. فسياسة مناطق التبادل التجاري الحر هي طريقة ذكية لتقويض نظام العقوبات التجارية الذي تفرضه الأمم المتحدة على بغداد.
وبهذا صار بالإمكان العثور في أسواق بغداد على الصابون الحلبي ومواد الغسيل التركية، وبضائع مصنوعة في مصر وتونس وسورية ولبنان، إلى جانب بضائع صينية وهندية وكورية. وازدهرت محلات البضائع الكهربائية ومحلات الملابس الجاهزة. ولكن ما تزال هناك عقدة الدفع ونقص السيولة وعدم كفاية نظام التبادل بالبضائع.
زادت السلطة العراقية من عائداتها المالية غير القانونية بفضل عمليات التهريب للنفط خارج حصص نظام النفط مقابل الغذاء عبر الحدود التركية والأردنية والسورية . لكن المخرج يبقى مرهوناً بالرفع الكلي والتام لنظام العقوبات وهذا بدوره مرتبط باتخاذ قرار سياسي دولي. من هناك تعمل بغداد جاهدة للحفاظ على علاقات جيدة مع الأمم المتحدة ومع جهات مؤثرة في المجتمع الدولي كما شهد على ذلك زيارات وزير الخارجية العراقية للأمم المتحدة وزيارات مسؤولين عراقيين آخرين لموسكو وباريس وعدد من العواصم العربية والأجنبية والزمن يلعب في الوقت الحاضر لصالح العراق والكرة موجودة حالياً في الملعب الأميركي. وكعادته جرب النظام العراقي مدى إستجابة وإستعداد وردة فعل الإدارة الأميركية الجديدة بإطلاقه رداراته ووسائل الدفاع الجوي العراقية على الطائرات الأميركية والبريطانية المغيرة خلال شهر يناير2000 بصورة مكثفة تعادل وتتجاوز عدد المرات التي تعرض فيها للطائرات المعادية خلال عام كامل وتشدقه الإعلامي بأنه لن يسمح بعودة المفتشين الدوليين بالرغم من صدور قرار دولي جديد من مجلس الأمن بهذا الصدد. وجاء الجواب الأميركي حاسماً حيث شنت الطائرات عدة ضربات عنيفة وتحرك الجهاز الإعلامي والدبلوماسي لتشديد القبضة والتركيز دولياً على الملف العراقي . فجورج بوش الابن لا ينسى أن صدام استفزه بعد ساعة من تسلمه مهام منصبه في البيت الأبيض. وتسارعت الأحداث بوتيرة عالية وبصورة تدعو للقلق بعد الأحداث المأساوية التي وقعت في الحادي عشر من أيلول 2001 في نيويورك وواشنطن مما وفّر للإدارة الأميركية ذريعة قوية وتصميماً لايلين في ضرب العراق، ولم تعد المسألة هي هل ستهاجم الولايات المتحدة العراق عسكرياً بل متى وكيف؟ أي باتت قضية توقيت ليس إلاّ ريثما تنتهي إدارة بوش من تهدئة الجبهة الفلسطينية المستعرة والخروج من مأزق الإنتفاضة الفلسطينية. فلدى الولايات المتحدة عزيمة في فرض نفوذها وهيمنتها على المنطقة العربية والإسلامية بأي ثمن كان ولن يقف حجر عثرة في طريقها أنظمة متمرد أو خارجة على القانون حسب تعبيرها من أمثال النظام العراقي الذي أدرجته بلا تردد ضمن دول محور الشر الذي يضم إيران وكوريا الشمالية وربما تضاف إليه دول أخرى لاحقاً. فالخطط موضوعة وجاهزة للتنفيذ مما سيعرض المواطن العراقي لمحن جديدة ومعاناة إضافية تضربه في صميم وجوده.
لذا يمكن القول إن العراق بات اليوم أكثر من أي وقت مضى داخل مرمى إصابة واشنطن فقد نشرت الصحف الأميركية ووسائل الإعلام الأخرى تفاصيل التحركات الأميركية، وخصصت مجلة تايم في عددها بتاريخ 13 آيار/مايو 2002 للحديث عن عالم صدام حسين المشؤوم والكئيب وتفاصيل الخطة الأميركية لإطاحته وقدمت المجلة وباقي وسائل الإعلام الأخرى تفاصيل وافية عن خطة المعركة التي ستنفذها القوات الأميركية لغزو العراق وإحكام السيطرة عليه إنطلاقاً من شماله وبذلك وجدت منطقة كردستان العراق نفسها في قلب هذه المناورات االكبرى وفي وضع لاتحسد عليه حيث لايحق للحكومة الكردي أن ترفض ما ستقرره الولايات المتحدة الأميركية لأنها مدينة ببقائها وإستمرارها وأمنها لطائرات التحالف ـ الأميركية والبريطانية تحديداً ـ بالرغم من تصريحات الزعماء والمسؤولين الأكراد بأنهم ولدوا وسيبقون عراقيين على حد قول سامي عبد الرحمن. والأكراد يعرفون ما يمكن لصدام حسين أن يفعله بالأكراد لو أطلقت يداه. ومع ذلك سيدفع الأكراد ثمناً فادحاً فيما لو فشلت المغامرة العسكرية الأميركية المزمع تنفيذها، وقد صرح فوزي حريري قائلاً : "لن ندعم أية مبادرة تأتي من الخارج لإطاحة صدام حسين وقلب نظامه بالقوة لكننا مع التغيير الجذري للنظام ولكن من الداخل يأتي بحكومة ديموقراطية تقبل بالصيغة الفيدرالية التي تضمن المكتسبات الديموقراطية للأكراد". هذا ما يتمناه الأكراد في مرحلة ما بعد صدام ولكن لاشيء يضمن أن الأميركيين سيدرجونهم في سياق مشروعهم التغييري حتى لو كانوا حماتهم من إعتدءات قوات صدام عليهم منذ إنتهاء حرب الخليج الثانية ولن تراهن واشنطن على الأكراد في تنفيذ خطتها العسكرية والحال إن واشنطن قد جهّزت، حسبما تقول الشائعات، أكثر من 400 ضابط وعسكري عراقي من المعارضة ممن يعيشون في المنفى لأخذ زمام الأمور بأيديهم لملأ فراغ السلطة عند الإنتهاء من صدام حسين، وعلى رأسهم الجنرال نزار الخزرجي بالرغم من معرفة الإدارة الأميركية بحقيقة أن هؤلاء العسكريين لايمتلكون الشرعية الشعبية ولا دعم الشارع العراقي ولا الكفاءة والتأهيل اللازمين لإحداث التغيير المنشود خاصة وإن العراقيين لايتمنون ولايرغبون بتنصيب جنرال عسكري مكان آخر، لاسيما إذا كان هذا "الآخر" من طاقم صدام حسين ومن عناصر نظامه السابقين. ومازالت الأنظار تتجه إلى مؤتمر المعارضة العراقية الموالية لأميركا الذي تنوي هذه الأخيرة تنظيمه في إحدى الدول الأوروبية لإختيار (قرضاي العراق) الذي سيحل محل صدام حسين في حكومة مؤقتة، ولن تتمكن كردستان العراق بالرغم من تشككها من البقاء بعيدة عن الضغوط الأميركية عندما تحل ساعة الصفر.
سيناريوهات التحرك الأميركي تجاه العراق
تتعامل الإدارة الأمريكية الحالية مع منطقة الشرق الاوسط بمثابة «وحدة مشاكل متكاملة»، وهذا ما كانت عليه ايضاً ادارة الرئيس بوش الاب في مطلع التسعينيات حينما اطلقت «مؤتمر مدريد للسلام بين العرب واسرائيل» على قاعدة نتائج حرب الخليج وافرازاتها السياسية والامنية والاقتصادية.
الإدارة «الديمقراطية» السابقة تجنبت هذا الرابط بين الملفين «العراقي» و«الفلسطيني»، فقد حرص الرئيس السابق بيل كلينتون على تجميد الأوضاع عموماً في الملف العراقي مقابل تحريك واسع لملف عملية السلام بين العرب وإسرائيل، وتحديداً ملف الصراع الفلسطيني/ الإسرائيلي، وشهدت الأشهر الأخيرة في ولاية الرئيس كلينتون أقصى درجات الانغماس الأمريكي في هذا الملف. أما الإدارة «الجمهورية» الحالية فقد ابتعدت نسبياً منذ استلامها سلطة القرار في «البيت الابيض» عن الملف الفلسطيني مقابل تركيز شديد على «الملف العراقي».
واستفادة الإدارة الأمريكية الحالية من تداعيات أحداث 11 سبتمبر لكي تدفع المواجهة مع العراق إلى حالات التصعيد القصوى، كما انتقل مؤخراً الخطاب الرسمي الأمريكي عن العراق من تلميح إلى دور للنظام العراقي في احداث سبتمبر واتهامات لبغداد بتورطها في رسائل «الجمرة الخبيثة»، إلى تركيز على مسألة أسلحة الدمار الشامل، إلى الحديث مباشرة عن هدف تغيير نظام الحكم في بغداد.

النموذج الافغاني
وهذا التنقل في الخطاب الأمريكي عن العراق (وإن كانت مضامينه كلها ليست جديدة) يشير من جهة إلى عجز واشنطن عن توفير اثباتات بشأن اتهاماتها لبغداد، وبالتالي عدم تأمين دعم دولي او عربي للتوجه الأمريكي التصعيدي القادم، كما يوضح هذا التنقل في الخطاب الأمريكي حقيقة الهدف المطلوب للمرحلة القادمة بعد أن نجحت واشنطن في تغيير نظام الحكم في أفغانستان واعتقادها بإمكانية تكرار التجربة في العراق أيضا.
فالحرب الأمريكية القادمة على العراق ستصيب اكثر من غاية منشودة أمريكيا في هذه المرحلة، وهي غايات تشمل تحقيق مصالح على ثلاثة مستويات: مستوى خاص بالرئيس بوش وادارته الجمهورية في هذه السنة الإنتخابية، ومستوى خاص بالقوى الاقتصادية والعسكرية التي تدعم توجهات الادارة الحالية في تصعيد لهجة الحروب مع الخارج، ومستوى خاص بالسياسة العامة للولايات المتحدة والتي يشترك في الحرص على تحقيقها كل الإدارات مهما اختلفت هويتها السياسية. الشيء المميز للحرب الأمريكية القادمة على العراق، إنها تحمل معها «النموذج الأفغاني» دون إدراك دقيق لاختلاف الظروف والوقائع واحتمالات النتائج السلبية على أمريكا نفسها من هذه الحرب. وليس واضحاً بعد إذا كانت الإدارة الأمريكية بنية تغيير النظام فقط في العراق أم أنها بصدد تغيير الخرائط الجغرافية لمنطقة الشرق الأوسط التي وضعها البريطانيون والفرنسيون بعد الحرب العالمية الاولى. فالعراق كيان مركّب من مزيج متنوع من الطوائف والأعراق القومية، وستكون أحداثه الداخلية القادمة شديدة التأثير على الدول المجاورة للعراق. ولن تكون تطورات الأوضاع في العراق بمنأى عن التدخل الإسرائيلي المباشر وغير المباشر في ظل حكومة شارون الذي نادى بتغيير خرائط المنطقة منذ أواسط السبعينيات، كما طالب أكثر من مرة بأن يكون الأردن هو «الوطن الفلسطيني البديل».
سيناريو المشروع الأمريكي المفترض للمنطقة العربية: في إطار الرؤية الأمريكية الشاملة لها، هو كما يلي: ـ سعي الإدارة الأمريكية إلى تحريك عملية السلام بين العرب وإسرائيل وتجميد الأوضاع الأمنية الساخنة في ملف الصراع الفلسطيني/ الإسرائيلي. ـ بدءاً تنفيذ «صيغة ميتشيل» ثم المماطلة الإسرائيلية في تنفيذ الاتفاقات مع الفلسطينيين وتأجيل القضايا الكبرى (القدس وقضية اللاجئين) لتمهيد الطرق أمام حل مشكلة القدس من خلال صيغة علاقة مع الأردن، وحل مشكلة اللاجئين من خلال صيغة علاقة مع العراق!. ـ بعد إعلان «الدولة الفلسطينية» التي عليها ـ لكي توافق أمريكا وإسرائيل على الاعتراف بها - أن تتحد مستقبلاً مع الأردن في إطار «اتحاد فيدرالي»، وفي ظل الالتزام الكامل بالمعاهدات مع إسرائيل، والتي نصّت أصلاً على تنسيق خاص بين إسرائيل والأردن والسلطة الفلسطينية.
ـ السعي لاتفاق إسرائيلي مع سورية ومع لبنان. ثم بعد الاتفاقات مع سوريا ولبنان وتوقيعهما لمعاهدات سلام مماثلة لما هو موجود حاليا مع مصر والأردن، يسقط مبرّر الاعتراض القائم عند بعض دول الخليج العربي عن إقامة العلاقات مع إسرائيل أو التطبيع معها.
ـ إحياء مشاريع الشرق أوسطية كلّها (اقتصاديا وتجاريا وماليا) بين إسرائيل والعرب، وعقد مؤتمر اللجان المتعددة للتطبيع المؤجل حتى الآن. ـ إحراج الموقف الإيراني بعد الاتفاقات مع سورية ولبنان (ماذا سيكون موقف إيران في حال الاتفاقات بين سورية ولبنان وإسرائيل ثم خطوات التطبيع مع الدول العربية؟..).
ـ يرافق الخطوات الواردة أعلاه تحريك الوضع العسكري الداخلي في العراق (خاصة في الشمال) وبدء مرحلة من الصراع الداخلي المسلح ليكون الحل لمستقبل العراق هو «اتحاد هاشمي» مع الأردن (المتحد مع السلطة الفلسطينية تحت مظلة «الاتحاد الكونفدرالي»).. وطبعاً على أساس الاتفاقات القائمة مع إسرائيل، ممّا سيؤدي إلى «حل» المشكلة العراقية على طريقة الصيغة الأمريكية. ومع هذه الخطوة يمكن أيضاً «حل» مشكلة اللاجئين الفلسطينيين من خلال توطينهم داخل العراق والأردن باعتبارهما أرضاً مشتركة مع «الدولة الفلسطينية» في إطار «الاتحاد الكونفدرالي»! وربما يسير تنفيذ السيناريو تبعاً لما قاله المدير السابق لوكالة المخابرات الأمريكية جيمس وولسي Woolsey) في برنامج Crossfire على محطة CNN (16/11/1998) الذي أشار إلى إمكان إعلان حكومة عراقية في المنفى وجعل كل سماء العراق منطقة محظورة الطيران، وأيضاً جعل مناطق الشمال والجنوب مناطق محظورة على السيارات العسكرية إضافة إلى كونها الآن محظورة على الطيران، وأشار أيضاً إلى إمكانية أن تتولى المعارضة العراقية في الشمال والجنوب بيع النفط الموجود في أراضيها لدفع ثمن السلاح الذي تحتاجه، وإطلاق اسم «المناطق المحررة» على الأراضي التي تستولي عليها المعارضة بدعمٍ أمريكي... وبأنّ ذلك كلّه سيؤدي إلى إضعاف النظام العراقي دون اضطرار أمريكا لإرسال أيّة قواتٍ للأراضي العراقية.
ما ذا يعني كلّ ذلك؟ صحيحٌ أنّ النظام العراقي استمر في الحكم طوال السنوات الماضية بفعل قوة قهره الداخلي ورفضه الاستقالة وتحمل مسؤولية الدمار الذي ألحقه بالعراق والكويت وجواره العربي وبالمنطقة العربية عموماً، لكن ما ساعد على استمرار هذا النظام أيضا هو سماح الحكومة الأمريكية له عام 91 باستخدام الطائرات المروحية التي قمعت انتفاضة العراقيين في الجنوب والشمال عقب انتهاء الحرب، تلك الانتفاضة التي حدثت تزامناً آنذاك مع دعوة الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش لتغيير النظام العراقي. وكان ذلك الموقف الأمريكي محيّرا للجميع في تلك الفترة.
ثم استطاعت أمريكا - بسبب استمرار النظام العراقي ومن خلال الحصار الذي استمر طيلة السنوات الماضية - أن تبرّر وجودها العسكري الكثيف في المنطقة وأن تفرض الحاجة الأمنية لها، وأن تزيد طبعاً في إضعاف العراق كدولةٍ وكشعب دون أن يؤدي ذلك إلى إضعاف الحكم الذي أرجع مصائب أعماله كلّها إلى الحصار المفروض على العراق بشكلٍ منع حتى من إمكان الانتفاضة الشعبية بالداخل على اعتبار أنّ المسؤول عن مآسي الجوع والدمار هو الخارج فقط وليس نظام الداخل أيضاً.
تهيئة الوضع في العراق
ولتحقيق هذا السيناريو، فان مراحل عديدة قد تهيّأت، لكن يبقى الآن تهيئة الوضع في العراق من خلال الآتي: قد تبدأ العمليات العسكرية في إطار المواصفات التي تحدّث عنها المدير السابق للمخابرات الأمريكية مع شبكة CNN: ـ إعلان حكومة في المنفى. ـ إعلان مناطق محررة (في شمال العراق). ـ السيطرة على منابع للنفط وتصديره عبر تركيا لشراء أسلحة. ـ إضافة حظر إستخدام السيارات العسكرية العراقية في المناطق المحظور فيها إستخدام الطائرات.
ـ احتمال اختيار الشريف علي (ابن خالة الملك فيصل الثاني الذي كان يقود العرش الهاشمي للعراق والأردن حتى عام 1958) ليكون رئيس «حكومة المنفى» لاعتبار أنّه الحلّ الوسط الضعيف بين قوى المعارضة المتصارعة، ولأنه - كما يقول هو - وريث العرش الهاشمي الآن. والشريف علي مقيم في لندن ويتحرك منذ فترة تهيأةً لهذا الأمر باسم «الحركة الملكية الدستورية».
ـ التشجيع لقيام إنتفاضة جديدة في جنوب العراق، وعدم السماح لإيران بالتدخل فيها (ربما يفسر هذا إدراج أمريكا لإيران في «محور الشر» بهدف عزلها عن التطورات الممكنة في العراق). وسيكون ذلك مساهماً من جهة في محاصرة النظام في منطقة بغداد وبتفسيخ الكيان العراقي عملياً وسياسياً، كما سيؤدي ذلك، من جهة أخرى، الى تبرير التعزيزات العسكرية الأمريكية في الخليج ومضاعفة المخاوف العربية والدولية من تطورات الوضع في العراق.
من الطبيعي ـ في ظل إحتمالات هذا السيناريو ـ أن يستمر نظام صدام حسين على وسط بغداد، وسيأخذ صراعه مع منطقة الشمال خصوصاً، طابع الحرب الأهلية التي لا يعود هناك ضرورة بعدها للحديث عن الحصار على العراق، باعتبار وجود «مناطق محررة» تحارب النظام في بغداد وتتصل جغرافياً مع الأردن وتركيا وتستفيد من آبار النفط الموجودة في أراضيها. وسيكون المنطق الرسمي الأمريكي حينها: إذا أراد باقي العراق (غير الشمال) الخروج من الحصار فعليه الانضمام للمناطق المحررة ولحكومة المنفى!.
وهنا الإحراج مرة أخرى لجنوب العراق وكيف سيتعامل مع هذا الوضع بما فيه من اعتباراتٍ كثيرة.
ولأنّ الأمر سيأخذ وقتاً من الحرب الأهلية الداخلية (حسب إفتراض هذا السيناريو الأمريكي)، فإنّ النظام العراقي سيبقى حاكماً لفترة على وسط بغداد وربما جنوبها لمرحلة، وبالتالي سيكون مبرراً استمرار الحشود العسكرية الأمريكية والحاجة اليها في منطقة الخليج، لأنّ الأخطار ستزداد في الاحتمالات كلّها. وطبعا فإنّ سورية خارج إطار هذا الصراع وتفاعلاته، وقد جرى توقيع اتفاق تركي معها يمنع تدخلها بالشأن الكردي عموماً، وهي لن تستطيع أن تكون مع «حكومة المنفى» ولا طبعاً مع نظام صدام حسين! (ربما أيضاً يفسر هذا عدم إدراج أمريكا لسورية في «محور الشر» بهدف تحييدها عن التطورات الممكنة في العراق).
في الأحوال كلّها، سيكون واقع حال العراق شبيهاً بما حصل في لبنان في الثمانينيات بعد الإجتياح الإسرائيلي: حكومة مركزية ضعيفة لكن مستمرة، وقوى عسكرية عديدة متداخلة ومتصارعة في المناطق الأخرى. أي كانتونات عسكرية على الأرض في ظلّ شعارات «الحفاظ على وحدة الأرض والسيادة والتحرر».
ترتيبات مشبوهة
لقد أدّى النظام العراقي دوره كما ينبغي وقدم خدمته الكاملة (بقصدٍ أو بغير قصد) للولايات المتحدة قي ثلاثة عقود متتالية، وربما حان الآن الوقت الأمريكي لإحالته على «التقاعد» لسببٍ أو لآخر.. أليس هذا ما حدث في باناما مع الجنرال نورييغا في مطلع التسعينيات ؟! وتجد الإدارة الأمريكية مصلحة في ترتيب بناء واقع جديد في منطقة الشرق الأوسط - لا يُغّير كثيراًمن طبيعة الحدود والكيانات - لكن يقوم على اتفاقات ومعاهدات بين إسرائيل والدول العربية، بحيث تكون التكتلات الإقليمية وصيغ العمل المشترك، مسموح فيها بمقدار ما تساهم فيها إسرائيل وبما يحقق ويضمن المصالح الأمريكية.
وستكون من نتائج هذا الواقع العربي المنشود أمريكياً، إقامة محور إسرائيلي مع الأردن والسلطة الفلسطينية (و«حكومة العراق الجديد» مستقبلاً)، إضافة للمحور الإسرائيلي/ التركي القائم حالياً، مما سيفرز مشاريع اقتصادية مشتركة كمدّ أنابيب للنفط من العراق لإسرائيل عبر الأردن، وكإقامة قناة مائية من البحر الأحمر للبحر المتوسط ثم من البحر الأحمر إلى خليج العقبة ممّا يضعف الحاجة لدور قناة السويس.
إن المنطقة العربية تعيش الآن مرحلة انتقالية هامة، وهي مستهدفة في إطار مشاريع صيغ أمريكية مصحوبة بدور إسرائيلي بارز، وليس بالتعامل مع رؤية عربية مشتركة، فعسى أن تتدارك الجامعة العربية ما هو حق يملكه العرب ولكنهم لم يحافظوا عليه كالرجال.
يضيف أمر الرئيس جورج بوش لوكالة المخابرات (سي. اي. ايه) بتنفيذ خططها لاغتيال الرئيس العراقي صدام حسين حلقة جديدة من حلقات الخيار العسكري وسيناريوهاته المتعددة التي تكثّف الحديث حولها في الشهور الأخيرة. وبذلك يفجّر الرئيس بوش قنبلة سياسية غير معهودة لدي رؤساء الولايات المتحدة الأمريكية، في الإعلان عن جواز استهداف اغتيال أي رئيس دولة في العالم بواسطة وكالة المخابرات، حيث كان الطابع سرياً في أواسط القرن الماضي، وهو إعلان يأتي إلي جانب الإعلان عن خيارين آخرين لم يسبق للولايات المتحدة اعتمادهما، وهما: جواز استخدام الأسلحة النووية في مواقع الدول التي يمكن اعتبارها تشكل خطراً علي المصالح الاستراتيجية الأمريكية، وإمكانية تنفيذ الضربات العسكرية الوقائية ضد أي بلد آخر. وعلي الرغم من أن تسريب نشر الخبر المذكور وترحيب بعض أعضاء الكونغرس من الحزبين الجمهوري والديمقراطي به، وتشكيك البعض الآخر بعدم قدرة مثل هذا الخيار علي تحقيق هدف تغيير النظام القائم في العراق، قد يحمل جانباً من جوانب الحرب النفسية الأمريكية الموجهة ضدّ الرئيس العراقي، لافتراض أن تكون مثل تلك المهمة الخطيرة ذات طابع سري ترتكز علي المفاجأة، فإن هذا الاعلان من جانب آخر قد يشير إلى محاولة التمويه على تفضيل سيناريو الغزو العسكري البرّي الواسع اللاحق للضربات الجوية المتواصلة، وبالاعتماد علي قوات محلية أرضية من مجموعات قتالية كردية أو عربية والذي عبرت عنه خطة (داوننيج) وهي خطة لا يرجح لها النجاح كلياً، أو الخطة المعدّلة المقدمة من (تومي فرانكس) التي لا تعتمد على تلك القوات المحلية لعدم قدرتها وفعاليتها مثلما توّفر لقوات (التحالف الافغاني الشمالي). في حين ان رئيس المخابرات الأمريكية (جورج تينيت) كان واقعياً في عرض نسبة نجاح خطط مؤسسته أمام رئيسه (10 ــ 20%) ويعتقد بأن مثل هذه الخطط يجب أن تقترن بحملة عسكرية واسعة، وقد يكون سبب ميله الي التعريف بدقة احتمالات النجاح، ما يواجهه حالياً من حملة ظهرت بين أعضاء الكونغرس تدعو إلي اقصائه عن منصبه بسبب عدم قدرة المخابرات علي إبطال تفجيرات الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) الماضي.
تقويض الشيوعية
وإذا كانت وكالة المخابرات الأمريكية قد استعادت أدوارها المفقودة في إزاحة الحكومات واقتناص الزعماء ورؤساء الدول منذ العقود الأولي والمتوسطة من القرن الماضي، بعد الحرب العالمية الثانية تحت هدف تقويض الشيوعية ومنعها من الدخول في بلدان عالم أمريكا اللاتينية بعد ضياع الجزيرة الكوبية وتحكم زعيمها الشيوعي (كاسترو) بالسلطة لحدّ اليوم، وأمثلتها المعلنة (إسقاط رئيس الوزراء الإيراني مصدّق عام 53) حيث كان لوكالة المخابرات الأمريكية الدور القائد في تلك العملية التي لا يمكن وصف نتيجتها بالنجاح الباهر لأن مصدّق كان الشخص الثاني للحاكم الأول (الشاه بهلوي) والذي طلبت منه (سي. اي. ايه) إصدار أمر إقصائه من الحكومة، واستخدمت شقيقة الشاه (شرف) لهذا الغرض. وكانت ساحة أمريكا اللاتينية مسرحاً لاغتيالات الزعماء السياسيين ورؤساء الحكومات، تحت عنوان (مكافحة الشيوعية) وإشاعة الحروب الأهلية مثل (عمليات القتل الجماعي داخل غواتيمالا، وإغتيال الرئيس الشيلي المنتخب (آليندي) بواسطة الجنرال (بينوشيه) الذي كوفئ بتنصيبه حاكماً دكتاتوراً لمدة تزيد على العشرين عاماً، وإنشاء ودعم قواعد (الكونترا) ضد الحكومة الشرعية في نيكاراغوا، وقتل الثائر (جيفارا) في أدغال بوليفيا، والمحاولات المتواصلة لاغتيال الزعيم الكوبي أوالتآمر بغية إطاحة كاسترو منذ أربعين عاماً) في حين أن تجربة وكالة المخابرات الأمريكية في العراق خصوصاً بعد تسلم حزب البعث للسلطة عام 68 ظلت تقتصر حسبما يشاع حولها على دعم المؤامرات المحلية لانقلابات مزعومة. والحدث العلني المؤشر الذي ارتبط باجتياح قوات الجيش العراقي لمنطقة كردستان عام 96 هو ازاحة وتدمير نقطة لوكالة المخابرات الأمريكية تم إنشاؤها هناك للمساعدة في عمل إنقلابي عسكري سواء بقيادة المؤتمر الوطني بزعامة أحمد الجلبي الذي خذلته فيما بعد في تنفيذه حسب ما أعلن هو ذلك أو عبر انقلاب ينفذه الوفاق الوطني بقيادة أيد علاوي الذي وشت به المخابرات لدى صدام على نحو سري لأنهم لم يتم وفق جدولهم الزمني.
لكن تحميل الرئيس بوش لوكالة المخابرات (سي. اي. ايه) لمسؤولية اغتيال الرئيس العراقي صدام حسين، يزيح عن كاهله ثقل ما تقدمه السيناريوهات العسكرية الأخرى من نسب معينة لاحتمالات التضحية بأرواح الجنود الأمريكان لتحقيق هدف قد لا يتمكن الرئيس بوش من ايصاله وفق أساليب الحشد والتعبئة إلي مستوي تعريض المصالح الأمنية الأمريكية المباشرة للخطر، فإنه قد جاء كذلك نتيجة للتوازن ما بين أطراف الفريق الرئاسي المتمثلة بجناحي التطرف الداعية للتعجيل بالضربة العسكرية الموسعة ويمثلها وزير الدفاع (رامسفيلد ونائبه وولفوفيتز ومسؤولة الأمن القومي كونداليزا رايس)، والجناح الداعي إلي تفعيل المسارات الاقتصادية والسياسية الديبلوماسية والأمنية لتحقيق غرض إزاحة النظام العراقي القائم علي قاعدة (تقديم كلف مادية عالية مقابل كلف بشرية واطئة أو معدومة) وأكثر من يمثله وزير الخارجية (كولن باول) وطاقمه الديبلوماسي، وبعض الخبراء والمستشارين من خارج الوزارة. وعلي الرغم مما يبدو على هدف التغيير بواسطة الاغتيال عبر وكالة المخابرات مباشرة من جاذبية وارتياح لدي الكثير من الأوساط السياسية العراقية والإقليمية لكونه يجنب العراق الخسائر البشرية والمادية الواسعة، ويمنع وقوع تداعيات تعرض الوحدة الاجتماعية العراقية وأمنها للخطر، لكنه لن يكون خياراً سهلاً عند التنفيذ. وليس بإمكاننا إصدار اجتهادات وأحكام مطلقة إلا في جانب التحليل والاستنتاج السياسي العام، أما التفصيلات اللوجستية والأمنية التي تهتم بالمفاجأة والمباغتة والمخادعة وطبيعة المعلومات وكثافتها فهذا خارج عن قدرتنا في الوقت الحاضر، ولا نتوقع تمكن حتى ذوي الاختصاص العسكري الاستخباري من خارج الدوائر الأمريكية الجزم بأحكام تلك السيناريوهات والمخططات. كما ان مثل هذه المسؤولية لوكالة المخابرات الأمريكية لا يمكن ان تكون قد ابتدأت بعد إعلان الرئيس بوش، فلا بدّ إن شبكاتها المعلوماتية الأرضية البشرية والتقنية داخل العراق وخارجه، قد تمّ مدها منذ فترة ليست قصيرة خصوصاً في مجال التعاون والتنسيق مع أجهزة مخابرات دولية وإقليمية لديها مصالح وأهداف أمنية داخل العراق، وفي مقدمتها جهاز (الموساد) الإسرائيلي الذي أعلنت الصحافة أكثر من مرّة عن تدريباته لفرق كوماندوز خاصة بالتحضير لعمليات اغتيال الرئيس العراقي. ولعل نجاح مثل هذه المخططات سيرتبط بعوامل كثيرة من بينها (الصدفة وقدرة الاستهداف والرصد والمتابعة ودقة المعلومات الأرضية ودرجة علاقاتها بفرق العمليات الاستخبارية)، فيما إذا تمّ تنفيذ هذا الخيار من دون حملة عسكرية جوية متواصلة وواسعة، تستهدف قواعد ومراكز الاتصال والتحكم، وما يمكن أن تشيعه من فوضي وتشتيت.

خيارات عسكرية
إن تقليل رئيس وكالة المخابرات الأمريكية من فرص نجاح الخيار المخابراتي لحدود نسبة العشرين في المائة، يعني احتمال التركيز علي خيار الضربة العسكرية الموسعة، وهو ما يتطلب توفير مستلزمات الحشد السياسي الدولي والإقليمي الذي لا يمكن لإدارة بوش من تجاوزه والذي يواجهه حاليا عقبتان رئيسيّان:
أولهما: نقل أزمة الصراع العربي الإسرائيلي من مستنقع العنف الدموي إلي ساحة الحوار والمفاوضات السياسية، وتأتي خطة بوش الحالية للتسوية لهذا الغرض علي الرغم مما أثارتها في خطوطها النظرية والسياسية من انحياز لصالح إسرائيل وتلبية لرغبات اللوبي الصهيوني الذي كان جورج بوش بحاجة إلى دعمه في الانتخابات التشريعية التي جرت في شهر كانون الاول (ديسمبر) والانتخابات الرئاسية القادمة بعد عامين، ومن دعوة واضحة لاستبدال قيادة ياسر عرفات مما خلق حالة من التشتت داخل الوسط السياسي الفلسطيني، وما خلقته من ارتياح بين الأوساط السياسية الإسرائيلية الحكومية والحزبية، وهو أمر حتى لو افترضت فيه الفعالية والتقدم فسيأخذ وقتاً لا يقل عن عام.
الحرب علي الإرهاب
ثانياً: علي الرغم من أن الإدارة الأمريكية تدير الصراع حالياً تحت لافتة (الحرب علي الإرهاب)، وتدمير ومصادرة ومنع انتشار أسلحة الدمار الشامل، الأمر الذي يتطلب وفق إعلانات الرئيس بوش للشعب الأمريكي (نقل المعركة من حالة الدفاع عن النفس إلي مواقع العدو) ويعتبر ذلك قاعدة شرعية للدخول بأية حرب جديدة ضد أيّة دولة، والعراق في مقدمتها، فإن الرئيس الأمريكي بحاجة إلي تقديم بيانات جدّية لحلفائه وأصدقائه حول توّرط العراق بعلاقات ميدانية تآمرية مع شبكة (القاعدة) أو غيرها. وما زالت هناك شكوك لدي بعض الحلفاء الأوروبيين مثل فرنسا وألمانيا ودول كبري مثل روسيا والصين حول ذلك. أما أصدقاء الرئيس الأمريكي من العرب، فحالتهم في غاية الحرج، وهم لا يفضلون الخيار العسكري الأمريكي الذي سيعرض العراق وبلدانهم إلي مخاطر أمنية جدّية، فقبولهم سيعني تحوّل بلدان بعضهم إلي معابر أو قواعد للإمدادات الحربية الأمريكية والتي سيعني استمرار وقتها المرهون بالوقائع المجهولة، إلي حدوث نقمة شعبية واسعة قد تعرض علاقات سلطات الحكم في تلك البلدان إلي الشرخ، تضاف إلي حالة اليأس والخيبة العامة بسبب القضية الفلسطينية. فلا يمكن تجاهل ان العرب كتلة بشرية تجمعها صلات وروابط قومية ودينية، يقع العراق في مركزها، لا يمكن وضعها في إطار المشاعر العامة مثلما حدث تجاه حرب افغانستان، ولا يمكن مقارنتها زمنياً بحرب إزاحة القوات العراقية من الكويت عام 1991. إن ترجيح الخيار العسكري يعيد دائرة الجدل إلي مربعها الأول حول مدى قدرة أي من السيناريوهات علي النجاح، ما يضاف إلي ذلك تأثير حالة الغموض والتلون والارباك التي سيطرت علي تعامل الإدارة الأمريكية الحالية وأوساط القرار السياسي، مع الجماعات العراقية المعارضة المرتبطة بها، فبالإضافة إلي ما تعنيه مراهنة الرئيس الأمريكي علي دور وكالة المخابرات (سي. اي. ايه) من تأكيد على ان (قانون تحرير العراق) لم يصمم لمساعدة الفئات العراقية المعارضة للقيام بالتآمر على السلطة القائمة في العراق، وإنما جاء لأغراض تعامل مؤسسات العلاقات العامة في الكونغرس والخارجية بالمسألة العراقية، وان المخابرات الأمريكية تعود إلى المقدمة في تقرير الشأن العراقي، وهذا سيضعف أدوار بعض من لهم رأي في مسؤولية هذه الوكالة، كما ان السياسة الأمريكية الغامضة قد وضعت تلك الجماعات في حالة من الدوار السياسي فلم يصبح بعضهم يعلم ماذا يريد الأمريكان حقيقة.. فقد أوصلت بعضهم إلي سلم عال من الحلم في رئاسة العراق لمستوي يفوق ما تحقق (لكرزاي) ودفعت بالبعض الآخر لأن يتجمع تحت لافتة (الفتنة الطائفية) وهي لافتة غير معهودة في مجمل تاريخ العراق السياسي، أملاً في المكاسب المقبلة، ولم يفتح الأمريكان المعنيون في الملف العراقي عيونهم نحو حقيقة الواقع السياسي الوطني العراقي، والذي سيفرض نفسه في نهاية المطاف. كما تجاهلت الشعب العراقي المغيّب عن مجمل المعادلة.
لا يمكن التشكيك بقدرة المخابرات الأمريكية على تحقيق ما تهدف إليه.. ويبقي للزمن ومداه والوسائل والأدوات لتحقيق هذا الهدف، وطبيعة المقاومة لهذا المشروع وقدرتها عناصر مهمة في نجاح ذلك، وهل سيظهر جنرالات من الداخل يلعبون لعبة السلطة في العراق..؟
امكانيات اكبر
المؤشرات العامة تقول ان المزج ما بين خيار (الرصاصة المخابراتية ـ أي الاغتيال الجسدي) والضربات العسكرية المحدودة سيكون أكثر السيناريوهات إمكانية وقدرة في التنفيذ، ومعني ذلك لن يكون هناك سيناريو (أفغنة أو كرزاي) في العراق. ماكان يدعو إليه الرأي العام العالمي هو تجنيب الشعب العراقي كوارث حرب عسكرية واسعة.. لا يعرف ماذا سيستخدم فيها من أسلحة قتل وتدمير، وقد يصبح العراق ساحة لأبشع حرب جرثومية وبيولوجية أو نووية.. حينما تخرج من إطار الحرب الخاطفة وتتحول فيها الإرادات إلي درجة من التنازع يفقد خلالها المتصارعون القدرة علي التحكم، أو محاولة الحفاظ علي الوجود.. وان تعود القضية العراقية إلي موقعها الطبيعي، خصوصاً في شأن السلطة إلى العراقيين أنفسهم لكونهم وحدهم القادرين علي تقريرها، وتخليص بلدهم مما هم عليه من ظلم ودكتاتورية واستبداد، وحصار بشع، نحو نظام ديمقراطي متعدد، أما إذا أراد الآخرون معاونتهم بعد أن يأتلفوا في إطار وطني واضح المعالم والأهداف، فهذا أمر آخر، إذ لايجب أن ننسى حاجة الداخل العراقي ونفسية الشارع العراقي المستعد لعقد صفقة فاوست مع الشيطان للتخلص من نظام حكم صدام حسين.
من هنا يذهب المراقبون الي أن العد التنازلي للضربة الأمريكية للعراق أصبح في تسارع واضح وخطير، والرئيس الأمريكي لا زال يردد أنه مصمم علي إسقاط نظام الرئيس العراقي صدام حسين، مخاطباً العالم أن يؤيده في مهمته لأن (نظام صدام حسين دكتاتوري، بقيادة رجل خطير على من حوله) حسب تعبير الرئيس الامريكي يشاركه في ذلك رئيس الوزراء البريطاني توني بلير ونائب الرئيس الأمريكي ديك تشيني بقوله (إطاحة صدام هدفنا ومفتشو الأسلحة ليسوا القضية)، وزادت على ذلك مستشارة الأمن القومي كونداليزا رايس قائلة (يجب إطاحة الرئيس صدام حسين، حتي لو سمح بعودة المفتشين). كل هذا حفّز رجل الإدارة الأمريكية (الحمائمي) وزير الخارجية كولن باول الى أن يتحول الي (صقر) ويقول (العراق بحاجة الي قيادة جديدة بغض النظر عما اذا كان صدام سيسمح بعودة المفتشين الدوليين الى بلاده ام لا).. ناهيك عن تصريحات وزير الدفاع الأمريكي دونالد رامسفيلد العدائية والاستفزازية الصريحة بالحرب.
ولو دققنا في هذه التصريحات لوجدناها تصب في الحرب النفسية المتناغمة مع صعود وتيرة (الصقرنة) داخل الإدارة الأمريكية يقابله اضمحلال في وتيرة النغمة (الحمائمية). لنكن صريحين، إن الإدارة الامريكية ليست بصدد إنقاذ العراق والعراقيين، كما تدعي أحياناً، لكن لها أسبابها التي تتعلق بخوفها من أن تتسرب الأسلحة الكيميائية والبايولوجية العراقية المفترضة الي منظمات إرهابية لن تتأخر في ضرب المصالح الأمريكية والغربية بها، كما إن الرئيس الأمريكي جورج بوش يحاول أن يثبت للناخب الامريكي أنه لا زال علي وعده الذي قطعه أثناء حملة الانتخابات الامريكية. الى ذلك، فإن عملية التصعيد والتسخين من قبل الرئيس بوش وإدارته رسالة قوية وواضحة الي الكونغرس الامريكي الذي شهد انتخابات مهمة في الأشهر القليلة المقبلة، وتحقق نجاح الرئيس وإدارته عندما صفق له الجميع علي خطته التي تجيز اغتيال الرئيس العراقي.
تفاصيل سيناريو الضربة
هناك إشارات في بعض تصريحات صناع القرار تؤيد ان الضربة قادمة وبشكل مفاجئ، حيث سيكون هناك اجتياح أمريكي للعراق علي غرار ما حدث لليابان وقريب من سيناريو ألمانيا ابان الحرب العالمية الثانية، وهي علي مراحل: أولاً: ستستعمل الطائرات المقاتلة والقاصفة، ومن مختلف الاتجاهات، منطلقة من القواعد الأمريكية في تركيا، جورجيا، رومانيا، بلغاريا، الخليج وبحر العرب، ومن حاملات الطائرات الأمريكية الراسية في المياه الدولية سواء كانت بحاراً أم محيطات، وذلك لضرب مراكز الاتصالات والمطارات ومخازن الأسلحة، ومحاولة عزل العاصمة بغداد تماماً ومن مختلف الاتجاهات لعزل القيادة العراقية وتضييق الخناق عليها ومن ثم إعطاء الفرصة لوحدات الجيش خارج العاصمة لفك ارتباطها بالنظام ومن ثم التمرد والسيطرة علي الوضع والشارع تماماًً. ثانياً: يلي ذلك قصف بصواريخ كروز وتوماهوك موجه بشكل رئيس من البارجات الامريكية والدول المتحالفة معها، وذلك لضرب البنية التحتية والعددية التابعة للحرس الجمهوري وجهاز الأمن الخاص والأجهزة الحساسة الأخرى، ناهيك عن قطع الجسور الساقطة فنياً وهندسياً منذ عاصفة الصحراء عام 1991.
ثالثاً: إنزال جوي للقوات الخاصة الأمريكية والقوات الخاصة المتحالفة معها، وذلك للتمركز في الاماكن الحساسة والعالية مع تزامن الزحف البري للقوات الامريكية والقوات الحليفة الاخرى ومجاميع لقوات المعارضة العراقية التي سيكون نصيبها الإعلام، منعاً للكلام واللغط الذي سيحدث من دول وشعوب عربية وإسلامية. رابعاً: تقوم الولايات المتحدة الامريكية بتفكيك أسلحة الدمار الشامل العراقية وإتلافها إذا ما عثرت عليها وكانت موجودة بالفعل، ومن ثم البحث عن المخازن الأخري لكي يتم تدميرها، وعند التأكد أن العراق أصبح نظيفاً من أسلحة الدمار الشامل يتم الانتقال الى النقطة الخامسة حيث يتم اختيار حكومة عراقية بديلة وجديدة، مع شرط وجود المستشارين الأمريكيين، على الأقل في السنوات الخمس الاولى من عمر الحكومة الجديدة، وذلك لطمئنة الحلفاء العرب، ومن ثم لتدريب الحكومة الجديدة. بعد ذلك تقوم الولايات المتحدة الامريكية بالخطوة التالية:
سادساً: عقد معاهدة طويلة الأمد بين الولايات المتحدة الامريكية والحكومة العراقية الجديدة، علي غرار المعاهدة اليابانية الامريكية ابان الحرب العالمية، تنص على منع العراق من تصنيع أسلحة الدمار الشامل، والأسلحة بعيدة المدى، وهذا ما تريده اسرائيل، ودول مجاوره للعراق ومحاولة تأمين وجود قواعد عسكرية أمريكية في العراق.
من هم الحلفاء الجدد للسيد بوش الابن؟
أطلقنا تعبير حلفاء بوش الابن للتفريق عن حلفاء بوش الأب الذي قاد التحالف الدولي ضد العراق في عام 1991، وهم، أولا: دول من أوروبا الشرقية، وعلى رأس هذه الدول، رومانيا، بلغاريا التي ابلغتا الادارة الامريكية استعدادهما للمشاركة في الحملة القادمة ضد العراق، وذلك من خلال موافقتهما علي فتح المجالين الجوي والبحري لرومانيا وبلغاريا، مع فتح القواعد الحربية لتكون في خدمة الولايات المتحدة الامريكية، مقابل التسريع في انضمامهما الي الاتحاد الأوروبي، وهذا ما تسعى لاجله الولايات المتحدة الامريكية، ثانيا: الحليف بدرجة امتياز هي تركيا هذه المرة، لانها عرفت كيف تضع شروطها، ولهذا من المفترض أن تشارك في الضربة القادمه نحو العراق، لتفرض نفسها ومن ثم تقول كلمتها، فتركيا جاءت علي حساب تحييد ايران من القضية العراقية ولو أن مثل هذا الافتراض غير مؤكد لوجود تردد واضح من جانب الحكومة التركية الإسلامية، بيد أن الإدارة الأمريكية تتمنى انضمام إيران للمخطط الأمريكي في العراق ولعب دور إيجابي فيه من خلال حلفائها في المعارضة العراقية ممثلين بالمجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق بقيادة آية الله محمد باقر الحكيم، ثالثا: أوكرانيا و جمهوريات اسيا الوسطي، (الاتحاد السوفيتي السابق)، مثل أذريبيجان، كازاخستان، جورجيا واحتمال الدول الباقية. لقد سمحت هذه الدول للخبراء الامريكان ان يدخلوا القواعد الجوية والبحرية، وذلك لوضع اللمسات التي تلائم سيناريو ضرب العراق، وذلك من خلال تحديث شبكات السيطرة والنظم التابعة لتلك القواعد لتكون مؤهلة لاستضافة القوات والمعدات الامريكية، وكانت اكثر الدول انفتاحا هي جورجيا(برئاسة شيفرنادزة)!. رابعا: النرويج، مستعدة للمشاركة جنبا الي جنب مع الولايات المتحدة الامريكية، وذلك جاء علي لسان وزير دفاعها السيدة (كرستين) عندما قالت( اننا سنرسل طائرات اف 16 لدعم واشنطن ضد حكومة الرئيس صدام حسين، لان لدينا جالية نرويجية كبير ة في امريكا، تقدر بعدد سكان النرويج الحاليين، وعلينا النظر في مصالحهم).
خامسا: هناك دول ابرقت للولايات المتحدة واعلمتها انها علي استعداد للمشاركة معها ضد العراق ولكن فضلت عدم الاعلان عنها لحين موعد الضربة كهولندا.
سادسا: لن يعول الرئيس الامريكي (جورج بوش) علي الحلفاء العرب، وسوف يكتفي بثلاث اواربع دول عربية، وستكون مصر في مقدمتها، وما استدعاء الرئيس حسني مبارك على عجل الي واشنطن عدة مرات الا من اجل هذا الموضوع، اي الانضمام الي الحملة الامريكية القادمة نحو العراق، مع البدء باقناع بعض الدول العربية الذي حددها الرئيس بوش،إلى جانب قطر والبحرين والكويت التي تضم قواعد وقوات وستنطلق منها العمليات العسكرية الحقيقية لكنهم جميعا رفضوا موضوع المشاركة الصريحة عدا الكويت.
ما هو دور الحلفاء العرب الذي فضلتهم واشنطن، ومن هم؟
هناك ادوار بنيت على ضوء الرفض العربي للضربة الامريكية نحو العراق، والذي تفهمته الولايات المتحدة الامريكية، ولهذا وزعت الادوار حسب الترتيب التالي: مصر: ستكون مهمتها فتح قناة السويس امام البارجات الامريكية والغربية، وحتى السفن التابعة لهذه الحملة، ومن ثم ضبط الشارع العربي وخصوصا المصري، الاعلان عن عقد قمة عربية طارئة في القاهرة بعد استكمال سيناريو اسقاط نظام صدام حسين، الغاية منها التنديد بالتواجد الامريكي والغربي في العراق وذلك لامتصاص الزخم العربي والاسلامي من جهة، ولضمان استمرار الانظمة الحليفة، بعدها ستقرر القمة الاعتراف بالحكومة العراقية الجديدة.
الكويت: ستكون مهمتها هي الاغاثة، والامداد المدني علي الاقل في الايام الاولي للحملة، وذلك لقرب المسافة الفاصلة بين العراق والكويت مقارنة مع السعودية، ولوجود مخازن جاهزة وقريبة في الكويت، لان الدراسات ترشح ان يكون النزوح كبير جدا نحو الحدود الكويتية.
دولة قطر وعمان: سيفاجئ الرئيس العراقي، بموقف دولتين حسبهما انهما الصديقان الحميمان، ولكن هاتين الدولتين ستكونان رأس الحربة في الحملة القادمة نحو العراق، ستكون قطر قاعدة الانطلاق الاولي لضرب العراق، ونقطة الامداد اللوجستي، وذلك لوجود مخازن عملاقة فيها تابعة للجيش الامريكي. اما سلطنة عمان فستكون نقطة مهمة لتبديل القطعات الامريكية والمتحالفة معها، ومقر لمراكز الورش الفنية ومستودعات التصليح والوقود، وتجمع القوات.
الكويت تسابق الزمن وايران تبحث عن موقع! كل هذه المعطيات والتي لم تكن الكويت غائبة عنها، جعل الكويتيون يسابقون الزمن للافراج عن أسراهم الموجودين في السجون العراقية، يريدون اخراجهم قبل ان يهلكوا بالقصف الامريكي او بحراب حراس المخابئ التي يحتجزون فيها، وهذا ما جعل (ايران) تلتقط طرف الخيط، فسارعت للاعلان عن استعدادها لاستضافة مؤتمر دولي يخصص لبحث قضية الاسري الكويتيين ويعقد في طهران/ ثم حث النائب الايراني (جلال موسوي) الكويت الضغط على العراق لان ايران لها خبرة طويلة بهذا النظام الذي انكر الأسرى الإيرانيين وبعد عشر سنوات تم الافراج عن الالاف منهم حسب قول النائب الايراني، توجت ايران هدة الاشارات بايفاد وزير دفاعها (الادميرال شمخاني) والقريب جدا من مرشد الثورة في ايران (علي خامنئي) وذلك في 2/5/2002 لزيارة الكويت.
اولا: لجس النبض الكويتي حول سيناريو الضربة الامريكية ضد العراق، ومعرفة الخبر اليقين من الكويتيين، هل امريكا جادة في اسقاط النظام في العراق هذه المرة. ثانيا: هناك معلومات تسربت انه عرض على الكويتيين، فتح المجال الجوي الايراني امام الطائرات الامريكية، بضمانات كويتية، بشرط ان تكون الولايات المتحدة الامريكية صادقة في نواياها اتجاه العراق، مع التعهد بتسليم اي مسؤول عراقي يفر الى الاراضي الايرانية. الكويت من جانبها قطعت الطريق علي الايرانيين، خصوصا بعد ان فقدوا جميع أوراقهم تقريبا، وبعد ان طوقوا من جميع الجهات تقريبا، وذلك من خلال ايفاد مسؤول ملف الاسرى والمفقودين الكويتيين الشيخ (سالم الصباح) الى مصر، سوريا، ولبنان، ومطالبته بعقد مؤتمر دولي في القاهرة، وليس باشراف الجامعة العربية، الغاية منه بحث قضية الأسرى الكويتين، مما أربك الإيرانيين، وزاد في خناقهم، مما جعلهم ان يقوموا بتجربة اطلاق جيل جديد من صواريخ (شهاب)، وذلك لجذب الانظار، ولرفع معنويات الشعب الايراني، ولتخويف دول المنطقة، وبحركة مفاجئة تسامحت مع الاماراتيين من خلال زيارة وزير خارجية الامارات الى طهران.
المؤشرات التي اعتمدها محللون لقرب الحملة الامريكية
اولا: الجولة التي قام بها الرئيس الامريكي (جورج بوش) الى أوروبا والتي بدأها بالمانيا، روسيا، فرنسا، ايطاليا، الفاتيكان، والتي تركزت حول الملف العراقي، وربما زيارة الفاتيكان، هي زيارة ايمانية، تذكرنا بالرئيس (بوش الاب) عندما اتصل بالكنيسة طالبا الصلاة والدعوات وذلك يوم 16/.1/1991، أي قبل سويعات من بدء عاصفة الصحراء (حرب الخليج الثانية)، هل (بوش الابن) طلب صلوات البابا لانجاح مهمته في العراق؟
ثانيا: دخول روسيا حلف شمل الاطلسي (الناتو) لتصبح العضو العشرين، مع ضمانات مصالحها في العراق.
ثالثا: استبدال الجنرال البريطاني (روجر لين) قائد القوات العاملة في افغانستان بجنرال اخر هو (جيم داتون)، والاستبدال جاء لحاجة الجنرال (لين) في مهام أخرى، وهناك معلومات تؤكد انضمامه الي الغرفة المغلقة في وزارة الدفاع الامريكية لوضع اللمسات الاخيرة لخطة اسقاط نظام صدام حسين، وذلك لأنه ذو خبرة طويلة في افغانستان، والتي تتشابه فيها الظروف الجغرافية والمناخية مع العراق، ولطمأنت الجانب البريطاني ان كل شيء يتم بالتنسيق مع بريطانيا.
رابعا: طلب كندا سحب قواتها من افغانستان، لتشترك في مهام اخرى جديدة حسب مصدر القوات الكندية، باعتقادنا لا يوجد ملف ساخن، ومهام أخرى إلا العراق، خصوصا وان القوات الكندية اثبتت نجاحها في المهمات التي أوكلت اليها، وكذلك نجاحها في التأقلم مع الظروف المناخية، وقوة الانضباط. خامسا: جولة وزير الدفاع الامريكي (رامسفيلد) في المنطقة وتصريحاته النارية ضد النظام الحاكم في العراق، وبث امنياته وتأكيداته ان الولايات المتحدة الامريكية ستنجح في ازالة صدام حسين، لتعيش المنطقة بسلام حسب قوله فالولايات المتحدة الامريكية أعدت سيناريو تغيير النظام في العراقي على نار هادئة، وسط سياسة التهدأة والتصعيد، وغض النظر عن أمور كثيرة وجدتها تخدم مصالحها على المدى البعيد، لا بل شجعتها، ومنها:
اولا: ان فتح الاسواق الحرة المشتركة بين العراق وكثير من الدول العربية جاءت بعد اعطاء الضوء الاخضر الامريكي وذلك لارضاء هذه الدول لحين يوم الشدة، ولملىء الاسواق العراقية بالبضائع والمعدات التي يحتاجها الفرد العراقي بحياته اليومية، وجدته امريكا يصب في مصلحتها، ومصلحة الدول المجاورة وخصوصا الكويت والسعودية وذلك لتخفيف عبء الاغاثة في حالة بدء الحملة الامريكية، من جانب آخر وجدت امريكا ان فتح هذه الاسواق صاحبها صيانة للطرقات والمعابر الحدودية، اضافة لصيانة وبناء المستودعات الضخمة علي جانبي المعابر الحدودية وذلك لخزن المواد المستوردة، وهذا يصب في مصلحة امريكا ويخدم حملتها المرتقبة.
ثانيا: الانتصار الاعظم هو موافقة مجلس الامن وبجميع اعضائه علي القرار المرقم 1409 والصادر في 14 آيار (مايو) الماضي والذي ينص على تعديل العقوبات الدولية المفروضة على العراق، أي ينص على عملية مبسطه وسهلة لتصدير السلع المدنية الى العراق والذي وافق علىي نصه العراق ايضا. لقد كان نصرا سياسيا ودبلوماسيا للولايات المتحدة الامريكية لان هذا القرار سوف يملأ السوق العراقية بجميع البضائع والحاجيات المدنية وهذا ما تريده امريكا لانجاح حملتها إلى جانب القرار 1441 الذي يسمح لها عملياً يشن حربها تحت غطاء دولي حسب تفسيرها هي.وبذلك فإن امريكا تجاوزت العقبة الكبري
ولا توجد عقبة حقيقية امام الولايات المتحدة الامريكية إلا روسيا الاتحادية، لهذا سعت وتسعى امريكا لإقناع الرئيس الروسي... فلاديمير بوتين.. بالمشاركة في اسقاط نظام صدام حسين، مقابل ضمانات مستقبلية لروسيا في مجال النفط، والمصالح في العراق والدول الخليجية، علما ان لروسيا ديون في ذمة العراق تقدر بثمانية مليارات دولار، وهناك تقديرات تقول بضعف هذا الرقم.
من جانبها روسيا استغلت توسل الولايات المتحدة الامريكية بها وخطب ودها وتعاونها، لتقوم بعقد اتفاقية مع العراق اخيرا قيمتها... اربعون مليار دولار... وذلك لتنفيذ...67.... مشروعا في العراق، الغاية منها هو ابتزاز الولايات المتحدة الامريكية. المصالح هي التي تحرك القادة في الولايات المتحدة الامريكية، وهذا ارث سياسي قديم، لذا سارع الرئيس بوش لزيارة موسكو، وذلك لعقد معاهدة خفض الرؤوس النووية، ولحضور حفل انضمام روسيا كعضو دائم في حلف شمالي الاطلسي، وبالتالي اصبحت روسيا تدور في فلك الناتو وامريكا، لهذا تمكنت امريكا من تجاوز عقبة مهمة جدا في طريقها الذاهب نحو تغيير النظام في العراق، القيادة الروسية اصبحت معذورة الان امام شعبها واصدقائها، بقولها انها تسير علي ضوء اتفاقيات مبرمة مع حلف الناتو/ لا يمكن المساس بها، بهذا وجدت القيادة الروسية مخرجا مريحا، كل هذا تزامن مع ايفاد.. جورج تينت.. مدير وكالة المخابرات المركزية، ومعه.. نائب وزير الخارجية الامريكي.. الى منطقة الشرق الاوسط/ وذلك لوضع اللمسات الاخيرة لاسقاط عرفات مع سقوط صديقه صدام، ولترويض شارون والطلب منه التهدأة لحين الانتهاء من موضوع العراق. هناك تصعيد في اكثر من مكان في العالم، وأهمها التصعيد الهندي الباكستاني، الغاية منه هو الهاء العالم عما يرتب ضد العراق، والذي بات شبه المؤكد ان الضربة الامريكية ستكون محصورة ما بين 20 شباط/فبراير و 20 آذار/ مارس 2003 إذ في هذه الفترة ستكون الرياح هادئة، والمناخ معتدل تقريبا أ بحيث لن يحصل انتشار واسع للاسلحة الكيميائية والبايولوجية في حالة استعمالها.
من خلال تفحصنا للأمور وجدنا ان حرب الخليج الثانية.. عاصفة الصحراء لم تنته بعد، فادوات الصراع هي نقسها، والخصوم هم أنفسهم ، والحصار لا زال مستمرا، ما السر في ذلك؟ هل هو قدر العراق ام قدر صدام حسين؟ الرئيس بوش الاب استبدل بوش الابن، ومن خلفه.. ديك تشيني.. وزير دفاع عاصفة الصحراء، وكولن باول.. رئيس اركان عاصفة الصحراء، والسيد...إدوارد شيفرنادزة... وزير خارجية الاتحاد السوفييتي السابق، ورئيس جورجيا الحالي، والذي كتب عنه، صديق الرئيس العراقي، ووزير الخارجية الروسي السابق السيد... بريماكوف... قائلا ذهبت الي واشنطن قبل حدوث عاصفة الصحراء بأيام وذلك لايجاد حل سلمي ودبلوماسي للمشكلة بين امريكا والعراق، واذا بي افاجئ ان السيد شيفرنادزة ابرق للمسؤولين الامريكيين ان لا يستقبلونني، ولا حتي سماعي، وان الذي أحمله افكار شخصية.. والان نرى ان.. شيفرنادزة.. يفتح كل شيء في جورجيا ليضعه في خدمة الامريكان لضرب العراق، هل هو رد جميل لمساندته في حكمة لجورجيا ام يريد مساعدة امريكا للقضاء على الثوار الابخاز الذين جلهم من المسلمين؟
صدام لا يسمع رأي المحللين
الرئيس العراقي يعيش الزهو كعادته خارج تطورات الواقع الدولي، لأنه يراهن على قلب الطاولة في آخر لحظة، كما حصل في فلسطين، بين.. شارون.. واجتياحة لمناطق السلطة الفلسطينية. اليوم يراهن على الصدام النووي بين الهند وباكستان، وهذه امنية لم ولن تتحقق لان هناك صمام امريكياً ـ اسرائيلياً، يمنع وصول الصراع الى مرحلة كسر العظم بين الجانبين أو يمنع الأنامل الهندية والباكستانية من الوصول الى الازرار النووية. ان التصعيد مقصود لترتيب الاوراق فقط. فما علينا الا أن ننظف آذاننا لسماع العد التنازلي الامريكي لضرب العراق، ومن ثم سنري دور الحلفاء الجدد، وهل سيكون بمقدورنا ان نعطي شهادة براءة الى الولايات المتحدة الامريكية هذه المرة، نتيجة صدقها مع الشعوب والامم، ام ستصدم هذه الشعوب وهذه الدول بكذبة جديدة تحرق الاخضر واليابس وتزيد من الكراهية اتجاه الولايات المتحدة الامريكية، وتحطم العراق وشعب العراق اكثر واكثر...وإن الأيام قادمة ستفشي جميع الاسرار.












الفصل السادس
هل بدأ العد التنازلي لنظام صدام حسين في العراق فعلاً ؟
إن العملية العسكرية المحتملة التي تهدف إلى تصفية نظام صدام حسين تتم أولاً في كواليس الإدارة الأمريكية في واشنطن. وقد ظهرت للعلن مؤخراً خلافات في التقديرات ووجهات النظر بين قطبين رئيسيين في الولايات المتحدة الأمريكية هما وزارة الدفاع " البنتاغون " برئاسة دونالد رامسفيلد ووزارة الخارجية برئاسة كولن باول، هذا عدا المترددين في الكونغرس الأمريكي وبعض رجالات الحزبين الجمهوري والديموقراطي ومسؤولين سابقين في الإدارات الأمريكية السابقة من مستوى مستشاري الأمن القومي ووزراء الخارجية وبعض رجالات الجيش والخبراء العسكريين. والجميع يطرح مجموعة من التساؤلات المشروعة والمسموح بها في إطار النظام الديموقراطي المتبع في الولايات المتحدة الأمريكية من قبيل: هل يشكل النظام العراقي خطراً حقيقياً ومباشراً على الأمن القومي الأميركي ؟ وهل يمثل خطراً حقيقياً وآنياً على الأمن الإقليمي ؟ وهل من المناسب الآن وفي هذا الوقت المحفوف بالمخاطر والتوترات الدولية، خوض تدخل عسكري من هذا النوع في حين إن السياسة التي يتبعها الجنرال آرييل شارون في الأراضي الفلسطينية، من وجهة نظر الشارع العربي ، لم تتعرض لأي نقد من جانب الإدارة الأمريكية ؟ وهل ينبغي اليوم إنهاء " حرب " لم تنته عام 1991 وإن كان ذلك مقصوداً لضرورات استراتيجية واقتصادية وسياسية وأمنية وعسكرية تخضع لمعايير تلك الفترة وبقرار من الإدارة الأمريكية ذاتها بوقف العمليات العسكرية والإبقاء على نظام صدام حسين في السلطة والسماح له بكبح وسحق الانتفاضة الشعبية التي شجعتها ودعت إليها واشنطن؟ مما لاشك فيه أن حرب الخليج الثانية لم تنته إلاّ في شكلها العسكري وتواصلت بأشكال أخرى منها الحصار الاقتصادي والحظر الجوي والمراقبة والتفتيش وتسديد الضربات العقابية بين الفينة والأخرى ضد هذا النظام الديكتاتوري.لأن سقوط النظام العراقي في ذلك الوقت كان سيخلق خللاً في المعادلة الإقليمية المبنية على هيمنة الغالبية السنية على الأقلية الشيعية في منطقة الشرق الأوسط إذ لو سقط النظام العراقي لكان بالإمكان وصول القوى السياسية الشيعية العراقية إلى سدة الحكم وتحالفها من النظام الإيراني الشيعي وكسب شيعة الكويت والبحرين ولبنان وسوريا إلى جانبهم وتشكيل محور شيعي يمكن أن يهدد الحليف الأول والأهم للولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة آنذاك بعد إسرائيل بالطبع وهو المملكة العربية السعودية، مما يهدد بجر المنطقة الشيعية السعودية في المحافظة الشرقية للمملكة الغنية بآبار النفط الرئيسية، وحثها على التمرد والإنفصال والإنضمام إلى المحور الشيعي المنشود. وهذا بحد ذاته يشكل سيناريو كارثي للعائلة المالكة السعودية ولحكام الخليج السنة كما هو حال حكام الأردن ومصر، ولا ننسى إن صدمة الثورة الخمينية لم تكن قد إختفت بعد حينذاك.
والحال إن المخاطرة السياسية والتحالفات قد تبدلت، فحصل تقارب وتنسيق بين السعودية وإيران، وشبه مصالحة بين السعودية والنظام العراقي بعد قمة بيروت العربية، وتداعيات الانتفاضة الفلسطينية، واختلاط الأوراق والاصطفافات الإقليمية والمحلية، والتقارب السوري ـ العراقي، والعراقي ـ الإيراني، الخ.. ثم يأتي حدث الحادي عشر من ايلول/ سبتمبر ليغير المعادلات كلها ويقلبها على عقب حيث تتحول العربية السعودية من الحليف الأول إلى العدو الأول لدى بعض أصحاب المشورة والرأي في الولايات المتحدة الأمريكية. من هنا يمكننا القول، عند قراءة مشروع الإستراتيجية الأمريكية الجديدة في منطقة الشرق الأوسط، إن الحرب على النظام العراقي قائمة لامحالة ـ إلاّ إذا وقع حدث غير متوقع بمستوى أحداث أيلول 2001 يحدث إنقلاباً معاكساً ـ ويتوقع شن الهجمات بشكل من الأشكال، في الثلث الأول من السنة القادمة 2003 خاصة وإن المؤشرات كلها تدل على أن وجهة نظر صقور واشنطن هي التي تغلبت على مواقف وآراء حمائم البيت الأبيض.
بعد انهيار الاتحاد السوفيتي أصبحت موسكو عاجزة عن التصدي للمشاريع والمخططات الأمريكية في المنطقة ولاتشكل قطباً مناوئاً للولايات المتحدة بل والأسوء من ذلك أصبحت تابعة لها ومعتمدة عليها اقتصادياً وغذائياً. فبدون المساعدة الاقتصادية الأمريكية تصاب روسيا بما يشبه المجاعة، وأسلحتها النووية أصبحت قديمة ومتهالكة لاتقوى على الرد على القوة الأمريكية المتطورة والغاشمة. فالتفوق التكنولوجي الأمريكية عسكرياً أصبح بديهية يعرفها الجميع ويمكن واشنطن من إتخاذ القرارات وحدها دون مشورة أو تنسيق وموافقة الحلفاء والأصدقاء الآخرين الذين لم يعد لديهم سوى الموافقة والمشاركة بشكل من الأشكال وإلاّ فالعواقب وخيمة، ولم يبق أمامهم سوى الاعتراض الشكلي أو اللفظي ليس إلاّ، وهذا ينطبق على أوروبا والصين وروسيا واليابان ودول العالم الثالث برمتها بما فيها منظومة الدول الإسلامية. أما العالم العربي فلا حول له ولا قوة سوى المماطلات والمهاترات الكلامية. ولولا قضية فلسطين والموقف الأمريكي المتحيز لإسرائيل بصورة مطلقة لما أمكن للعرب أن ينطقوا بكلمة احتجاج أو اعتراض واحدة ضد أمريكا. تواجه أمريكا خصماً ليس لديه مايخسره سوى تشبثه بالحكم الذي بات مهدداً وآيلاً إلى السقوط لذا يمكنه أن يغامر عسكرياً ويكون الباديء بالضربة إذا فقد أعصابه أو أصابه اليأس ـ بأن يضرب إسرائيل الأقرب إليه مثلاُ بأسلحة كيمياوية أو جرثومية " بيولوجية " إذا ما توفرت لديه حقاً كما يشاع اليوم ـ وبالتالي تريد الولايات المتحدة الاحتفاظ لنفسها بعنصر المفاجأة . ومن هنا يمكن توقع اختيار البنتاغون لخيار الضربات المخططة والمستهدفة لأهداف محددة بدقة متناهية ـ كضرب قوات الحرس الجمهوري ووسائل الاتصالات ومقرات الحزب ومساكن المسؤولين المقربين لصدام ومخازن الأسلحة والذخيرة ومعامل الأسلحة وخاصة أسلحة الدمار الشامل الخ ـ والتركيز على بغداد لعزلها عن باقي المحافظات التي سيسهل السيطرة عليها فيما بعد. وهذا يعني تسديد ضربات سريعة ومركزة إلى رأس النظام ولتحقيق هذه المهمة يكفي توفير وتجهيز 50000 رجل مسلح ومدرب تدريباً جيداً لمثل هذه المهمة. وبعد الإنتهاء من الضربات الجوية وعمل القوات الخاصة على الأرض يجري تأمين عملية إنتقال السلطة ووضع حكومة بديلة تضم أغلب القوى السياسية العراقية المعارضة والمتحالفة ضد نظام صدام حسين تكون مهمتها ملأ الفراغ في السلطة والتحضير لانتخابات ديموقراطية حرة، أو العكس تماماً، تنصيب سلطة مكونة من رجال هم أشبه بالدمى أو البيادق الذين تحركهم واشنطن كما تشاء وتحتل الولايات المتحدة الأمريكية العراق بقوات كبيرة تتمركز في البلاد وتقيم القواعد العسكرية المتطورة لتشكل نقطة إنطلاق قوية لزعزعة الأنظمة العربية التي لم تشارك في الحملة الأمريكية أو عارضتها، وقلب النظام الإقليمي كله على عقب بدءاً من إيران وإنتهاءاً بسوريا مروراً بالعربية السعودية ودول الخليج الأخرى التي لم تشارك في هذا السيناريو الكارثي الذي يختلف كلياً وجوهرياً عن سيناريو أفغانستان. فهذه الأخيرة دولة فقيرة ولاتشكل أهمية اقتصادية للغرب عدا كونها تقع في طريق نفط قزوين والقوقاز، في حين إن المنطقة العربية هي الأغنى والأكثر أهمية اقتصادياً لدول الغرب فالعربية السعودية والعراق يضمان أكبر احتياطي نفطي في العالم اليوم إلى جانب دول الخليج الأخرى، والولايات المتحدة الأمريكية تريد استثمار حملتها هذه للسيطرة على منابع النفط كلها ووضعها تحت هيمنتها وبالتالي وضع دول الغرب الأوروبي تحت رحمتها بما في ذلك روسيا رغم عدم حاجة هذه الأخيرة للنفط العربي.
يمكن للولايات المتحدة الأمريكية وبدون صعوبات تذكر، الاعتماد على الدعم والإسناد البريطاني لها. ولديها أساساً أكثر من 50000 رجل سيكونون متواجدين في الكويت شاءت هذه الأخيرة أم أبت، ومعهم مئات التقنيين الألمان الخبراء بالأسلحة الكيمياوية والبيولوجية (ولا ننسى إن الشركات الألمانية هي التي ساهمت وزودت النظام العراقي بالقدرات العسكرية الكيميائية والبيولوجية). أما تركيا فسوف يتم تعويضها مالياً على مشاركتها المباشرة المضمونة (رغم الإدعاءات الظاهرية بمعارضة الضربة الأمريكية) أو يمكن الاستغناء عن خدماتها إذا بالغت في شروطها، وسوف تحل قطر محل العربية السعودية كمكان لتجمع القوات الأمريكية الإضافية غير تلك الموجودة في الكويت، في قاعدة العديد تحديداً كنقط إنطلاق أخرى تؤازر وتنسق هجمات الصواريخ المنطلقة من حاملات الطائرات في الخليج والبحر الأحمر، ومن المحتمل جداً، وإن بسرية تامة، أن تقدم الأردن أراضيها وبعض تسهيلات المرور لحماية المنطقة الغربية القريبة من الحدود الأردنية ـ الإسرائيلية ومنع تواجد محطات ومنصات إطلاق الصواريخ العراقية المتحركة التي يمكن أن تهدد بضرب وإصابة إسرائيل. والآن ماهو البعد السياسي لهذا المخطط العسكري الجهنمي الذي أقره صقور البنتاغون في واشنطن ؟ يقول هؤلاء بأنه لو تم تنفيذ هذا السيناريو بدقة وبحذافيره وحقق أهدافه كاملة وبأسرع وقت وبأقل الخسائر (خاصة فيما يخص المدنيين العراقيين والبنى التحتية العراقية ناهيك عن القوات المشاركة في العمليات) فإن الأنظمة العربية المحرجة تجاه الرأي العام فيها كمصروالأردن لن تتعرضا إلى هزات وخلخلة وزعزعة إستقرارها. وسيكون النظام العراقي القادم مقبولاً وفيدرالياً وديموقراطياً لاسيما من ناحية كون العرب، السنة والشيعة، والأكراد، السنة والشيعة منهم أيضاً، وباقي المجموعات الإثنية، سوف يشاركون في السلطة في بغداد، بدلاً من تنصيب جنرال ديكتاتوري آخر عربي ـ سني يستند إلى فئة ضئيلة من السكان على حساب الفئات الأخرى التي تشكل غالبية السكان. والحال إن الحل السياسي البديل المعروض يصعب تحقيقه في ظل النسيج المتواجد حالياً من القوى السياسية العراقية المتنافرة، بل هو أصعب من تحقيق العمليات العسكرية المحددة أعلاه. إن هدف تغيير النظام ذو وجوه متعددة، فالمقصود منه بصفة غير مباشرة، تقليل أهمية النفط السعودي في موازين المعادلات الاقتصادية الدولية، وبالتالي إنهاء الدعم غير المشروط للعائلة المالكة الحاكمة في المملكة العربية السعودية، وعزل إيران وجعلها تدرك بصورة أفضل مخاطر سياستها المعادية للولايات المتحدة الأمريكية ودفعها للتفكير بإجراء تقارب جدي مع هذه الأخيرة. ومن جهة أخرى يهدف المشروع، إذا تحقق على أرض الواقع، إلى تحويل العراق إلى واجهة نموذجية للتنمية والإزدهار والتطور والديموقراطية ليؤثر إيجابياً على دول الجوار وحثها على التحول المماثل سلمياً دون إراقة دماء أوالإضطرار إلى إستخدام القوة لتحقيق التغييرات المنشودة نحو الديموقراطية والتعددية، ما من شأنه تسهيل عملية السلام في المنطقة بين العرب وإسرائيل التي سوف تندمج في هذا المحيط الديموقراطي العربي الذي تنشده واشنطن نظرياً أو علنياً كما تدعي من خلال تخصيص ميزانية لبناء وترسيخ الديموقراطية في العالم العربي حسب إدعاءاتهم الإعلامية. وهو مشروع طموح يستند إلى رؤية سياسية عقلانية يتمناها العالم أجمع، ولكن يتعين علينا أن نعرف ما إذا كان الواقع العربي الحالي قابل للتكيف مع مثل هذه المشاريع الطموحة ؟










الفصل السابع
حرب النفط الأمريكية وإعادة رسم خارطة العراق والعالم العربي
في خضم الاستعدادات الجارية على قدم وساق لتنفيذ الضربة العسكرية الأمريكية ضد العراق بغية إطاحة نظام صدام حسين تبرز إلى السطح مسألة النفط العراقي خاصة، ونفط منطقة الشرق الأوسط عامة، لاسيما وإن الخبراء النفطيون يؤكدون أن العراق يمتلك ثاني أكبر احتياطي للنفط في العالم بعد العربية السعودية إن لم يكن الأول حسب تقديرات أخرى. وهذا ما يلقي بعض الشكوك حول الأهداف الحقيقية لحملة جورج دبليو بوش وإصراره على تنفيذها مهما كلّف الأمر.
ويبرز التساؤل المشروع التالي: من سيمتلك زمام أمر إستغلال النفط العراقي بعد إنتهاء الحرب وإقصاء صدام حسين من السلطة ؟ تتدعي صحيفة الواشنطن بوست صاحبة التساؤل أن إدارة الرئيس بوش لم تدرس هذه المسألة لأن تحضيرات وإستعدادات الحرب تستنفذ جلّ وقتها وطاقتها وتفكيرها وتخطيطاتها وتتناسى الصحيفة إن ذلك أمر مستحيل، أولاً: لأن الرئيس جورج بوش ونائبه ديك شيني قادمان من الأوساط النفطية ويعرفان أهمية هذه المسألة الإستراتيجية جيداً ويحتفظان بعلاقات ممتازة مع أوساط الصناعات النفطية العالمية،
ثانياً: لأن من البديهي التفكير بأن النفط يشكل نقطة الإرتكاز الأساسية والجوهرية للإستراتيجية الأمريكية في الشرق الأوسط. فالهدف الأول لهذه السياسة هو وضع اليد بقوة على مصادر النفط العراقية الهائلة والتي تقدر بأكثر من 112 مليار برميل قابلة للتجدد وليس للنضوب. والحال إن إزاحة صدام حسين عن السلطة ووضع فريق قيادي موالي للولايات المتحدة الأمريكية سوف يشكل نعمة سماوية للشركات النفطية الأمريكية الغائبة نسبياً عن السوق النفطية العراقية التي تحتلها الشركات الروسية والأوروبية وخاصة الفرنسية منها. الأوروبيون يدركون هذه الخطورة جيداً ويعلمون إن الانتصار العسكري الأمريكي المفروغ منه سوف يفتح طريق بغداد أمام المجموعات الصناعية الأمريكية ومن بينها الشركات النفطية العملاقة لقطع الطريق على منافساتها الأوربية الموجودة في العراق. فالأولوية ستكون بالطبع للشركات الأمريكية وقد أوضح جيمس ولسلي المدير السابق لوكالة المخابرات المركزية الأمريكية سي آي أيه لصحيفة الواشنطن بوست إن الأمر في غاية السهولة وبعيد عن التعقيد قائلاً: "لدى روسيا وفرنسا شركات نفطية عاملة في العراق ولديهما مصالح مهمة في هذا البلد، وعليهما أن يعرفا منذ الآن أنه إذا ما جاء إلى السلطة في العراق نظام بديل لصدام حسين فإننا سوف نعمل ما في وسعنا لجعل هذه الحكومة الجديدة تعمل بصورة وثيقة ومتينة مع شركاتنا النفطية حصراً. وإذا تعاونت الدولتان (أي فرنسا وروسيا) معنا في إسقاط صدام حسين فسوف ننظر في مصالحهما وديونهما ونحث الفريق الحاكم الجديد في العراق على أن يأخذ ذلك بعين الاعتبار وإلاّ فسوف لن نضمن لهما شيئاً " وهذا بحد ذاته تهديد مبطن وابتزاز علني من قبل مسؤول كبير في الإدارة الأمريكية سابقاً. وقد صرح أحمد الجلبي رئيس المؤتمر العراقي المعارض لنظام صدام حسين والذي كانت تسانده وتدعمه الولايات المتحدة الأمريكية بما معناه أنه: بعد تغيير النظام القائم علينا تشكيل إتحاد صناعي نفطي (كونسورتيوم) تقوده أمريكا ليأخذ بيده عمليات إستغلال النفط في العراق وسيكون للولايات المتحدة الأمريكية الأولوية بالطبع " حسب ما نقلته الصحيفة الأمريكية. وهذا يعني تراجع مريع لبقية الشركات النفطية العالمية الكبرى العاملة في هذه السوق النفطية الإستراتيجية الآن. وكانت صحيفة البايس الإسبانية قد أشارت إلى أن هناك شركات روسية هي لوك أويل وسلافينيفت، وشركات فرنسية هي توتال وفينا ألف، وشركات هندية وصينية وإيطالية وجزائرية وفيتنامية، قد وقّعت إتفاقيات وعقود إستثمار وإستغلال للنفط العراقي كان من المفترض أن تدخل حيز التنفيذ بمجرد رفع الحظر النفطي المفروض على العراق منذ عام 1990. وتعتقد الصحيفة المدريدية إن يد جورج بوش هي التي تقف وراء تصريح هذا المسؤول في المعارضة العراقية حيث إن الرئيس الأمريكي يستخدم النفط في معادلة "العصا والجزرة" بمثابة الجزرة التي يقدمها لحلفائه الأوروبيين المترددين والمتحفظين على حربه الوقائية الاستباقية أو الاحترازية. وبذلك سيكون من السهل على جورج بوش إنتزاع تنازلات جوهرية من هذه القوى المعارضة لسياسته في مجلس الأمن الدولي والتي بيدها مفتاح التصويت على القرارات الدولية الجديدة بشأن العراق التي تتمناها الإدارة الأمريكية. والعالم يعرف إن جنوب شرق آسيا واليابان وأوربا يعتمدون كلهم على نفط الشرق الأوسط أولاً وبخاصة نفط منظمة الأوبك. يعتقد الخبراء النفطيون العالميون إن هناك إحتمال وجود خطورة في أن تصاب السوق النفطية العالمية بالزعزعة والتخبط إثر سقوط نظام صدام حسين وإنتهاء الإستقرار الذي أمّنته منظمة الأوبك منذ تأسيسها عام 1962 على يد المنتجين الرئيسيين للنفط في العالم. فحسب جريدة الفينانشيال تايمز: فإنه بوصول الشركات الأمريكية وإعتماداتها المالية الجبارة إلى العراق، سيتمكن هذا البلد من مضاعفة قدراته الإنتاجية للنفط الخام لتصل إلى 7 مليون برميل في اليوم وهذا سوف يدق ناقوس الخطر حيال السقف الإنتاجي المتفق عليه في منظمة الأوبك ويؤذن بزوالها فمن شأن مثل هذا الاحتلال بالقوة للنفط العراقي أن يغرق السوق النفطية العالمية بكميات هائلة من النفط بأسعار رخيصة مما سينسف سياسة الحصص التي تفرضها هذه المنظمة الدولية للمحافظة على إستقرار الأسعار في السوق النفطية العالمية وبالنتيجة ستستفيد الولايات المتحدة الأمريكية من هذا التدفق الهائل للنفط العراقي الرخيص إلى الأسواق لإنتشال الإقتصاد الأمريكي المنهار من السقوط وهذا هدف تريد الولايات المتحدة الأمريكية تحقيقه بكافة السبل وبأي ثمن كان.
وقد لخص أحد رؤساء الشركات الأوروبية النفطية هذا الأفق الملبد بالغيوم عندما قال: "لايمكن تجاهل أو إهمال أهمية ومكانة ودور النفط العراقي بالنسبة لأية شركة نفطية تعمل بصورة طبيعية في السوق النفطية العالمية. فالجانب النفطي على الصعيد العالمي يعد الخطط والحسابات على قدم وساق منذ تفجّر الأزمة العراقية إعلامياً بعد أحداث الحادي عشر من أيلول وتأكيد التهديدات الأمريكية ضد العراق فيما يحاول الدبلوماسيون في مجلس الأمن الدولي إعدادا الإطار القانوني لوضع النظام العراقي خارج دائرة التهديد الفعلي للسوق النفطية العالمية ومنعه من نسفها ". فهناك كما ذكرنا 112 مليار برميل مثبت وجودها في جوف الأراضي العراقية وما لا يقل عن 11% من الاحتياط النفطي العالمي بعد العربية السعودية يضاف إلى ذلك 220 مليار برميل متوقعة من المصادر النفطية غير المستغلة بسبب سنوات الحرب الطويلة التي عاشها العراق منذ عام 1980 بل وربما أكثر من ذلك بكثير، مما يجعل العراق محط أنظار وأطماع العالم الغربي والشركات النفطية الإحتكارية العالمية العملاقة وبخاصة الأمريكية منها. فالرئيس الأمريكي بحكم كونه رجل نفط بالدرجة الأولى قبل أن يكون سياسياً، يعرف إن زيادة الإستهلاك للنفط والمحروقات والوقود سوف يقود إلى انخفاض في الإنتاج الأمريكي وفي المخزون الأمريكي على السواء، بل وحتى في الاحتياطي النفطي الإستراتيجي للولايات المتحدة الأمريكية وما يترتب على ذلك من تبعات خطيرة على الاقتصاد الأمريكي الذي سيصبح معتمدا أكثر فأكثر على الإستيرادات النفطية من الخارج. وإذا ما أضفنا إلى ذلك حقيقة إن المورّد الأول للنفط للولايات المتحدة، هي حليفة الأمس، العربية السعودية، والتي تمر حالياً بمرحلة سوء فهم وتدهور في العلاقات المتميزة التي كانت قائمة في الماضي بين البلدين منذ أحداث الحادي عشر من أيلول في 2001، فإن كل ذلك يجعل من النفط العراقي عنصراً هاماً وجوهرياً في المعادلة الاستراتيجية الأمريكية القادمة في المنطقة ويؤكد حتمية وقوع الضربة العسكرية ضد العراق.
لقد استغل النظام العراقي هذا الجانب في دعايته وإعلامه المضاد ليركز على الأطماع الأمريكية في ثروات العراق مما دفع طارق عزيز نائب رئيس الوزراء العراقي إلى التصريح: أن الإدارة الأمريكية بتقديمها ذرائع واهية لعدوانها على العراق، تريد في حقيقة الأمر أن تسيطر على المنطقة وتسرق ثرواتها " وقد كررت جريد بابل لعدي صدام حسين ذات النغمة في مقالاتها وتصريحات صاحبها. الكل يعرف إنه إذا تم رفع الحظر النفطي عن العراق بدون تغير النظام القائم سيعرض الشركات الأمريكية إلى عائق كبير في مسألة إستغلال النفط العراقي للمرحلة القادمة. إن جميع أصحاب الشركات النفطية العالمية يعرفون أهمية الذهب الأسود العراقي منذ زمن بعيد. ولايغير من الأمر شيئاً إكتشاف آبار وحقول نفط جديدة في آسيا الوسطى وفي بحر قزوين وذلك لسبب بسيط وهو إن كلفة إستخراج وإنتاج برميل النفط من بحر قزوين تبلغ من 7 دولار إلى 8 دولار بينما كلفة برميل النفط العراقي الأجود منه لاتتجاوز 70 سنت كما يقول خبير نفطي عالمي، لذلك لن تفتر همة الشركات النفطية وأطماعها في النفط العراقي. فقبل الحظر كانت كل الشركات العملاقة تتفاوض مع النظام العراقي. وسبق لشركة النفط الفرنسية توتال أن حجزت لنفسها حق إستغلال وتطوير حقول نفط مجنون وهي الأهم وتصل تقديرات ما تحتويه من احتياط بين 10 إلى 30 مليار برميل تقع على بعد 30 ميل شمال محافظة البصرة قرب الحدود الإيرانية. بينما حجزت شركة فينا ألف الفرنسية حق إستغلال حقول إبن عمر. في حين إن الشركات الروسية نشطة في هذا القطاع في العراق وكذلك الصين التي تعتبر ثالث مستهلك للنفط في العالم بعد أمريكا واليابان. واستمرت الشركات تتعاطى مع العرض بالرغم من الرسم الإضافي الذي فرضه النظام العراقي لجيبه الخاص بقيمة 50 سنت على البرميل والذي تم إلغاؤه في 18 أيلول/ سبتمبر 2002 مع ارتفاع وتيرة التهديدات الأمريكية بوشوك توجيه الضربة العسكرية وتصاعد الاتهامات حول الخروقات العراقية للقرارات الدولية وبضمنها هذا الرسم الإضافي. واليوم مازال الجميع يفكر بحصصهم ومصالحهم الخاصة والحيوية في فترة ما بعد صدام التي باتت مطروحة على مائدة النقاشات والمفاوضات فحتى روسيا أعلنت إن مصير دكتاتور بغداد لايهمها بقدر ما يهمها مصالحها وديونها التي تريد أن تستحصلها من العراق وطالبت بضمانات من أمريكا بهذا الخصوص مقابل عدم تصويتها ضد قرار مجلس الأمن الذي قدمته الولايات المتحدة وبريطانيا وصدر تحت رقم 1441 والذي يجيز لهما إستخدام القوة المسلحة ضد العراق في حال عدم انصياعه التام بلا قيد أو شرط لمحتويات القرار الدولي الجديد. لذا يحق لنا التساؤل هل ستحمل حرب الخليج الثالثة، إذا ما حدثت، عنوان " حرب البترول" ؟ أم ستخفي هذا الهدف الجوهري وراء ذريعة تجريد العراق من أسلحة الدمار الشامل أو تحت حجة لابد من إطاحة النظام العراقي الذي يشكل خطراً على أمن المنطقة والعالم.؟ لقد بات بحكم المؤكد إن الهدف غير المعلن لهذه الضربة العسكرية القادمة هو السيطرة على منابع النفط العراقية والخليجية ومجمل احتياطي النفط الشرق أوسطي. وقد تبين لجميع المراقبين والمتابعين للشأن العراقي والشرق أوسطي إن الحملة العسكرية التي تعدها واشنطن على قدم وساق يشم منها رائحة البترول والجميع متفق على أن الذرائع التي تتحجج بها واشنطن صحيحة جزئياً لكنها غير كافية لتفسير هذا الإندفاع الأهوج ويعتقدون إن صدام حسين وإن كان ديكتاتوراً دموياً ومتوحشاً لكنه لايشكل خطراً داهماً على جيرانه في الوقت الحاضر ولا يخلق خللاً في التوازن الإستراتيجي الإقليمي. فمن المعروف للقاصي والداني، إن العراق يمتلك الكثير من النفط ويعتبر ثاني أكبر إحتياطي نفطي في العالم وإن نفطه هو الأقل كلفة في إستخراجه وتسويقه وهذا مايعرفه العراقيون قبل غيرهم ويركزون عليه في حملتهم الإعلامية المضادة لفضح نوايا الولايات المتحدة الأمريكية المستورة. وتلح الماكنة الإعلامية العراقية على أن لدى واشنطن أطماعاً إقتصادية وهدفاً استراتيجياً محدداً هو توسيع هيمنتها لتتسلط بشكل مباشر على كافة الثروات الحيوية العالمية وترى نفسها قادرة على الإمساك بالثروة النفطية العالمية وتوزيعها على هواها على حد تعبير وزير النفط العراقي. فالولايات المتحدة الأمريكية تعتقد أنها لو تمكنت من السيطرة على النفط الخام في الشرق الأوسط، كخطوة أولى، فسيكون بمقدورها السيطرة على العالم والتحكم بمقدراته وقيادته بالاتجاه الذي تريده.وبالتالي يعتقد ديكتاتور بغداد أن بلده سيكون ضحية الإمبريالية الجديدة لواشنطن. إن نظرية " المؤامرة النفطية العالمية التي تحيكها واشنطن وتحرك خيوطها" لم تلق تأييد جميع الخبراء العالميين في هذا المجال. فمنهم من يعتقد بصدقيتها ومنهم من يعتقد بضحالتها وعدم جديتها. فالخبراء الذين يرفضون تصديقها يتسلحون بالتلويح بالأخطار المواكبة والمرافقة لمثل هذا السيناريو الجهنمي لأنه سيقود حتماً إلى فوضى شاملة وزعزعة وعدم إستقرار دائم في أخطر منطقة في العالم وأكثرها حساسية مما سيؤدي حتماً إلى إنعدام وجود "أمن الطاقة" الذي تسعى إليه الولايات المتحدة إليه بأي ثمن.ويبقى السؤال الجوهري : هل التسابق على النفط هو أحد الأسباب الرئيسية للأزمة العراقية الحالية؟ من بين المعارضين لفحوى هذا السؤال بيير نويل الباحث في المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية الذي يقول أنه إذا كان هدف واشنطن فقط هو السيطرة على النفط العراقي وفتح السوق النفطية العراقية أمام الشركات النفطية الأمريكية فإن هذا لايستوجب شن حرب تدميرية فيكفي الولايات المتحدة الأمريكية أن ترفع الحظر المفروض على العراق وإيران وليبيا لتوفر لنفسها مصادر تزودها بالنفط بأبخس الأثمان وبلا مخاطر أو مغامرات. فالتبعات النفطية للحملة العسكرية المرتقبة غير معروفة وغير مضمونة على المديين القصير البعيد حتى في ظل أكثر الإحتمالات العسكرية تفاؤلاً . فليس من الضروري أو المؤكد إن عواقب الحرب النفطية ستكون موائمة ومتناسقة أو متوافقة مع المصالح الأمريكية.ولا ننسى إن ديك شيني نائب الرئيس الأمريكي الحالي عندما كان مسؤولاً لدى شركة هاليبيرتون النفطية قد حاول جاهداً منذ ست سنوات رفع العقوبات التي فرضها الكونغرس عام 1996 على كل من إيران وليبيا. الأمر الآخر هو أن نفط الشرق الأوسط يشكل 10% فقط من الإستهلاك النفطي للولايات المتحدة الأمريكية أي 4% من الإستهلاك العام للطاقة وهذا أمر واقع منذ ثلاثين عاماً وسيبقى صالحاً لمدة عشرين عاماً قادمة فحصة الخليج في معادلة العرض والطلب العالمية هي نفسها اليوم عمّا كانت عليه قبل ثلاثين عاماً أي 27%. من هنا فإن فكرة إن أمريكا تقود حرباً من أجل النفط فكرة غير جادة وبالمقابل فإن أخطار مثل هذه الحرب جادة جداً. فأي إنزلاق في مجريات هذه الحرب سيؤدي حتماً إلى إثارة الفوضى والإضطراب وزعزعة الاستقرار في المنطقة كلها قد تكون لها عواقب كارثية على دول الجوار المحيطة بالعراق. ولو خسر العالم جزء أو كل الانتاج السعودي من النفط خلال أشهر بسبب تداعيات الحرب فستحدث صدمة نفطية خطيرة سيكون لها تبعات وعواقب رهيبة على الاقتصاد العالمي. سيحدث ركود في إقتصادات عدد من الدول الصناعية الغربية خاصة في منظمة الـ OCDE ومثل هذا السيناريو الكارثي سيكلف جورج بوش ثمناً باهظاً قبل عامين من إعادة تجديد ولايته الثانية وهو لاينسى ما كان لمثل هذا الأمر من نتائج وخيمة على حملة والده الانتخابية سنة 1993 أي بعد عامين من حرب الخليج الثانية التي أدخلت الاقتصاد الأمريكية في نفق الكساد والركود وافقدت جورج بوش الأب فرصة إعادة إنتخابه رئيساً للولايات المتحدة الأمريكية. ولو حدث العكس وكانت الحرب خاطفة وسريعة وناجحة وحققت هدفها الأول المعلن وهو إطاحة صدام حسين وتنصيب نظام موالي 100% لواشنطن داخل شرق أوسط هاديء ومستقر عند ذلك ستتوفر الشروط اللازمة لرفع الطاقة الإنتاجية النفطية العراقية التي ستتضاعف في غضون سنوات قليلة قد تكون سنتين ولكن على أقصى حد لن تتجاوز الخمسة، بفضل الاستثمارات المالية الهائلة التي ستضخها الشركات الأمريكية العملاقة، إلاّ أن نتائج مثل هذا السيناريو لاتتوافق مع رغبة أمريكا في إبقاء التوازن الحالي داخل السوق النفطية فسوف تفتح الأبواب على مصراعيها نحو سباق جنوني لزيادة الانتاج وخلق الخلل في معادلة العرض والطلب التي تتحكم بالأسعار لأن السعوديون لن يقبلوا بهذه السهولة أن يخسروا حصصاً في السوق النفطية لصالح (العراق الأمريكي الجديد) تؤثر على ميزانيتهم الاقتصادية، وبما أنهم يمتلكون الوسائل المالية والتقنية الضرورية لرفع طاقتهم الإنتاجية إلى اقصى حدودها فالنتيجة المؤكدة من جراء ذلك هي إنهيار مؤكد ومريع في أسعار برميل النفط الخام على المدى المتوسط التي قد تصل إلى 8 دولار للبرميل. ومن تداعيات ذلك أيضاً انهيار الاستثمارات النفطية الأمريكية في مناطق مثل بحر قزوين وروسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، وتدهور وتيرة تصدير نفط بحر الشمال وانهيار الانتاج النفطي الأمريكي في الداخل وستتركز الأنظار والعرض العالمي للنفط على منطقة الخليج حصراً بعد عشرين عاماً من الجهود والمساعي لتنويع مصادر النفط والخروج من حالة التبعية لنفط الخليج.وهكذا سيضعف "الأمن الطاقوي " بدل أن يتدعم عكس ما تشتهيه الولايات المتحدة وستزداد أهمية منطقة الشرق الأوسط التي لايمكن أن تبقى إلى ما لا نهاية تحت السيطرة الأمريكية المطلقة. أما الرأي المضاد لهذه الأطروحة فيطرح مبرراته وتفسيراته بصورة أخرى. بيير تيرزيان مدير المجلة المتخصصة الذائعة الصيت "بيترو ستراتيجي Pétrostratégies أو الاستراتيجيات النفطية" يرد على سؤال: هل النفط العراقي هدف رئيسي واستراتيجي في المشروع العسكري الأمريكي تجاه العراق؟ بالقول: "نعم. فبرأيه إن الولايات المتحدة الأمريكية تريد بل وتنوي قلب المعادلات الإقليمية لإنهاء إعتمادها الكلي على النفط السعودي". فلو سيطر الأمريكيون فعلياً على العراق فإنهم سيسيطرون بالتالي وبشكل بديهي على منطقة هي الأغنى في العالم المتخمة بآبار البترول الممتدة من الخليج حتى أطراف آسيا الوسطى. وحتى لو لم يكن النفط وحده هوالعامل الوحيد أو الرئيسي إلاُ أنه بلا شك حافز مهم وعامل مؤثر في الخطط الأمريكية العسكرية والاستراتيجية البعيدة المدى.فهو يدخل في صميم استراتيجية واشنطن الدولية التي تريد زيادة مصادر النفط الصديقة وتنويع مصادر التزود بالوقود لاسيما وإن الولايات المتحدة الأمريكية غير قادرة على رفع أو زيادة طاقتها الإنتاجية النفطية اليوم وكلنا يعلم إن هذا الموضوع كان على جدول أعمال الحملة الإنتخابية لجورج دبليو بوش الذي أطلق حملة إعداد خطة الطاقة. لكن: خطة تشنيني "كما تسمى اليوم تواجه مأزق في أروقة الكونغرس الأمريكي. ومن هنا نفهم إستدارة إدارة بوش إلى الجانب الدولي لرأب الصدع في الخطة النفطية الأمريكية والتركيز على العامل الدولي لتوفير الطاقة الضرورية للغطرسة الأمريكية ولقوتها العاتية وهذا هو أيضاً رأي جون بيير شيفنموه وزير الدفاع والداخلية الفرنسي الأسبق.
والعراق يمثل أحد أهم المفاصل الرئيسية في السياسة النفطية العالمية كما هو معروف فهو غني ويمتلك احتياط ضخم مثبت وآخر محتمل يشكل ثاني إحتياط نفطي في العالم وهو، أي العراق، من المؤيدين والمتحمسين لأسعار مرتفعه للبرميل الخام لذلك إذا بقي النظام الحالي في العراق، وهو غير مضمون في ولائه للولايات المتحدة الأمريكية، فسوف يعرقل التخطيطات التي ترغب في تنفيذها حكومة الرئيس بوش وبالتالي فإن وجود فريق حاكم في العراق موالي لواشنطن وخاضع لتوجيهاتها سيقود حتماً إلى زيادة هائلة في الإنتاج وتخفيض في الأسعار لأنه سيخلق خلللاً في معادلة العرض والطلب في السوق النفطية العالمية. فخلال أربع أو خمس سنوات إذا ما وفرت الولايات المتحدة الأمريكية الإستثمارات الضرورية لتجديد الآلة الإنتاجية النفطية في العراق فإن بمقدور هذا الأخير أن يرفع قدرته الإنتاجية إلى الضعفين أو أكثر وسينتقل من 3 مليون برميل في اليوم التي ينتجها حالياً إلى 6 أو 7مليون برميل في اليوم. وبإحتلالها للعراق بشكل من الأشكال "المباشر أو غير المباشر" ستتحكم الولايات المتحدة بمصائر المنطقة برمتها وستحكم تطويق إيران المتمردة حالياً والخائفة على مصيرها. فالقوات الأمريكية والقواعد الأمريكية واسلحتها الحديثة تطوق إيران من جميع الجوانب، من افغانستان إلى آسيا الوسطى ومن المملكة العربية السعودية إلى منطقة الخليج بأكملها " في الكويت والبحرين وقطر"، وقريباً من القوقاز والحدود الروسية وسوف تغلق الطوق من البوابة العراقية ايضاً. من هنا يمكننا القول إن الأمريكيين يمكن أن يسيطروا على منابع النفط الخام الأهم في العالم.
يعتمد الأمريكيون في الوقت الحاضر على إرادة المملكة العربية السعودية كلياً وهم لايريدون أن يكونوا رهينة بيد هذا البلد. فبفضل العراق الذي يمكن أن يشكل البديل النفطي والسياسي، وبمساعدة روسيا، يمكن للأمريكيين أن يضغطوا على السعوديين ويدفعون الرياض إلى المزيد من التعاون والخضوع في كافة المجالات وعلى رأسها مكافحة الإرهاب وكذلك إتباع السياسة التي ترغبها واشنطن في داخل الأوبك " منظمة الدول المنتجة للنفط" فبتشجيع واشنطن للإنتاج المنافس بكثرة تقلل من اعتمادها الكبير على النفط السعودي فنفط الكويت بيدها ولو أضيف إليه نفط العراق يمكنها أن تباشر في إعادة توزيع الأوراق بحرية ودون خوف من النقص في الطاقة.هذا لايعني إن واشنطن تريد خنق الأوبك في الوقت الحاضر لأنها بحاجة إليها. فبدون هذه المنظمة الدولية سينخفض سعر النفط الخام إلى 8 دولار للبرميل الواحد كما ذكرنا قبل قليل ولذلك فإن الولايات المتحدة بحاجة إلى جهاز يتحكم بأسعار النفط ويضبطها عالمياً فلو إنخفض سعر النفط إلى أدنى مستوى متوقع له أي 8 دولار ستفقد الابار النفطية مردوديتها وستصبح واشنطن معتمدة كلياً على النفط المستورد بنسبة 75% لذلك فإن واشنطن لاتنوي تدمير الأوبك بل السيطرة عليها من خلال السيطرة على أهم الأعضاء فيها والعراق واحد منهم إلى جانب السعودية والإمارات والكويت.وستسعى الولايات المتحدة الأمريكية حتماً في وقت لاحق وضمن سيناريو طويل الأمد إلى السيطرة التامة على النفط الإيراني بطريقة من الطرق سواء بالقوة أو عن طريق الديبلوماسية. الإدارة الأمريكية الحالية عند وصولها إلى السلطة كانت تؤيد سعراً مرتفعاً للبرميل بحدود 25 دولار لكنها تطالب اليوم بتخفيض نسبي ومستعدة لقبول سعر 20 دولار للبرميل الواحد لأن من شأن ذلك أن يساعد في إنعاش الإقتصاد الأمريكي الذي يواجه صعوبات كبيرة في الوقت الحاضر لإعتماده على إستيراد الطاقة أكثر فأكثر.وهذه مقاربة قصيرة النظر لأن الإنخفاض الحاد في اسعار النفط عالمياً سيؤثر سلباً على الهدف الثاني للولايات المتحدة أي رفع الطاقة الإنتاجية للنفط خاصة في الدول الصديقة والحليفة لها لاسيما وإن غالبية مصادر الإنتاج الأخرى مكلفة [ مثل روسيا وبحر قزوين وأفريقيا].مما لاشك فيه إذن برأي هذا البعض من الخبراء : إن حرباً تشنها الولايات المتحدة الأمريكية ضمن حسابات دقيقة لن تقود إلى وقف الإنتاج النفطي في المنطقة وقد كانت سابقة حرب الخليج الثانية سنة 1991 أكبر دليل على ذلك واتضح للجميع إن التهويل كان لغايات دعائية وإنه لم يكن بمقدور العراق تهديد منابع النفط في البلدان النفطية الأخرى أو وقف تصديرها بل على العكس إنخفض سعر البرميل 10 دولارات عند بدء الحرب فكيف يمكن للعراق الراكع على ركبتيه اليوم أن يمارس أي تهديد يذكر؟.
إن مخاطر الحرب سياسية أكثر منها نفطية برأي بيير تيرزيان. فالأسواق النفطية العالمية تخشى من عواقب الضربة العسكرية على العراق ولكن من منظور خاص. "فأي حرب تثير العديد من التساؤلات والترقب وعدم اليقين في الكثير من الأمور وهذا أمر طبيعي"كما يعتقد تيرزيان، الذي يضيف:" إن أي تصريح بهذا الإتجاه أو بذاك سيكون له عواقب وتبعات على سعر النفط الخام" لكن الأمر يتعلق بمجال تحرك السعر بحدود 5 دولارات فقط بزيادة أو نقصان". وبعد برهة قصيرة، بعد أن تتأكد الأسواق من عدم حدوث أي انزلاق أو أي تأثير على إنتاج وتصدير النفط ووصوله إليها فسوف تحافظ على تماسكها واستقرارها وهدوءها.العراق ينتج اليوم مايزيد على مليوني برميل في اليوم في حين إن قدرة الأوبك على الاتتاج المؤكد فيما يتجاوز طاقتها الحالية هي بحدود 5 مليون برميل في اليوم زيادة على السقف المتفق عليه اليوم. وبالتالي فإن وقف النفط العراقي قابل للتعويض الفوري وبلا مشقة تذكر. ومما لاشك فيه إن مخاطر الحرب المتوقعة لن تتجاوز الحدود العراقية فيما يتعلق بحركة النفط العالمية فلن يكون بوسع العراق غلق مضيق هرمز كما كان الحال إبان الحرب العراقية الإيرانية في الثمانينات من القرن الماضي.فمنذ قرن والنفط يتدفق عبر هذا المضيق بلا صعوبة ولم يتوقف أبداً . مرة واحدة تعرضت فيها السوق النفطية العالمية للنقص الحاد وذلك سنة 1967 مع غلق قناة السويس ولأسباب لاعلاقة لها بالإنتاج النفطي. وخلال حرب الثماني سنوات بين إيران والعراق وتدمير أغلب مصافي النفط في البلدين وتفجير العديد من ناقلات النفط والمنصات النفطية وآبار الإنتاج، لم تنجح تلك الحرب في وقف تدفق النفط إلى الأسواق بوتيرة منتظمة.
يركز المراقبون على حقيقة مفادها لو إن أمريكا كانت تريد أخذ جزء كبير من النفط العراقي لما كانت بحاجة إلى شن حرب مكلفة والتعرض لمخاطر، بل بوسعها فقط رفع الحظر النفطي عن العراق وإزالة العقوبات الإقتصادية وبمقابل ذلك يمكنها تأمين حصة الأسد في عقود الاستغلال وإعادة الإعمار والنظام العراقي كان موافقاً ومستعد تماماً على ذلك بل ويتوسل إلى واشنطن لقبول هذا العرض. ولكن السيطرة الأمريكية على النفط العراقي تتجاوز بكثير حدود الوصاية والرقابة الاقتصادية . فواشنطن لاتريد فقط الهيمنة على العراق اقتصادياً فحسب بل تريد أن تصبح قائدة ومسيّرة للمنطقة برمتها ووضع الأسس الجيوـ استراتيجية الأمريكية الجديدة للتحكم بالمنطقة والهيمنة على المناطق المحيطة بالعراق كإيران وسورية والعربية السعودية والخليج وتعزيز موقع إسرائيل ودورها الاستراتيجي في المنطقة وسيظهر مثلث استراتيجي جديد لخدمة المخططات الأمريكية تتكون أضلاعه من تركيا في الشمال وإسرائيل في الغرب والعراق الأمريكي في الشرق وإخراج العربية السعودية من المعادلة الاستراتيجية الأمريكية في المنطقة أي رفع الحماية الدولية عنها وتركها فريسة للتغيرات الداخلية المحتملة وخلق البلبلة والإضطرابات التي ستوفر الذريعة القانونية لواشنطن للتدخل المباشر للحفاظ على منابع النفط السعودية الحيوية لها وتنصيب نظام أكثر طواعية لها من العائلة السعودية الحاكمة اليوم أو تدجينها وإقناعها بضرورة مسايرة المتغيرات التي تمليها واشنطن .
إن زمن العلاقات المتميزة والثقة المطلقة بين الحليفين السابقين، العربية السعودية والولايات المتحدة الأمريكية، قد ولى. فمنذ خمسين عاماً والعربية السعودية هي الحليف المفضل لواشنطن في المنطقة بعد إسرائيل في هذه المنطقة النفطية الغنية. وتعاونهما كان مثالياً في الكثير من المجالات وفي مقابل ذلك ضمنت الولايات المتحدة للعربية السعودية أن تكون البلد الأكثر استقراراً واطمئناناً.ولكن وبعد حوادث 11 أيلول/ سبتمبر 2001 ودور السعودية غير المباشر فيها (تمويل المنظمات الإسلامية المتطرفة وكون بن لادن من أصل سعودي ونسبة كبيرة من قراصنة الجو من السعوديين) غيرت واشنطن من أولوياتها وبدأت تخطط لإحداث التغييرات الإقليمية اللازمة لخططها الاستراتيجية الجديدة وبالاعتماد على العراق والتضامن الروسي يمكن لواشنطن أن تجبر السعوديين على الإنصياع لإرادتها وتنفيذ توجيهاتها ومطالبها. لكنها لم تأخذ بعين الاعتبار عواقب هذه السياسة متناسية إن السعودية هي قلب العالم الإسلامي وفيها أقدس الأماكن الإسلامية ففيها الكعبة الشريفة وقبر النبي محمد وقبلة المسلمين وموقع الحرمين الشريفين، وهذا قد يقود إلى زلزال لن يمكنها السيطرة عليه وبركان لن تتمكن من إخماده مهما استخدمت من قوة وجبروت.
يقول الخبير النفطي العربي ورئيس مجلة نفط وغاز العرب نيقولا سركيس: "إن خطة ديك تشيني دخلت في نفق أو طريق مسدودة وواجهت معارضة من قبل الكونغرس وتتضمن إجراءات بيئية ضخمة مثل اختراق الأراضي البكر في آلاسكا وخفض الاعتماد على النفط الخارجي وخفض الاستيرادات في مجال الطاقة. ولذلك بات على الإدارة الأمريكية الحالية إيجاد البديل المتمثل بالهيمنة الكلية على النفط العراقي والتمركز داخل العراق بقوة، والتحالف مع روسيا في مجال الطاقة وتركيع السعودية والخليج أكثر فأكثر وتقوية إسرائيل وفرض حل أمريكي ـ إسرائيلي على أزمة الشرق الأوسط يقبله العرب صاغرين، وفي نفس الوقت ممارسة ضغط أكبر على الاتحاد الأوروبي المعتمد كلياً في سياسته الطاقوية على نفط الشرق الأوسط وروسيا، هذه هي الحلول البديلة المقترحة من قبل اللوبي الصهيوني المؤثر جداً في السياسة الأمريكية.ولتنفيذ هذه الاستراتيجية لابد للولايات المتحدة أن تبدأ بإطاحة النظام العراق الذي فقد دوره السابق كحليف للغرب وكدرع في مواجهة الثورة الإسلامية الإيرانية، ليتحول إلى عائق لابد من إزالته للمضي قدماً في تنفيذ هذا المشروع الأمريكي الشرق أوسطي الجديد ولعب ورقة النفط العراقي كجوكر أمريكي في مواجهة الرياض. ويضيف نيقولا سركيس قائلاً: "لو كان العراق يصدر الطماطم بدلاً من النفط ما كان سيمثل للولايات المتحدة ما يمثله اليوم من إهتمام ولن يشكل لديها ما يشكله اليوم من مصالح حيوية واستراتيجية". ولولا النفط لما أصر الرئيس الأمريكي على شن حرب جديدة لإطاحة صدام حسين حتى لو إستمات الصقور في الإدارة الأمريكية في تبرير حملتهم بذرائع أخرى غير السيطرة على النفط لأنه ليس من السهل عليهم تبرير حملتهم فقط بعامل النفط وكون العراق يمتلك ثروة نفطية هائلة. ويعقب على ذلك موضحاً: "من السهل على الأمريكيين الاندفاع في هذه المغامرة العدوانية تحت غطاء محاربة الإرهاب الدولي "الذي أصبح بمثابة ليتموتيف السياسة الأمريكية منذ الحادي عشر من أيلول 2001 " بالرغم من عدم نجاحهم في إيجاد أي صلة بين العراق وتلك الأحداث الإرهابية أو بين العراق وتنظيم القاعدة. فيما إدعى بعض القادة الأمريكيين إن هدف الولايات المتحدة هو تنصيب حكومة ديموقراطية تعددية تحترم حقوق الإنسان والأقليات العرقية والإثنية والطائفية المحلية" ولو كان هذا هو الهدف الحقيقي للولايات المتحدة لكان عليها أن تقوم بتنفيذه في ثلثي دول الكوكب، ولو كان الهدف حقاً هو فرض إحترام قرارات الأمم المتحدة فالأحرى بها أولاً تحقيق هذا الاحترام وتنفيذ القرارات الدولية من قبل حكومة تل أبيب قبل إرغام حكومة بغداد على التنفيذ بقوة السلاح.
لهذا يؤكد نيقولا سركيس إن النفط هو الحافز الرئيسي لهذه الحرب إذ يبقى النفط حتى عام 2020 مطلوباً بقوة . فمع زيادة صادرات النفط من آسيا الوسطى وروسيا وأفريقيا إلا أنها لن تتمكن من سد العجز في الطلب العالمي المتزايد على النفط وتعويض النقص المرتقب في الإنتاج النفطي في الدول المنتجة خارج منظمة الأوبك من هنا سيبقى الشرق الأوسط ولعشرات من السنين المنطقة الرئيسية والأساسية لتزويد العالم بالوقود وستزداد حاجة الدول العظمى والدول الصناعية وعلى رأسها الولايات المتحدة لنفط الشرق الأوسط، فمنطقة الـ OCDE على سبيل المثال، التي تستهلك 55.2% عام 2001 سيرتفع استهلاكها إلى 63.3% سنة 2010وأكثر من 70% سنة 2020.
وفي الختام نستطيع القول أنه، أياً كانت مواقف الدول العظمى والدول الأعضاء في الأمم المتحدة فإن الولايات المتحدة الأمريكية ماضية في تنفيذ خطتها الاستراتيجية مهما كان الثمن ومهما كانت ردود الأفعال الدولية حيالها. فالطموحات الأمريكية الخفية تنضح برائحة النفط واستعراض العضلات وفرض الهيمنة بالقوة العسكرية والسلاح المتقدم والتكنولوجيا المتطورة. وبواسطة القوة العسكرية تريد واشنطن أن تسيطر على عجلة الإنتاج النفطي العالمي بكل مراحلها من البحث إلى التسويق مروراً باستخراج النفط وتكريره وبيعه في الأسواق العالمية.
إن السوق النفطية العالمية اعتادت على حالات الغموض والترقب والتقلبات والتهديدات والحروب خاصة تلك التي تفرضها آفاق اندلاع عملية عسكرية أمريكية ضد العراق والتي لم يسبق لها أن شهدت مثل هذا التوتر والكثافة. وهذا أمر طبيعي، فالعراق يحظى بأهمية خاصة على رقعة الطاقة الدولية ويحتل موقعاً متميزاً على الخريطة النفطية العالمية (لا ننسى أنه يضم تحت أرضه أكثر من 10% من احتياط النفط في الكوكب كما ذكرنا) ولهذا فهو يستقطب الاهتمام ويجذب نحوه صراع المصالح.
"لا أحد، عدا الولايات المتحدة الأمريكي، لديه مصلحة اقتصادية في نشوب صراع مسلح بين واشنطن وبغداد. فقد تؤدي هذه المواجهة العسكرية إلى ارتفاع صارخ في أسعار النفط الخام يتجاوز الـ 30 دولار للبرميل الواحد، وقد تقود إلى حالة من الكساد والركود الاقتصادي العالمي التي قد تشهد تفاقماً إذا لم يجد المجتمع الدولي لها مخرجاً "، على حد تعبير أحد الخبراء الفرنسيين. فبالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية السيناريو يختلف في حيثياته وتفاصيله وأهدافه غير المعلنة. فواشنطن ترغب بشدة في إيجاد بديل للنفط السعودي الذي تعتمد عليه في تزودها بالنفط ودعم احتياطياتها النفطية الاستراتيجية، وإن البديل الأرخص والأكثر سرعة يمر عبر الهيمنة الكاملة على العراق اقتصادياً وسياسياً، وربما عسكرياً.
فإذا كانت بغداد لاتنتج حالياً سوى 2 مليون برميل في اليوم ـ وهذا الرقم بعيد عن القدرة الانتاجية السعودية التي بلغت 7 مليون برميل في اليوم ـ فإنها تمتلك نفطاً كامناً قابلاً للإستغلال الفوري يقدر بمليون برميل في اليوم. وفي حالة دفع البنى التحتية النفطية إلى حدودها القصوى فإن هذه الطاقة الانتاجية الكامنة يمكن أن تصل إلى 7 مليون برميل في اليوم خلال 18 شهراً والبعض يفضل وضع سقف زمني أكبر يتحدد بخمس سنوات لتشييد بنية تحتية نفطية صلدة ومتينة للتأكد من إمكانية تحقيقها. ومن باب المقارنة ليس إلاّ، في هذه المنطقة بالذات تنتج إيران 2 مليون برميل في اليوم أمام الكويت والإمارات العربية المتحدة اللذين ينتجان كل منهما أقل من 2 مليون برميل في اليوم وقطر التي تغلق سقفها الإنتاجي بـ 650000 برميل في اليوم.
فالمنشآت النفطية والتجهيزات والمعدات العراقية تعرضت للضرب والتخريب خلال فترة الحرب العراقية ـ الإيرانية من 1980 ـ 1988 ثم أجهز على ما تبقى منها وتم تدميره كلياً في حرب الخليج الثانية 1991. لذلك فهي تحتاج اليوم إلى استثمارات مالية ضخمة جداً تقدر مابين 25 و 30 مليار دولار، لاسيما وإن إعادة إعمار البلد تتجاوز بكثير مجرد إعادة البنية التحتية للمنشآت النفطية ولا تقتصر على المجال النفطي على حد تعبير أحد الصناعيين الذي ذكر بأن العراق شيد خلال عشرين عاماً عشر صناعات نفطية ومئات المشاريع الصناعية والزراعية الأخرى التي تحتاج للترميم. ولكن من يعتقد بأنه يكفي أن يحقق الأمريكيون إنتصاراً عسكرياً على نظام صدام حسين لكي يسيطروا على النفط العراقي ويتحكموا به كما يحلوا لهم يكون واهماً، كما يقول جان فرانسوا جيانسيسني أحد كبار مهندسي المعهد الفرنسي للنفط الذي يواصل قوله:" في العراق كما هو الحال في باقي الدول المجاورة له والمطلة على الخليج، يعتبر النفط ملكية عامة أي ملك للدولة وحكر عليها عبر شركات وطنية التي لاتتقبل بسهولة تدخلات الأجانب في شؤونها. وحتى لو سقط صدام حسين فمن الوهم الاعتقاد إن العراق سينظر بعين الرضا والخنوع لسيطرة الولايات المتحدة على نفطه مهما كان نوع النظام القادم ". هذا إلى جانب عدم إغفال ردة فعل الشارع العراقي. فالشعب العراقي، حتى لو كان معرضاً للمجاعة، والفقر منذ سنوات طويلة على يد الحكم الديكتاتوري، فإنه مازال يحمل حساً وطنياً عالياً ويعارض أي نزعة تسلطية أو هيمنة أجنبية على مقدرات بلده. كما يعتقد عدد من المراقبين إن الولايات المتحدة لن تهتم للإستياء الشعبي المتوقع ولا الرفض الجيو ـ سياسي الذي سيبديه هذا البلد وغيره من دول المنطقة الأخرى، فطريق النفط من الأهمية بمكان بالنسبة لواشنطن حتى أنه يرقى إلى مستوى المصلحة الحيوية للولايات المتحدة الأمريكية. ففي كل يوم يمر برميل من أصل 5 براميل نفط في العالم عبر مضيق هرمز ليخرج من الخليج العربي ـ الفارسي أي حوالي 15 مليون برميل يومياً أو مايعادل مليار طن من النفط سنوياً. من هنا تنبع أهمية تعزيز المواقع الأمريكية في المنطقة في الوقت الذي تفقد فيه المملكة العربية السعودية حظوتها لدى الدولة الأعظم في العالم التي صارت تتهمها علناً بأنها الدولة الممولة للحركات الإرهابية من طراز القاعدة.
وفيما يخص تهديدات حرب قد تؤدي إلى قطع طريق إمدادات النفط العالمية فهي غير موجودة نهائياً والتاريخ خير شاهد على ذلك, فعلى مدى نصف قرن كانت المنطقة خلالها مسرحاً لصراعات دامية وقصف للمنشآت والمصافي والآبار والناقلات، لكن مضيق هرمز لم يغلق أبداً أمام الملاحة الدولية. بإنتظار ما ستتمخض عنه هذه الحملة المسعورة، لاتوجد هناك اية سيناريوهات متوقعة بين واشنطن والرياض حتى في ظل إحتمالات سقوط النظام العراقي وإطاحة صدام حسين وطبيعة علاقات العراق القادم ما بعد صدام مع منظمة الأوبك. فبالرغم من كون فالعراق عضو مؤسس في المنظمة إلاّ أنه كان موجوداً خارجها من الناحية العملية منذ تطبيق العقوبات الدولية ضده. ولكن في حالة عودة العراق للطريق السوي واندماجه في المجموعة الدولية كعضو طبيعي، هل سيتمكن من الإندماج بنفس السرعة مع الاقتصاد العالمي ومع المنظمة الدولية، ومع منظمة الدول المصدرة للنفط؟.
يمكن للولايات المتحدة، إذا ما احتاج الأمر لذلك، بعد أن تكون قد أحكمت قبضتها على العراق، أن تلعب ورقة هذا الأخير ضد الأوبك وتثير عمداً توتراً بخصوص أسعار النفط في العالم كما يعتقد أحد المحللين. ولكن هل يمكن أن نتخيل السعوديين، الذين يحتاجون بصورة ماسة لبيع نفطهم بسعر معين لتمويل خططهم الاقتصادية وميزانيتهم الوطنية، يتفرجون صامتين على تدمير اقتصادهم، وهل من المعقول أن يقفوا مكتوفي الأيدي؟.سندخل في هذه الحالة في لعبة خطرة وسيجد النظام العراقي القادم نفسه بين نارين، فمن جهة الولايات المتحدة الأمريكية التي نصبته في سدة الحكم، و من جهة أخرى المملكة العربية السعودية ومنظمة الأوبك الذين سيطالبونه بالامتثال لقواعد وقوانين الأوبك. ليس السعودبون وحدهم الذين سيتحركون وينفعلون إزاء تحكم الأمريكيين بعجلة الانتاج النفطي العالمي وزيادة كميات الانتاج وكسر الأسعار. فروسيا ستتحرك بدورها بعد أن منحت بغداد ديناً بلغ 10 مليار دولار تعتقد أن من حقها أن يكون لها موقعاً متميزاً وأولوية في السوق النفطية العراقية بعد أن تعود لحالتها الطبيعية، وكذلك فرنسا التي تعتقد أن من حقها أن تحافظ على امتيازاتها النفطية في العراق واسترجاع ديونها منه، من هنا ستندلع حرب المصالح بين مختلف الأطراف ولن تكون حرباً هادئة. لهذه الأسباب مجتمعة يتعين على النظام العراقي القادم أن يحافظ على مجال مناورة ولو طفيف إزاء واشنطن ليتكيف بنفسه بوتيرة إعادة الإعمار للصناعة النفطية العراقية في إطار كونستوريوم دولي تتمثل فيه جميع الدول الخمسة الدائمة العضوية في مجلس الأمن وأن يجد التمويل الاستثماري في مختلف المصادر المالية غير الأمريكية. وإلاً لن يتمكن من الخروج من هذا المأزق. أما اليابان التي تستهلك الكثير من بترول الشرق الأوسط فسوف تضمن استمرار تزويدها منه بفضل موافقتها على تمويل تكاليف الحرب الأمريكية المنتظرة ضد العراق والتي تقدر بين 100 و 200 مليار دولار، من خلال شرائها بأموال الإدخار اليابانية، سندات الميزانية الأمريكية. فالأمن الأمريكي ليس له ثمن والولايات المتحدة الأمريكية مستعدة لدفع هذا الثمن من أجل أمنها القومي على حد تعبير آلان غرينسبان مدير البنك الفيدرالي الأمريكي.
وبهذا الصدد تناولت وسائل الإعلام الغربية برمتها مؤخراً خبر الصفقة التجارية الهائلة التي وقعها العراق مع روسيا بقيمة 40 مليار دولار والتي أثارت حفيظة الولايات المتحدة الأمريكية واستياءها من موسكو. وتساءل المراقبون والمتابعون للشأن العراقي: من أين للعراق هذه الأموال الطائلة وهو يعيش تحت الحصار منذ أكثر من اثنتي عشر عاماً ويعاني شعبه من الجوع والمرض وسوء التغذية وشحة الأدوية أو فقدانها وتفكك نسيج المجتمع العراقي وسيادة قانون الغاب عليه، والحال إن نظام صدام حسين يعقد الاتفاقيات التجارية التي ليست في صالحه وعلى حساب مصالح البلد، وذلك لكسب بعض المواقف السياسية إلى جانبه لفك طوق العزلة الدولية الذي فرضته عليه الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين بعد حرب الخليج الثانية ؟ ويلاحظ المتتبعون لتطورات المسألة العراقية إن هناك بلدان عديدة تعيش على كرم النظام العراقي لتأمين ميزانياتها الوطنية وتوفير إحتياجات مواطنيها كالأردن وسورية وإلى حد ما لبنان ومصر وغيرها من الدول التي وقعت إتفاقيات التجارة الحرة مع النظام العراقي القائم، فكيف يمكن لهذا النظام الوفاء بالتزاماته الاقتصادية تجاه تلك الدول ومبيعاته للنفط خاضعة لمراقبة لجان المقاطعة الدولية ضمن إطار صيغة "النفط مقابل الغذاء" ؟...في واقع الأمر لايمر يوم دون أن يعمل النظام العراقي، بشكل مباشر أو غير مباشر، على حث وسائل الإعلام للحديث عنه، سياسياً أو عسكرياً أو ديبلوماسياً أو إقتصادياً. وعلى الساحة النفطية هذه الأيام بصفة خاصة. فصيغة الحساب والبيع والتسديد الجديدة التي فرضتها الأمم المتحدة مؤخراً لتخفيض نسبة فائض الضريبة من 15 إلى 45 سنت على برميل النفط المُصَدّر وحجز الفائض الذي فرضته بغداد ليدخل مباشرة إلى خزينتها دون المرور بحسابات الأمم المتحدة الخاضعة للرقابة المشددة، إن هذه الطريقة الحسابية الجديدة ليست فعالة وأثبتت محدوديتها في كبح هذا التدفق من الأموال إلى أيدي النظام العراقي مباشرة ليتصرف بها كما يشاء دون أية اعتبارات أخلاقية أو دولية أو إنسانية وهو يرى شعبه يعاني من شظف العيش وقساوة الحياة اليومية.بل ويثير ذلك ثلاث تبعات أو إنعكاسات تسير بإتجاه معاكس لما هو مطلوب أو مرجو من مثل هذه الحسابات الجديدة. إلى درجة إن الدول الخمسة الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة إنقسمت على نفسها بشأن هذا الموضوع وإن البعض منها، وعلى رأسها روسيا، قد طالبت بتغيير الطريقة الحسابية المذكورة التي تطبقها الأمم المتحدة بخصوص إدارة عائدات النفط العراقي. وذلك لأن هذه الطريقة تدعم وتقوي المبيعات غير المشروعة وغير القانونية للذهب الأسود (طبعاً من وجهة نظر المعترضين) وللتعبير عن إستياءهم وعدم موافقتهم للنظام الحسابي الجديد الذي تبنته الأمم المتحدة، قرر الزعماء العراقيون تخفيض صادراتهم النفطية الرسمية المعلنة من النفط الخام بمقدار 700000 برميل يومياً أو حتى المليون برميل يومياً "كما صرح بذلك روبرت مابرو، رئيس الوكالة البريطانية المعروفة بإسم معهد أكسفورد لدراسات الطاقة. من الناحية الرسمية تقدر عملية التخفيض للنفط العراقي المصدر الخاضع للرقابة الدولية بمقدار الثلث، ولكن في حقيقة الأمر لم تنخفض صادرات النفط العراقي إلا بنسبة 10 % وبذلك فإن المبيعات "الموازية ـ خارج الإطار المتفاوض عليه في نطاق صيغة النفط مقابل الغذاء" قد إزدادت وبلغت معدل 370000 برميل في اليوم حسب الوكالة المتخصصة بإقتصاديات الشرق الأوسط Mes التي قدمت هذه الأرقام والتقديرات بينما قدرت الوكالة البريطانية ـ معهد أكسفورد برئاسة روبرت مابرو، مبيعات النفط العراقي غير المشروعة بـ 150000 برميل في اليوم ومهما يكن الأمر فإن المجال واسع وشبكة التهريب من السعة بمكان يستحيل حصر مقدار المبيعات النفطية المهربة من خلالها. فمطاردات البحرية الأمريكية لناقلات النفط والبواخر والقوارب التي تقوم بتهريب النفط العراقي داخل مياه الخليج قد أوقفت وفتشت حتى تاريخ 11 آب/ أغسطس 2002 حوالي 298 قارب أي ثلاث أضعاف ما اعترضته البحرية الأمريكية في العام الماضي. ولكن هذا هو الجزء الظاهر فقط من جبل الثلج الخفي كما يقول المثل: فليس المعني من ذلك سوى 10 % من قيمة المبيعات الشهرية من النفط الخام المُهَرّب من قبل السلطات العراقية أي ما قيمته 280 مليون دولار شهرياً. وهذا يعني أن النظام العراقي نجح في وضع وتثبيت أركان نظام موازي لتجارته النفطية يدر عليه أضعاف ما كان يكسبه رسمياً قبل حرب الخليج الثانية عام 1990. فالنفط الخام يسحب بطرق تكنولوجية مبتكرة من أنابيب النفط وينقل عن طريق الشاحنات التي تجتاز الحدود وبالأخص ياتجاه ميناء العقبة الأردني أو عن طريق الخليج العربي من خلال تحميلات صغيرة ومتوسط في قوارب وبواخر غير معروفة الهوية أو تحمل أعلاماً أجنبية وكذلك عن طريق سوريا وتركيا وإيران. فسوريا تتلقى الحصة الأكبر من النفط العراقي المُهَرّب بمعدل 180000 برميل يومياً، هذا عدا النفط الذي تشتريه رسمياً من العراق بأسعار منخفضة وتعيد بيعه في السوق الدولية الحرة وتربح فرق التسعيرة. والأردن المستثنى من قيود الأمم المتحدة فيما يتعلق بمشترياته من النفط العراقي، يبتلع بدوره 110000 برميل يومياً. وتركيا تمتص 50000 برميل يومياً أما الكمية التي يتم تهريبها عبر الأراضي الإيرانية بالتواطؤ مع شبكة من المسؤولين وحراس الثورة الإيرانيين فلم تعرف قيمتها بدقة بعد. النتيجة الثانية المنعكسة عن الإتفاق الذي أبرمته الأمم المتحدة هو إثارته إستياء أصحاب مصافي النفط الأمريكيين الذين شيدوا مصانعهم ومصافيهم ومنشآتهم وفق مقاييس وكميات ومعدلات النفط العراقي الخام الذي يصل إليهم حيث تتربع الولايات المتحدة الأمريكية على قمة المستهلكين لهذا النفط بموجب قرار النفط مقابل الغذاء. ولذلك كتب بيل غريهاي وهو صاحب مصفى نفطي مستقل (أي غير خاضع للكارتل الاحتكاري في هذا المجال)، وهو أيضاً مسؤول مجموعة فاليرو، رسالة إلى وزير الطاقة الأمريكي سبنسر أبراهام يطالبه فيها بتغيير طريقة الحساب الدولية التي تتبعها الأمم المتحدة وكان رد الحكومة الأمريكية فوري وقاطع مفاده: " إن هذا الفائض الضريبي الذي تفرضه الحكومة العراقي ينتهك قرارات مجلس الأمن والاتفاقيات الدولية بهذا الشأن "والحال إن الاتفاق الحالي يناسب الأسواق النفطية " لأنه لاتوجد كميات كافية من النفط الخام في هذه الأسواق ولذلك فإن الأسعار ماتزال مرتفعة " على حد تعبير روبرت مابرو. فنفط لندن ظل ثابتاً على سعر 27 دولار للبرميل مقابل 29.33 دولار في نيويورك ميركانتل إكسشينج New York Mercantile Exchange. ومما لاشك فيه إن الجميع يعلمون بهذه التفاصيل لكنهم لايحركون ساكناً حفاظاً على مصالحهم وامتيازاتهم التي تدر عليهم ملايين الدولارات على حساب هذا الشعب الذي تحول إلى أفقر الشعوب على الكوكب حيث لايتجاوز في قدرته الشرائية سكان بنغلاديش أو شعوب أفريقيا الجائعة. وهكذا دخل العالم اليوم بعد صدور القرار 1441 عن مجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة، في لعبة التكهنات والافتراضات والاحتمالات حول ما سيفعله صدام حسين ونظامه وماسيفعله جورج بوش وإدارته وما سيفعله مجلس الأمن الدولي وأعضائه الدائمين والمتغييرين فيما لو ... يبقى السؤال يتردد: ماذا سيفعل هذا الطرف أو ذاك إذا قبل أو لم يقبل صدام حسين كافة بنود وشروط وتفسيرات قرار مجلس الأمن الدولي الأخير رقم 1441 وكيف سيتم تنفيذه بحذافيره ومن ستكون له صلاحية تقدير وتقويم وقبول أو عدم قبول ما تم تنفيذه واعتبار إن صدام حسين قد أذعن كلياً لمحتوياته؟ يقول المراقبون إن صدام سيقبل قواعد اللعبة المفروضة عليه بشأن عمل المفتشين الدوليين المكلفين بالتفتيش عن أسلحة الدمار الشامل العراقية وتدميرها ومراقبة العراق على الأمد الطويل لمنعه من استئناف عمليات التصنيع العسكري الممنوعة والمحرمة عليه منذ عام 1990 إثر غزوه للكويت، ولكن لا أحد يعرف على وجه اليقين ما إذا كانت الولايات المتحدة ستكتفي بذلك وتتخلى عن مشروع إطاحة نظام صدام حسين وضرب العراق عسكرياً.
الشيء المؤكد اليوم هو أن الولايات المتحدة الأمريكية إذا تدخلت عسكرياً فسوف تقلب المعادلات والمسلمات وتخلق واقعاً جديداً شديد التعقيد يتطلب منها أن تتخذ مواقف خطيرة تترتب عليها تداعيات خطيرة وكثيرة، فعليها أن تقرر هل ستبقى طويلاً في العراق، وهل ستحكم البلد بصورة مباشرة عن طريق تعيين حاكم عسكري أمريكي أم أنها ستظل هناك متوارية خلف حكومة عراقية كارتونية تحركها كما تشاء؟ وإذا ظلت متمركزة في العراق بحجة إعادة الإعمار وتكريس الاستقرار السياسي وتوفير سبل السلام والازدهار الاقتصادي في العراق فهل ستفعل ذلك حقاً؟ أم أنها ستكون عازمة على إعادة ترتيب وتشكيل المنطقة برمتها؟ وإذا فشلت في ذلك أو خرج الأمر عن سيطرتها وحساباتها فهل من شأن ذلك أن يخلق حالة من الفوضى تؤثر تأثيراً مباشراً وخطيراً على أسواق أوروبا الأقرب إلى المنطقة العربية وأكثرها إعتماداً عليها بتزودها بالنفط وتصريف بضائعها فيها؟.
بعبارة أخرى ستدخل أمريكا العالم في منطقة المجهول. لو إنصاع صدام للتهديدات ولم يعرقل بأي شكل من ألأشكال عمل اللجنة الدولية أنموفيك في تفتيشها عن أسلحة الدمار الشامل، فهل سيمكنه أن يخرج منتصراً من جولة الصراع هذه؟ فهو قد ينجح مؤقتاً في إنقاذ نظامه، وستتاح له الفرصة عندئذ لمطالبة المجموعة الدولية أن تتحرك لرفع العقوبات عن نظامه وهذه هي الورقة التي تحثه فرنسا على لعبها في وجه المناورات الأمريكية ولكن بحذاقة وحذر شديدين وبأكبر قدر من الدقة. إلاّ أن الولايات المتحدة الأمريكية تعرف أنه كان لدى صدام حسين الوقت الكافي منذ بدء الحملة الإعلامية والنفسية ضده، أن يخفي أسلحته المحظورة ويخلي مواقعه العسكرية من أية آثار تدينه وإغلاق مختبرات الموت لأنه يعرف تمام المعرفة أنه لايملك أي مجال للمناورة أو التسويف أو التملص من التزاماته لأن الولايات المتحدة الأمريكية تقف له بالمرصاد وعازمة على معاقبته ومحاكمته وسوف تتدخل عسكرياً في أول فرصة متاحة لها دون أن تهتم لردة فعل المجموعة الدولية. وفي حالة تقصير صدام حسين في واجباته فإن من شأن ذلك أن يجعل بعض المدافعين عنه في المحافل الدولية كالصين وروسيا وفرنسا في موقف حرج وسيقفون ضده ويؤيدون ويدعمون أمريكا في حملتها العسكرية، ولكن ليس أمراً أكيدا إن الرئيس الفرنسي جاك شيراك سيشارك عسكرياً في تلك الحملة بحجة أنها لم تتم في إطار تنفيذ قرار دولي تم التصويت عليه بالإجماع وعندها سيصبح صدام حسين ونظامه مجرد ذكرى مصيرها النسيان والاندثار. فعلى الصعيد النظري وعلى ضوء ما يجري اليوم من تحضيرات واستعدادات دولية ظاهرية لتنفيذ قرار الأمم المتحدة الأخير 1441، اصبحت الحرب شبه حتمية ولايمكن تفاديها. لكن على الصعيد العملي فإن فرص عدم شنها مازالت ضئيلة وشبه معدومة نظراً لتجارب الماضي وإمكانية وقوع صدام حسين في شرك حساباته الخاطئة ـ أو جره إليها رغماً عنه ـ مما سيقدم الذريعة للبنتاغون وصقور الإدارة الأمريكية لإطاحته وقطع رأسه. وزارة الخارجية الأمريكية ووزيرها كولن بول قد يكتفون بعملية نزع السلاح العراقي المحرم دولياً وتدميره مثلما هي رغبة الفرنسيين والروس والصينيين، الذين يرضون بإضعاف صدام حسين إلى درجة كبيرة ومنعه من تشكيل أية خطورة تذكر على جيرانه. لكن دونالد رامسفيلد ومستشاريه العسكريين والمدنيين وكونداليزا رايس مستشارة الأمن القومي، يريدون إطاحة نظام صدام حسين، ليس من أجل سواد عيون الشعب العراقي، بل من أجل تنفيذ مخطط جهنمي أكبر وأوسع يتجاوز حدود إسقاط نظامديكتاتوري جائر واستبداله بنظام آخر أكثر طواعية ومولاة للولايات المتحدة الأمريكية. فطموحات البنتاغون هائلة ولدى وزارة الدفاع وصقور الإدارة الأمريكية الحالية مشروع استراتيجي متكامل للمنطقة برمتها يتمثل بخلق واقع جديد في المنطقة وتبديل الأدوار وإعادة توزيع الأوراق فيها. تبدأ الخطة في تغيير النظام العراقي بطريقة من الطرق مثل تخويفه ودفعه للإستسلام والتخلي عن السلطة سلمياً دون إطلاق رصاصة واحدة، أو إطاحته بالقوة العسكرية. ثم خلق فيدرالية عراقية تقوم بتوزيع عائدات النفط بطريقة عادلة ومتساوية بين كافة مكونات الشعب العراقي وقومياته وأطيافه كالعرب والأكراد والشيعة والسنة والآشوريون والتركمان والمسيحيين والمسلمين الخ.. وتشييد نموذج أو نمط جديد للدولة الحديثة المتطورة في المنطقة التي ستؤثر من خلال فرادتها ونموذجها الفريد في الديموقراطية والازدهار على باقي دول المنطقة التي ستصبح في نظر مواطنيها دولاً وأنظمة متخلفة وهذا سينطبق على النموذجين الإيراني والسعودي على حد سواء ناهيك عن النماذج الأخرى من الأنظمة القائمة في مصر وسوريا والأردن والمغرب العربي والخليج.
العقول المخططة والمفكرة في الإدارة الأمريكية والبنتاغون تريد تأمين الاستقرار في الشرق الأوسط على طريقتها الخاصة من خلال تغيير المعطيات الاقتصادية والسياسية والاستراتيجية. فهي تريد حل العقدة الفلسطينية الاسرائيلية نهائياً بما يضمن سلامة وأمن واستقرار وازدهار اسرائيل بالطبع ومنح شبه دويلة للفلسطينيين بعد الانتخابات التشريعية الاسرائيلية القادمة التي يتوقع أن يفوز فيها حزب العمال الإسرائيلي بزعامته الجديدة متمثلة بشخص الجنرال مارام ماتسنام محافظ حيفا، أو حتى في حالة فوز شارون مرة أخرى، وعودة الروح إلى مفاوضات السلام من النقطة التي توقفت عندها في زمن اسحق رابين. وبعد ذلك العمل على تشكيل مثلث استراتيجي جديد يمثل القاعدة المتنية للمصالح الأمريكية في المنطقة والذي سيتكون من تركيا وإسرائيل والعراق الجديد. وبعد ذلك المباشرة في تصدير الثورة الليبرالية المجربة في العراق لمهاجمة المنابع والمصادر الحقيقية بنظرهم التي أدت إلى تشوء التطرف والتشدد والإرهاب الإسلاموي وساعدت في نجاح الإسلامويين في مساعيهم ونشاطاتهم وتجنيدهم للأنصار والموالين ، وتكمن هذه العناصر في اللاعدالة والفقر والاستبداد الذي تمارسه أنظمة فاسدة محسوبة على الولايات المتحدة ومتماهية معها في نظر جماهير الشرق الأوسط بمختلف فئاتهم وطبقاتهم.
هذه هي الرؤية الأمريكية للوضع السائد حالياً في أكثر المناطق حساسية وخطورة في العالم بالرغم من كونها رؤية واضحة. وهي رؤية سياسية إلى جانب كونها عسكرية من ناحية أن تنفيذها يتطلب من القوات المسلحة الأمريكية أن تزج بكل ثقلها وتتمركز بكل قوتها في المنطقة لعدة عقود على الأقل ولكن لاشيء يؤكد إمكانية تطبيقها بدون عقبات أو مآسي بشرية ونفسية ومعاناة ومقاومة شرسة من قبل المناوئين لها. فإذا أراد جورج دبليو بوش إسقاط صدام حسين كتعويض عن عدم نجاحه في القبض على أسامة بن لادن، وإذا كان يؤيد مشاريع المحافظين الجدد المتطرفين في إدارته والمتجمعين في البنتاغون أساساً حول شخص رامسفيلد، فمن غير المحتمل في الوقت الحاضر أن يذهب بعيداً في تأييده المطلق وضربه عرض الحائط المحاولات الديبلوماسية الدولية والأمريكية على السواء والمتثملة بمساعي وزير الخارجية كولن باول. وفي نفس الوقت إن التخلص من صدام حسين والانسحاب فوراً من العراق وتركه نهباً للصراعات الداخلية وتصفية الحسابات، بعيداً عن الحدود الأمريكية لكن بالقرب من الحدود الأوروبية، يجعل من هذا البلد بؤرة للإنفجار الشامل في الشرق الأوسط وإشاعة الفوضى والاضطرابات وهو الاحتمال الممكن الذي تخشاه أوروبا وتحاول منعه بكل السبل مما يفسر مواقف الدول المؤثر في الاتحاد الأوروبي تجاه المسألة العراقية كفرنسا. وإن عدم السماح لتركيا بالانضمام إلى الاتحاد الأوروبي سيكون أحد العوامل المساعدة في حدوث مثل هذا الانفجار المحتمل خاصة إذا لم ننس إنها إحدى أضلاع المثلث الاستراتيجي المرسوم أمريكياً للمنطقة.


الفصل الثامن
عراق الأمس وعراق الغد: بين طموحات التحرر ومطامع الإمبراطورية الأمريكية
لا نحتاج لتكرار الحديث بأن العراق بلد ذو تاريخ عريق يمتد آلاف السنين قبل ميلا المسيح الأمر الذي تفتقده الولايات المتحدة الأمريكية التي اكْتُشفَت قبل بضعة قرون تعد على أصابع اليد الواحدة مهما بلغت اليوم من تعسف وطغيان مغلّف بشعارات الحرية والديموقراطية والسلام وحقوق الإنسان. لكن شعب هذا البلد المظلوم واقع الآن بين مطرقة الإدارة الأمريكية وسندان صدام حسين ويتلقى الضربات المدمرة من الجانبين ويستنزف من الداخل والخارج والكل يتفرج عليه ويتشفى منه خاصة من جيرانه وأشقائه وحلفائه السابقين.
لقد تسلمت الولايات المتحدة الأمريكية إرث بريطانيا العظمى الاستعماري وتعهدت برعاية وحماية إسرائيل التي خلقتها القوى الاستعمارية منذ وعد بلفور السيئ الصيت وتمكنت أمريكا المعاصرة من فرض قبضتها السياسية والعسكرية والاقتصادية والاستراتيجية على دول منطقة الشرق الأوسط برمتها ولكن على درجات متفاوتة. وبفعل وعي ويقظة شعوب بعض الدول العريقة تمكنت هذه الأخيرة نسبياً من الإفلات من جبروت هذه القبضة كما كان الحال في مصر وسورية والعراق. لكن مصر استسلمت لواقع الحال بعد وفاة جمال عبد الناصر حيث رمي السادات بمصر في أحضان الولايات المتحدة الأمريكية وصار يعيش على فتات مساعداتها التي تبتزه فيها كلما رفع رأسه معاتباً وليس محتجاً خاصة فيما يتعلق بالمسألة الفلسطينية والاعتداءات الإسرائيلية المتواصلة ضد العالم العربي. . أما العراق فمنذ استقلاله من هيمنة الاستعمار البريطاني عند سقوط العهد الملكي على يد الضباط الأحرار في انقلابهم العسكري في 14 تموز سنة 1958، والذي تحول تدريجياً إلى ثورة حقيقية قلبت بنيان المجتمع العراقي على عقب وأدخلت فيه إصلاحات جوهرية، بات هو البلد الوحيد الذي مازال يقاوم تلك القبضة الحديدية الأمريكية الجبارة التي حاولت وتحاول دائماً أن تحل في مكان الإمبراطورة العجوز وذلك بفضل وعي شعبه وقواه الوطنية وليس عنتريات نظامه الذليل والعميل. ولقد بات واضحاً اليوم لدى كافة المراقبين والمحللين الاستراتيجيين أن الولايات المتحدة الأمريكية تشكل قوة إمبراطورية جديدة صاعدة لا تقاوم، لاسيما بعد انهيار الإمبراطورية السوفيتية وتفككها. فعاجلاً أم آجلاً ستجد أوروبا الموحدة والموسّعة نفسها تقف مرغمة في وجه تطلعات وطموحات جورج بوش الإبن الإمبريالية الجديدة، وكذلك معارضة من سيخلفه في الرئاسة إذا كان يسير على آثاره ويواصل سياسته العدوانية المتغطرسة والتي لا تبالي حتى بحلفاء الأمس القريب ومصالحهم الحيوية وعلى رأسهم الأوروبيين. عندما كان جورج بوش الإبن مرشحاً للرئاسة وانفضح أمره كسياسي غير متابع وجاهل بأمور العالم الأساسية، كان محط سخرية وتهكم من قبل الانتلجانسيا الأوروبية وعلى الأخص الفرنسية منها. ولم تلحظ فيه سمات الشخصية الشيطانية الشريرة والعنيفة والخطرة كما ترسمها أفلام الغرب الأمريكي الكاوبوي، إلاّ بعد 11 أيلول/ سبتمبر، ليس كما هي عليه شخصيته ذاتها بل بما تمثلها من قيم وسلوكيات. الجدير بالذكر أن نزعة معاداة النمط الأمريكي كانت متفشية في الأوساط الفرنسية المثقفة منذ قرنين أو أكثر مما ساهم في إشاعة عدم الفهم الحقيقي للشخصية الأمريكية العصابية. فبالنسبة لليسار الفرنسي كانت أمريكا غير يعقوبية بما فيه الكفاية، وبرجوازية أكثر من اللازم، وتعددية بصورة مبالغ بها، وعنصرية في الأعماق، ومادية جداً. أما بالنسبة لليمين الفرنسي فكانت على العكس، ديموقراطية أكثر من اللازم، ومبتذلة وسوقية جداً، في أخلاقها، وفي أفكارها، وفي أسلوبها بل وحتى في ماديتها. كما يقول باتريك هيغونيه أحد أساتذة التاريخ المعاصر الفرنسيين في جامعة هارفارد. لذا بات من الصعب (ومازال صعباً جداً) إستيعاب أمريكا الحقيقية.
كان ذكاء توكفيل الحاد قد ساعد في فترة ما، من خلال تحايل تاريخي، على الاقتناع بأنه في هذا البلد المسمى أمريكا، البلد الشعبي والديموقراطي، استمرت وعاشت القيم السياسية الليبرالية (قوة وقيمة الفرد في مقابل الدولة، واحترام الحقوق السياسية والاجتماعية للآخر، وهي الحقوق التي ابتكرها ونادى بها الأرستقراطيون الفرنسيون والإنجليز) والتي رفع لوائها وحمل رايتها الرواد الأوائل للاستقلال الأمريكي.
إن هذه النظرة المعادية لأمريكا قد ولى زمانها اليوم والجميع مقتنع بأن هذا البلد هو الأول في كل شيء. ولكن غاب عن الأنظار أننا لا يمكننا أن ننتقد أمريكا بالإجمال والتعميم إذ أن هناك أمريكتان وليست أمريكا واحدة.أمريكتان متناقضتان كلياً ومختلفتان تماماً فلا يمكننا أن ننسى الصورة السابقة التي سحرت توكفيل عن أمريكا التقدّمية، الليبرالية والبرجوازية، فهناك من جهة أمريكا الـ New Deal ، وهي أمريكا جيمي كارتر والرؤوساء الطهرانيين من قبله، وهي التي عرفها وأحبها جاك شيراك عندما كان طالباً في جامعة هارفرد قبل أربعون عاماً. وهناك من جهة أخرى أمريكا ثانية مشؤومة ونحسة، وهي أمريكا جورج دبليو بوش ورامسفيلد وفولفوفيتز وقبلهما رونالد ريغان، وديك شيني، أي أمريكا الإمبراطورية، أو كما يقال هناك american goodness في مقابل american power وأن الخضوع والإستسلام لهذه الأخيرة سيكون خياراً خاطئاً وخطيراً وذو تبعات كارثية على حد تعبير هيغونيه. كانت أمريكا الأمس، وريثة عصر الأنوار، التي قدمت قادة من طراز أبراهام لينكولن وفرانكلين روزفلت وهاري ترومان، قد توارت اليوم أمام أمريكا رونالد ريغان وجورج دبليو بوش، والتي تحولت إلى أمريكا المضطربة والمتوترة والمثيرة للقلق، حيث التعددية قناع يخفي المصالح الخاصة. أمريكا مسيحية متعصبة، ومسلحة حتى النخاع، ومتعجرفة ومتغطرسة، وإمبريالية، وعنصرية ووصولية منافقة، أمريكا التجسس والوشاية والتآمر،والمتجسدة بشخصيات موبوءة ومشبوهة وموتورة من أمثال ديك شيني، وآشكروفت، ودونالد رامسفيلد، ووليم كرستول، وترنت لوت، وكونداليزا رايس، وكارل روف، وبوانديكستر، وإليوت آبرامز، الخ ... وهذين الأخيرين مطلوبين للعدالة حيث حكمت عليهما محاكم بتهم خطيرة في قضية فضيحة إينرون التي تمس حتى جورج دبليو بوش نفسه. إن أمريكا هذه، ذات نزعة تسلطية وهيمنة بلا حدود، تريد الحرب بأي ثمن، وتريد النفط الرخيص وبلا أي عائق، تتحكم به كما تشاء هي، وفي خضم ذلك سحق الفلسطينيين وإخضاعهم الكلي للإرادة الإسرائيلية وتحقيق الهيمنة الإمبريالية الكلية بجميع أشكالها . وهي كذلك أمريكا تسيطر عليها روحية وطنية بدائية ورأسمالية وحشية، متشددة ومتعصبة، محدودة أو قصيرة النظر وبليدة تسحق الضعفاء والمحرومين. دولة يحكمها عصابة من عديمي الشرف والاستقامة، وعديمي المهارة والذكاء والحذق، ومع ذلك يظهرون للعالم أنهم واثقون من أنفسهم كل الثقة. لاينبغي التقليل من خطورة جورج بوش وفريقه، فهم يهدفون علنا إلى السيطرة، ليس فقط على العراق، بل وكذلك على أوروبا واليابان وآسيا الوسطى من خلال التحكم بثروات هذه المنطقة الحساسة والثرية في طبيعيتها وجغرافيتها وديموغرافيتها. هل يتوجب على أوروبا التعامل مع أمريكا الهجومية والتملق لها عن طريق التعاون والتنسيق معها وقبول ماتمليه على شركائها بلا قيد أو شرط كما هو حال بريطانيا ورومانيا؟ أم على العكس رفض هذا الإملاء القسري الأمريكي وتحديه بصورة من الصور كما فعلت ألمانيا وفرنسا فيما يتعلق بالمسألة العراقية؟ هذا هو الرهان الذي تواجهه أوربا في نقاشها السياسي والاستراتيجي مع أمريكا الثانية في أروقة الأمم المتحدة. هناك الكثير من المحللين الاستراتيجيين يأملون أن تلعب فرنسا ورقتها لإسماع واشنطن صوتها وموقفها ورؤيتها أكثر من شريكاتها الأوروبيات كألمانيا وبمستوى أقل بريطانيا. إلا أن التعاون مع أمريكا الثانية، أمريكا المحاربة، فخ يمكن أن يبتلع الجميع، الأصدقاء قبل الأعداء. يجب إفهام أمريكا بكل صرامة وجرأة واعتدادا بالنفس، ما هي حدودها وماهي الخطوط الحمر التي لاينبغي عليها تجاوزها وإنها ليست هي التي تضع الخطوط الحمر للآخرين. نظام صدام حسين سينهار آجلاً أم عاجلاً، وربما من تلقاء نفسه وربما بدون الحاجة إلى إلقاء الحمم البركانية فوق رأسه وإلقاء أطنان القنابل على العراق وسكانه المظلومين والمضطهدين الذين لايهتم بهم بوش ومساعديه حقاً.
فأمريكا جورج دبليو بوش تشكل تهديداً لنفسها وللعالم كله كما قال أناتول ليفين في مقال له في مجلة لندن للكتب London Review of Books. فنتائج وتبعات فشل الحملة العسكرية الأمريكية على العراق ، وهي محتملة، ستكون كارثية وسيدفع ثمنها مئات الآلاف من الأبرياء والمدنيين ناهيك عن العسكريين. كما أن التبعات والنتائج والإنعكاسات لنجاحها لاتقل خطورة عن الأولى.فالشهية تتفاقم عند الأكل كما يقول المثل ، ومحور الشر فكرة راسخة في رأس هذا الرئيس المندفع لكنها ذات تأثيرات وانعكاسات متنوعة خاصة إذا ما تملكه جنون العظمة وقرر تقويض النظام الإقليمي برمته وزعزعة إيران وضرب كوريا الشمالية. مالعمل؟ أن ترفض كافة القوى القادرة، المساهمة عملياً وعسكرياً ومالياً وسياسياً ودبلوماسياً في هذه الحرب العدوانية وتنشيط الدبلوماسية الدولية للتخلص من صدام حسين ونظامه سلمياً وبأسرع وقت قبل أن يفوت الأوان.لكن الديبلوماسية الفرنسية تبدو مترهلة وعاجزة وشبه منهارة ولن تجرأ على استخدام حق النقض ـ الفيتو ـ ضد مخططات واشنطن لسد الطريق أمام أية شرعية دولية لهذه الحرب التي ليس لها هدف سوى الهيمنة وليس تحرير العراقيين كما تدعي واشنطن.إن تجارب الماضي في العراق علّمته الاعتماد على نفسه للخروج من أزماته ومشاكله وعدم الاعتماد على الأجانب الذين لايمكن أن يمدوا له يد المساعدة من أجل سواد عينيه. وعليه أن يكون واعياً بأن تعاونه وتنسيقه مع الولايات المتحدة للتخلص من صدام حسين سيكون ثمنه باهظاً لن يكون قادراً على تسديده إلا بتنازله عن حريته وسيادته واستقلاله الحقيقي.فإذا ضربت أمريكا العراق فعلى العراقيين جميعاً وعلى رأسهم قوى المعارضة الوطنية أن ينتهزوا الفرصة للإنقضاض على السلطة وأخذها مهما كان الثمن والشهداء الذين سيقدمونهم، لقطع الطريق أمام الآلة العسكرية الأمريكية ومنعها من إحتلال البلاد، وإلاّ فسيكون مستقبل العراق داكناً ومعتماً وبلا أفق.












الفصل التاسع
الأهداف الخفية للإدارة الأمريكية تجاه العراق:
بعد أسابيع قليلة من توليه السلطة عام 2000، وجه بوش ضربة صاروخية للعاصمة العراقية بغداد دون أن يكون هناك مبرر منطقي سوى التأكيد على أن المواجهة بين الولايات المتحدة ونظام صدام حسين ما زالت قائمة ، وأن إزاحة هذا النظام والتخلص منه يقف على قمة الخيارات التي تلتزم بها الإدارة الأمريكية . ومع ذلك فقد انتهجت هذه الإدارة في تصعيدها للموقف آنذاك أسلوب التروي والحذر ، حرصاً منها على تجنب إثارة حفيظـة الدول العربيـة والأوروبيـة التي كانت ترى أن العمـل العسكري لن يحل المشكلـة العراقيـة ، وإنما سيزيد الموقف في المنطقـة تفجـراً وتعقيداً .
ولكن ، وبعد وقوع أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001م ، تحول هذا التروي والحذر الأمريكي في التعامل مع المشكلة العراقية إلى اتخاذ مواقف وقرارات صارمة ، حيث أعلنت الولايات المتحدة صراحةً عزمها على القيام بضربـة عسكريـة ضد العراق باعتباره إحدى الدول المارقـة التي تدعم الإرهاب وتوفر له الملاذ الآمن ، فضلاً عن اتهامـه بالعمل على حيازة أسلحة الدمار الشامل . فما أن انتهت أمريكا من الإطاحة بنظام طالبان في أفغانستان وضرب تنظيم القاعدة ، حتى بدأ المسؤولون الأمريكيون يطلقـون التصريح تلو الآخر حول ضرورة توجيه ضربـة عسكرية للعراق تستهدف الإطاحـة بالنظام الحاكم في بغداد والتخلص من رئيسه صدام حسين .

وقد بلغت تلك التصريحات ذروتها حين أعلنت الإدارة الأمريكية على لسان متحدث باسم مجلس الأمن القومي الأمريكي ، رفضها للدعوة التي وجهها وزير خارجيـة العراق لرئيس المفتشين الدوليين هانز بليكس لزيارة العراق لإجراء محادثات فنية حول عودة المفتشين لبغداد ، واعتبرت هذه الدعوة بمثابـة التفاف حول قرارات الأمم المتحدة الداعية لعودة المفتشين الدوليين دون قيد أو شرط ، كما صرح بأن سياسة واشنطن تجاه تغيير النظام في العراق لم يطرأ عليها أي تغيير ، وأن لا علاقة لها بمسألة عودة المفتشين . وهذا ما أكده الرئيس بوش نفسه حين قال بأنه لم يتغير شيء في السياسة الأمريكية حيال العراق ، وأن الولايات المتحدة سوف تستخدم كل ما لديها من أدوات للإطاحة بالنظام القائم في بغداد .
وكانت صحيفة نيويورك تايمز قد نشرت مؤخراً وثيقة عن خطة لغزو أمريكي واسع النطاق على العراق تستهدف القضاء على النظام في بغداد والإطاحة بالرئيس صدام حسين ، تتم على غرار عاصفة الصحراء التي جرت عام 1991م ، ويشترك في تنفيذها الآلاف من مشاة البحرية والجنود الأمريكيين تدعمهم الطائرات والسفن الحربية المتواجدة في المنطقة .
وكانت الأنباء قد أشارت في وقت سابق على نشر هذه الوثيقة إلى أن الرئيس الأمريكي بوش رفض طلب السفراء العرب الذين اجتمع بهم في الشهر الماضي تأجيل ضرب العراق لعام قادم ، حتى يتسنى لحكوماتهم إقناع المسئولين في بغداد بضرورة الموافقة على عودة المفتشين الدوليين للعراق ، والتزامه بتنفيذ كافة القرارات الدولية التي ترتبت على حرب الخليج الثانية . كما رفض جورج دبليو بوش المخاوف التي أبداها العاهل الأردني أثناء زيارته الأخيرة لواشنطن حول المخاطر التي يمكن أن تترتب على دخول أمريكا في حرب مع العراق قائلاً بجفاء يرقى – في نظر مراسل ال بي بي سي – إلى مرتبة صفعة متعمدة وجهها بوش للعاهل الأردني : إنه لم يعدل عن أفكاره منذ أن زاره آخر مرة ، وإنه ما زال على موقفه من وجوب تغيير النظام القائم في بغداد .

والواقع أن الإصرار الأمريكي المحموم على ضرب العراق يثير عدداً من التساؤلات عن الأسباب الحقيقية لهذا الإصرار ومبرراته وأهدافه لعل من أهمها : هل حقيقة أن النظام العراقي بزعامة صدام حسين يشكل الهدف المنشود من الضربة العسكرية التي تعد لها الإدارة الأمريكية ؟ ، وهل تستطيع أمريكا إذا ما جاءت بنظام آخر بديل أن تضمن أن يكون نظاماً ديمقراطياً يرعى شؤون شعبه كما تدعي ؟ وهل إذا جاء نظام آخر لا يروق لأمريكا وإسرائيل ، يستطيع أن ينجو من تكرار التهديدات الأمريكية ؟ .
وحتى نجيب على هذه التساؤلات ونفهم مضمون السياسة الأمريكيـة ومبرراتها وأهدافها حيال العراق ، ينبغي أن نبحث في عدد من الركائز التي تمكننا من الوقوف على حقيقة تقويم إدارة بوش للنظام العراقي القائم ، والحجج والدعاوى التي تستند إليها في هذا التقويم ، ومعرفة الأهداف التي تأمل في تحقيقها من ضرب النظام العراقي والتخلص من رئيسه صدام حسين ، والآليات التي ستتبعها في تنفيذ مخططاتها في هذا الشأن .
قبل وقوع أحداث الحادي عشر من سبتمبر بدا واضحاً أن ثمـة قراراً أمريكياً نهائيـاً قد اتخذ بشأن ضرب العراق بهدف تغيير النظام القائـم فيه ، وبخاصـة بعد أن تمكنت الإدارة الأمريكية من إسقاط نظام طالبان وتدمير قواعد ومراكز التدريب التابعـة لتنظيم القاعـدة الذي يتزعمه أسامـة بن لادن في أفغانستان .

وبدأت ملامح هذا القرار تظهر بصورة أكثر وضوحاً ، حين أعلن بوش في خطاب حالة الاتحاد الأخير أن الأمـة الأمريكية سوف تواصل العمل بصبر وثبات على تحقيق هدفين رئيسين : أولهما – قصف معسكرات التدريب الخاصة بالمنظمات الإرهابية في جميع أنحاء العالم وإجهاض مخططاتها وملاحقة عناصرها وتقديمهم للعدالة ، وثانيهما– منع الأنظمـة التي تدعم الإرهاب وتوفـر له الملاذ الآمن من تهديد الولايات المتحدة وأصدقائها باستخدامها أسلحة الدمار الشامل ، التي يمكن أن تمد بها المنظمات الإرهابية التي تدعمها وتؤويها ، وبخاصة العراق وإيران وكوريا الشمالية التي وصفها بوش بمحور الشر ، والتي – بامتلاكها لأسلحة الدمار الشامل أو محاولة تصنيعها أو الحصول عليها– يمكن أن تهدد أمن الولايات المتحدة ومصالحها في العالم .

وفي هذا السياق قال بوش : عندما وقعت أحداث 11سبتمبر بدت هذه الدول بمظهر الدول المسالمة .. لكننا نعرف طبيعتها ، فكوريا الشمالية نظام يتسلح بالصواريخ وأسلحة الدمار الشامل في الوقت الذي يمارس فيه كل أنواع الاضطهاد ضد شعبه . وإيران التي يتوق شعبها للحرية .. تعمل بكل جد للحصول على هذه الأسلحـة وتطويرها لتهدد بها الأمن الأمريكي والسلام في المنطقـة . أما العراق الذي ما زال النظام فيه يناصب أمريكا العداء ويدعم الإرهاب ، والذي عمل على تطوير مادة الأنثراكس "الجمرة الخبيثـة" وغاز الأعصاب والأسلحـة النووية طيلـة عقد من الزمان .. وقام بطـرد المفتشين الدوليين من أراضيه ، فإن لدى هذا النظام شيئاً ما يخفيه وإنه كان ومايزال يشكل خطراً على أمن الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها في المنطقة" .

ثم تابع بوش قولـه بأن هذه الدول تشكل محـوراً للشر ، لأنها تتسلح بأسلحـة الدمـار الشامل لتهدد بهـا السلام في العالم . لذلك فإن على الجميع أن يعلمـوا بأن الولايات المتحـدة سوف تقـوم بكل ما تراه ضرورياً للحفـاظ على أمنها القومي .

وقد جاء موقف الدول الثلاث التي عناها بوش مندداً بالاتهامات الأمريكية ، حيث اتهم العراق أمريكا بممارسة "إرهاب الدولة" ضد كل من لا يستسلم لإرادتها ولا يتفق مع سياساتها . كذلك وصف الرئيس الإيراني خاتمي كلمة بوش بأنها مهينة وتشير إلى رغبته المحمومة في الحرب ، وأن سياسة الولايات المتحدة التي تتبعها مند أحداث 11سبتمبر في استغلال قوتها للضرب في جميع الاتجاهات هي سياسة رعناء محكوم عليها بالفشل . كما صرح وزير الخارجية الإيراني كمال خرازي بأن أمريكا بتصريحاتها المتغطرسة ، إنما تكشف عن وجهها الحقيقي ويفضح رغبتها الجامحة في بسط هيمنتها على العالم بأسره .

أما كوريا الشمالية فقد جاء ردها على اتهامات بوش عنيفاً .. حيث أعلنت أنها سترد بقوة على أي ضربات عسكرية توجه إليها ، حيث صرح ناطق رسمي باسم وزارة الخارجية بأن بيونج يانج ترقب عن كثب المناورات الأمريكية التي دفعت بالمنطقة إلى وضع يقترب من حالة الحرب ، مذكراً بأن خيار الحرب الذي تنادي به الإدارة الأمريكية ليس حكراً عليها فقط .

وعلى الرغم من صدور العديد من التصريحات الأمريكية –آنذاك – التي تفيد بأن أقوال بوش لا تعني وجود خطط جاهزة لهجوم عسكري وشيك على الدول الثلاث ، غير أن المسئولين الأمريكيين لم يدعوا مجالاً للشك في أن العراق وحده سوف يكون الهدف الثاني الذي تستهدفه أمريكا في حربها على الإرهاب ، وبخاصة أنه صدرت في الأيام الأخيرة تصريحات أمريكية صريحة تفيد بأن أمريكا لا تسعى إلى تغيير أنظمة الحكم في كل من كوريا الشمالية وإيران . فقد صرح أكثر من مسؤول أمريكي بأن الإدارة الأمريكية على استعداد للدخول في حوار مع كوريا الشمالية ، لمناقشة الموضوعات التي تتصل بصناعة الصواريخ البلاستية ومحاولات تصنيع أسلحة الدمار الشامل ، بغية الوصول لحلول مرضيـة بشأنها ، كما صرحوا بأن الإدارة على استعداد لفتح حوار مع إيران للغرض نفسه .

أما بالنسبة للعراق فقد جاء الموقف الأمريكي مغايراً تماماً ، إذ يبدو أن إدارة بوش قد حزمت أمرها واتخذت قرارها بشأن القيام بغزو عسكري واسع النطاق ضد العراق يستهدف إسقاط النظام في بغداد والتخلص من رئيسه صدام حسين منذ عام 2000 . فقد صرح نائب الرئيس الأمريكي ديـك شيني أكثر من مرة ، بأن إسقاط النظام العراقي أصبح ضرورة ملحة لاستقرار المنطقة والقضاء على الإرهاب ، هذا على الرغم من مبادرة العراق الأخيرة بشأن اتخـاذ خطوات عملية باتجاه عودة المفتشين الدوليين للعراق ، والتزامـه بتطبيق كافـة القرارات التي اتخذتهـا الأمم المتحـدة عقـب الغزو العراقي للكويت . فقد أجرت بغداد في الأشهر القليلة الماضية سلسلة مباحثات مع منظمة الأمم المتحدة حول الموضوعات التي كانت ما زالت معلقة بين العراق والمنظمة الدولية ، وبخاصة مسألة عودة مفتشي الأسلحة الدوليين للعراق التي يتخذها الأمريكيون دوماً ذريعةً لضربه ، والتي انتهت بدعوة وزير خارجية العراق ناجي صبري لرئيس فريق التفتيش والخبراء التابعين له لزيارة بغداد للتباحث حول القواعد التي تنتظم المرحلة التالية من أعمال الرصد والتفتيش في العراق .

والحقيقة أن المتتبع لمواقف الولايات المتحدة من النظام العراقي – منذ وقوع حرب الخليج الثانية وحتى اللحظة – يدرك تماماً أن موقف إدارة بوش الحالي من العراق وكذلك إيران ، هو تطبيق أمين للاستراتيجية الأمريكية التي تستهدف الهيمنة سياسياً وعسكرياً واقتصادياً ونفطياً على المنطقة كجزء من هدفها الغائي في السيطرة على العالم . كما لا يجد المتتبع للمواقف الأمريكية حيال هاتين الدولتين خلال العقود الثلاثة الماضية عناءً في اكتشاف هذه الحقيقـة ، إذ يكفي أن يستقرئ المرء المواقف والتصريحات التي صدرت عن الإدارة الأمريكية منذ وقوع أحداث سبتمبر وحتى الآن ، ليتبين أن العراق كان دائمـاً وما زال واقعاً تحت طائلة الاستهداف الرئيسة للحرب التي أعلنها بوش على الإرهاب .

ففي أواخر شهر نوفمبر تشرين ثاني 2001م ، وجه بوش تحذيراً لصـدام حسين ، بأن عليه أن يسمح بعودة مفتشي الأسلحـة الدوليين للعراق ومزاولـة أعمالهـم بحرية تامة . وعندما سئل عما سيكون عليه الموقـف الأمريكي إذا ما رفض الرئيس العراقي هذا المطلب ، أجاب بوش بعبارة مقتضبـة مؤداها : إنه سيكتشف ذلك بنفسه ، وهي عبارة تنطوي بلا شك على تهديد واضح للعراق .

غير أن أكثر المواقف حدة جاءت من نائب الرئيس الأمريكي ديك شيني والمسؤولين في البنتاجون ، حيث توالت التحليلات والتصريحات التي تحث على توجيه ضربات للعراق وحزب الله في الجنوب اللبناني فور الانتهاء من الحملة العسكرية في أفغانستان . كما توالى تصعيد المواقف الأمريكية بشأن حتمية توجيه ضربة للنظام العراقي ، والتي غالباً ما كانت تزاوج بين التلويح بقرب وقوع تلك الضربة التي تمثل المرحلة الثانية من الحرب على الإرهاب ، وبين التصريح بأن الإدارة الأمريكية لم تتخذ بعد قراراً نهائياً بهذا الشأن .

وليس من شك أن هذه المزاوجة قد أحدثت – في حينها – قلقاً وتضارباً واضحاً في الآراء حول معرفة نية أمريكا من قضية ضرب العراق ، وبخاصة في ضوء صدور تصريحات غامضة ومتكررة حول الموقف ، كالتي ألقى بها الناطق الرسمي باسم الخارجية الأمريكية "ريتشارد باوتشر" : من أن أمريكا مهتمة بملاحقة شبكة القاعدة .. لكنها سوف تظل متيقظة للعراق وتراقب الموقف فيه عن كثب .

وعلى الرغم من ذلك الغموض الذي كان يحيط بالموقـف الأمريكي نحو العراق آنذاك ، غير أن الاتجاه الغالب في تقويم الأوساط العربيـة والأوروبيـة له ، كان يميل إلى الرأي القائل بأن أمريكا سوف لا تُقدم على تنفيذ تهديداتها بضرب العراق لمجرد إصرار صدام حسين على عدم السماح بعودة المفتشين الدوليين ، وإنما لحسابات أخرى قد تعود – في جزء منها – لقرار واشنطن بتسوية حسابات قديمة مع النظام في بغداد .

غير أن هذه الرؤية المتفائلـة سرعان ما تبخرت في ضـوء المواقف والتصريحات التي ألقى بها المسؤولون الأمريكيون خلال الفترة التي أعقبت خطاب الرئيس بوش في حالـة الاتحاد وحتى اللحظـة ، والتي تعطي– في معظمها – انطباعاً : بأن الإدارة الأمريكيـة قد اتخذت قرارها بضرب النظام العراقي .. وأنها تنتظر التوقيت المناسب لتنفيذه . فقد صرح دبلوماسيون غربيون بأن واشنطن توصلت إلى نتيجة مؤداها : إنه يجب ضرب العراق بهدف وضع حد لخطط الرئيس العراقي صدام حسين بشأن تطوير أسلحة الدمار الشامل .. وإن هذه الضربة سوف تأتي في إطار استكمال المهمة التي بدأها الرئيس الأسبق جورج بوش الأب .

وفي هـذا السياق ، صرح مساعـد وزير الخارجية الأمريكية الأسبق ريتشـارد هولبروك بأن إدارة بوش سوف تقاتـل نظـام الرئيس العراقي صدام حسين في نطاق حربها على الإرهاب .. كما صرح بأن فشل الولايات المتحـدة في التخلص من هذا النظام ، يعتبر من أكبر الأخطاء التي ارتكبتها السياسـة الأمريكية الخارجيـة خلال العشرين عاماً الماضية .

وذكرت التقارير الصحفية آنذاك : أن الولايات المتحدة أعدت حوالي خمسة عشر ألف جندي أمريكي للاشتراك في هذه الحرب ، إضافة للميليشيات الكردية التي يفترض أن تقوم بذات الدور الذي قامت به قوات التحالف الشمالي في أفغانستان . بل إن هذه التقارير ذهبت إلى أبعد من ذلك ، حيث ذكرت أن ثمة اتصالات قد جرت بشأن ما سيكون عليه موقف الشيعة في جنوب العراق من هذه الحرب . وفي هذا الاتجاه أيضاً تواردت الأنباء عن دعوة زعيم الحزب الديمقراطي الكردستاني في شمال العراق مسعود البارازاني لواشنطن ، للتباحث حول مدى إسهام الأكراد في الإطاحة بالنظام القائم في بغداد .
غير أن تلك التقديرات بدت متواضعة في ضوء التقارير التي تواردت ً عن قرب قيام القوات الأمريكية بغزو شامل للعراق من ثلاث جهات على غرار عاصفة الصحراء ، يشترك فيه نحو ربع مليون جندي أمريكي إضافة للمليشيات المحلية التي تستطيع تجنيدها من منطقة الأكراد في الشمال ومناطق الشيعة في الجنوب .


الأسباب الحقيقية للموقف الأمريكي من العراق :
من المفهوم جيداً أن إدارة الرئيس بوش في موقفهـا المعادي من العراق ، تتحجج بأن لدى صدام حسين خططاً وبرامج لتطوير أسلحة الدمار الشامل ، وبأن النظام العراقي هو من الأنظمـة التي تدعم الإرهاب الدولي ، الأمر الذي يمكن أن يشكل مصدر تهديد حقيقي للأمـن القومي الأمريكي ، كما يعرّض الولايات المتحدة وحلفاءها لخطر وقوع هجمات نوعية أعنف من تلك التي وقعت على نيويورك وواشنطن في الحادي عشر من سبتمبر 2001 م .

كذلك تتعلّل أمريكا في تبرير موقفها المعادي للنظام العراقي ، بأن طموحات صدام حسين تذهب إلى حد السيطرة على منابع النفط في منطقـة الخليج العربي ، ما يجعل منه مصدر تهديد حقيقي لأمن دول المنطقة واستقرارها وللسلام العالمي أيضاً . وتتهم أمريكا أيضاً نظام صدام حسين بأنه نظام ديكتاتوري لا يقيم للديمقراطية في بلاده وزناً ، ولا يلتفت فيه لحقوق الإنسان ، ويمارس العنف في تعامله مع مختلف الطوائف الدينية والعرقية في العراق بلا استثناء .

والحقيقة أن هذه الدعاوى والأسباب ليست – على ما يبدو – سوى ذرائع ثانوية حاولت بها الإدارات الأمريكية المتعاقبة ، وبخاصة إدارتي بوش الأب والابن ، أن تخفي الأهداف الحقيقية للاستراتيجية الأمريكية في المنطقة ، والتي تستهدف السيطرة عليها كخطوة على الطريق نحو تحقيق الهيمنة الأمريكية الشاملة على منطقة الشرقين الأدنى والأوسط ومنطقة آسيا الوسطى على المدى القريب والمتوسط ، والهيمنة أيضاً على مناطق العالم الحيويـة الأخرى على المدى الطويل . وليس في ذلك أدنى مغالاة .. فقد صرح الرئيس الأسبق جورج بوش الأب ، عقب انتهاء حرب الخليج الثانية بما معناه : إن المائة عام القادمة هي السنوات التي ستشهد تفوق الأمة الأمريكية وسيادتها على العالم .

والواقع أن ما تسعى الولايات المتحدة لتحقيقه في هذه المنطقة والمبررات الفعلية التي تستند إليها – منذ انحسار الاستعمار البريطاني عن شرقي قناة السويس في الستينات من القرن الماضي وحتى اللحظة – ينبع أساساً من اعتقادها الراسخ بأن النظام القائم في بغداد نظام معاد لأمريكا يجب التخلص منه .. وأن تحجيم العراق واحتواءه يظل هو الهدف المنشود للسياسة الأمريكية في المنطقة ، نظراً لما تشكله إمكاناته المادية وطاقاته البشرية الهائلة من خطورة على الأهداف الاستراتيجية الأمريكية والإسرائيلية فيها إذا ما أحسن استخدامها ، وبخاصة هدفها في الحفاظ على استمرار تدفق النفط إلى الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين واليابان ، وكذلك الحفاظ على أمن إسرائيل التي تعتبر حليفها الأول والشريك الإستراتيجي الرئيس في المنطقة .

ويعتقد مخططو الاستراتيجية الأمريكية في المنطقة بأن الموقع الجغرافي والسياسي للعراق وإيران المتميز في المنطقة ، يتطلب العمل حثيثاً على احتوائهما وتحجيم دورهما والحد من تأثيرهما في مجريات الأحداث فيها ، حيث يطلان من الشرق على نفط الخليج العربي ، ويطلان من الغرب على منطقة آسيا الوسطى التي أصبح النفط القابع في قاع بحر قزوين مطمعا أمريكيا واضحاً . وهذا ما حاولت إدارة بيل كلينتون السابقة ممارساته حين انتهجت سياسة الاحتواء حيال كل من العراق وإيران . لذلك ، فقد بات من المؤكد أن أمريكا سوف تستخدم كل الوسائل المتاحة لديها ، لإسقاط النظام القائم في بغداد والقضاء على صدام حسين وتحجيم الدور العراقي في المنطقة .. بما في ذلك بث الفتنـة بين الأكراد والسنـة والشيعـة وتأجيج النزاعات العرقية والطائفيـة الدائرة بينها .
يتفق المراقبون السياسيون على أن اتهام أمريكا للنظام العراقي بالإرهاب ، ليس هو المبرر الأساسي والوحيد لتوجيه ضربة عسكرية له ، وإنما لأسباب أخرى تتصل بمجمل السياسة الاستراتيجية الأمريكية في المنطقة ، نجمل أهمها فيما يلي :

أولاً – إن إصرار أمريكا على تغيير النظام العراقي القائم حالياً بزعامة صدام حسين ، ينبع من اعتقادها الجازم بأنه نظـام معاد يعوق تحقيـق أهدافها الاستراتيجيـة في المنطقـة ، كما أن استمراره قد يشجـع – في نظرها – شعوباً ودولاً عربيـة أخرى على الوقوف ضد المصالح الأمريكية ، وضد تواجدها السياسي والعسكري والاقتصادي في المنطقة .

ثانياً – على الرغم مما تدعيه الإدارة الأمريكية من أنها لا تستهدف ولا توافق على تقسيم العراق ، غير أن الواقع يقول بغير ذلك تماماً . فمناطق حظر الطيران التي حددتها أمريكا في شمال العراق وجنوبه ، تفصح عن حقيقة أهدافها التي يمكن تلخيصها في : إن وجود عراق قوي متحد الطوائف والأعراق والأهداف والطموحات ، يشكل عائقاً خطراُ أمام هدفها في الهيمنة على هذه المنطقة على ما ذكرنا .
فالعالم كله يعرف أن اختيار أمريكا لهاتين المنطقتين جرى على أساس عرقي وطائفي ، بهدف زرع بذور الفتنة والكره بين الأكراد والشيعة من ناحية وبين السنة في بغداد ووسط العراق من ناحية أخرى .. حتى يتحقق وجود ثلاث كيانات يستقل كل منها – عملياً – بولاء وطموحات وأهداف خاصة به من شأنها تعميق الخلافات مع الكيانات الأخرى ، الأمر الذي يسهّل على الأمريكيين بسط سيطرتهم على تلك الكيانات ، حتى لو تجمعت تحت راية عراق موحد شكلاً وممزق واقعاً .
وفي هذا السياق ، يرى فريق من المراقبين أن ثمة بوادر تدل على أن الإدارة الأمريكية تسعى لترتيب الوضع في عراق ما بعد صدام ، بحيث يصبح من الناحية الموضوعية مقسماً لثلاث دويلات أو مناطق ، تنضوي جميعها – من الناحية النظرية على الأقل – تحت إمرة حكومة مركزية يكون مقرها بغداد العاصمة .
وفي السياق ذاته يرى فريق من المراقبين أن الولايات المتحدة ربما تسعى لإعادة العرش الهاشمي للعراق ، وتنصيب الأمير الحسن بن طلال عم ملك الأردن الحالي عبد الله الثاني ملكاً عليه ، الأمر الذي أكده – على حد قولهم – حضور الأمير للاجتماع الذي عقدته المعارضة العراقية مؤخراً في لندن للبحث في مستقبل العراق .
ثالثاً – بغض النظر عن طبيعة النظام الذي يحكم بغداد ، فإن ضرب العراق - باعتباره من القوى العربيـة الواعدة في مجال تفعيل العمل العربي المشترك إذا ما تم توظيف قدراتـه بكفاءة واقتدار – يصبح من حيث المبدأ غايـةً في ذاتـه ، الأمر الذي سيمكن الولايات المتحدة – إذا ما تحقق – من تنفيذ مخططاتهـا في الهيمنـة الكاملـة والآمنة على المنطقة وما حولها .

والواقع أن هذا المبدأ لم يأت– في نظرنا على الأقل – من فراغ . فحين يضع الاستراتيجيون الأمريكيون مخططات للتعامل مع العراق كبلد عربي نفطي يطل على منطقة الخليج الحيوية ، ويتمتع بكل المقومات المادية والبشرية التي تجعل منه قوةً عربيةً وإقليميةً فاعلةً يحسب حسابها إذا ما أحسن استخدامها ، فلن يغيب عن أذهانهم ثورة رشيد عالي الكيلاني الذي حارب الاستعمار البريطاني في النصف الأول من القرن الماضي ، ولا ثورة العراق عام 1958 التي جاءت لتحطم حلف بغداد الذي أرادت به أمريكا وبريطانيا احتواء المنطقة وفرض سياسة الأحلاف عليها .

لذلك ولغيره من الأسباب ، جاءت قناعـة أمريكا بأن بسط سيطرتها على المنطقـة لن يتحقـق ، طالما ظـل في العراق نظام يتخذ مواقف معاديـة من الوجـود الأمريكي فيها .
رابعاً – ليس من شك أن التحالـف الاستراتيجي القائم بين الولايات المتحدة وإسرائيل وتوحد المصالح بينهما ، يفرض على الولايات المتحدة واجباً محدداً نحو توفير الأمن لها في المنطقـة من مخاطر التهديدات العراقية ، التي أمكن الاستدلال على ملامحها من الهجوم الصاروخي الذي شنه العراق على المدن الإسرائيلية أثناء حرب الخليج الثانية ، فضلاً عما يمثلـه العراق من إمكانات مادية وطاقات بشريـة تستطيع أن تتدخل بفعالية وحسم ضد أهداف إسرائيل في المنطقة بل ووجودها .
وليس أدل على ذلك مما قامت به إسرائيل من تدمير للمفاعل النووي العراقي الذي كان يجري إقامته في ضواحي بغداد في بداية حرب الخليج الأولى ، الأمر الذي يعبر عن حجم المخاوف التي تتحسب لها إسرائيل وأمريكا من تطور قدرات العراق العسكرية والاقتصادية بعامة ، وقدراته النووية بشكل خاص .

خامساً – يعتبر ضمان تدفق نفـط الخليج العـربي للولايات المتحدة الأمريكيـة وحلفائها الغربيين واليابان ، من أهم المصالح التي تسعى أمريكا لتأمينها بكل الوسائل والسبل المتاحـة بما في ذلك التدخل العسكري ، كما حدث في حرب الخليج الثانية حين تعرضت الكويت للغزو العراقي .
وفي هذا الإطار ، تنظر الإدارة الأمريكية الحالية للعراق وكذلك إيران على أنهما مصدر تهديد دائم لدول الخليج التي تعتبرها دولاً معتدلة وصديقة ، ما يفرض عليها التزاماً ثابتاً بتقديم كافة أشكال الدعم والحماية اللاّزمة لها .

سادساً – من المعروف جيداً أن الولايات المتحدة الأمريكية كانت تسعى وما زالت للسيطرة على العالم حتى قبل انهيار الاتحاد السوفيتي ، باعتبار أنها أقوى قوة اقتصادية وعسكرية وسياسية ظهرت في الحقبة التاريخية المعاصرة . فحين بدا لها أن هذا الهدف قد تحقق بعد انتهاء حرب الخليج الثانية .. وبعد تفكك المعسكر الشرقي وانهيار الاتحاد السوفييتي ، كثّفت الإدارات الأمريكية المتعاقبة العمل في هذا الاتجاه .. لكن وفق خطوات متأنية إلى حد ما ، آخذة في الاعتبار مصالح حلفائها الغربيين وأصدقائها من الدول الأخرى .
غير أن هذا النهج سرعان ما تبدل بعد وقوع أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001م ، لدرجة أصبح معها المسؤولون في إدارة بوش لا يريدون أن يروا أو يسمعوا غير ما يرونه هم وحدهم ، ويتفق مع آرائهـم وتوجهاتهم نحو القضايا التي تهم العالم .. على ما يقول أحد الدبلوماسيين الفرنسيين . فقد دفعت تلك الأحداث الولايات المتحـدة إلى إعلان الحرب دون هـوادة على كل الأنظمة التي تعتبرهـا معاديـة لها تحت دعوى الإرهاب ، سواء أكان هذا الادعاء صحيحا أو خاطئاً أو ظالماً متعمداً .
وهذا يعني بعبارة أخرى : إن الحرب التي تشنها أمريكا على الإرهاب جاءت متطابقـة في أهدافها مع الهدف الغائي والرئيس الذي تسعى أمريكا لتحقيقه وهو فرض هيمنتها على العالم بأسره . بل إن غلوها الشديد الذي أبدتـه وما زالت في تكريس هذه الحرب وتعدد أهدافها وتوسيع نطاقها ، جعلت الرئيس بوش يصفها في إحدى تصريحاتـه بأنها حرب صليبية ، في الوقت الذي كانت فيـه الإدارة الأمريكيـة توجـه أصابع الاتهـام نحو العرب والمسلمين والإسلام وتصفهم بالإرهاب دون غيرهم من الأمم والديانات .
لذلك فمن المنطقي أن يكـون العراق وكذلك إيران هدفـاً أساس لهذه الحرب ، باعتبار أنهمـا يقفان حائلاً أمام تنفيذ أمريكا لسياساتها في المنطقة من ناحية ، ولأنهما يشكلان – في نظرها – البوابـة التي تطـل على نفط الخليج من جهة الشرق ، وعلى دول آسيا الوسطى والنفـط القابع في بحر قزوين من جهة الغرب .

سابعاً – مساعدة الأكراد على إقامة كيان من نوع خاص لا يرقى إلى الاستقلال التام عن العراق ، ولا يخضع – في الوقت ذاته – للإدارة المركزية في بغداد ، وإنما يتبع في توجهاته السياسية لما تقرره الولايات المتحدة بحيث يحقق لها – من حيث الجوهر – وجود كيان كردي يدين لها بالولاء التام في المنطقة من ناحية ، ويكون في الوقت ذاته بمثابـة ورقـة ضاغطة على الحكومة المركزية التي يفترض وجودها في بغداد وعلى الدول المجاورة التي يتواجد بها أكراد من ناحية أخرى .. وذلك بتحريضهـم على التحالف مع أكراد العراق لإقامة دولة كرديـة مستقلة في المنطقة إذا ما لزم الأمر .

ثامناً – إن الحرب التي تشنها أمريكا على الإرهاب ، يبدو أنها لن تقتصر على ملاحقة التنظيمات التي تصفها واشنطن بالإرهاب ، ولا على ملاحقة الدول التي وصفتها صراحة بأنها مارقة وشريرة فحسب ، وإنما ستشمل دولاً أخرى تتفق مع حليفها الاستراتيجي إسرائيل في اعتبارها خطراً على أهدافهما الاستراتيجية في المنطقة ، وبخاصة أن إدارة بوش لم تعد تميز بين الإرهابي والمسلم من ناحية وبين الإرهاب والمقاومة المشروعة للاحتلال الصهيوني للأراضي العربية والفلسطينية من ناحية أخرى . كما تعتبر سوريا والجنوب اللبناني والأراضي الفلسطينية المحتلة من أولى البلدان المستهدفة للحرب التي تشنها أمريكا على الإرهاب بعد أفغانستان والعراق .
فما نراه حالياً من وطأه الاعتداءات التي تمارسها إسرائيل في الأراضي المحتلة وإعادة احتلالها للمدن والبلدات الفلسطينية ذات الكثافة السكانية العالية ، ليس إلا جزءاً من الحرب التي تشنها أمريكا وحليفتها إسرائيل ضد ما تسميانه بالإرهاب الفلسطيني .

من هذا المنظور ، يصبح التخلص من النظام المعادي في العراق في نظر أمريكا أمراً حيوياً وعاجلاً ، باعتبار أنه يمثل المرحلة الأولى في التعامل مع الأطراف المستهدفة الأخرى بالمنطقة ، كما يحرم سوريا ولبنان من العمق السياسي والجغرافي الذي يمكن أن يوفره العراق لهما في حال بقاء الأوضاع القائمة على ماهي عليه .

السيناريوهات التي كانت معدة لضرب العراق :
رأى فريق من المراقبين أن الولايات المتحدة تتبع ذات الأسلوب الذي اتبعته في حملتها على أفغانستان ، من حيث اعتمادها على المعارضة العراقية وبخاصـة ميلشيات الأكراد في الشمال ، بعد أن تقوم بتجهيزهـا وتدريبها على النحو الذي يكفل نجاح حملتها العسكرية المرتقبة ، فضلاً عن التسهيلات اللوجستيـة التي يمكن أن تحصل عليها القوات الأمريكيـة المشاركة في الحملة من تركيا وبخاصة من قاعدة إنجرلك الجوية . ومما يؤكد هذا الرأي ، الأنباء التي تحدثت عن أن زعيم الحزب الديمقراطي الكردستاني مسعود البارازاني قد طالب الإدارة الأمريكية بضمانات تكفل حصول الأكراد على الحكم الذاتي ، في حال اشتراك قواته في الحملة التي ستقوم بها أمريكا لإسقاط نظام صدام حسين في بغداد .

وهذا يعني أن السيناريو الأول لغزو العراق ، سوف يعتمد بالدرجة الأولى على الميلشيات الكردية ، إضافة للقوات الأمريكية التي ستشارك في الحملة ، على أن تنطلق من منطقة الحظر الجوي الكردية في شمال العراق مدعومة بمساعدة جوية ولوجستية رئيسة تأتي من القواعد التركية التي تتواجد فيها القوات الجوية الأمريكية والبريطانية .. فضلاً عن الدعم الجوي والقصف الصاروخي الذي ستوفـره السفن الحربية وحاملات الطائرات والقواعد الأرضية الأمريكية المتواجدة في منطقة الخليج العربي ومياهه .

أما السيناريو الثاني فيشمل – بالإضافة للاستعدادات السابقة – استثمار الوجود الأمريكي في الخليج ، وبخاصة في الكويت وقطر ، لتدعيم تلك الحملة . غير أن بعض المراقبين يرون أن استخدام القواعد الأمريكية المتواجدة في بلدان الخليج كنقطة انطلاق للحملة ، سوف يواجه بصعوبات بالغة بسبب معارضة الدول الخليجية لضرب العراق بدعوى محاربة الإرهاب ، وبسبب معارضتها لانطلاق الحملة من أراضيها .

ويأتي في النهاية السيناريو الثالث والأحدث في قائمة توقعات المراقبين ، وهو قيام القوات الأمريكية بغزو واسع النطاق على العراق من خلال ثلاث جبهات :
الجبهة الشمالية - حيث يتوقع أن تشترك فيها الميليشيات التابعة للحزب الديمقراطي الكردستاني الذي يتزعمه مسعود البارازاني ، والاتحاد الوطني الكردستاني الذي يتزعمه جلال طالباني ، فضلاً عن قوات المعارضة الأخرى التي يمكن تواجدها في الشمال العراقي ، هذا بالإضافة إلى مشاركة قوات كثيفة من مشاة البحرية والجنود الأمريكيين المدعومين بالقوات الجوية المتواجدة في قاعدة إنجرليك التركية ، وفي مياه الخليج العربي وشمال البحر الأحمر .

الجبهة الجنوبية –التي يفترض أن تنطلق قواتها من القواعد الأمريكية المتواجدة على أرض الكويت مدعومة بالقواعد الجوية والسفن الحربية وحاملات الطائرات المتواجدة في منطقة الخليج ومياهه ، والتي يتوقع أن تعتمد بصورة أساسية على مشاة البحرية والجنود الأمريكيين الذين يجري حشدهم في تلك القواعد ، إضافةً لما يأمل به المخططون العسكريون من الحصول – على الأقل – على دعم لوجستي واستخباراتي من سكان المنطقة الجنوبية التي تقطنها أغلبية شيعية .

الجبهة الغربية – حيث يفترض أن تنطلق القوات الأمريكيـة من الأردن متجهـة لبغداد ، والتي يعتقد المراقبون أنها ستكون من أهم الجبهات وأكثرها حساسية إذا ما صح هذا السيناريو ، حيث من المتوقع أن توكل إليها مهمـة احتلال بغداد والمناطق المحيطـة بها والسيطرة عليها وإسقاط النظام القائم فيها . ويُشار هنا إلى أن عاهل الأردن الملك عبد الله الثاني يرفض بشدة أن يكون الأردن نقطة انطلاق لأي عدوان تقوم به القوات الأمريكية على العراق ، ويرى أن توجيه ضربة عسكرية للعراق في الوقت الراهن سوف يكون كارثة محققة على الاستقرار في المنطقة . كما نفى أكثر من مرة وجود أي قوات أمريكية في الأراضي الأردنية ، وإن ما يقال حول هذا الموضوع هو محض هراء .
وتذكر الوثيقة التي نشرتها صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية عن عملية غزو العراق المرتقبة ، أنها ستتم على غرار عاصفة الصحراء ، الأمر الذي ترى فيه الصحيفة أن الإعلان عنها إنما يستهدف تهيئة الرأي العام الأمريكي والعالمي لوقوع عمل عسكري ضخم ضد العراق تستخدم فيه القوات البرية والبحرية والجوية .
وعلى الرغم من أن جميع الدول العربية بما فيها الكويت وكذلك دول العالم المعنية بالمشكلة – باستثناء بريطانيا وإسرائيل –عارضت توجيه ضربة للعراق تحت دعاوى القضاء على الإرهاب ، غير أن المعيار الوحيد الذي يبدو أن الإدارة الأمريكية تأخذ به في اختيار أي من تلك السيناريوهات أو غيرها ، هو مدى قدرتها على تحقيق الهدف العاجل من غزو العراق ، ونعني به إسقاط النظام في بغداد والتخلص من الرئيس صدام حسين .
علماً بأن الوجود الأمريكي سواء في العراق أو في المنطقـة بأسرها سوف يواجه صعوبات جمة وخطيرة نتيجـة ضربه للعراق .. ونحسب أن غطرسة القـوة التي تقف وراء كل قرارات الحرب التي تتخذها الإدارة الأمريكيـة بزعامـة بوش ، لا تدرك بالقدر الكافي عاقبـة تصرفاتها الرعناء التي تتعامل بها مع الأنظمة والشعوب في هذه المنطقة وكأنها قطعان من حثالة البشر .



ما بعد الهجوم على العراق

كان بين وزراء الحكومة الاسرائيلية من يقولون انه سيكون امرا مثاليا ان يحصل شارون على مطلق الحرية في مكافحة الارهاب الفلسطيني بعد انتصار الولايات لمتحدة على العراق. من الواضح ان احتمالية حدوث ذلك معدومة وشارون نفسه يدرك ذلك. فقد كانت تجربة مهاجمة المقاطعة وعرفات الاخيرة كافية حتى يدرك ذلك.
التوجه الاخر يقول ان على اسرائيل ان تقنع واشنطن بأن من الاجدر بها ان توجه سهامها ضد عدو آخر له ضلع عميق في الارهاب وتسبب في قتل ضحايا امريكيين كثيرين في السنوات السابقة - تنظيم حزب الله. رغم ان اغلبية الاوروبيين لا توافق على ذلك الا ان هذا الحزب في نظر الإدارة الأمريكية تنظيم ارهابي .
حسب التفكير التجريدي ستصطدم الولايات المتحدة بقوتين اخريين تساعدان حزب الله ان قررت فعلا ان تهاجم حزب الله - سوريا وايران.
وحتى ان اعتبر حزب الله تنظيما ارهابيا فلا يعني ذلك ان المخطط الامريكي سيتوجه لاستخدام القوة فقط: ممارسة القوة هي المخرج الاخير بالنسبة لهم وهناك امكانية ممارسة الضغوط الاقتصادية والسياسية اولا كما تتوفر سبل استخدام العصا والجزرة في الحوار مع دمشق بعد الحرب.
حزب الله خلافا لتنظيم القاعدة الذي كان غريبا في افغانستان وحصل على قاعدة لوجوده فيها يعتبر جزءا لا يتجزأ من لبنان وتركيبته السكانية وحركة دينية شعبية ذات ذراع عسكري. ان سعت اسرائيل للقضاء على حزب الله كمنظمة لحركة شعبية فالفشل مضمون لها في مسعاها هذا. على اسرائيل ان تقنع بان العمل في لبنان بعد الحرب في العراق يجب ان يتمحور في مجالين: اولا اخراج الايرانيين الذين يسلحون حزب الله وثانيا تحويل الحزب الى تنظيم سياسي - اجمالي. هذه المسألة تعتمد على دمشق بصورة كبيرة. ان كانت واشنطن مستعدة لمطالبة السوريين بتصفية ذراع حزب الله العسكري الذي دمج عمليا في الجهاز العسكري السوري ضد اسرائيل فستزداد احتمالية تحقيق هذا الهدف. الفشل وحده في هذا المجال قد يؤدي الى نشاط عسكري في هذه الجبهة.
على اسرائيل ان تسلم بان تحرك امريكا ضد سوريا بعد هزيمة صدام يتضمن دفعات امريكية لدمشق. هذا الثمن ليس منخفضا. فسوريا لا تملك اليوم شريكا اقتصاديا جديا وان حثتها واشنطن على تقييد الايرانيين فان وضعها الاقتصادي سيتدهور الامر الذي يلزم بالبحث عن مصدر اقتصادي آخر. المخرج هو العراق الذي يمكنه ان يعود ليصبح محركا اقتصاديا اقليميا إذا نجحت عملية التغيير الجارية فيه بعد إطاحة النظام الصدامي.
على اسرائيل ان تأخذ بالحسبان انها هي ايضا ستطالب بدفع الثمن. في اللقاء الذي جرى في نيويورك بين باول والشرع عندما تحدث وزير الخارجية السوري عن استعداد بلاده لاستئناف عملية السلام هذا التصريح سيحث واشنطن بالتأكيد على التأكد من جدية نوايا الرئيس السوري بشار الاسد في استئناف المحادثات في الموقع الذي توقفت فيه عشية موت والده الرئيس حافظ الاسد.
ليس على اسرائيل فقط ان تتوقع اطلاق يدها في مكافحة الارهاب الفلسطيني بعيد الهجوم على العراق وانما يجدر بها ان تحضر نفسها لدفع الثمن والاسهام في تجفيف المستنقع الارهابي العالمي ان رغبت في مشاهدة خطوات وتحركات امريكية استراتيجية ضد الاعداء المختلفين.
"خريطة الطريق" مطروحة على جدول الاعمال. في هذه المرحلة لا يتوجب النظر الى هذه الخريطة كمسألة جدية. واشنطن تركز كل قواها في العراق واعمالها في المجال السياسي الاسرائيلي الفلسطيني تهدف الى ادارة الصراع وليس الى تسويته. ما ترغب به هو كسب الوقت ولهذا السبب قد يعقد مؤتمر دولي لهذا الغرض. ما ترغب به حاليا من الجانبين هو اعداد واجباتهم المدرسية خلال فترة محددة وطرح ملاحظاتهم. شارون ارسل رئيس ديوانه دوف فايسغليس لواشنطن حتى يحصل على تأجيل لعدة اسابيع في تقديم اجاباته على الخريطة.
ولكن قضية خريطة الطريق ستعود لجدول الاعمال الحقيقي. ان اضاف بوش عليها توقيعه فان المسألة ستتلقى دفعاً متسارعاً إذ أن هذه الخطة ستكون خطة رئاسة لا مجرد "عناصر من خطة امريكية يتوجب ان تقضي الى اقامة دولتين وتسوية الصراع الاسرائيلي الفلسطيني.
ان اندلعت الحرب ضد العراق وترافقت مع خسائر عربية واسقاط لنظام عربي فسيكون من الطبيعي ان تتوجه امريكا الى تحركات تدحض الادعاء بانها حرب مفروضة من امريكا واسرائيل على العرب وهنا ستتضاعف امكانية تحويل الخطة الامريكية الى خطة ملزمة كما كان ‎‎ قد حدث عشية حرب الخليج الاولى. اسرائيل في حالة جمود وليس لدى قادتها خطة حقيقية لحل الصراع باستثناء خطط خوض الحرب التي لا يوجد بها منتصرون اما الفلسطينيون فهم ايضا لا يملكون خطة للحل والمجتمع الاسرائيلي يدفع هو الاخر ثمن الاحتلال.
صحيح ان شارون تحدث عن دولة فلسطينية الا ان الليكود واليمين يفكرون في كيفية تعزيز المستوطنات أي احتلال اراض جديدة اخرى وشن الاعتداءات ومواصلة الاحتلال من الناحية الواقعية. هذا الامر سيعزز جانب الفلسطينيين الداعين الى مواصلة المقاومة ضد اسرائيل. وهذا وضع يتوجب تخليص اسرائيل منه لانها غير قادرة ان تخرج منه بقواها الذاتية.
قد يظهر في واشنطن من يقولون ان الفلسطينيين والاسرائيليين يرغبون في مواصلة القتال ولذلك يجدر بامريكا ان لا تتدخل. ان قبل هذا الرأي فسيكون هذا خطأ استراتيجيا.
استمرار اراقة الدماء سيؤدي الى المزيد من القتل والعنف والردود المضادة. الحرب الامريكية ضد الارهاب ستتلقى ضربة من الخاصرة. في الوقت الذي تقاتل فيه تنظيم القاعدة سيتعمق العنف الفلسطيني. وهذا ايضا خطأ تكتيكي إذ يدور تلميح من واشنطن بعدم وجود صبر كاف لديها لمعالجة النزاع حتى يزيد المستوطنون ضغوطهم على حكومة اليمين لكي تسمح لهم بتعميق انشطتهم.
المستشارون والمخططون الاستراتيجيون في واشنطن حائرون فيما يتوجب ان يركزوا عليه بعد هزيمة صدام. الكثيرون يتحدثون عن فكرة ادخال الديمقراطية للعراق. حتى أن واشنطن نظمت لقاء من عشرات الممثلين العراقيين من قطاعات متباينة. المممثلون العرب يوضحون لواشنطن ان ما تعتبره هي ديمقراطية يظهر بصورة مغايرة في الشرق الاوسط العربي. ولذلك يوجد في الادارة الامريكية من يقولون ان الهدف يجب ان يكون "البدء في عملية الدمقرطة في العراق بعيد صدام" مباشرة وعدم تضييع الوقت.
الامريكيون الضالعون فيما يحدث يعرفون انهم سيحتاجون الى مساعدة الجيش العراقي بعد الحرب للسيطرة على القانون والنظام في الدولة. ومن دون هذه المساعدة سيظهر فراغ خطير. وسيظهر الامريكيون في صورة المحتلين في العالم العربي. تجربة اسرائيل تدلها على انه لا يوجد "احتلال حضاري" اذا طال الزمن.
الاعتقاد بان الشعب العراقي سيحصل بعد الحرب على حق التصويت مثلما يوجد في امريكا يمكن ان يقلب السحر على الساحر في بغداد. مثلا يمكن تصور وصول الاغلبية الشيعية الى الحكم هناك. وهنا ستطلق يد ايران في جارتها. من هنا ليس من مصلحة اسرائيل ان ينقسم العراق الى عدة اجزاء يكون لايران تدخل كبير في احدها. وتركيا هي الاخرى لا ترغب بدور ايراني في العراق الجديد.
كم هو الوقت الذي سيبقى فيه الجيش الامريكي في العراق؟ من الواضح ان استطالة هذا الوقت ستفسر على انها احتلال امريكي . الاراء المهنية منقسمة ومتباينة في هذه المسألة. احدها يتحدث عن سنة أو سنتين والاخر عن عشر سنوات.
في هذه الحالة سيتم انشاء قواعد امريكية في العراق الجديد ربما كبديل للقواعد السعودية. القوات البرية الامريكية لا تحب فكرة البقاء المطول في العراق وهناك حتى من يفكرون في كيفية شعور العراق الجديد بالامان بعد تجريده من اسلحته الصاروخية والكيماوية.
الجدل حول المرحلة التالية يدور في القيادة الامريكية وليس فقط بين امريكا واوروبا. يبدو انه يدور الان بين بوش الاب وبوش الابن. وليس صدفة ان مستشاري الاب بيكر وسكوكروفت ينصحان بوش الابن بعدم الخروج للحرب وحده قبل الحصول على دعم اوسع في مجلس الامن. هذا النهج المدعوم بصورة صامتة من بوش الاب احرز النصر عمليا وجاءه الدعم من جانب توني بلير الذي تلقى الانتقادات من حزبه ومن الراي العام في قضية الحرب. في هذا الجدل كانت الغلبة في الواقع لكولن باول الذي كان كما يذكر رئيس الطواقم المتحالفة في حرب الخليج.
واشنطن حظيت بالنصر في مجلس الامن الا ان في اسرائيل من يدعو الى ان التفتيش وحده ليس كافيا لانتزاع الاسلحة من أي بلد ان لم يكن يرغب بذلك. التفتيش قد يؤخر التسلح النووي ويزيد سعره الا انه لن يحول دونه.
من الواضح ان العراقيين والامريكيين ينظرون للفترة الحالية على انها مهلة دبلوماسية قبل الحرب ولذلك نراهم يستعدون لها. الصور الجوية الامريكية تظهر ان العراقيين قد شيدوا ثلاثة خطوط دفاعية ضد الهجمة البرية وهذه الخطوط مؤلفة بالاساس من فرق الحرس الجمهوري. الخط الاول الابعد يقع غربي العراق على مسافة غير بعيدة من الاردن.
اما الخط الثاني موجود على مسافة غير بعيدة من بغداد بين بحيرتي العراق الكبيرتين غربي كربلاء وبغداد. اما الخط الثالث فقريب جدا من بغداد العاصمة. العراقيون سارعوا الى نشر قواتهم في داخل العاصمة لاخافة الامريكيين من حرب الشوارع مدعين ان القوات الامريكية ستجد صعوبة في الوصول للعاصمة وستمنى بخسائر كثيرة لا تقل عن خسائرهم في فيتنام. وهذه مبالغة طبعا.
اسرائيل تهتم من الناحية الامنية في المنطقة العراقية الامامية في الغرب حيث يمكن لبغداد اطلاق صواريخها على اسرائيل من هناك (على مدى 600 كيلو متر) مع ذلك ليس من المستبعد ان يكون لدى العراقيين عدد صغير من صواريخ العباس (900كم). في المقابل يتم تعزيز شبكة الدفاع الصاروخي الاسرائيلي بدعم امريكي.
في مواجهة العراق شكلت ثلاثة مراكز سيتم ارسال قوات خاصة كثيرة اليها قبل الحرب: الكويت وفي الشمال الكردي ومركز يقام من ناحية الاردن.
الدخول في المرحلة الدبلوماسية الجديدة وحقيقة ان الجدول الزمني الجديد منوط بيد هانز بليكس وصدام حسين ايضا وليس بيد بوش وحده ادى الى انطبعاع واهم بابعاد شبح الحرب. مكانة بوش الاعتبارية موضوعة في هذه القضية على محك الميزان ومكانته هذه تعتمد على قدرته على نزع اسلحة العراق المدمرة بهذه الطريقة او تلك. هناك يقولون ان بوش حازم على ايجاد الذريعة للهجوم على العراق بينما يقول آخرون ان المرحلة الدبلوماسية تفتح نافذة صغيرة لابعاد الحرب لمدة غير معروفة.






اهداف جورج بوش الحقيقية

منذ اعتداءات 11 أيلول/سبتمبر تندفع الولايات المتحدة في الحرب على الارهاب الى درجة أن هذه الحرب باتت تبدو وكأنها الهدف الوحيد للسياسة الخارجية في إدارة الرئيس بوش. صحيح ان الرئيس الأميركي قد أكد مراراً أن تنظيم هذه الحملة الدولية قد صار من المسؤوليات الكبرى الملقاة على عاتقه، وبالرغم من توفر الوسائل الهائلة لهذا الغرض، فإن الحرب على الارهاب لا تبدو موضع الاهتمام الوحيد للادارة الأميركية.
في الواقع، حدد الرئيس الأميركي لنفسه، منذ توليه سدة الرئاسة، اولويتين استراتيجيتين أخريين هما تحديث القدرات العسكرية الأميركية وتطويرها والحصول على احتياطات نفطية إضافية من منابع النفط الأجنبية. ومع أن هذين الهدفين يعودان الى أسس ودوافع مختلفة فقد اندمجا مع الحرب على الارهاب لتشكيل استراتيجيا متماسكة توجه حالياً السياسة الخارجية الأميركية.
لم تكن هذه الاستراتيجيا الجديدة موضوع إعلان مبادئ ولا يبدو أنها صيغت في واشنطن بشكل واضح. لكن ما من شك في أن هذه الأولويات الثلاث مجتمعة قد عدلت الى أقصى حد من أشكال السلوك العسكري الأميركي، ولفهم طبيعة هذا التعديل يمكن القيام بتحليل بعض المبادرات التي اتخذتها الادارة الأميركية مؤخراً.
ففي العراق والخليج، بات من المؤكد أن إدارة بوش تحضر لعملية اجتياح للعراق الهدف منها طبعاً إسقاط صدام حسين وإقامة حكم في بغداد موال للولايات المتحدة. وتحضيراً لهذه العملية تعزز وزارة الدفاع الأميركية وجودها العسكري في منطقة الخليج، والهدف المعلن من هذا الاجتياح المرتقب هو تدمير قدرات العراق على انتاج أسلحة نووية أو كيميائية أو جرثومية. لكن من الواضح أن واشنطن قد قررت إزالة أي خطر من شأنه أن يؤثر في انتاج النفط ونقله في هذه المنطقة. كما ان الأمر بالنسبة الى المخططين الأميركيين هو أن الاحتياط النفطي العراقي الكبير سيبقى في متناول اليد أي أنه لن يقع تحت السيطرة المطلقة للشركات الروسية أو الصينية او الأوروبية.
أما في آسيا الوسطى والقوقاز، فإن القوات الأميركية عندما انتشرت في المنطقة بعد فترة وجيزة من اعتداءات 11 أيلول/سبتمبر، كان هدفها الوحيد المعلن آنذاك هو مساندة العمليات العسكرية الموجهة ضد حركة “طالبان” في أفغانستان، وبالرغم من انهزام هذه الحركة بدا ان هذه القوات ستبقى في المنطقة من أجل انجاز مهمة أخرى. وبما أن الولايات المتحدة قد صممت على الوصول الى احتياط الطاقة الكبير في حوض بحر قزوين فإن هذه المهمة تقوم على الأرجح على حماية خطوط نقل البترول والغاز الى الأسواق الغربية. وما يعزز هذه الفرضية هو إيفاد مدربين عسكريين أميركيين الى جورجيا وهي المحطة الأساسية في خط انابيب النفط الذي يصل بحر قزوين بالبحر الأسود وبالمتوسط، إضافة الى القرار الأميركي اعادة تشغيل قاعدة عسكرية في كازاقستان على ساحل بحر قزوين.
في كولومبيا كان الهدف المعلن حتى زمن قريب من التدخل العسكري الأميركي هناك هو مكافحة تجارة المخدرات. لكن خلال الأشهر الأخيرة أضاف البيت الأبيض هدفين آخرين الى برنامج الدعم العسكري الأميركي فيها وهما محاربة العنف السياسي و"الإرهاب" الذي تلجأ اليه الميليشيات وحماية انابيب النفط التي تنقل البترول من الآبار الداخلية الى المصافي الواقعة على الساحل. ومن أجل تمويل هاتين الأولويتين الطارئتين طلبت إدارة بوش الى الكونغرس أن يوافق على زيادة حجم المساعدة العسكرية لبوغوتا، ومنها 100 مليون دولار مخصصة تحديداً لحماية أنابيب النفط.
في هذه الأمثلة، وفي الكثير غيرها في أماكن أخرى من العالم، نلحظ هذه الأولويات الثلاث المبينة أعلاه. لكن ما يسترعي الانتباه هو دمجها في استراتيجيا واحدة لا غير. وقد بات من المستحيل فهم التوجه العام للسياسة الخارجية الأميركية من دون الأخذ في الاعتبار العلاقة الضمنية في عملية الدمج هذه. لذلك من الضروري تحليل كل واحدة من الاولويات الثلاثة على انفراد قبل تحليل آلية اندماجها.
وهذا الهدف الذي حدده المرشح جورج دبليو بوش أثناء حملته الرئاسية أصبح مذاك أولوية مطلقة للحكومة. ففي خطاب ذي دلالة اساسية ألقاه في "سيتاديل" (وهي مدرسة عسكرية متميزة في شارلستون في ولاية كارولينا الجنوبية) في أيلول/سبتمبر عام 1999 شرح السيد بوش الطريقة التي ينوي اعتمادها لتنفيذ "عملية تحويل" الملاكات العسكرية الأميركية. فبعدما اكد أن إدارة كلينتون لم تنجح في تصويب البرامج العسكرية على أساس الوقائع المستجدة بعد انتهاء الحرب الباردة، تعهد المرشح الجمهوري آنذاك القيام بإعادة تقويم كاملة للاستراتيجيا الأميركية من أجل "الشروع في بناء جيش القرن المقبل”.
وسيكون لحركة التغيير في الجيش هذه هدفان رئيسان، من ناحية أولى ضمان عدم تعرض أراضي اميركا للخطر عبر إنشاء درع مضادة للصواريخ وعبر الحفاظ على التفوق الأميركي في مجال الاسلحة المتطورة، ومن ناحية ثانية تطوير قدرة الولايات المتحدة على اجتياح بعض القوى الاقليمية المعادية مثل إيران أو العراق أو كوريا الشمالية. هكذا إذاً أكد السيد بوش تأييده تنفيذ مشروع الدرع المضادة للصواريخ لحماية الولايات الأميركية الخمسين إضافة الى "إحداث ثورة في الفكر العسكري" الذي ينزع الى جعل استخدام الكومبيوتر وأجهزة الالتقاط المتقنة والمعدات "الخفية" وباقي التقنيات المتقدمة أمراً منتظماً في ساحة المعركة. وفي رأي الرئيس أن هذه السياسة تؤمّن التفوق الأميركي "على مدىً طويل".
وفي اطار الهدف الثاني، عبّر بوش عن رغبته في تطوير القدرة الأميركية على "إنزال قواتها"، وبمعنى آخر القدرة على نشر قوات كبيرة على أراضٍ بعيدة تكون قادرة على الانتصار على أي عدو. ومثل هذا الطموح يتطلب تجهيزات جديدة مثل أجهزة الالتقاط المتطورة والطائرات بدون طيار، إنما يتطلب أيضاً تقليص حجم الوحدات لجعل عمليات انتشار في حجم أقل من الدعم اللوجستي. "يجب أن نكون قادرين على إيصال قواتنا الى أبعد مكان ممكن في غضون أيام أو أسابيع بدلاً من أشهر عدة [...] وعلى الأرض يجب ان تصبح قواتنا الثقيلة أكثر حركية ووحداتنا الخفيفة أكثر فتكاً، على أن يتمتع الجميع بسهولة الانتشار”.
وما ان تولى مهامه حتى أصدر السيد بوش تعليماته فوراً الى وزارة الدفاع كي تبدأ بتنفيذ هذه الاجراءات. ففي أوائل العام 2001 صرح الرئيس قائلاً: "بناء على طلبي شرع وزير الدفاع السيد دونالد رامسفيلد في دراسة معمقة حول القوات المسلحة الأميركية. وانا أترك له كامل الحرية لاعادة النظر في الوضع القائم من أجل التوصل الى وضع تصور أفضل لبنية جديدة مخصصة للدفاع عن أميركا وحلفائها." وتستند هذه البنية الجديدة في شكل واسع الى التكنولوجيات الحديثة لكن توجهها الرئيسي يبقى تحقيق القدرة على الانزالات السريعة للقوات العسكرية. وفي استعادة للعبارات التي استخدمها في خطاب سيتاديل اعتبر السيد بوش أن القوات البرية الأميركية ستكون "أكثر حركية واشد فتكاً" وان القوات الجوية ستكون "قادرة على ضرب أهداف بعيدة بدقة متناهية" وأن القوات البحرية ستتمكن من "إنزال قواتنا بعيداً داخل الأراضي البرية”.
وقد باتت هذه الأهداف هي التي تحدد توجهات الموازنة على المدى الطويل في البنتاغون، وهكذا عندما قدم السيد رامسفيلد مشروع موازنة الدفاع للسنة المالية 2003 (تبدأ في الأول من تشرين الأول/أكتوبر من السنة السابقة) والتي بلغت 379 مليار دولار (بزيادة بلغت 45 مليار دولار عن موازنة العام 2002 ) صرح قائلاً: "إننا في حاجة الى قوات مسلحة تتمتع بسرعة الانتشار ومتكاملة كلياً فيما بينها، قادرة على الوصول سريعاً الى ساحات القتال البعيدة وعلى التعاون مع قواتنا الجوية والبحرية لضرب أعدائنا بسرعة وبدقة وبطريقة مدمرة". وإذا ما توافرت وسائل إضافية فعلاً للدروع المضادة للصواريخ وللحرب على الارهاب فبالتأكيد ان القدرة على إرسال القوات العسكرية هي التي ستحدد الاستثمارات وتنظيم القوات المسلحة في السنوات المقبلة.
وبعد 11 أيلول/سبتمبر طرأ مفهوم جديد على الفكر الاستراتيجي الأميركي، وهي الفكرة القائلة إنه يجب أن يكون للولايات المتحدة القدرة على استخدام القوة بشكل احترازي وقائي ضد قوى معادية قادرة على استخدام بعض أسلحة الدمار الشامل. وفي الواقع أكد البيت الأبيض أنه قد يكون من الضروري شن هجومات وقائية من أجل الدفاع عن المواطنين الأميركيين في وجه التهديد الذي تمثله "الدول المارقة”. وإن بدا بديهياً بالنسبة الى الجميع أن هذا التأكيد يمثل تغييراً جذرياً في الاستراتيجيا الأميركية، إلا أنه منسجم تماماً مع هدفي الادارة الآخرين وهما تأمين عدم تعرض الولايات المتحدة للاعتداءات وتطوير قدراتها على اجتياح القوى المعادية وإخضاعها.
أما الأولوية الثانية بالنسبة الى الادارة، أي الحصول على احتياطات نفطية جديدة من الدول الأجنبية، فقد جرى تفصيلها للمرة الأولى في تقرير "المجموعة الوطنية لتطوير سياسة الطاقة” National Energy Policy Development Group الذي نشر في 17 أيار/مايو عام 2001. فهذا التقرير الذي أعده نائب الرئيس ديك تشيني يضع استراتيجيا الهدف منها الاستجابة لتزايد الحاجات الى النفط في الولايات المتحدة خلال السنوات الخمس والعشرين المقبلة. وإن كان التقرير يتحدث عن بعض الاجراءات الآيلة الى التوفير في استهلاك الطاقة فإن العديد من اقتراحاته تهدف الى زيادة الاحتياطات الأميركية في مجال الطاقة.
وبمجرد نشره أثار تقرير تشيني نوعين من الجدل. اولاً لأنه يشير الى زرعليس فقط محطات تنقيب في حقول الألسكا الوطنية، إنما أيضاً لأن واضعيه كانوا على علاقة مسبقة بشركة “أنرون” المفلسة حالياً. وهذا الجدل ساهم في التعتيم على وجوه أخرى في التقرير وخصوصاً تلك المتعلقة بما تدعو اليه سياسة الطاقة الجديدة هذه من تدخلات فعلية على الصعيد الدولي، والتي لا تظهر بوضوح الا في الفصل الأخير (“تعزيز التحالفات الدولية”) حيث يقترح العمل على تدارك الحاجة الوشيكة للنفط عبر زيادة عمليات استيراده.
وبحسب التقرير أن الارتهان الأميركي للسوق النفطية الخارجية لمجمل الحاجة الاستهلاكية يجب ان يرتفع من 52 في المائة عام 2001 الى 66 في المائة عام 2020 كما ان الاستهلاك الاجمالي سيزداد هو بدوره مما سيحتم على الولايات المتحدة أن تستورد 60 في المائة من النفط في العام 2020 زيادة عما تستورده اليوم ليرتفع بذلك من 10.4 ملايين برميل يومياً الى حوالى 16.7 مليون برميل. والوسيلة الوحيدة لتحقيق ذلك تقوم على اقناع الموردين الأجانب بزيادة انتاجهم وأن يبيعوا أكثر من الولايات المتحدة.
غير ان معظم الدول المصدرة لا تملك الموارد المالية اللازمة لتطوير بنياتها النفطية التحتية، أو أنها ترفض السماح لزبائن أميركيين بالتحكم بإنتاجها في مجال الطاقة. وبناء عليه فإن التقرير الذي يعي هذا الأمر ينصح البيت الأبيض بأن يجعل من زيادة الواردات النفطية "اولوية في سياستنا التجارية والخارجية”. ومن أجل تلبية حاجات البلاد ينصح التقرير الادارة بنوع خاص أن تركز على هدفين.
يقوم الهدف الأول على زيادة الواردات من دول الخليج العربي ــ الفارسي التي تملك حوالى ثلثي الاحتياط النفطي العالمي. وبما أن ما من منطقة أخرى في العالم تستطيع أن تزيد انتاجها بهذه السرعة غير الخليج، ينصح التقرير ببذل جهود ديبلوماسية ناشطة ترمي الى إقناع السعودية وجيرانها بالسماح لشركات أميركية بأن تتولى ادارة الأعمال المهمة من أجل تحديث بناها التحتية.
أما الهدف الثاني فالغاية منه "تنويع" الواردات الأميركية جغرافياً وذلك بغية الحد من الانعكاسات الاقتصادية لأي انتفاضات مفاجئة في مناطق معروفة بعدم الاستقرار الدائم. فالتقرير يوضح أن "تركيز الانتاج النفطي في منطقة واحدة من العالم قد يساهم في عدم استقرار السوق”. وفي النتيجة "أن تنويع مصادر التزود بالنفط هو ذو مرتبة أولى في الأهمية”. ولتنفيذ هذه السياسة يقترح التقرير تعاوناً وثيقاً مع الشركات الأميركية في مجال الطاقة يكون الهدف منه زيادة الواردات من حوض بحر قزوين (وفي نوع خاص من أذربيجان وكازاقستان) ومن الصحراء الافريقية (أنغولا ونيجيريا) ومن أميركا اللاتينية (كولومبيا والمكسيك وفنزويلا).
غير أن تقرير تشيني ينسى أن يحدد ما يفترض بأي قارئ على حد أدنى من الاطلاع أن يستنتجه، وهو أن جميع المناطق المشار اليها كمصادر ممكنة للنفط هي مناطق غير مستقرة أو أنها تكنّ مشاعر قوية معادية لأميركا، إن لم يكن الاثنتين معاً. وإذا كان صحيحاً أن قسماً من النخبة في هذه المناطق يؤيد ربما تطوير التعاون الاقتصادي مع الولايات المتحدة فإن فرقاء آخرين من شعوبها يرفضون في الغالب هذه الفكرة اما لدوافع وطنية واما لأسباب اقتصادية أو إيديولوجية. وهكذا فإن المحاولات الأميركية الهادفة الى شراء مزيد من البترول من هذه الدول قد تواجه بقوة بمختلف أشكال المقاومة التي يمكن أن تصل الى حد اللجوء الى الارهاب أو الى مختلف أنواع العنف. ولذلك فإن التقرير ينبه الى انعكاسات ذات طابع أمني لها أهميتها القصوى في اطار الاستراتيجيا الأميركية الدولية.
وهنا بالضبط ينكشف التوازي البديهي بين الاستراتيجيا العسكرية وسياسة إدارة بوش في مجال الطاقة. ففي الواقع ان سياسة الطاقة الهادفة الى السماح للولايات المتحدة بالوصول الى الاحتياطات النفطية الواقعة في مناطق عدم استقرار دائم لا يمكن أن تكون واقعية الا بمقدار ما تكون الولايات المتحدة قادرة على إيصال قواتها العسكرية الى هذه المناطق. وسواء أكان المسؤولون السياسيون قد توصلوا الى هذا الاستنتاج أم لا فإن ما لا شك فيه أبداً هو أن القيادات العسكرية العليا قد استنتجته من جهتها.
فوزارة الدفاع تعترف في التقرير الصادر في أيلول/سبتمبر عام 2001 في المجلة العسكرية Quadrennial Defense Review بأن "الولايات المتحدة وحلفاءها سيبقون مرتهنين في مصادر الطاقة للشرق الأوسط" وأن هذا المصدر قد يتعطل بفعل مختلف الوسائل العسكرية. وتصف مجلة (QDR) هذه آنذاك أنواع الأسلحة والقوات التي ستحتاجها الولايات المتحدة لمواجهة هذه الأخطار، وتحديداً تلك التي عدّدها بوش في التصريحات الواردة آنفاً. ويخلص التقرير الى أن الاستراتيجيا العسكرية الأميركية "تعتمد على قدرة القوات الأميركية على ارسال قواتها الى العالم أجمع”.
والأولوية الثالثة بالنسبة الى إدارة بوش هي الحرب على الارهاب التي أعلنها الرئيس في خطابه أمام الكونغرس في 20 أيلول/سبتمبر عام 2001، أي بعد تسعة أيام من اعتداءات نيويورك وواشنطن. وهذه الحرب لن تكون محدودة بسلسلة ضربات تأديبية أو بمعركة ضخمة بل تستدعي "حملة مفتوحة" تمتد الى مسارح عمليات متعددة الى أن يتم "اكتشاف كل مجموعة ارهابية ذات بعد عالمي ووقف نشاطها وتدميرها”. وفيما بعد وسّع الرئيس بوش دائرة حربه على الارهاب في اتجاه إيران والعراق اللذين يمثلان خطراً بسبب عزمهما على تطوير أسلحة نووية وكيميائية وجرثومية.
إن استراتيجيا من هذا النوع تفرض بذل نوعين من الجهود، أولهما على مستوى المخابرات وذلك بغية اكتشاف الشبكات الارهابية وتعطيلها، والثاني على المستوى العسكري بغية تدمير بؤر الارهابيين ومعاقبة الدول التي تحميهم. وإذا ما بدا هذان العملان حيويين فإن الجانب العسكري منهما هو لفت اهتمام القادة أكثر من غيره. والحال أن هذا الجانب يلتقي بالتحديد تماماً مع الأولويتين الأخريين للادارة.
وهكذا فإن الطريقة التي تمت بها حرب أفغانستان هي خير دليل على القدرة على "إنزال القوة" التي تحدث عنها الرئيس بوش في خطابه في سيتاديل في العام 1999. فقبل بدء الحملة نقلت الولايات المتحدة جواً كميات من الاسلحة والتجهيزات الى الدول الحليفة لها ونشرت اسطولاً هائلاً في بحر العرب. وقد خيضت الحرب البرية بواسطة قوات مشاة قليلة تساندها قاذفات واسعة المدى مجهزة بأسلحة توجه عن بعد بالغة الدقة. وقد تم التشديد على قدرة القوات البرية على المناورة وعلى استخدام أجهزة مراقبة عالية التقنية تسمح بتحديد موقع العدو سواء نهاراً ام ليلاً.
وعلى الأرجح ان عملية من النوع نفسه ضد العراق تستدعي نشر عشرات الألوف من الجنود في أماكن رئيسية من البلاد تؤازرها عمليات قصف مكثف. ويوضح أحد كبار الضباط لصحيفة “نيويورك تايمز” أنه بخلاف ما جرى في العام ١٩٩١ "لن يكون من الضروري أن نحتل الأراضي لنحمي جوانحنا، بل أن الأمر سيتم بمزيد من الحركة السريعة لقواتنا كي تركز على أهداف محددة”. وكما حدث في أفغانستان فإن الاجتياح سيعتمد على استخدام مكثف للوحدات الخاصة تقاتل الى جانب القوات المسلحة المنشقة.
باتت الحرب على الارهاب إذاً تساهم في الجهود الأميركية الهادفة الى تأمين الوصول الى منابع النفط وخصوصاً في منطقة الخليج وفي حوض بحر قزوين. وهكذا تبدو الحرب في أفغانستان وكأنها امتداد للحرب السرية في السعودية الدائرة بين معارضي النظام الملكي الحاكم والعائلة المالكة التي يدعمها الأميركيون. فمنذ ان قرر الملك فهد إثر اجتياح العراق الكويت في العام 1990، السماح للأميركيين استخدام أراضي بلاده كقاعدة لهم لمهاجمة العراق، نهض بعض المتطرفين السعوديين بقيادة أسامة بن لادن، بحركة تمرد سرية تهدف الى اطاحة الملكية والى طرد الأميركيين من البلاد. وبناء عليه فإن الرغبة الأميركية في تدمير شبكة “القاعدة” في أفغانستان تبدو وكأن دوافعها هي ضرورة حماية العائلة المالكة السعودية من أجل ضمان حصول الأميركيين على نفط هذه البلاد.
ويلاحظ تطور من النوع نفسه في المنطقة المحيطة ببحر قزوين. ففي عهد الرئيس كلينتون أقامت وزارة الدفاع علاقات لها مع القوات المسلحة في كل من أذربيجان وجورجيا وكازاقستان وقرغيزستان وأوزبكستان كما بدأت بتأمين السلاح والتدريب لها ، لكن منذ 11 أيلول/سبتمبر، تضاعفت هذه الجهود بقوة، فإذا القواعد الموقتة في أوزبكستان وقرغيزستان في طريقها لأن تصبح معسكرات نصف دائمة. كما ان الولايات المتحدة تساعد في "إعادة تأهيل قاعدة جوية ذات أهمية استراتيجية" في قازاقستان.
وبحسب وزارة الخارجية أن الهدف من هذه المبادرة هو " تطوير التعاون بين الولايات المتحدة وكازاخستان إضافة الى إقامة قاعدة عسكرية اميركية مشتركة التسليح في هذه المنطقة الغنية بالنفط” كما أن الولايات المتحدة ستساعد أذربيجان في تكوين أسطول عسكري في بحر قزوين حيث وقعت أخيراً أحداث عدة بين بواخر أذربيجانية للتنقيب عن النفط وبعض البوارج العسكرية الإيرانية. وإذا ما كانت هذه المبادرات تبرر بضرورة تسهيل مشاركة هذه الدول في الحرب على الارهاب فإنها أيضاً تشكل جزءاً من الجهود الأميركية الهادفة الى تأمين محيط محمي لانتاج البترول ونقله.
فأياً كانت النيات الأساسية للزعماء الأميركيين فإن الأولويات الثلاث هذه لدى الحكومة في مجال الأمن الدولي، أي تطوير القدرات العسكرية والتفتيش عن مصادر جديدة للنفط والحرب على الارهاب، قد اندمجت لتشكل هدفاً استراتيجياً واحداً. وسيكون من الصعب أكثر فأكثر تحليل كل من هذه التوجهات على حدة. والطريقة الوحيدة لوصف هذه النزعة الشاملة بالتحديد في الاستراتيجيا الأميركية هي في القول بأنها تشكل هدفاً احادياً يمكن تلخيصه بأنه "الحرب من أجل فرض الهيمنة الأميركية". وإن بدا من المبكر الآن تقويم انعكاسات هذا الدمج في هدف واحد على المدى الطويل، الا أنه يبقى من الممكن القيام بجملة ملاحظات.
أولاً: بمجرد أن تدمج هذه التوجهات فإنها تولد دينامية أقوى مما هي عليه لو انها لم تلتقِ. وفي الواقع من الصعب جداً انتقاد استراتيجيا تتمتع بهذا القدر من الحيوية بالنسبة الى الأمن القومي. فلو أنها عُرضت كلاً على حدة لكان من الممكن أن تُفرض عليها بعض القيود الخاصة. فمثلاً يمكن المطالبة بالحد من الموازنات العسكرية أو بخفض عديد القوات المنتشرة في المناطق الغنية بالبترول. لكن عندما توضع هذه المظاهر جميعاً تحت راية مكافحة الارهاب يصبح من غير الوارد التفكير في مناقشتها، وعندها يصبح من المتوقع أن تلقى سياسة البيت الأبيض بعض الدعم في الكونغرس وفي أوساط الشعب الأميركي.
لكن وللأسباب نفسها تحمل هذه الاستراتيجيا خطراً لا يستهان به للمزيد من التصعيد والمغالاة والتورط. فهي في الواقع قد تفضي الى سلسلة من العمليات العسكرية لزمن لا يمكن تحديده لتصبح أكثر فأكثر معقدة وخطيرة وتتطلب عندها استخدام وسائل وقوات متزايدة دائماً. وهذا هو بالتحديد نوع الاستراتيجيا التي حذّر منها بوش أميركا قبل انتخابات العام 2000 لكن يبدو أنه عازم مذاك على اعتمادها. وعلى كل حال، يبدو أن هذا هو ما يحدث في الخليج وآسيا الوسطى وكولومبيا. ففي هذه الحالات الثلاث هو هذا الدمج بين التوجهات الثلاثة ما يزيد من صعوبة الحد من التورط الأميركي.
والاختبار الأكثر جدية للنموذج الذي يدافع عنه البيت الأبيض قد يتم في العراق. فالرئيس الأميركي لا يخفي عزمه على اطاحة الرئيس صدام حسين وتنصرف وزارة الدفاع الى وضع الخطط للاجتياح الأميركي. وقد حذرتها العديد من الدول العربية من أن هذا الاجتياح قد يوسّع رقعة الفوضى والعنف في مختلف أرجاء الشرق الأوسط. كما ان مسؤولين كباراً في البنتاغون قد أبدوا تحفظاتهم عن التكاليف والمخاطر التي يتطلبها ابقاء وجود أميركي مهم في العراق بعد اطاحة نظام بغداد، لكن لا يبدو أن هذه التحذيرات تلقى آذاناً صاغية في البيت الأبيض الذي يبدو أنه قرر، مهما حدث، مهاجمة العراق.







القسم الثاني




مابعد الكارثة أو دخول العراق في النفق الأظلم








توطئة
بعد التمهيد الإعلامي الصاخب تعالت أصوات قرع الطبول وصيحات الحرب في أروقة البيت الأبيض ودهاليز مبنى البنتاجون ، معلنة حتمية القيام بغزو أمريكي واسع النطاق للأراضي العراقية بدعوى محاربة الإرهاب والتخلص من إحدى ركائزه القابعة في بغداد . ولئن كان المجتمع الدولي قد عاضد الإدارة الأمريكية في إعلانها الحرب على تنظيم القاعدة وحركة طالبان في أفغانستان ، فإن معظم دول العالم باستثناء بريطانيا وإسرائيل ، تعتقد بأن هذه الحالة لا تنطبق على العراق الذي بات ضحية تعسف أمريكي غير مبرر طال أمده لأكثر من عقد من الزمن . ومع ذلك تظل الإدارة الأمريكية على موقفها المتعنت من النظام في بغداد ، بدعوى حيازته لأسلحة الدمار الشامل وما تمثله من خطورة على أمنها القومي ، الأمر الذي تعتبره مبرراً كافياً لغزو العراق وإسقاط النظام القائم .
ولو رجعنا الى ملخص ما ورد في القسم الأول لتبينت لنا الحقيقة وهي أن العداء الأمريكي للنظام العراقي لا يمكن تناوله بعيداً عن أهداف أمريكا الاستراتيجية في منطقة الشرقين الأدنى والأوسط وحتى ما يقع في الشرق منهما ، كما لا يمكن إرجاعه فقط إلى قيام العراق باحتلال الكويت وحرب عاصفة الصحراء . فثمة مخططات أمريكية يبدو أنها معدة منذ وقت طويل تستهدف رسم خريطة جديدة للمنطقة من شأنها تكريس التواجد الأمريكي فيها ، وضمان تدفق نفطها للغرب ، وتحول الموقف الأمريكي – بعد تفكك المعسكر الشرقي وانهيار الاتحاد السوفييتي – من الدفاع عن المنطقة إلى الانطلاق منها نحو الشرق بغية توسيع نفوذها ، والوصول لمنابع النفط في بحر قزوين ، والوقوف على البوابة الغربية للصين ، والهيمنة على دول آسيا الوسطى وجنوب آسيا وشبه القارة الهندية . زد على ذلك أن هاجس توحد الجهود العربية وقيام كيان عربي قوي ، يظل العامل الأساس في رسم السياسة الأمريكية في المنطقة باتجاه وأد أي محاولة تستهدف تحقيق ذلك الكيان في مهدها إلى جانب ذلك تحقيق الهيمنة على القرار الأوروبي الموحد ومنع ظهور قطب أوروبي قوي ومناويء للقطب الأمريكي المستفرد بقيادة العالم.
لقد وقع الغزو العسكري كما كان مخططاً له منذ زمن بعيد وتم تنفيذ السيناريو المعد بكل حذافيره وسط تهويل وغش وخداع إعلامي شامل ستظهر حقائقه بلا شك في القريب العاجل ودخل العراق في النفق المظلم وفي دوامة الاضطرابات والعنف المسلح والتصفيات الجسدية والقتل بالجملة وتفشي اليأس بين صفوف المواطنين فكيف تنظر أمريكا والعالم الخارجي إلى هذه الوضع المتأزم والخطير ؟











الفصل العاشر
الصراع والتنافس بين "أوروبا الجديدة" و " أوروبا العجوزة" بشأن العراق
عندما تفاقمت أزمة العراق مع الولايات المتحدة الأمريكية وباتت نذر الحرب ترفرف في سماء المنطقة تنبه الاتحاد الأوروبي الى مخاطرها واستقرء عواقبها وكان من أسوء انعكاساتها وتبعاتها عليه هو ما أحدثته من انقسامات في المواقف في داخله هددت بانهياره السياسي . فدول مهمة مثل اسبانيا وايطاليا ناهيك عن بريطانيا وقفت بلا قيد أو شرط مع الولايات المتحدة الأمريكية بينما وقفت دول أخرى تعتبر بمثابة العمود الفقري للاتحاد الأوروبي كفرنسا وألمانيا الى جانب دول عظمى أخرى كروسيا والصين ضد المخططات الأمريكية الرامية الى شن الحرب والسيطرة على المنطقة النفطية واحتلالها .
في ذلك الحين خرج مهندس الحرب وداعيها الأول دونالد رامسفيلد وزير الدفاع بمقولته الشهيرة " لسنا بحاجة الى أوروبا العجوزة فهناك أوروبا الجديدة تقف معنا " ، وكان يقصد بأوروبا الجديد دول أوروبا الشرقية المتحررة حديثا من الهيمنة السوفيتية والمتطلعة الى الانضمام الى الاتحاد الأوروبي والى الحلف الأطلسي .
صرح جنرال بولوني مسؤول عن المنطقة التي يحتلها الأمريكيون لبعض المسؤولين الأمريكيين قائلا. :" أعتقد ان "العراقيين" لن يحبوكم طالما استمريتم بعدم حل مشاكل العمل والبطالة والصحة والادارة والخدمات العامة والنقل والكهرباء والماء الصالح للشرب ، وقبل كل شيء لم تحلوا مشكلة انعدام الأمن المتفاقمة يوما بعد يوم ". ومن هنا يتساءل زعماء في الكونغرس الأمريكي : لماذا بدلاً من الذهاب الى هناك، لا نبدأ بحل هذه المشاكل عندنا؟ويردد معه البولونيون منتقدين حكامهم :" لماذا لانحل مشاكلنا نحن وهي كثيرة لاتحصى بدلا من الذهاب الى هناك والتضحية بأبناءنا دون مقابل؟" . إن وزير العمل البولوني السابق ذو الشعبية الكبيرة ، جاسيك كورون، كان احد المثقفين البولونيين النادرين الذين اتخذوا موقفاً معارضاً للحرب على العراق. وهو يعترف بأنه "فوجئ" بدعم الرئيس والحكومة في بولونيا للولايات المتحدة وقال معلقاً: "إنهم ربما يسعون الى تحقيق بعض المكاسب السياسية على المدى القصير، إلا أن هذا لا يبرر المشاركة في هذه القصة المشينة."
وعلى الأرجح تعبّر وجهة النظر هذه عن رأي غالبية الآراء الشعبية التي كان من المفترض أن تؤخذ بنظر الاعتبار قبل إقرار المواقف المتخذة من قبل المسؤولين، سواء في بولونيا ام في مجمل "أوروبا الجديدة" هذه التي ينظر اليها كحليفة للولايات المتحدة. وما يشهد على ذلك هو هذا التباعد في المواقف من مسألة الحرب على العراق بين هذه المجتمعات وزعمائها الحاليين وأيضاً المقاطعة الكثيفة للاستفتاءات حول الانضمام الى الاتحاد الأوروبي.
وفي الواقع عمقت الحرب على العراق الهوة التي أحدثتها حرب كوسوفو قبل أربع سنوات ، بين شعوب دول أوروبا الشرقية وحكامها، وكان بعضها (بولونيا وتشيكيا والمجر) قد انضم حديثاً الى حلف الأطلسي. ففي شباط/فبراير عام 2003 عارضت الشعوب في مجمل الدول المرشحة للإنضمام الى الاتحاد الأوروبي، بمعدل 75 في المئة، التدخل العسكري في العراق بدون قرار من الأمم المتحدة. وحتى مع فرضية صدور قرار عن مجلس الأمن ظلت نسبة معارضة التدخل متفوقة (49 في المائة مؤيد مقابل 42 في المائة معارض)، بعكس الرأي العام في أوروبا الغربية (38 في المائة معارض مقابل 57 في المائة مؤيد). وهكذا فان "رسالة الثمانية" و"إعلان العشرة" وفيهما تأييد للحرب التي خططت لها الولايات المتحدة لم يعكسا لا رأي الشعوب ولا حتى نتائج المداولات البرلمانية.
ومما يرويه عالم الاقتصاد، لازلو اندور، رئيس المجلس العلمي "أتاك ـ في المجر" مثيراً موضوع توقيع المجر "رسالة الثمانية" أن "رئيس الحكومة بينر مدجييسي قد وقّعه بالأحرف الأولى خلال رحلة له الى اليونان. وبعودته الى البلاد اضطر الى تقديم إيضاحات حول سبب موافقته على وثيقة تؤيد الحرب بدون ان يستشير مجلس الوزراء والبرلمان في حين كان يعرف أساساً موقف كل من فرنسا وألمانيا كما يعرف جيدا الرفض الشعبي المتنامي للتدخل والذي بينته استطلاعات الرأي في المجر. فزعم أنه حصل على "تعديل طفيف" في الرسالة التي لم تكن إعلان حرب بل مجرد التهديد بالحرب في حالة عدم انصياع العراق للقرارات الدولية... فأكد أن الجنود المجريين لن يشاركوا في القتال في العراق. أما الضجة التي أثارتها هذه القضية فقد بلغت حداً أدى الى تعيين مستشار جديد للأمن القومي."
وكتب البروفسور اغدوناس راسيوس أن "حكومات دول البلطيق لم تواكب إرسال قواتها الى العراق بأي نقاش حكومي او عام، حيث حدث هذا الأمر كنوع من "الولاء" للولايات المتحدة". وكذلك فإن البروفسور راستكو موكنيك، من جامعة لوبليانا، تحدث عما اثاره توقيع سلوفينيا من "ارتباك ونقاش سياسي واسع"، فالعريضة التي وقعها تؤكد أنه "ما من فريق سياسي في سلوفينيا يملك الحق في جر البلاد الى حرب عدائية" وطالب بأن "تسحب الحكومة دعمها إعلان وزراء الخارجية العشرة في حكومات أوروبا الشرقية".
فمن سلوفاكيا الى المجر، ومن الجمهورية التشيكية الى بولونيا جاءت الاحتجاجات على مختلف أشكال دعم الحرب، ثم الاحتلال، تتجاوز بكثير إطار استغلال مختلف أطراف المعارضة موقف خصومهم الضعيف. فالزعماء التشيكيون والسلوفينيون والكرواتيون قد عارضوا رسمياً وجود بلادهم على لائحة الدول "الحليفة". فيما انقسم آخرون علناً كما حدث في رومانيا وبلغاريا.
والحقيقة أن الضغوط على الأعضاء الجدد والعتيدين في حلف الأطلسي كما في الاتحاد الأوروبي قد اختلطت بالمصالح والسياسة الخارجية وبـ"إعادة تأهيل" الكوادر السابقة من الدوائر الشيوعية.
فمثلاً، بات من المعروف أكثر فأكثر دور "مفوض" الولايات المتحدة الذي لعبه السيد بروس جاكسون وهو رئيس لجنة تحرير العراق وقد نجح في ضم العديد من شخصيات أوروبا الشرقية اليها، ونائب رئيس شركة تصنيع السلاح "لوكهيد ـ مارتن" وفي الوقت نفسه مهندس توسيع نشر قواعد حلف الأطلسي في المنطقة، ورئيس مشروع العصر الأميركي الجديد الصادر عن اليمين الأميركي من المحافظين الجدد بعد أن كان خدم في وزارة الدفاع. وهو بنوع خاص الذي فاوض بولونيا على "صفقة العصر" لبيعها 48 طائرة مقاتلة من نوع "أف 16" من تصنيع شركة "لوكهيد ـ مارتن". وفي الواقع موّلت الولايات المتحدة بنفسها هذا "الاتفاق"، فعملية الشراء هذه تم "التعويض" عنها بواسطة قرض وبشراء البضائع البولونية بمبالغ تصل قيمتها الى 12 مليار دولار.
فلا عجب إذن إذا كانت بولونيا، الدولة الوحيدة في أوروبا الشرقية التي انضمت الى التحالف الذي قاده السيدان جورج دبليو بوش وتوني بلير، قد تولت قيادة القوة المتعددة الجنسية في المنطقة الوسطى من العراق. وربما حظيت بـ"العرفان" مع تعيين رئيسها، الشيوعي السابق الكسندر كوازنيوسكي، على رأس حلف الأطلسي ومع نقل أربع قواعد أميركية من ألمانيا الى بولونيا. وهناك زعماء أوروبيون شرقيون آخرون، وعلى غرار العديد من زعماء اوروبا الغربية، قد فتحوا أراضيهم وأجواءهم امام العمليات الأميركية أو أرسلوا بضعة مئات من الجنود لحماية ديبلوماسييهم والعمليات المسماة إنسانية، وهم لا يفوتهم بالطبع أن يشجعوا شركاتهم على المفاوضات الجارية حول "إعادة إعمار" العراق.
غير ان التظاهرات، وضمناً تلك التي جرت ضد الشرطة العسكرية التشيكية التي جاءت تؤمّن الحماية للمستشفى الميداني في البصرة، والاعتداءات على قوات الاحتلال وعلى الأمم المتحدة، قد أخمدت حالات الحماسة. أما بالنسبة الى القواعد الأميركية التي أقيمت في اوروبا الشرقية فان الآراء التي اعتبرت في الأساس نوعاً من المساعدة للاقتصاد المحلي قد بات ينظر إليها أكثر فأكثر باعتبارها نوعاً من الدفع الى الأعمال الانتقامية. ففي 15 شباط/فبراير عام 2003 نزل الى الشوارع في بودابست خمسون الف شخص تلبية لدعوة حركة المواطنين من أجل السلام في المجر، لكي تمنع أي شكل من أشكال المساعدة في الحرب ولإقفال قاعدة تازسار العسكرية، التي ستغلق في المناسبة مع بداية التدخل العسكري...
وقد جاءت مسألة زيادة الانفاقات العسكرية فيما يجري خفض الانفاق على الصحة والتربية، ليطرح بدوره قضية المعايير، النظرية، في معاهدة ماستريخت وفي البناء الليبيرالي في أوروبا. فالرأسمال الأجنبي، الذي لا يميل كثيراً الى دعم الوظائف والخدمات العامة، يتحكم بقوة بالأنظمة المصرفية في أوروبا الشرقية منذ نهاية تسعينات القرن الماضي (وحدها سلوفينيا قاومت هذا المنطق المفروض من المفوضية الأوروبية). أما التوظيفات البنيوية، التي تحتل الباب الثاني في الموازنة الأوروبية بعد الزراعة والتي يفترض بها أن تعوض آليات نظام السوق ومساعدة المناطق الأكثر فقراً، فقد باتت محكومة بسقف محدد بدقة ومشروطة بالتمويل المشترك. وبالنتيجة فإن خفض أعمال التمويل العام وسعي الاعتمادات الخاصة الى الربح، قد جعلا المساعدة تخصص للمحظوظين أكثر مما تعود بالفائدة على عموم الناس.
وربما تشكل بولونيا واسبانيا جبهة واحدة حول موضوع العراق وحول معايير التمثيل داخل الاتحاد. لكن إذا ظلت موازنة هذه الأخيرة على حالها، ونسبتها ادنى من 1.27 في المائة من مجمل ناتجها المحلي، فان منطق إعادة التوزيع، الضعيف جداً أساساً، سيزداد ضعفاً كلما كان الأعضاء الجدد أكثر فقراً. وهكذا فان اسبانيا سوف تخسر تقريباً كل التمويلات الأوروبية التي حصلت عليها حتى الآن في الوقت الذي ينظر في خفض المبالغ الممنوحة لهذه الغرض (ينال المزارع البولوني في البداية ما نسبته 25 في المئة مما يحصل عليه المزارع الفرنسي).
ومما يقال في بروكسيل انه ليس هناك رغبة في تشجيع الابقاء على "الاستهلاك الذاتي غير المنتج". وعلى كل حال، فان قطع الأرض تبقى حزام الصمود الوحيد حين تلغى الخدمات الاجتماعية التي كانت توفرها سابقاً الشركات الكبرى. وفي الواقع فان المستهدف في الإلغاء هو مجمل أشكال الحماية الاجتماعية، كما حدث في القرن التاسع عشر وذلك كي تنهض طبقة أجيرة "فعلية" مرتهنة لوضع "مرن" قاسٍ. وهذا ما تعمل على تطبيقه قوانين العمل الجديدة. ومن هنا تزايد الفقر في حين هناك إدعاء بالعمل على "استدراك" الوضع.
وإذا كان الأمر مجرد سعي الى إقامة سوق ليبيرالية كبرى في اوروبا الشرقية، فما الفائدة من عملية التوسيع التي تفاقم من مشكلات الاتحاد؟ فقد بات أمراً واقعاً في هذه الدول الانفتاح التجاري وإلغاء الحمايات الاجتماعية وبيع الشركات الفضلى وإعادة التموضع. وهذا ما جعل بروكسيل تتأخر في الشروع في المرحلة الرسمية من المفاوضات التي لم تبدأ مع الدفعة الأولى من هذه الدول الا في العام 1998، وليس بفعل ما تحقق من نجاحات في الدول المعنية، بل نظراً للذكرى العاشرة لسقوط جدار برلين. ففي العام 1998، وبعد سنوات من انخفاض النتاجات الاجمالية المحلية، تمكنت دولتان فقط من العودة الى مستواها في العام 1989 وإحداهما بولونيا التي راحت بعدها تشهد تراجعاً في معدل نموها...
ويلفت عالم الاقتصاد المجري المناهض للعولمة لاسزلو أندور الى أن "النخب السياسية الجديدة في شرق أوروبا كانت تخشى أن يشكك في وضعها. ومن أجل تعزيز التحولات المتحققة أرادت الالتحاق بأي تكتل بالغرب، بحلف الأطلسي أو بالاتحاد الأوروبي، أو بالاثنين معا، شرط ان يكون اول وافد من المجتمع الأورو ـ أطلسي." وبغية العمل على تأخير المرشحين للانضمام تمسكت قمة كوبنهاغن في العام 1993 ببعض المعايير مثل التعددية السياسية واقتصاد السوق "الكفيلة بمواجهة المنافسة" وإنجاز "الشروط المكتسبة الاتحادية". غير أن التطبيق الفعلي لهذه المكتسبات، بحسب ما يعتبر اندور، استدعى في الواقع عملاً انتقائياً بحيث ان الوعود الأولية بالانفتاح على الشرق لم تتحقق الا مع دولة او اثنتين اعتبرتا بمثابة واجهة".
أما القمة الأوروبية التي انعقدت في كانون الأول/ديسمبر عام 1999 فهي التي شكلت المنعطف في اتجاه "الحدث الكبير". فقد تقرر أن انضمام مجمل المرشحين أمر "حاصل" لكن لم يحدد له وقت. الا أن تطبيق معايير كوبنهاغن بدأ يخف شيئاً فشيئاً، فالميزان التجاري مع الاتحاد في الدول المرشحة للدخول اليه، هو في حالة عجز ولا يمكنه "مواجهة المنافسة"، و"المكتسبات الاتحادية" غير محددة ومتحركة في ما يخص السياسة الزراعية المشتركة والصناديق البنيوية، وهما الرهانان الأساسيان في المفاوضات النهائية. اما على الصعيد السياسي فان تصاعد حالات المقاطعة والتيارات المعادية للأجانب التي زادت من حدتها نتائج حرب حلف الأطلسي على يوغوسلافيا، قد سرع عملية الانعطاف وتفاقم مواقف الرفض.
وبالاضافة الى "الحدث الكبير" كان من المفترض بميثاق الاستقرار لجنوب شرق أوروبا، الذي وضع في حزيران/يونيو عام 1999، أن يساعد حكومات المنطقة، التي تزايد اهتزاز وضعها، مشكّلاً ما يشبه مدخلاً للاتحاد الى "دول غرب البلقان". كانت المقاربة الاقليمية ضرورية خوفاً من مفاقمة عملية بلقنة معممة والاضطرار من أجل فرض الاستقرار الى الاستعانة مجدداً بأعمال القوات الجوية الأميركية. هذا ما رآه السيد أندور الذي نظم في شهر آذار/مارس 2004 في بودابست المؤتمر الأول في اوروبا الغربية لشبكة من علماء الاقتصاد من اجل وضع سياسة اوروبية مختلفة...
لقد انتقلت اوروبا الشرقية مباشرة من الرقابة والارتباكات البيروقراطية في نظام الحزب الواحد السابق، الضامن اجتماعياً على الأقل لاحتياجات الشعب، الى الارهاب الفكري والرأسمالية المتوحشة التي حملتها العقائد الليبيرالية. وفي عملية التحول المؤلمة هذه بدا الاتحاد الأوروبي ليس فقط مصدراً لضبط الأمور،و إنما أيضاً حاملا للأمل في تلاقٍ جديد على مستوى القاعدة الاجتماعية.
فالسيد بيتر اول، المناضل التشيكوسلوفاكي السابق من اجل ميثاق الـ77، والخصم العنيد لحلف الأطلسي والمؤيد المتحمس للانضمام الى الاتحاد، يبدي ارتياحه قائلاً: "إن الحرب في العراق قد أبرزت الروابط بين شعوب اوروبا الشرقية واوروبا الغربية". ففي صحيفة "برافو" حيث يكتب المقالات الافتتاحية، وصف توقيع السيد فاتسلاف هافل "رسالة الثمانية" في حين أنه لم يتبقَ له إلا أيام من عهده الرئاسي بالعمل "الاجرامي". وهو يعتبر ان البناء الأوروبي وسيلة "لتطوير الحقوق التي اعترف بها المجلس الأوروبي". وهو الذي فضح "مسؤوليات التشيكيين" في انقسام الاتحاد التشيكوسلوفاكي يحارب القوميين المتشددين، ومما يقوله لنا "ان حملة الحزب الشيوعي التشيكي على الاتحاد الأوروبي سلبية جداً ذاك انها تعتبر ان الألمان، والأجانب يشكلون خطراً."
والسيدة آنا ساباتوفا، الناطقة سابقاً باسم ميثاق الـ77 والتي انتخبها مؤخراً البرلمان التشيكي كوسيطة مساعدة، ترفض ايضاً هذه القومية فتقول: "لا يمكنني ان أتصور بديلاً من الانضمام". وهي إذ تتحسس حالات التراجع الاجتماعي الجارية منذ العام 1989، تشدد في كل حال على تطور الذهنيات: "ففي ما مضى، كان التلفظ بكلمة "تضامن" يعتبر فظاظة من قاموس "ذهنية المستفيدين". اما الان فقد بات بالامكان انتقاد حالات الاستبعاد التي تطال الأكثر فقراً وإلغاء المساعدات الاجتماعية بطريقة عقلانية". وتضيف: "ما اعلمه هو أن الانضمام لن يكون له إلا نواح حسنة، لكنني لا أفهم كيف يمكن تغيير العالم بطريقة معزولة. فالكثير من الأمثلة داخل الاتحاد يمكن ان تساعد في الصمود هنا."
ويعتبر توماس كراوس، المناضل في المؤتمر الاشتراكي المجري أن هذا "هو أقل الخيارات سوءاً. ففي مواجهة اليمين الكاره لأوروبا "نملك هامش مناورة اوسع من أجل الدفاع عن الأقليات القومية (وخصوصاً الروم) والجنسية في إطار الاتحاد، ومزيد من إمكانات التعاون النقابي." ويضيف مبتسماً: "لقد اكتشف الوفد المجري الى المؤتمر الاشتراكي المنعقد في فلورنسا أن في الامكان رفع الأعلام الحمراء من دون الذهاب الى السجن." ويخلص الى القول" أنه بالاجمال "على مدى ثلاثة عشر عاماً كنا في الخارج مستعمرين أكثر مما يمكن أن نكون عليه في الداخل".
وتبين الصيغة مسؤوليات الاتحاد في الرأسمال المتوحش الذي نشرته النخب الحاكمة في أوروبا الشرقية وقد استفادت منه. وهذا ما جاءت تعبر عنه بعض "اللاءات"في الاستفتاء على الانضمام. غير أن غالبية هذه اللاءات قد أتت من اليمين المتطرف القومي المعادي للأجانب والذي يجد صدى له غالباً بين الفئات الأكثر حرماناً أو لدى غلاة الليبيراليين من التاتشريين أو السياديين (مثل حزب الرئيس فاتسلاف كلاوس في تشيكيا). اما عصبة العائلات البولونية، وهي من اليمين الكاثوليكي المعادي لأوروبا (بالرغم من مواقف البابا)، فانها فضلت اقتراح انضمام بولونيا الى اتفاق التبادل الحر لدول أميركا الشمالية (ألينا) على الانضمام الى الاتحاد الأوروبي !.
ويلفت البروفسور نيكولا باردوس-فلتورونيي الى انه من مختلف الاتجاهات "يطرح معدل المقاطعة المرتفع جداً الكثير من التساؤلات من دون أن يأتي بإجابات واضحة. لكنه يبدو مرتفعاً بنوع خاص في المناطق ذات الدخل المتدني او المتوسط . والحال انه في "الك"، إحدى المناطق المنكوبة أكثر من غيرها في بولونيا، انعقد في شباط/فبراير عام 2003 احد هذه المؤتمرات الاشتراكية الذي جمع بنوع خاص جمعيات العاطلين عن العمل والنقابيين. "إن ممثلي بلدنا طالبوا بحق الفيتو في ما خص القضايا الاجتماعية، غير ان هؤلاء الناس لا يتكلمون باسمنا". هذا ما قاله غاضباً السيد بيوتر إيكونوفيتش أحد منظمي هذا المؤتمر والذي صوت على اقتراح يدعو الى اوروبا اشتراكية. غير أن المقترحات البديلة لبناء ليبيرالي في اوروبا، منقطع عن اليمين الديني والقومي، كانت قد بدأت بالظهور.
ويشدد السيد ميشال كوزلوفسكي، ناشر مجلة "بيز دوغماتو" (بدون عقيدة) البولونية المعادية جداً لرجال الدين على أن "الاتحاد الأوروبي يبقى هو الزاوية الوحيدة في العالم الذي لا يزال يحتضن اكثر ما يمكن من العلمانية كما الحقوق الاجتماعية والمدنية". ويتابع مؤكداً تردده: "إن شروط الانضمام تشكل فضيحة." وفي أي حال "فان انضمام بولونيا يعتبر تحدياً". هذا ما يضيفه جاداً وممازحاً في آنٍ معاً، لأنه يخشى، وعلى غرار أنصار المرأة البولونيين "نفوذ اللوبي الديني التابع للبابا في بروكسيل".
وكانما هو يردد كلامه، احب المؤرخ البولوني مارسان كولا أن يذكّر برأي الذين اعتبروا أن "بولونيا كانت على الدوام في اوروبا، فعلى الاتحاد أن ينضم الى القيم البولونية". وهو بالعكس ينتقد الكلام السائد الذي يعتبر الماضي الأوروبي لبولونيا وهماً ويتناسى "موقعها الحدودي" بالنسبة الى اوروبا الغربية.
ويوضح هذا المؤرخ أنه أساساً وفي ظل النظام السابق في سبعينات القرن الماضي كان الزعيم الشيوعي ادوارد جيريك "قد فتح نافذة على الحياة الغربية عبر سياسة الاستيراد التي انتهجها". ولكن في عهد سوليدارنوسك أو نقابة التضامن "ظلت البطالة أمراً غير مطروح ولا أحد كان يفكر في الخصخصة". ومن هنا نشأت هذه المفارقة". ففيما كانت الحركة النقابية في أساس التحولات، فقد اختفت كلياً تقريباً وخصوصاً في الشركات الخاصة. وقد خاب أمل الناس بأوروبا بعد سقوط الشيوعية، فهم راحوا يتذكرون المساعدات التي جاءتهم في ثمانينات القرن الماضي ويعتقدون أنهم ما إن "يتحرروا" حتى يستقبلون بالترحاب. ويخلص الى القول:"ولذلك فان نظرتهم الى الماضي الشيوعي أيجابية أكثر مما كانت عليه في العام 1989".وعندما سئل عن رأيه الخاص في ما يتعلق بالاتحاد الأوروبي لخص البروفسور كونا تماماً الصراعات والمخاوف القائمة هناك، وخصوصاً إزاء طلب إغلاق الحدود البولونية مع جيرانها الشرقيين والتهريب عبر الحدود: "إذا كان يجب الاختيار بين الانضمام الى الاتحاد أو التواجد مع بيلاروسيا برئاسة الكسندر لوكاتشينكو، فأنا أصوت لصالح الاتحاد. لكني أشعر بالقلق، وأولاً إزاء خطر قيام جدران جديدة بيننا وبين "أوروبا شرقية" جديدة يكون مواطنوها عرضة للكراهية إذ يعتبرون هم بدورهم "اوروبيين سيئين".
تعكس لنا هذه البانوراما التفصيلية لما يدور داخل دول " أوروبا الجديدة " التي عناها رامسفيلد مدى تعقيد الأمور السياسية والاقتصادية والاجتماعية فيها والتي قد تؤدي الى استفحال الصراعات الاجتماعية فيها الى حد الثورة الداخلية وهي تعتبر بالنسبة لنا نحن العراقيين درسا يستحق التامل فيه ودراسته بعمق ونحن على أعتاب تحولات مشابهة تقودها نفس الأطراف والقوى الليبرالية المتوحشة في الغرب .
1 ـ وقعت "رسالة الثمانية" في 30 كانون الثاني/يناير من جانب رئيسي الوزراء البولوني والمجري والرئيس التشيكي (قبل أيام من انتهاء عهده)مع رؤساء حكومات اسبانيا وبريطانيا والبرتغال وإيطاليا والدانمارك. اما "إعلان العشرة" فقد وقع في 5 شباط/فبراير عام 2003 من جانب زعماء ألبانيا وبلغاريا وكرواتيا واستونيا وليتوانيا وليتونيا ومقدونيا ورومانيا وسلوفاكيا وسلوفينيا.
2 ـ الدول الخمس الأولى هي سلوفينيا وبولونيا والمجر والجمهورية التشيكية وأستونيا. أما الفوج الثاني فقد جمع ليتوانيا وليتونيا وسلوفاكيا ورومانيا وبلغاريا.





الفصل الحادي عشر
رؤية أمريكية للوضع في الشرق الأوسط

أعتقد المحللون السياسيون في الغرب، بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية بقليل، أن الولايات المتحدة ألزمت نفسها بإجراء تغيير شامل طويل المدى في أوربا وكان أعتقادهم صائباً. فقد شرع أصحاب القرار في واشنطن - بعد تقييمهم للموت والدمار اللذين خلفتهما الحرب، بما في ذلك خسارة مئات الآلاف من الأميركيين - في العمل لإقامة أوروبا حرة ديموقراطية مسالمة لا مجال فيها للتفكير في حروب أخرى. فقد التزم قادة الولايات المتحدة مع قادة وشعوب أوروبا برؤيا الديمقراطية والازدهار ونجحوا في ذلك فهل يمكن تطبيق هذه القاعدة على مجريات الأمور في منطقة بالغة الحساسية كمنطقة الشرق الأوسط انطلاقاً من تجربة العراق بعد إطاحة النظام فيه وغزوه واحتلاله عسكرياً؟.
تقول كونداليزا رايس ، مستشارة الأمن القومي في أمريكا أنه :" يجب اليوم أن تلتزم أميركا وأصدقاؤنا وحلفاؤنا بعملية تغيير شامل طويل المدى في جزء آخر من العالم ألا وهو الشرق الأوسط. فالشرق الأوسط الذي يضم 22 دولة يبلغ مجموع سكانها 300 مليون نسمة يقل إجمالي إنتاجه المحلي عن إسبانيا التي يبلغ عدد سكانها 40 مليون نسمة. وسبب تخلفه هو ما يصفه مفكرون عرب بارزون "بفقدان الحرية" السياسية والاقتصادية. وفي كثير من الأماكن، يوفر الشعور باليأس أرضا خصبة للعقائد القائمة على الكراهية، "التي تقنع الناس بترك التعليم الجامعي، والحياة العملية، وبناء الأسرة، والتطلع بدلا من ذلك إلى نسف أنفسهم وإلى أن يقتلوا معهم أكبر عدد ممكن من الأبرياء".
تعتقد الإدارة الأمريكية الحالية بأن هذه العناصر هي وصفة لعدم الاستقرار الإقليمي وتشكل خطرا مستمراً على الأمن الأميركي.
وتضيف كونداليزا رايس قائلة :"إن مهمتنا هي أن نعمل مع الذين يسعون في الشرق الأوسط في سبيل التقدم نحو قدر أكبر من الديمقراطية والتسامح والازدهار والحرية".
في حين صرح الرئيس بوش في شباط/فبراير 2004 قائلاً " للعالم مصلحة واضحة في انتشار القيم الديمقراطية، لأن الدول المستقرة والحرة لا تولد عقيدة القتل، بل تشجع السعي سلميا نحو حياة أفضل."
وأضاف قائلاً :" لنكن واضحين، لقد ذهبت أميركا والتحالف إلى الحرب في العراق لأن نظام صدام حسين شكل تهديدا لأمن الولايات المتحدة والعالم. فهذا نظام سعى للحصول على أسلحة دمار شامل وامتلكها واستخدمها؛ وكانت له صلات مع الإرهاب؛ وغزا جيرانه مرتين؛ وتحدى المجتمع الدولي وسبعة عشر قرارا أصدرتها الأمم المتحدة على مدى اثني عشر عاما وأعطى كل الإشارات التي تقول إنه لن ينزع سلاحه، ولن يلتزم أبدا بمطالب العالم العادلة.
واليوم وبعد زوال هذا التهديد المفترض ، بعد احتلال العراق، هل سنحت حقاً فرصة خاصة لعرض برنامج عمل إيجابي للشرق الأوسط، يعزز الأمن في المنطقة وفي جميع أنحاء العالم، وهل هناك أدلة على التزام جديد بالمضي نحو السلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين ، وقبل كل ذلك هل هناك نية حقيقية وصادقة لدى الإدارة الأمريكية في نشر وتعزيز الديموقراطية والازدهار الاقتصادي في العراق ؟.
لقد نجح الأمريكيون في جمع الإسرائيليين والفلسطينيين والدول العربية المجاورة للمشاركة في مؤتمري قمة البحر الأحمر في شهر يونيو/حزيران خلف الرؤيا التي عرضها الرئيس بوش بصراحة ولأول مرة في تاريخ السياسة الخارجية الأمريكية ، وهي رؤيا دولتين، إسرائيل وفلسطين تعيشان جنبا إلى جنب في سلام وأمن. ويعتقد كولن باول وزير الخارجية الأمريكي أن زعماء إسرائيل باتوا يتفهمون بصورة متزايدة أن من مصلحة إسرائيل أن يحكم الفلسطينيون أنفسهم في دولة قابلة للحياة تكون مسالمة و ديمقراطية و ملتزمة بمقاومة العنف المسلح. وأخذ الزعماء الفلسطينيون يتفهمون بصورة متزايدة أن العنف المسلح ليس وسيلة الوصول إلى الدولة الفلسطينية وأنه يمثل أكبر عقبة في طريق إقامتها.
ويدعي الأمريكيون أن نهاية نظام صدام حسين تعزز أيضا التقدم الذي بدأ في جميع أنحاء المنطقة. فالمفكرون العرب يدعون الحكومات العربية إلى معالجة مسألة فقدان الحرية. كما تحدث زعماء في المنطقة عن ميثاق عربي جديد يدعم الإصلاح الداخلي وعن قدر أكبر من المشاركة السياسية والانفتاح الاقتصادي والتجارة الحرة. وتتخذ الدول العربية من المغرب حتى الخليج خطوات حقيقية نحو الانفتاح السياسي والاقتصادي. والولايات المتحدة تؤيد هذه الخطوات.
وعلى صعيد النوايا صرحت كونداليزا رايس في مقال لها في الواشنطن بوست قائلة :" ستتاح فرص أخرى أكبر من هذه عندما تحل محل نظام صدام حسين المجرم حكومة عراقية عادلة وإنسانية قائمة على المبادئ الديمقراطية. فمثلما أصبحت ألمانيا الديمقراطية العمود الفقري لأوروبا جديدة موحدة حرة تعيش في سلام، كذلك يمكن أن يصبح العراق بعد التغيير الشامل فيه عنصرا أساسيا لشرق أوسط مختلف جدا لا تزدهر فيه عقائد الكراهية. فبعد مئة يوم تقريبا من انتهاء العمليات العسكرية القتالية الرئيسية في العراق، استعاد الشعب العراقي بلاده وبدأ يشكل مستقبلا مفعما بالأمل. و ستعمل أميركا، فيما يستمر هذا الانتقال إلى الحرية، مع الدول الأخرى لمساعدة العراقيين في تحقيق قدر أكبر من الأمن والفرص". لكن واقع الحال لايتوائم مع مثل هذه الأمنيات النظرية فالعملية الديموقراطية في العراق تتعثر والعنف يتزايد وانعدام الأمن يتفشى كالسرطان وتتفاقم مصاعب العيش وظروف الحياة القاسية التي تفتقد لكل شيء.
كما أن عملية التغيير الشاملة في الشرق الأوسط لن تكون سهلةهي الأخرى، وستستغرق وقتا. و ستتطلب مشاركة واسعة النطاق من أميركا وأوروبا و جميع الأنظمة الديموقراطية في العالم، للعمل في شراكة كاملة مع كل من يعتقد بقوة الحرية الإنسانية في المنطقة. وتعلق كونداليزا رايس على ذلك قائلة :" لكن هذا ليس التزاما عسكريا بالأساس، بل التزام يتطلب منا أن نستخدم جميع جوانب قوتنا القومية - - الدبلوماسية والاقتصادية والثقافية. فعلى سبيل المثال، أطلق الرئيس بوش مبادرة الشراكة مع الشرق الأوسط ليلزمنا ببناء مستقبل أفضل بواسطة مشاريع محددة ملموسة. واقترح أيضا إقامة منطقة تجارة حرة بين أميركا والشرق الأوسط خلال عشر سنوات، لإدخال شعوب المنطقة في دائرة متسعة من الفرص".
تسود الدوائر الأمريكية رؤية تبسيطية نقول إن الشرق الأوسط مع كل مشاكله، منطقة ذات إمكانات هائلة. فهو مهبط ثلاث من أعظم الديانات في العالم وموطنها الروحي، والمركز القديم للعلم والتسامح و التقدم. كما أنه يعج بأشخاص موهوبين ذوي قدرات كبيرة يستطيعون - - عندما ينعمون بقدر أفضل وأكبر من الحرية السياسية والاقتصادية - - أن يشاركوا في أوجه التقدم في عصرنا، دون أن يتم تحديد نوع وطبيعة هذه المشاركة لأن الأمريكيين لايثقون في واقع الأمر بهؤلاء المبدعين والسياسيين المحليين .
وتختتم كونداليزا رايس تصورها بالقول بإن أميركا مصممة على مساعدة شعوب الشرق الأوسط في تحقيق إمكاناتها الكاملة قائلة:" إننا سنعمل بجدية وإصرار لأننا نريد قدرا أكبر من الحرية والفرص لشعوب المنطقة، و كذلك قدرا أكبر من الأمن للشعب الأميركي ولجميع أنحاء العالم".النوايا الأمريكية جميلة وعادلة ولكن هل لها صلة ولو قليلة بأرض الواقع ؟ هذا ما لايعتقده أي فرد يعيش في عمق المأساة العراقية والعربية والإسلامية.



























الفصل الثاني عشر
العراق : اليوم وغداً
هل يمكن أن تصبح بلاد الرافدين فيتناماً ثانية للأمريكيين؟

بعد حادثة تفجير مقر الأمم المتحدة في بغداد ووفاة ممثل الأمين العام في العراق سيرجيو فييرا دو ميللو ، وانفجار الصحن الحيدري في النجف الاشرف الذي شكل خسارة كبيرة للشعب العراقي والعالم الاسلامي على حد سواء ووجه ضربة كبيرة لجهود السلام في العراق ، ركزت وسائل الإعلام الفرنسية ، وعلى رأسها صحيفتي " لوموند" و "ليبراسيون" على موضوع المستقبل السياسي للعراق في ظل تفاقم الأوضاع واشتداد أعمال العنف وتزايد الهجمات ضد القوات الأمريكية والبريطانية ، واستمرار أعمال التخريب ضد المنشآت العراقية الاقتصادية والنفطية والحيوية ،وتواصل عمليات السرقة والنهب والخطف التي يتعرض لها المواطنون العراقيون،وغياب الخدمات العامة ، وهي ظواهر تقف أمامها قوات الاحتلال مكتوفة الأيدي وعاجزة عن إيجاد حل يرضي العراقيين ويقنع الرأي العام العالمي بضرورة بقائها في العراق.
وعلى الرغم من ذلك مازال معظم العراقيين مقتنعين أن بقاء قوات الاحتلال الأمريكية ـ البريطانية لمدة محدودة يعتبر امراَ ضرورياً لحفظ الأمن وردع القوى التي تريد إشاعة الفوضى والفلتان العام وربما التهيئة لحرب أهلية تدمر مابقي في هذا البلد المثخن بالجراح.
لكن الامر الذي يتفق حوله جميع العراقيين هو انهم يؤمنون ، بل ويطالبون برحيل القوات المحتلة بأسرع وقت ممكن ، ويحددون ذلك بعد تشكيل الحكومة العراقية الشرعية المنبثقة عن انتخابات حرة لتكون قادرة على إحلال الأمن والاستقرار وإعادة الدورة الاقتصادية الطبيعية للبلد ، وترميم البنى التحتية ، وتأمين الخدمات العامة للمواطن العراقي لكي يعيش بأمان وكرامة وحرية في ظل دولة القانون والدستور الدائم .
ولكن السؤال الذي يفرض نفسه هو : هل سيكون هذا ممكناً مع استمرار الاستفراد السياسي الأمريكي بمقدرات العراق واستئثار حفنة من السياسيين المحترفين والطارئين على مقدرات السلطة السياسية واستبعاد الآخرين؟
يبدو ان هناك مراجعات تتم في واشنطن تتعلق باخفاقات السياسية الامريكية في ادارة العراق وتشاع أجواء شبيهة بما تعرضت له الولايات المتحدة الأمريكية في الستينات عندما انزلقت في الجحيم الفيتنامي رغماً عنها ولم تخرج منه إلا بعد سنوات من الحرب الدامية والخسائر البشرية الفادحة . قد لا يكون هناك مجال للمقارنة كليا ولكن يتعين علينا العودة إلى الماضي قليلاً في الفترة الزمنية التي سبقت طرح التساؤلات نفسها التي كانت مطروحة آنذاك قبل ازنزلاق الولايات المتحدة الأمريكية في المأزق الفيتنامي.
ففي بداية الستينات كان هناك مئات من المستشارين الأمريكيين المكلفين بتدريب القوات الفيتنامية الجنوبية وتأهيلها لمواجهة الخطر الشيوعي المتزايد من الجار الشمالي في فيتنام الشمالية. بيد ان المقاومة سرعان ما بدأت بتوجيه الضربات الى المستشارين الأمريكيين واشتد ضربات قوات الشمال وثوار الجنوب ضد النظام الجنوبي الموالي للولايات المتحدة الأمريكية . وبدأت الشكوك تحوم حول فعالية التدخل العسكري المباشر وبخاصة شكوك الرئيس الأمريكي ليندون جونسون وتدارسوا عواقب مثل تلك المغامرة العسكرية . وقد تولى جونسون الرئاسة بعد اغتيال الرئيس جون كيندي باعتباره نائباً للرئيس المغدور . وكانت الانتخابات الرئاسية على الابواب وكان جونسون المرشح الاكثر حظاً في الانتخابات الرئاسية . وقد اقتنع جونسون بطروحات وزير دفاعه روبيرت ماكنامارا بزج الولايات المتحدة بقوة في الصراع الدائر بين فيتنام الشمالية وفيتنام الجنوبية . وبعد أن أعيد انتخابه سنة 1964 على خلفية برنامج إصلاحات إجتماعية داخلية ، تجاوز الخط الأحمر سنة 1965 ورفع عدد القوات الأمريكية العاملة في فيتنام إلى مئات الآلاف من العسكريين سقط منهم في تلك الحرب مايزيد على خمسين ألف جندي من دون تحقيق النتائج المرجوة ، بل بالعكس منيت الولايات المتحدة بهزيمة نكراء مازالت إلى اليوم تعاني من تبعاتها.
واليوم تواجه الطبقة السياسية الامريكية تحديات تقربها من التجربة الفيتنامية في العراق وتثار فيها التساؤلات نفسها التي تتعلق بتبعات الحرب والسلام .. ربحت الادارة الامريكية حرب العراق فهل ستربح السلام ؟ كان من الممكن أن يكون مصير بوش الابن كمثل مصير والده يربح الحرب ويخسر الانتخابات الرئاسية بسبب تدهور الأوضاع في العراق لكنه فاز فيها واستمر في سياستهالحربية. إن معركة السلام لا تقل ضراوة عن معركة الحرب . فبعد بضعة أشهر من سقوط نظام صدام حسين الديكتاتوري بدت المهمة أمام القوات الأمريكية المحتلة أكثر صعوبة من مهمة خوض الحرب ذاتها . وهذا الامر على نقيض ما كانت توقعته و أعلنته حفنة من الأيديولوجيين المنظرين لليمين الأمريكي المتطرف ، الذين أقنعوا جورج دبليو بوش بالانتقام لضحايا الحادي عشر من أيلول 2001 بإطاحة نظامي طالبان في أفغانستان وصدام حسين في العراق وتحرير الشعب العراقي من هذا الطاغية الدموي . وهذا ما حدث بالفعل ولكن لم يفكر هؤلاء المنظرون بجدية وعمق بمرحلة ما بعد سقوط النظام.
ففيما عدا منطقة كردستان العراقية فإن إنعدام الأمن والفوضى والبطالة واليأس هي الأجواء السائدة في العراق، ويحاول المائة وخمسون ألف جندي أمريكي بذل كل ما في وسعهم ، ليس لتحسين الوضع المعيشي للعراقيين ، بل لحماية أنفسهم من الهجمات التي يتعرضون لها يومياً ويقدمون الضحايا بالعشرات . ناهيك عن الخسائر المادية ، حيث يكلف الاحتلال الخزينة الأمريكية مليار دولار شهرياً وتقدر تكلفة إعادة الإعمار للعراق بعشرين مليار دولار في السنة ولمدة خمس سنوات على الأقل لكي تكون فعالة .
والملفت للنظر في قضية الادارة الامريكية للعراق هو انها عجزت تماماً عن تشغيل دورة الحياة ، فكل شيء معطل وبالأخص عملية إعادة البناء السياسي التي تحدث ببطء شديد جداً وبالرغم من الوعود التي أطلقها الأمريكيون وعلى رأسهم بول بريمير بتنظيم انتخابات حرة في غضون سنة ولكن لا أحد كان يصدق ذلك وحتى عندما جرت الانتخابات كانت جزئية وقاطعها السنة العرب في العراق وتخللتها الكثير من الانتهاكات والخروقات. وقبل ذلك ينبغي أولا سن دستور عراقي يرضي الجميع تقره هيئة تأسيسية تتمتع بالشرعية . وهذا مالم يحصل لحد الآن . ناهيك عن الاختلافات بالرؤى والتوجهات التي المنتشرة بين أطراف المجلس الحكومي الانتقالي والتي تشل حركته تقريباً لاسيما بعد إعلان تشكيلة الحكومة الجديدة وتوزيع المناصب الوزارية على أساس طائفي وأثني وفق نظام المحاصصة وليس على اساس المواطنة والكفاءة والاختصاص.
هناك الكثير من المسائل العالقة التي لم تجد لها حلاً لحد الآن كالفيدرالية التي يصر عليها الأكراد ولايتحمس لها الاخرون ، وكذلك مكانة الدين في الدولة العراقية الجديدة وهو الأمر الذي يتحمس له المتدينون ولا تبالي به باقي الأطراف العلمانية . وهناك مسألة العسكريين المسرحين من الجيش بعد إلغاء وزارة الدفاع وعددهم يقدر بمئات الآلاف الذين انخرط بعضهم في صفوف انصار النظام المنهار لتقديم خبراتهم العملية العسكرية لتنظيم الهجمات ضد قوات الاحتلال . ويعتقد عدد متزايد من المراقبين أن الولايات المتحدة خلقت لنفسها مسرحاً جديداً " للجهاد" في العراق بعد أفغانستان وأن إرهابيين إصوليين غير عراقيين تسللوا إلى العراق عبر حدوده المفتوحة والتحقوا بالفلول التي تحن لنظام صدام حسين البائد ، والذين يعتقد أنهم وراء تفجير مقر الأمم المتحدة في بغداد وإن لم تتوفر ،بعد، الدلائل القاطعة على ذلك.
ومهما يكن من أمر، فإن فكرة دخول الولايات المتحدة الأمريكية الى العراق بذريعة مكافحة الإرهاب والعثور على اسلحة الدمار الشامل العراقية ، التي اقتنع بها الرأي العام الأمريكي لم تكن فكرة حصيفة فقد تراجعت استطلاعات الرأي الأخيرة وانخفضت الاصوات التي كانت تؤيد جورج دبليو بوش في مشروعه الحربي ، وأنقلب عليه الكثير من مؤيديه حتى داخل الكونغرس الأمريكي . فبعد عودتهم من مهمة استطلاعية ميدانية في العراق ، نصح اعضاء مجلس الشيوخ الثلاثة ( جمهوريين وهما جون ماككين عن ولاين آريزونا، ولندسي غراهام عن ولاية كارولين الجنوبية ، والديموقراطي ذو النفوذ الكبير جوزيف بيدن عن ولاية دلوار) نصحوا بإرسال تعزيزات عسكرية كبيرة إلى العراق وهي فكرة لم تكن تعجب كثيرا الرئيس بوش عندما كان على أعتاب حملته الانتخابية الرئاسية ، وبخاصة وانه كان قد وعد بتخفيض قواته في العراق في شهر أيلول، ولا تعجب أيضاً وزير الدفاع دونالد رامسفيلد الذي لايرى ضرورة لزيادة عدد القوات هناك بالرغم من إلحاح العسكريين المحترفين على ذلك لحاجتهم إلى المزيد من القوات للسيطرة على الأوضاع المتفجرة في العراق والمنذرة بخطر اشتعال شامل إذا لم تطرأ تحسينات ملموسة على الوضع المعيشي والأمني للسكان.
وباختصار فإن الجميع في واشنطن يعترف بأن الآلة العسكرية الأمريكية كفوءة في تحقيق النصر وكسب المعارك الكلاسيكية لكنها غير مؤهلة لمهمات إعادة الإعمار في البلدان التي قامت بتدمير بناها التحتية .
لم يبق أمام الولايات المتحدة الأمريكية سوى حل واحد وهو العودة إلى الأمم المتحدة وطلب مساعدتها الجدية والفعالة ومنحها صلاحيات حقيقية في عملية إعادة البناء والإعمار وترسيخ الأمن والاستقرار في ظل شرعية دولية تقود إلى استقلال البلد في أسرع وقت وتقرير شعبه لمصيره عن طريق الانتخابات الحرة لكن هذا الخيار مازال يصطدم برفض دعاة الأيديولوجية المهيمنة على مقدرات الولايات المتحدة التي تؤمن بالقوة الأمريكية التي لاتقهر ، وبالرغم من فشل ذريعة اشاعة الديموقراطية في ربوع المنطقة من إسرائيل إلى أفغانستان مروراً بالعراق وسورية وإيران ، وهي الأطروحة التي تغنى بها اليمين الأمريكي المتعصب ولم يتحقق منها أي شيء إلى يومنا هذا.








الفصل الثالث عشر
هل نجح المشروع الاميركي في العراق و الشرق الاوسط
ها قد مرّ عامان على إطاحة نظام صدام حسين بحرب مدمرة للبنى التحتية وللاقتصاد العراقي وبالأخص للإنسان العراقي كان يمكن تفاديها وإسقاط النظام الديكتاتوري بطرق أخرى كانت متوفرة للمجموعة الدولية وللولايات المتحدة الأمريكية لكنها تجاهلتها وأهملتها لأنها كانت تريد الحرب بأي ثمن حتى قبل وقوع أحداث الحادي عشر من أيلول المأساوية وهذا ما أثبتته وسائل الإعلام الغربية والأمريكية وكذلك مسؤولون في الإدارة الأمريكية فضحوا مؤخراً تلك الحقائق فقد كان هناك هوس يسيطر على رؤس الزعماء الأمريكيين إسمه العراق الذي يجب تدميره وتحييده والسيطرة عليه كلياً وعلى نحو مباشر. فهل نجحت أمريكا في مشروعها الخاص بالعراق أولاً وبالشرق الأوسط الكبير ثانياً؟
لجأت ادارة بوش الى ثلاثة انواع من الحجج لتبرير اجتياحها للعراق: النوع الاول يتعلق بالطبع بما يسمى الحرب على الارهاب التي اعلنت بعيد 11 ايلول/سبتمبر 2001. فخلافا للواقع، تم اتهام رأس النظام العراقي البائد صدام حسين امام الرأي العام الاميركي بانه متواطئ ان لم يكن الموجه الرئيسي لاسامة بن لادن. الحجة الثانية كانت ما تمثله "اسلحة الدمار الشامل" من تهديد وبات اليوم معروفا ان المعلومات التي قدمتها الولايات المتحدة وبريطانيا كانت كاذبة. وبينما كانت الحجتان الأوليتان تتراجعان اكتسبت الحجة الثالثة المزيد من الاهمية وهي وعد واشنطن بجعل العراق نموذجا يحتذى للديموقراطية في الشرق الاوسط.
وكان هذا التبرير الذي اطلق بالتزامن مع باقي الحجج منذ بداية الحملة على بغداد قد لقي رواجا خاصا لدى اصدقاء ادارة بوش من "المحافظين الجدد" النشطين في اروقة وزارة الدفاع الاميركية. وقد عبر الرئيس الأمريكي نفسه رسميا عن طموحه في نشر "القيم الديموقراطية" في الشرق الاوسط، وهذا ما اعلنه منذ 26 شباط/فبراير 2003، عشية اجتياح العراق امام مؤسسة الابحاث الاميركية (AEI ( المعروفة بانها تؤوي المحافظين الجدد واصدقاء اسرائيل غير المشروطين والذين يفتخر السيد جورج بوش بانه "استعار" عشرين منهم لادارته. وفي خطوة لاحقة ومن اجل التدليل على نوع هذه القيم، اقترح الرئيس الاميركي في 9 ايار/مايو 2003، "اقامة منطقة تبادل تجاري حر بين الولايات المتحدة والشرق الاوسط في غضون عقد من الزمن".
وجدت هذه التبريرات دعما لدى بعض مؤيدي "الحرب الانسانية" في عهد كلينتون والذين استمروا في تأييد اللجؤ الى القوة مع ادارة بوش. الكندي مايكل ايغناتييف الاستاذ في هارفرد والاختصاصي في حقوق الانسان، هو احد ممثلي هذه الدائرة ويتقدم بحجج معقدة ليدعم بها الادارة الاميركية. ففي مقالة لقيت الكثير من الاصداء نشرها مطلع العام 2003 في ملحق يوم الاحد لصحيفة "نيويورك تايمز"، يمتدح ايغناتييف بلهجة تبغي الاقناع من دون حماسة، فوائد "الامبراطورية الاميركية" التي تتحول في سياق تحليله الى "امبراطورية الخير" كبديل إنساني لإمبراطورية الشر التي أتخذت أسماء ووجوه وأشكال عديدة .
فالولايات المتحدة هي نوع من "امبراطورية مخففة وهيمنة عالمية ادواتها السوق الحرة وحقوق الانسان والديموقراطية المفروضة من قبل اعتى قوة عسكرية عرفها العالم". وفي ثرثرته الطويلة يكمل قائلا: "ان ما يعمل لصالح الولايات المتحدة انها تحولت في مكان مثل العراق الى الامل الاخير في تحقيق الديموقراطية والاستقرار". لكن مع مرور الزمن يتبين خطأ هذا التشخيص.
على عكس هذه الاطراءت "المثالية" الصادرة عن الليبيراليين بالمعنى "التقدمي" الاميركي، فان ادعاء ادارة بوش نقل الديموقراطية الى العالم الاسلامي عموما والعراق خصوصا قد لقي انتقادات حادة من "الواقعيين". فالسيد آدم غارفنكل، رئيس تحرير The National Interest وهي المجلة النظرية الممثلة لهذا التيار حذر بقوة من السذاجة التي تتسم بها هذه المقاربة وذلك منذ خريف العام 2002.
وكان اول اعتراضاته يخص "مفارقة الديموقراطية" التي حددها استاذ آخر من هارفرد هو صموئيل هانتنغتون الذائع الصيت اي ان الديموقراطية في بعض مناطق العالم يمكن ان تؤدي الى بروز قوى معادية للغرب الراعي لهذه الديموقراطية. وخير مثال على ذلك هو العالم الاسلامي حيث العداء لاميركا يبلغ مستويات قصوى.
اما الاعتراض الثاني فيفترض ان الحملة من اجل الديموقراطية في العالم العربي تمثل "تحولا رئيسيا في موقف الولايات المتحدة من النخب غير الديموقراطية الحاكمة في الدول العربية والتي اعتبرناها في عداد الاصدقاء طويلا إلى النخب الليبرالية المتسامحة والمرنة ذات الميول الديموقراطية والا فاننا سندخل حلقة فاضحة من الرياء الديبلوماسي".
ان هذا الرياء الذي اعتادت عليه شعوب العالم الاسلامي منذ ردح طويل من الزمن هو في اساس التشكيك والمرارة التي تثيرها وعود واشنطن بالديموقراطية وهذا ما يشدد عليه في الولايات المتحدة الانصار الحقيقيون لهذه الديموقراطية. توماس كاروثرز الباحث في مؤسسة "كارنجي" للسلام الدولي انتقد قبل عام "ازدواجية الشخصية" لدى الرئيس بوش وفريق عمله: "ان بوش الواقعي يطور العلاقات الحميمة مع طغاة من اصدقائه في انحاء العالم كافة بينما بوش" الريغاني الجديد" يطلق النداءات الرنانة من اجل حملة الديموقراطية في الشرق الاوسط".
وفي مقالة حول الاستراتيجيا الاميركية، يذكر شيرل شوينينغر، المدير المساعد في برنامج السياسة الاقتصادية العالمية في مؤسسة "اميركا الجديدة" ان "جوهر السياسة الاميركية في العقود الثلاثة المنصرمة كان معاديا للديموقراطية ولحق العرب في تقرير مصيرهم". فالرؤساء الاميركيون المتلاحقون اعتمدوا ثلاثة ثوابت مسيئة في العمق للشعب العربي" وهي : "تمويل سياسة الدفاع الاسرائيلية والترويج لمسار سلمي محدد يتناسب مع مخططاتهم ومصالحهم الى جانب مصالح إسرائيل الاستراتيجية، دعم الحكومات الموالية لواشنطن في مصر والاردن وتوثيق التحالف مع العائلات المالكة في الخليج ولا سيما في السعودية". ويضيف: "ان احتلال العراق يضر بمشروعية السياسة الاميركية حيث ان غالبية شعوب المنطقة تعتبر الولايات المتحدة مهتمة بالنفط وبتفوقها العسكري اكثر منها برفاهية الشعب العراقي".
ان عدم العثور على اسلحة الدمار الشامل في العراق وازدياد الرفض الشعبي لا بل العداء الصريح تجاه الولايات المتحدة دفعا بالرئيس بوش الى التشديد اكثر فاكثر على الحجة الديموقراطية. ولهذه الغاية، القى خطابا ضمّنه برنامج عمل في 6 تشرين الثاني/نوفمبر 2003 امام "مؤسسة الدراسات الوطنية" المجتمعة في غرفة التجارة في الولايات المتحدة، وهي مركز ابحاث موال لادارته كان قد انشئ بمبادرة من ادارة الرئيس ريغان. وتناول الخطاب بشكل رئيسي الديموقراطية في العالم الاسلامي لكن الرئيس الأمريكي برهن عدم اعتماده مؤشرات ثابتة لهذه الديموقراطية عندما ابدى رضاه عن لائحة طويلة من الدول السلطوية المنتشرة في العالمين العربي والإسلامي، وموجها اللوم "الى القيادة الفلسطينية التي تمنع التحول الديموقراطي"
بعد ايام احتدمت مجابهة بين "الحاكم المدني" الاميركي في العراق بول بريمر (كما تسميه اسبوعية "الايكونوميست" البريطانية) ومعاونيه العراقيين من جهة وآية الله العظمى علي السيستاني، المرجع الاكبر للشيعة في العراق من جهة اخرى. وهي مجابهة تمتاز بالمفارقة (التي تحدث عنها هنتنغتون) حيث المطالب بالانتخابات العامة كان آية الله وليس الجانب الأمريكي وحلفاؤه وذلك في ما يخص الهيئة التشريعية او التصديق على الدستور الجديد بينما تتذرع قوة الاحتلال بعدم امكان اجراء انتخابات في المدى القصير او حتى المتوسط من اجل تبرير نقلها السلطة الى حكومة تعينهاأو تختارها أو تهيء لها واشنطن. وتمكن آية الله السيستاني المدعوم من مناصريه الذين تظاهروا بقوة من فرض وساطة الامم المتحدة والتي افضت الى وعد بتنظيم انتخابات في بداية العام 2005.
في هذا الاطار المضر بالصورة "الديموقراطية" لادارة بوش المتراجعة في استفتاءات الرأي، وقبل اشهر على الانتخابات الرئاسية، اختار الرئيس الاميركي اطلاق مبادرته بصخب وضجيج إعلامي كبير. وفي 13 شباط/فبراير 2004، نشرت صحيفة "الحياة" الليبيرالية الصادرة في لندن "وثيقة عمل" بعنوان "شراكة الدول الثماني حول الشرق الاوسط الكبير" والتي كانت واشنطن قد وزعتها على مستشاري زعماء الدول الثماني قبل القمة التي انعقدت بين 8 و10 حزيران/يونيو في ولاية جورجيا في الولايات المتحدة.
تستوحي الوثيقة بشكل واسع من تقارير اعدها كل من الصندوق العربي للتنمية الاقتصادية والاجتماعية والمكتب الاقليمي لبرنامج الامم المتحدة للتنمية حول مستوى الفقر والامية والبطالة في البلدان العربية ليدق ناقوس الخطر امام الدول الثماني التي تتعرض "مصالحها المشتركة" للخطر بسبب "تصاعد التطرف والارهاب والجريمة الدولية والهجرة غير الشرعية". تتوجه واشنطن الى دول المجموعة مشيرة الى تكامل مشروعها مع مبادرات موازية كالشراكة الاوروبية المتوسطية ("مسار برشلونة") ومبادرة الشراكة الشرق الاوسطية التي اطلقتها وزارة الخارجية الاميركية، كما تشدد على "الجهود المتعددة الأطراف لاعادة الاعمار في افغانستان والعراق" كأنها تندرج في مسار واحد مشترك.
فتحت عناوين "الديموقراطية" و"مجتمع المعرفة" تقترح الوثيقة مبادرات عدة في فترات زمنية محدودة كالمساعدة التقنية التي يمكن ان توفرها الدول الثماني الى الدول العربية التي تجري الانتخابات بين 2004 و2006. وتكون بمثابة "مساعدة تحضيرية" للانتخابات (تسجيل الناخبين واعداد المشرفين وتوفير القانون الانتخابي) وليس رقابة على الانتخابات بحد ذاتها. او ايضا المساعدة في انشاء مراكز لاعداد النساء القياديات والصحافيات وهيئات المساعدة القانونية (بما فيها المسائل المتعلقة بتطبيق الشريعة الاسلامية) والمنظمات غير الحكومية وتدريب حوالى 100 الف مدرسة حتى العام 2008.
اما الاقتراحات الجديدة والاكثر "جرأة" فيمكن ايجادها تحت عنوان "الفرص الاقتصادية" الداعية الى "تحول اقتصادي كبير يشبه ما حصل في الدول الشيوعية السايقة في اوروبا الوسطى والشرقية". اما مفتاح التحول فهو بالطبع في تعزيز القطاع الخاص، الباب السحري للازدهار والديموقراطية كما تؤمن بهما واشنطن. وتبلغ الوثيقة حدا من السذاجة اذ يتوقع اخراج 1200000 صاحب عمل (منهم 750 الفا من النساء) من الفقر عن طريق قروض صغيرة تبلغ 400 دولار للشخص الواحد تقتطع من مبلغ اجمالي لا يتجاوز المئة مليون دولار سنويا على مدى خمس سنوات!
الوصفات الاخرى معهودة مثل: ـ تأسيس مصرف الشرق الاوسط الكبير للتنمية على غرار المصرف الاوروبي للتنمية واعادة الاعمار في الوقت الذي تتمتع فيه البلدان العربية بوجود مؤسسة من هذا الطراز مع الفارق ان البلدان الغربية لا تهيمن عليها. ـ انشاء مناطق حرة علما بانها موجودة بين دول عربية عدة. ـ ممارسة الضغوط من اجل اولوية الانتساب الى منظمة التجارة العالمية وادخال الاصلاحات الضرورية لذلك.
منذ نشرها على صفحات "الحياة" تثير الوثيقة المذكورة اعتراضات متواصلة في العالم العربي، بدءا بتعريف عبارة "الشرق الاوسط الكبير" حيث يضم اضافة الى البلدان العربية كلا من افغانستان وايران وباكستان وتركيا واسرائيل وهي دول لا يوجد قاسم مشترك بينها سوى انتمائها الى المنطقة التي تعبر عن اعلى نسبة من العداء للولايات المتحدة الاميركية وتشهد انتشارا للاصولية الاسلامية في صيغتها المعادية للغرب والتي صنفتها واشنطن على رأس قائمة الاعداء بعد نهاية الحرب الباردة.
فباستثناء هذه الاعتبارات للاولوية السياسية الاستراتيجية، التي تحاول واشنطن الحصول على تبني شركائها الغربيين لها، فليس هناك من مبرر جغرافي او ثقافي او اقتصادي يجمع هذا الكم من البلدان والتي لا تستجيب لمعايير مشتركة في ما بينها. ولا بد ان ترفض شعوب هذه البلدان وحكوماتها هذا المنطق باستثناء اسرائيل التي تشاطر واشنطن اولوياتها الاستراتيجية وخصوصا ان سائر بلدان المنطقة تمثل مصدر قلق بالنسبة اليها.
وقد جاءت اول الانتقادات واكثرها لذعاً من رئيس تحرير "تقرير التنمية البشرية العربية" المصري نادر فرغاني الذي استنكر وضع واشنطن يدها على التقرير فنشر في "الحياة" مقالا يشير فيه الى ان آلية العمل ـ المهلة القصيرة المعطاة للدول الثماني وللدول العربية لابداء الرأي في المشروع ـ تبرهن عن "العقلية المتعجرفة للادارة الاميركية الحالية تجاه سائر العالم وسلوكها كانها تتحكم بمصائر الدول والشعوب"
ويأخذ الكاتب على الوثيقة تعميم معطيات عربية على منطقة جغرافية واسعة ومتنوعة غالبيتها مسلمة ومصنفة في نظر المحافظين الجدد على انها بؤرة الارهاب، ويضرب هذا التعميم عرض الحائط بخصوصيات الدول المعنية. ويعرض فرغاني لاسباب عدة تدعو الى رفض المشروع رفضا قاطعا. اولا لانه "مفروض من الخارج" من دون استشارة مسبقة للمعنيين الرئيسيين به. ومن ثم لانه يفتقر الى "المصداقية" كونه صادرا عن ادارة تزرع الفساد في العالم العربي وتهدد مصالحه. ويضيف في تعبيره عن شعور عام في المنطقة ان واشنطن تسعى الى "توريط" اوروبا في مشاريعها الخاصة. وينطبق ذلك على الدول التي عارضت اجتياح العراق وفي مقدمها المانيا وفرنسا والتي "حازت تأييد الشعب العربي واحترامه الى درجة ان قوى التغيير في المنطقة تنظر اليها كدول حليفة لها". اذا التحقت هذه الدول بالسياسة الاميركية فانها، بحسب فرغاني، "ستخسر الرصيد السياسي الذي حققته من دعمها ولو المحدود للحقوق العربية". ويبدو ان هذا هو "الهدف الكامن" وراء الوثيقة الاميركية.
ينتقد فرغاني بصورة خاصة ارادة الولايات المتحدة في فرض نموذجها الاقتصادي على الشرق الاوسط. يضاف الى ذلك ان الوثيقة تتجاهل المشكلات الرئيسية في العالم العربي اذ تطالب باندماج اسرائيل في المجموعة الاقليمية حتى من دون الاشارة الى حقوق الفلسطينيين. وهي لا تهتم الا باعادة اعمار العراق ـ وليس بسيادته ـ فيما يعني ذلك "توزيع العقود على الشركات المنتمية الى الدول التي ساهمت في تدمير العراق".
وأخيراً، يدعو فرغاني الدول العربية الى رفض المشروع الاميركي مع الاشارة الى ان هذا الرفض لا معنى له اذا لم يترافق مع جهد اصيل لهذه الدول لاجراء اصلاح نابع من مجتمعاتها يسعى الى النهوض بالعالم العربي. هذا ما رمى اليه في الواقع تقرير الصندوق العربي وبرنامج الامم المتحدة للتنمية في اصداره الاخير في تشرين الاول/اكتوبر 2003 بعد المآخذ التي وجهت الى صيغته الاولى (تموز/يوليو 2002) بالتقيد بالمسار النيوليبيرالي واهمال مسؤولية الهيمنة الخارجية عن احوال العالم العربي. يشدد تقرير العام 2003 على الطبيعة التبعية للاقتصادات العربية ويخفف من غلوائه "الليبيرالية" في الجانب الاقتصادي ليحذر من استبدال احتكار الدولة بالاحتكارات الخاصة موجها الانتقاد الشديد اللهجة للسياسات الاميركية والاسرائيلية في الشرق الاوسط.
ان انعدام المصداقية يشكل العقبة الرئيسية في وجه المشروع الاميركي، وحتى انصار التغيير الاكثر عزيمة يرفضونه لهذا السبب. هذا ما يعبر عنه السيد منصف المرزوقي المناضل التونسي في سبيل حقوق الانسان على صفحات "الحياة" ايضا: "يمكن القول ان سياسة الاميركيين ستؤدي الى فتح ممر واسع امام القوى الاسلامية المتطرفة كما نشاهد في العراق وكما سنشاهد في اماكن اخرى".
ان العداء الشديد لادارة بوش في البلدان العربية والتشكيك المتزايد بكل ما يصدر عنها دفع بحلفاء واشنطن الى الوقوف على مسافة تبعدهم عن المبادرة الاميركية. حتى ان الرئيس مبارك تزعم معسكر المنتقدين كي يتفادى الانتقادات القاسية التي ستتعرض لها المبادرة. فبعد التعبير عن تحفظاته زار السعودية حيث رفض بالتوافق مع المسؤولين فيها "الفرض الخارجي لنوع محدد من الاصلاحات على البلدان العربية والاسلامية" وقد يكمن هنا في هذا الرفض فشل انعقاد قمة الإصلاحات العربية في تونس مؤخرا.إذ يبدو أن حلفاء الولايات المتحدة اقترحوا اعادة طرح "المبادرة السعودية" في تلك القمة التي كان مقرراً عقدها في 29 و30 آذار/مارس. وكانت هذه المبادرة اعلنت في كانون الثاني/يناير 2003 كي تقدم الى القمة العربية في البحرين خلال شهر آذار/مارس من العام نفسه لكن القمة نقلت الى شرم الشيخ في مصر واقتصرت على يوم واحد بسبب الازمة العراقية. فالاحداث التي عصفت بالمنطقة تخطت في حينه مبادرة ولي العهد السعودي الامير عبدالله الذي تراجع ايضا امام ضغوط نظرائه بعدم الخضوع لاملاءات واشنطن. وكان الرئيس السوري بشار الاسد استنكر" "الاقنعة" المتعددة التي تلجأ اليها الولايات المتحدة من اجل السيطرة على العراق وعلى العالم وهي اعمال التفتيش من قبل الامم المتحدة وقرارات مجلس الامن الدولي واسلحة الدمار الشامل و"مسألة الديموقراطية وحقوق الانسان بينما يعدوننا اليوم بالتنمية"
كانت المبادرة السعودية ترمي الى دفع الدول العربية لتبني شرعة "اصلاح ذاتي" وتطوير "المشاركة السياسية" اضافة الى اجراءات من اجل "دعم القطاع الخاص وتشجيعه" وتأسيس "سوق عربية مشتركة". والمحصلة ان هذا التناقض بين التردد السياسي والاقدام الاقتصادي ينبىء بان "الليبيرالية" في الشرق الاوسط قد تقتصر على الخصخصة



الفصل الرابع عشر
أمريكا والسلام الصعب في العراق والعالم

قبل أن تشن الولايات الأمريكية حربها الكونية ضد الإرهاب تعمدت رسم صورة الدولة الجبارة التي لاتقهر عبر وسائل إعلامها المرئية والمسموعة والمكتوبة وقدمتها كما كان العالم يشاهدها وكأنه أمام شريط سينمائي ضخم تقوم فيه القيادة الأمريكية المركزية بدور البطولة سواء تلك الموجودة في أمريكا أو في قطر أو في أي مكان آخر في العالم حيث نراها في قاعة العمليات المزروعة بشاشات التلفزيون والكومبيوترات والخرائط العملاقة وهي تراقب وتدير وتوجه كل مايدور في العالم برمته. ولم تسمح للمشاهد أن يطرح على نفسه سؤال وماذا بعد الحرب ؟ حيث تبين للجميع فيما بعد أن مرحلة مابعد الحرب هي أخطر بكثير من الحرب نفسها وبات المراقب للمشهد العالمي يرى أن القوات الأمريكية صارت تتكبد يومياً عشرات القتلى في العراق وكذلك في أفغانستان وتبدو عاجزة عن وقف هذا النزيف أو فرض الحلول الناجعة لوقفه.
خلقت مدارس التفكير والتخطيط العسكري الأمريكية ، المستندة الى مبدأ التفوق التكنولوجي المطلق، مفاهيم عسكرية ـ سياسية واستراتيجية تمتعت بشهرة إعلامية وقدرة تسويق فائقة من قبيل " الحرب الذكية ، والحرب الاستباقية أو الوقائية، الحرب مع صفر في الخسائر البشرية، "انطلت على الكثيرين مما دفع البعض الى إعادة مواقفه من العنف الدولي حتى لو كان مشروعا في بعض الأحيان خاصة بعد مأساة الحادي عشر من أيلول 2001 في أمريكا وما حدث في يوغسلافيا وأخيرا ما حدث في أفغانستان والعراق وإطاحة نظامي طالبان وصدام حسين بثمن باهظ يدفعه شعبا البلدين اليوم.
فتمت اعادة شرعنة للحرب عن طريق مفاهيم ديبلوماسية ـ عسكرية حديثة العهد مثل حق التدخل الانساني او العمليات العسكرية ذات الطابع الانساني في الصومال ورواندا...
وساهم في اعادة الاعتبار هذه ان النزاعات الآنفة الذكر كانت سريعة (خمسة اسابيع من القصف الجوي ومئة ساعة لتحرير الكويت عام 1991 وستة اسابيع لاحتلال العراق عام 2003) مما يمنع الرأي العام من معاناة الشعور بالاحباط والتألم. وكان مثل البوسنة مؤشراً الى ما لاينبغي القيام به على الارض باستخدام قوات عسكرية غير كافية التسليح للفصل بين المتنازعين، لذا كانت النزاعات اللاحقة تجد تبريرا لها في السرعة التي تتحقق فيها النتائج المتوقعة والمرجوة.
شكّل هذا المذهب الاميركي المعروف بـ "الثورة في المسائل العسكرية" الاساس الجوهري للموقف الاميركي الجديد على الصعيد الدولي. و بات يعبّر عن الشكل الاكثر تطورا للحرب التقليدية والتي تسعى سائر الجيوش الغربية الى استنساخها. وتمثل الاسلحة المستخدمة تحديا حقيقيا على المستويين الصناعي والتكنولوجي. في المقابل ولدت مدرسة "المساواة في القوة" (من الربط احيانا بين الارهاب وانتشار اسلحة الدمار الشامل) من رحم الازمات الحديثة العهد، ومن المدهش ملاحظة الموازاة التامة في المفاهيم والممارسات.
فعند كل عملية يعاد تأكيد فكرة "الضربة الذكية" المرتبطة بالقدرة على بلوغ الهدف المحدد وحده وذلك بفضل اسلحة بالغة الدقة ـ مع المفهوم الموازي لـ "الاضرار الجانبية" كصيغة لتبرير الاخطاء التي يمكن ان تعتري ممارسة المفهوم السابق الواعد بتفاديها.اما في المذهب الآخر، فإن فرضية الضربة الجراحية هذه تتناقض مع الاعتداء العشوائي الذي لا يبالي بطبيعة الاهداف المختارة (ناقلات نفط، مبان سكنية، فنادق دولية كبيرة، ملاه ليلية، مترو الانفاق، قواعد عسكرية...) ولايبالي بنوعية الضحايا (سياح اوستراليون، مهندسون فرنسيون، ضحايا مسلمون، سكان محليون...) فالهجمات ضد مركز التجارة العالمي شكلت اول عمل ارهابي ذي طابع معولم كونه استهدف مباني للمكاتب اوقع ضحايا من حوالى مئة جنسية دفعة واحدة.
كذلك فان فكرة "صفر قتيل" (من جهة العسكريين الغربيين) تنبع من شعور التفوق التكنولوجي الاحادي الجانب وساهمت في تعميم الفكرة القائلة بأن الحرب عمل دولي يمكن تحمله، ينخرط فيه الجنود الاميركيون من دون اخطار بعد الفشل الدموي في الصومال. ظهر في المقابل الاعتداء الانتحاري وهو يدحض سلفا فكرة "صفر قتيل" بما أنه يقوم على تضحية المقاتل بنفسه.
ان اختيار المقاتل الانتحاري واعداده عملية بالغة الاتقان حيث يقع الخيار على شخص لا يتمتع بملامح المقاتل التقليدي (شاب او شابة من حملة الشهادات لا يعاني المشكلات ولا يملك ماضياً سياسيا ...) ويتم التحضير النفسي ببطء وفاعلية خارج اطار العائلة (حالة "القاعدة" و"حماس" وحزب الله و"نمور التاميل") فتتحول التضحية الى شرف يسجل لصالح العائلة كما يحصل بالنسبة للانتحاريين الفلسطينيين والشيشان والتاميل.
تم اختراع هذه الصيغة في ايران والشرق الاوسط وبلغت حد الاتقان على يد نمور التاميل في سري لانكا. فالاعتداءات الثلاثة في السعودية اوقعت في 13 ايار/مايو 2003 ثلاثين قتيلا بينهم الانتحاريون التسعة بينما لم توقع الحرب على العراق سوى 178 ضحية من جهة التحالف (بمن فيهم ضحايا النيران الصديقة).
ان القدرة على نشر القوات الضاربة الاميركية بفضل امتدادات تفوق الخيال قد سمحت بالانتصار في العراق او في افغانستان بواسطة طائرات تقلع احيانا من الولايات المتحدة نفسها. في المقابل برهنت اعتداءات 11 ايلول/سبتمبر 2001 وعملية احتجاز الرهائن في أحد المسارح في موسكو ان الهجوم على المعقل الوطني لا يزال يمثل نقطة الضعف الرئيسية في انظمة الامن الكبرى وذلك من باب الافراط في الثقة بالنفس وعدم التنسيق بين الامنين الداخلي والخارجي.
ان شفافية ارض المعركة التي تسمح بها الوسائل التكنولوجية الحديثة من طائرات رقابة من دون طيار او اقمار اصطناعية تمثل تفوقا لا جدال فيه للجيوش الغربية شرط وجود ارض للمعركة او جبهة محددة المعالم على الاقل. فاذا تحولت الحرب الى حرب عصابات في المدن او مناوشات كما في افغانستان والعراق ، فان السيطرة على مجريات المواجهة في "منطقة مدينية غير مستقرة أمنيا" تكون أقل فاعلية. فسلسلة العمليات المنسوبة الى "القاعدة" طالت اهدافا متنوعة ومبعثرة في كل من باكستان وكينيا وتونس واليمن وبالي والكويت والسعودية والمغرب... اما الوسائل المستخدمة (مهاجمة ناقلات النفط والفنادق السياحية الكبرى) وعدم الاكتراث بالحياة البشرية (فرنسيون، اوستراليون، اميركيون، اسرائيليون، كينيون، مغاربة ...) فإنه لدليل مؤسف على ان ارض المعركة لم يعد هو مكان التقاء الجيشين للمواجهة بل أتسع ليشمل الكرة الارضية بأكملها.
ويأتي تحويل الوسائل المدنية الى اغراض ارهابية كرد على التفوق العسكري الغربي. فلم يكن هناك من مؤشر تقليدي يمكن ان ينذر بالهجوم على مركز التجارة العالمي كنقل الاسلحة والمتفجرات او رصد تحركات اشخاص من اصحاب السوابق. حتى في مجالات البحث العسكري الحساسة والتي تعمل على وسائل التحكم والرقابة على الاتصالات وشبكات الاعلام، تمكن الارهابيون من استخدام تطور الانترنت لتحصين اتصالاتهم الخاصة من خلال التهاتف عبر الشبكة البريطانية او اليمنية.
ان الاستثمارات الضخمة في مجال الابحاث العسكرية ولدت عتادا عسكريا باهظ الكلفة بحيث انه ما من نظام سياسي مثير للقلق يمكنه منافسة الجيوش الغربية التقليدية في ساحة المعركة لاسيما و انه بالاضافة الى الثمن المرتفع سيكون مضطرا للتزود من هذه المعدات لدى مصدّرين باتوا جميعهم تقريبا في مصاف الحلفاء للولايات المتحدة الاميركية. فالمنافسة العسكرية الوحيدة الممكنة هي في باب "تساوي القوة" باللجؤ الى اسلحة الدمار الشامل او الارهاب من اجل ردم الفارق العسكري الكبير بأقل كلفة. يكفي ان نتذكر كيف ان طائفة "اوم" المسؤولة عن نشر غاز السارين في مترو الانفاق في طوكيو بتاريخ 20 آذار/مارس 1995 تصرفت من دون مساعدة خارجية وتمكنت من الحصول على اسلحة كيميائية والقيام بأبحاث جرثومية. اما كلفة اعتداءات 11 ايلول/ستمبر فتقدر بمئة ألف دولار مقابل اضرار مباشرة بقيمة 40 مليار دولار اضافة الى ما بين 100 و200 مليار دولار من الخسائر غير المباشرة.
اخيرا وعلى المستوى السوسيولوجي نشهد من جهة، العسكري المحترف لابس البزة والذي يتقاضى راتبه بانتظام من الدولة والذي تقع على عاتقه مهمة الامن الخارجي للدول الديموقراطية الكبرى، ومن جهة أخرى عنصر الميليشيا الموالي لزعيم الحرب المحلي او في اسوأ الاحوال المؤمن المناضل المنتظم ضمن شبكة تتواصل مع بعضها عبر شبكة الانترنت بين عواصم العالم المتقدم او العالم الثالث. فيقدّر مثلا عدد المقاتلين "الافغان" (المقاتلون السابقون في الحرب المناهضة للسوفيات في افغانستان) الذائعي الصيت بعشرات الآلاف وهم لعبوا دورا كبيرا في الجزائر او السعودية مثلا. لكن الارهاب في العالم الاسلامي ليس المعين الاوحد، فأول اعتداء كبير في الولايات المتحدة كان من توقيع أنصار من اليمين المتطرف وكان اول اعتداء ارهابي في التاريخ من تدبير احدى الطوائف الصغيرة.
اوجدت الشبكات الارهابية الدولية معاقل لها في "المناطق الرمادية" المنتشرة في العالم حيث اللائحة طويلة: افغانستان، الصومال، مناطق باكستان القبلية وربما العراق غدا او العواصم الكبرى في العالم. وبصفة عامة ستواجه الجيوش الغربية المحترفة مزيدا من هذه المجموعات المسلحة غير النظامية، ارهابية ولكن ايضا من ميليشيات المرتزقة الجدد كما في ساحل العاج او جماعات غير منضبطة والجنود التابعين لامراء الحرب كما في افغانستان والصومال والكونغو.
يقوم الامن الدولي في وقتنا الراهن اذاً على بعض القواعد الكبرى وهي:
1ــ الحرب كبديل من السياسة. نلاحظ هروبا فعليا الى الامام في ممارسة الحرب ضمن تفكير المحافظين الجدد في الولايات المتحدة مع مفهوم "الضربة الوقائية" او فرضية استخدام اسلحة نووية ضعيفة القوة. ففي أقل من عشرين شهرا اطلق دعاة الحرب في واشنطن نزاعين دوليين وصنفوا ثلاث دول ضمن "محور الشر" كما اقدمت وزارة الخارجية في 23 تشرين الاول/اكتوبر 2002 على ادراج 204 حركات ارهابية او منظمات خيرية ـ واجهة (غير اميركية) في السجل الارهابي من دون احتساب وجود قوات اميركية (قديمة العهد) في كولومبيا. وتبين يوما بعد يوم ان الحرب في العراق باتت اقرب الى نزاع تقليدي ضد دولة مشتتة اكثر منها ضد مجموعة ارهابية. فتزول الحدود الواضحة بين الحرب والسلام بما ان الانتصار في الحروب التقليدية يمكن ان يؤدي الى بروز تهديدات ارهابية جديدة.
2ــ مرحلة ما بعد الحرب الصعبة: ان النتيجة الملموسة للحروب الاخيرة (افغانستان، كوسوفو ...) كانت في أفضل الاحوال تغيير الانظمة ـ وليس اعادة السلام. فما بعد الحرب بات أكثر تعقيدا من الحرب لجهة الحل السياسي وكلفة الاعمار وضمان السلم المدني والتكامل بين المناطق. خير دليل على ذلك استمرار وجود امراء الحرب في الصومال وافغانستان واستمرار أعمال العنف وانعدام الأمن في العراق. فتدمير الدولة القائمة والتي تمر بأزمة في العادة يكشف للعيان تفسخ المجتمعات المحلية والتي كانت محجوبة بوجود النظام الاستبدادي. والحلفاء يمثلون ضرورة في هذه المرحلة الدقيقة اكثر منهم في زمن الحرب. وبحسب القول الذي بات مأثورا لاحد الصحافيين الاميركيين، فان الولايات المتحدة تقاتل والامم المتحدة تطعم والاتحاد الاوروبي يدفع. وقد طلب الرئيس بوش من الامم المتحدة تحمل مسؤولية المرحلتين الثانية والثالثة من خلال اربع صياغات لمشروع القرار 1511 الذي تمت الموافقة عليه في يوم 16 تشرين الاول/اكتوبر.
3ــ تقاسم الكلفة الباهظة للامن. انفجر البعد الاقتصادي للامن بعد 11 ايلول/سبتمبر 2001 وبات على اصحاب القرار ان يأخذوا في الاعتبار العامل الارهابي في المدن الكبرى. مع ان من الصعب تقدير كلفة هذه الاجراءات الوقائية الا ان السيد مايكل اوهانلون من جامعة برنستون (في تقرير بعنوان "حماية الارض الاميركية") يحددها بنسبة 0،5 في المائة من الناتج المحلي الاجمالي ونسبة واحد الى سبعة من موازنة الدفاع على المستوى الفيديرالي اضافة الى نسبة مماثلة على مستوى السلطات المحلية. ويقدر السيد بارت هوبجن من الاحتياط الفيديرالي الاميركي بنسبة 0،8 انخفاض الانتاجية المرتبط بإجراءات الحماية من العمليات الارهابية. يبقى السؤال الاساسي حول طريقة توزع هذا العبء.
في هذا السياق توضع جميع التدابير المتخذة منذ 26 تشرين الاول/اكتوبر 2001 مع اقرار القانون الوطني في الولايات المتحدة Patriot Actالذي ينظم الدفاع الاميركي في وجه المخاطر الجديدة من منظور مكافحة الارهاب حصرا. ويشتمل احد اوجه هذا القانون في واقع الامر على ضبط النظام المالي الاميركي من خلال اجبار البنوك الاميركية على الكشف عن مراسليها وعن العمليات التي تمر عبرها.
خلف هذا المظهر العادي التقني، اعطت الولايات المتحدة نفسها سلطة رقابة ضخمة على القطاع المالي الدولي. فبما ان قسما كبيرا من العمليات المالية العالمية تتم بالدولار او تديرها مصارف أميركية، فان التدبير الجديد يفرض قواعده ليس فقط على المؤسسات الاميركية بل ايضا على مراسليها، عبر هذه الآلية البسيطة للتعرف والرقابة، ويعطي السلطات الاميركية الوسيلة لمراقبة الجزء الاساسي من العمليات المالية العالمية. فالمؤسسة المالية الاوروبية المتعاملة مع احد المصارف الاميركية لن تكون مضطرة لتقديم وسائل التعرف الخاصة بها فقط بل ايضا تلك الخاصة بالعملية التي تنجزها مع بنوك اخرى قبل المصرف الاميركي. وتستفيد السلطات الاميركية من هذه المعلومات التي تتوافر لمصارف بلادها وهي وحدها تتمتع بقدرة المقارنة للاستفادة من المعلومات التي يقدمها الآخرون. وهي لا تتقاسمها مع احد لان الغرض منها حماية المصالح الاميركية.
وفي مجال الامن المادي للاراضي الاميركية يصار الى اتباع السياسة نفسها حيث عيّن الاميركيون من طرف واحد، وفي سياق الوقاية من الهجمات الارهابية الكلاسيكية او النووية والبالستية والكيميائية عبر نقل الحاويات، عشرين مرفأ عالميا مؤهلة للتعامل معهم شرط التزامها معايير الرقابة المحددة والتي يشرف عليها محليا عملاء الجمارك الاميركية. وجهدت فرنسا لادراج مرفأ لوهافر (يؤمّن نقل 85 في المئة من صادرات الحاويات الفرنسية الى الولايات المتحدة) في القائمة التي لم تضم في الاصل اي مرفأ فرنسي. ولو رفضت فرنسا الانصياع للشروط لكان مرفأ لوهافر عانى أزمة اقتصادية كبرى. وسيصار الى تطبيق اجراءات مماثلة على الـ 24 مليون زائر القادمين الى الولايات المتحدة والذين يفترض بهم حمل جواز سفر لا يمكن تزويره او القبول بتكوين ملف لهم عبر تصويرهم وأخذ بصماتهم.
يتزايد لجؤ الفكر الاستراتيجي الاميركي الى مفهوم "الحدود الذكية" الذي يميز بين الحدود الجغرافية والحدود الآمنة. وسيصار الى حماية جميع القطاعات الحيوية بالنسبة للمصالح الاميركية بواسطة آليات مشابهة يتم تصديرها حيث ان ميزة العولمة الحالية عن العولمة السابقة تقوم على توسيع آليات التدخل المباشر في النظام الاقتصادي والمالي والذي كان في السابق متفلتا من الرقابة بإرادة أميركية.
4ــ من الحرب المحلية الى الازمة الشاملة: ان النزاع المحلي بات اليوم قادرا على التسبب بأزمة مالية كبيرة ويفترض بالخطة المعتمدة التمتع برؤية شاملة. فالولايات المتحدة كانت تحرص بشكل رئيسي خلال الازمة العراقية على تفادي انفجار متزامن لازمة اقليمية او قطاعية في واحد من ضابطي الاقتصاد العالمي الثلاثة وهي السوق المالية والاعلام والمواد الاولية الاستراتيجية (ومنها النفط). وبسبب اهتمامه البالغ بالحرب في العراق، وضع البيت الابيض جانبا هجومه على الرئيس هوغو شافيز في فنزويلا كما اوكلت الازمة مع كوريا الشمالية الى الامم المتحدة بالرغم من اعتراضها على شرعية المنظمة الدولية. خلال الازمة كان خطر تفشي الذعر في الاسواق المالية حقيقياً بسبب الكلفة الاجمالية الباهظة جدا للازمة ، 500 مليار دولار من الرساميل العربية هرِّبت من الولايات المتحدة منذ 11 ايلول/سبتمبر حيث بلغ العجز المتوقع 350 مليار دولار على الاقل كما ان الشكوك حول السرعة في نجاح الاستراتيجيا العسكرية المختارة كانت تبدل من توقعات كلفة الحرب المقدرة (في حينه) بـ 200 مليار دولار...
ان احد المآخذ الاميركية الكبرى على فرنسا وتركيا هي بالتأكيد مساهمة هاتين الدولتين في رفع كلفة الحرب. في المقابل كان التحالف يضم في صفوفه بريطانيا واليابان مما يغطي 80 في المئة من الاسواق المالية العالمية. حتى اليوم كانت الازمات محصورة في قطاعات او مناطق (الازمة النفطية، الازمة المالية، العسكرية...) لكن احتمال تحولها ازمة شاملة بات كبيرا. اذا كان الاوروبيون يملكون رؤية اقليمية للتحديات فان للاميركيين استراتيجيا شاملة.
ولكن هل ستتمكن هذه الاستراتيجية من إحلال السلام أم إغراق العالم في الفوضى؟






























الفصل الخامس عشر
أمريكا ومنهج التجريب في العراق : قراءة في تحليلات وسائل الإعلام الغربية

يتساءل المهتمون بالشأن العراقي باستمرار حول الغايات الحقيقية التي تقف وراء السلوك الأمريكي في العراق وما هي دواعي هذا التباطؤ أو التقاعس إن لم نقل العجز في حل المشكلات القائمة التي تمس صميم المواطن العراقي، وهذه التساؤلات مبثوثة على مدار الساعة في كافة وسائل الإعلام الغربية عامة والفرنسية بوجه خاص.وتختم وسائل الإعلام الفرنسية وبخاصة المرئية منها هذا التشخيص بالتساؤل الأهم ألا وهو : هل ستكون الولايات المتحدة قادرة فعلا على الخروج بسلام من المأزق العراقي؟
يبدو أن الأمريكيين لايعرفون كيف يخوضون هذه التجربة الصعبة في بلد هو من أعقد البلدان العربية وأكثرها صعوبة وخطورة لأسباب عديدة لامجال لذكرها الآن.
لقد اصبح العراق مختبرا لكل المنطقة، فاما ان تنجح التجربة فيه، واما ان تفشل. وفي كلتا الحالتين سوف تكون الانعكاسات ضخمة وخطيرة ليس فقط على العراقيين، وانما على شعوب المنطقة بأسرها، وربما العالم. هذا ما يقوله ساسة الغرب انفسهم.
فكثير من السياسيين الغربيين وعلى رأسهم الفرنسيين كانوا مناوئين للحرب قبل وقوعها، ولكنهم الآن يرفضون اتخاذ مواقف تتشمت بأمريكا وما تواجهه من صعوبات وخسائر بشرية غير محتملة على المدى البعيد. يرى معظم المراقبين ان فشل اميركا هناك سوف يكون كارثة للغرب كله، وللمنطقة بالدرجة الاولى.
وللخروج من الورطة العراقية يرسم الاستراتيجيون الغربيون ثلاث احتمالات ، الاول هو الانسحاب المستعجل والانهزامي للقوات الاميركية من العراق، بحجة أن الآون قد آن لإرجاع السيادة كاملة وغير منقوصة للعراقيين لكي يتدبروا انفسهم بأنفسهم. لأن الأمريكيين ليسوا استعماريين وانما محررون ومن هذه الزاوية ، وبحجة حسن النية ينفضون ايديهم من المغطس العراقي ويعودون سالمين الى الوطن. وهكذا يتحاشون هزيمة منكرة لبوش حتى بعد انتخابه لدورة رئاسية ثانية، وقد اصبح تساقط الجنود الاميركيين يوميا في العراق يشكل خطرا على الحزب الجمهوري وقادته ومرشحيه في الانتخابات الرئاسية القادمة.
ولكن هذا الاحتمال يبدو في الوقت الحاضر خطير جدا. فهو يعني أولا التخلي عن شعب العراق في اصعب الظروف وتركه يواجه قدره ومصيره بنفسه في جو من الفوضى العارمة، وخطر انفلات الامور واشتعال الحرب الاهلية بين الطوائف والاعراق وسيكون له تبعات أخطر على الوضع في الشرق الأوسط برمته وخاصة مخططات السلام وتطبيق خارطة الطريق . لكن هناك ما يدعو للتخوف من حدوث هذا الاحتمال لأن الأوساط المحافظة في الإدارة الأمريكية لايهمها سوى مصالحها الذاتية وما تحرزه من انتصارات انتخابية ولو على حساب البلدان والشعوب المستضعفة.
الاحتمال الثاني لتطورات الأوضاع في العراق برأي المراقبين الغربيين لايقل خطورة. وهو عكس ما يمكن أن يحدث في الاحتمال الأول أي تكريس حالة الاحتلال وحدته من خلال زيادة عدد القوات الاميركية هناك وسحق كل من تسول له نفسه ان يعارض المخطط الاميركي في المنطقة ويسوغ المروجون لهذا الاحتمال في أوساط القيادة الأمريكية العليا أن الولايات المتحدة لم تضرب في العراق بالقوة الكافية وتبرهن عن تصميمها وجديتها وقوتها الجبارة وتردع المناوئين لها بالمزيد من البطش . فعليها ان تضرب اكثر وبقوة اشد سواء في الداخل العراقي لاستئصال فلول العناصر المسلحة بمختلف انتماءاتها وبقايا النظام السابق وإرعاب القوى العراقية المتعاونة معها لارغامها على المزيد من الخضوع والتعاون اللامشروط، أو في المحيط الاقليمي المجاور للعراق وان تصل ضربتها الى سوريا وايران. ثم تحتل المنطقة كلها عسكريا وتفرض عليها السلام الاميركي بالقوة. واتباع هذا الحل في الادارة الاميركية هم تروتسكيون سابقون اصبحوا فيما بعد يمينيين ومنظرين للسلطة الامبراطورية للولايات المتحدة الاميركية كما يقول الزعيم الاسباني السابق غونزاليس.
أما الاحتمال الثالث الذي تتمناه العديد من الزعامات الأوروبية فيتمثل بالتخلي عن جنون العظمة الاميركية واعادة الامور الى نصابها عن طريق اشراك الجميع في ايجاد حل لمشكلة العراق. فمن الواضح ان هذه المشكلة استفحلت وتوسعت واصبحت تتجاوز قدرات اميركا. وبالتالي فلا بد من اشراك الجميع في عملية التهدئة. والمقصود بالجميع هنا اولا مجلس الامن والامم المتحدة، وثانيا الاتحاد الاوروبي، وثالثا الجامعة العربية والمؤتمر الاسلامي، ورابعا واخيرا روسيا..
ان اشراك هؤلاء كلهم في تصحيح الاوضاع في العراق والتوصل الى استتباب الامن والنظام لا يعني تهميش دور اميركا. فهي ستظل المهيمنة وصاحبة الرأي الاول، ولكن الآخرين يمكن ان يقدموا لها الشرعية الدولية التي تنقصها والتي بدونها لا يمكن ان يستتب امن ولا نظام. يضاف الى ذلك ان اميركا اصبحت مكروهة جدا من قبل الشعوب العربية والاسلامية وبالتالي فيمكن للاتحاد الاوروبي والدول العربية المؤثرة كالسعودية ومصر وسوريا ان يساعدوها على تجاوز عثرتها او محنتها في العراق. فهي قد ربحت معركة الحرب وخسرت معركة السلام على ما يبدو.
إن خطأ أمريكا القاتل هو أنها منذ البداية خرجت على الشرعية الدولية عندما اتخذت قرار الحرب بمفردها وهاهي الآن تدفع ثمن هذا الخطأ الفادح واصبحت الآن بحاجة ماسة الى الشرعية الدولية لكي تنجح في مهمتها..
ولكن في ذات الوقت ألقت كوندوليزا رايس مستشارة الرئيس بوش للأمن القومي خطابا قويا لا أثر فيه للضعف او للوهن فيما يخص مشكلة العراق وكيفية السيطرة عليه وضبط الأمور فيه. وقد أعلنت في خطابها عن عزم اميركا على «تثوير» منطقة الشرق الاوسط برمتها اي إحداث تغيير جذري فيها من خلال العراق. فاذا ما استطاعت اميركا ان تجعل من العراق بلدا حرا، ديمقراطيا، مسالما، فإنها سوف تجعل المنطقة كلها على شاكلته. وهكذا تنتهي الايديولوجيات المبنية على الكره والحقد، هذه الايديولوجيات التي ازدهرت وترعرعت كثيرا في منطقة الشرق الاوسط على مدار العقود الماضية كما جاء في خطابها الذي أشرنا له في فصل سابق عن الرؤية الأمريكية للشرق الأوسط .
لم تنتبه السيدة كونداليزا رايس إلى ان ازدهار ايديولوجيا الحقد ناتج عن عدم وجود اي حل للصراع الفلسطيني ـ الاسرائيلي، وعن الظلم او القهر الذي يشعر به العرب من جراء كارثة فلسطين. وبالتالي فإن نجاح المختبر الديمقراطي في العراق مرتبط بإيجاد حلول ملائمة لكل مشاكل الشرق الأوسط بما فيها مشكلة الفقر وانعدام الديموقراطية وغياب الحريات وكذلك حل المأزق الفلسطيني . فهل اميركا مستعدة للضغط على اليمين المتطرف في اسرائيل مثلما تضغط على اليمين المتطرف لدى العرب والمسلمين؟

تجدر الإشارة إلى ان مسألة الديمقراطية تمثل صيرورة معقدة، طويلة، لا تتم بين عشية وضحاها. وتجربة الشعوب الاوروبية اكبر دليل على ذلك. فالسيدة كونداليزا رايس لم تتحدث عن تحقيق الديمقراطية فورا، وانما على مدار سنوات طويلة. ويبدو ان الاميريكيين اصطدموا بالمشكلة عمليا في العراق وادركوا مدى عمقها وخطورتها وصاروا يفكرون بعمق وتمعن في كيفية تصدير هذه الديسموقراطية إلى بلدان العالم العربي والإسلامي التي لاتستسيغها بالصورة التي تريد أمريكا فرضها.
فلا يوجد في العالمين العربي والإسلامي تراث ديمقراطي يمكن الاستناد إليه واعتباره مرجعا . بل الموجود هو العكس تماما: اي تاريخ مليء بالاستبداد والقمع. وهذه العقلية الاستبدادية ترسخت في النفوس والعقول الى درجة انه اصبح من الصعب جدا اقتلاعها منها. وبالتالي فقبل بناء اي شيء جديد ينبغي تفكيك الموروث القديم القائم على الاستبداد والذي يحارب الحرية ويمنعها عن أبناء هذه البلدان. وبعد تفكك ثقافة الاستبداد وخنق الرأي المعارض يمكن الانتقال الى ثقافة الحرية والديمقراطية والتعددية. وكانت السيدة كونداليزا رايس واعية لهذا الواقع ومتفهمة لأسباب انتشار التوتر والحقد في هذه المنطقة المحتقنة لذلك تطرقت في خطابها إلى الفقر المنتشر في العالم العربي وقالت بأن كل ثروات الدول العربية مجتمعة لا تساوي ثروة دولة مثل اسبانيا التي كانت دولة بمستوى دول العالم الثالث قبل انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي وتطبق الديموقراطية بعد تخلصها من إرث نظام فرانكو الديكتاتوري . ينبغي على الولايات المتحدة أن تحارب أسباب وجذور الظواهر المعادية لها وعلى رأسها الإرهاب وليس نتائجه سواء أكان ذلك في العراق أو في العالمين العربي والإسلامي أو في كافة أنحاء العالم الأخرى.




























الفصل السادس عشر
أوروبا وأمريكا ومعركة النفوذ في العراق

عندما التقى الرئيس الفرنسي جاك شيراك في 20 ـ 21 أيلول سبتمبر 2003 رئيس الوزراء البريطاني توني بلير والمستشار الألماني جيرهار د شرويدر، لم يكن يرغب بالخوض في موضوع العراق الشائك فجروح النزاع الدبلوماسي التي حدثت في شتاء 2002 لم تلتئم بعد.
لقد صرحت باريس لوسائل الإعلام ، حينذاك ، أن ذلك اللقاء الثلاثي بين الزعماء الأوروبيين الثلاثة لم يكن مخصصاَ لمناقشة مواقف الدول الأوربية الرئيسة المذكورة من مشكلة العراق ومستقبله فلقد كان جدول الأعمال مكرسا رسميا، بالأساس ، لمناقشة القضايا الأوروبية ولمسودة الدستور الأوروبي المقترح الى جانب مواضيع الدفاع والأمن الأوروبي المشتركين حيث لايمكن أن يتحقق أي من هذه الملفات الاستراتيجية الثلاثة بدون مشاركة فعلية وموافقة قطعية من جانب بريطانيا التي تغرد وحدها غالبا خارج السرب الأوروبي ، ومع ذلك لم يكن العراق غائبا تماما في إجتماع القادة الأوروبيين .
لقد حاول المستشار الألماني شرويدر أن يلعب دور الوسيط المعتدل بين باريس ولندن ، وبصورة غير مباشرة أيضا ، بين أوروبا العجوزة ـ كما وصفها ذات يوم وزير الدفاع الأمريكي دونالد رامسفيلد ـ وواشنطن عندما زار الزعيم الألماني الولايات المتحدة الأمريكية والتقى بالرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش وأعلن هذا لأخير في ختام اللقاء أن الخلاف بين ألمانيا وأمريكا بشأن العراق قد انتهى كليا وبصورة نهائية بالرغم من أن الزعيم الأماني يشاطر باريس موقفها وتحليلاتها بخصوص المسألة العراقية ولم يغير رأيه أو موقفه.
لقد حث المستشار الألماني باريس على تليين موقفها المتصلب بشأن العراق والمعارض كليا للموقف الأمريكي وكان هو الذي أوحى لباريس بفكرة تقديم بادرة حسن نية للأمريكيين مثل التصريح بعدم نية باريس معارضة مشروع القرار الأمريكي الجديد في مجلس الأمن حول العراق وإن لم تكن راضية عنه تماما وأن تقترح فرنسا كذلك أن تساهم في تدريب وتأهيل الكوادر العراقية العسكرية والبوليسية بغض النظر عن تقويمها للقرار المذكور أو موافقتها عليه كما هو مطروح والمعلوم أن باريس وبرلين أجريتا عليه الكثير من التعديلات الجوهرية خاصة فيما يتعلق بفقرة تحديد الفترة الزمنية لإنهاء الاحتلال ونقل السيادة كاملة للعراقيين بلا تأخير وبأسرع وقت ممكن ومن ثم نقل المسؤولية لاحقا لهم بالتدريج مع توفر مستلزمات ممارستها ومنها تحديد موعد للانتخابات الوطنية الحرة والمستقلة تحت إشراف دولي.
أعتبرت واشنطن التصريحات الفرنسية بهذا الخصوص بالفعل بمثابة بادرة حسن نية للتخفيف عن كاهلها أعباء إعادة الإعمار دون أن يقود ذلك بالضرورة الى زج قوات فرنسية هناك الأمر الذي ترغبه واشنطن وترفضه باريس في الوقت الحاضر دون ان تعلن ذلك بصورة قاطعة .
لقد وافق جاك شيراك على المقترح الألماني للمساهمة في تنفيذ وتمويل تدريب وتأهيل العسكريين ورجال الشرطة والأمن العراقيين في الوقت المناسب لأن باريس مازالت تعتقد أن الظروف غير متوفرة حاليا لتحقيق ذلك والشروط غير مكتملة في الوقت الحاضر لتحقيق هذه المهمة ولذلك تعتقد باريس بضرورة صدور قرار دولي جديد وواضح بحدد المسؤوليات لتسهيل عمل الأطراف الأخرى على الساحة العراقية.
طالب توني بلير بمزيد من التفاهم والإجماع الأوربيين وأيده شرويدر في ذلك . فإزاء المشاكل والصعوبات الديبلوماسية والسياسية التي يواجهها رئيس الوزراء البريطاني فإن من مصلحته الإقتراب أكثر من شركاءه الأقوياء في الاتحاد الأوروبي للحصول على مجال أكبر للمناورة في الداخل البريطاني الذي يحاصره قضائيا وسياسيا .
فانحيازه غير المشروط لواشنطن وجريه وراءها سبب له الكثير من المتاعب والاحراجات مع قوى أوروبية فاعلة على المسرح الدولي . فبالرغم من التقارب الأوروبي الظاهري فيما يتعلق بالقضية العراقية إلا أن ديبلوماسيين محنكين في باريس قللوا من أهمية ما خرج من ذلك اللقاء الثلاثي بشأن العراق فلم يكن المقصود منه التوصل الى إجماع أوروبي بشأن القرار الأمريكي المزمع تقديمه الى مجلس الأمن .
لقد اقترحت فرنسا وألمانيا إجراء عدة تعديلات على مشروع نص القرار الذي وزعت مسودته واشنطن بيد أن هذه الأخيرة أبدت امتعاضها من تلك التعديلات المقترحة ولم تصل الى حد رفضه جملة وتفصيلا كما كانت تفعل عادة.
باريس وبرلين تطالبان بمقاربة سياسية جديدة وواضحة وصريحة للملف العراقي تنص علنا على إعادة السيادة كاملة للعراقيين فورا أو خلال أشهر قليلة وهو الأمر الذي يتعارض مع المنطق الأمريكي الذي يؤيده البريطانيون بدون تحفظ اليوم.ولكن بالرغم من استمرار الخلاف الجوهري بين الدول الأوروبية الثلاثة الرئيسية في الاتحاد الأوروبي بشأن العراق إلا أنهم حرصوا على تفادي تفاقم الخلافات بينهم وتحويلها الى اتقسامات خطيرة في جسد الاتحاد الأوروبي قد تصل الى حد القطيعة أو إحداث تصدع خطير في كيان الاتحاد وتعريضه للخطر.
وفي الجهة المقابلة ، وأمام هذا المأزق الديبلوماسي تبحث واشنطن عن مخرج يحفظ لها ماء الوجه دون أن تخسر المهم من امتيازاتها القيادية في العراق.
لقد قاوم الفريق اليميني الحاكم في الإدارة الأمريكية الضغوط الأوروربية لفترة طويلة وسخروا منها لكن جورج دبليو بوش إنصاع مؤخرا للأمر الواقع ووافق على العودة للأمم المتحدة مرة أخرى لمعالجة الموقف المتأزم في العراق .
فالرئيس الأمريكي بحاجة الى خبطة إعلامية واستعراض كبير وضجة دولية لتحشيد الرأي العام الأمريكي الى جانبة مرة أخرى من قبيل القبض صدام حسين، ولم لا أسامة بن لادن أيضا، خاصة بعد أن شعر الرئيس الأمريكي بالخطر بتدني شعبيته وتحول الرأي العام عنه بشأن مغامرته العسكرية في أفغانستان والعراق إبان حملته الئاسية التي فاز فيها .
فمن الحماس الشديد إثر الانتصارات العسكرية السريعة وغير المكلفة بالأرواح كثبرا، التي حققتها القوات الأمريكية في أفغانستان والعراق ، تحول المواطن الأمريكي الى القلق من تصاعد أعمال العنف والقتل ضد الجنود الأمريكيين كما صرح السيناتور الأمريكي جون ماكّين الجمهوري عن ولاية آريزونا حين صرح لصحيفة الواشنطن بوست قائلا:" يتساءل الكثير من الناس هل نحن محاصرون هناك ولا أمل لنا بالخروج سالمين؟" .
لقد استغل الحزب الديموقراطي المنافس الوضع المحرج الذي يعيشه الرئيس بوش مع الرأي العام الأمريكي لكي يبتزه في مسألة الخروج من المأزق العراقي وتدهور الاقتصاد الأمريكي وتفاقم العجز الخطير في الميزانية الذي بلغ ألف مليار دولار وارتفاع تكاليف الحروب والاحتلال العسكري التي بلغت مليار دولار أسبوعيا ومالايقل عن عشرين مليار دولار لإعادة إعمار العراق فقط وهو ما يثقل كاهل دافع الضرائب الأمريكي الذي لايجد تبريرا مقنعا لذلك خاصة بعد أن طالب الرئيس بوش مؤخرا الكونغرس الأمريكي على الموافقة بمنح زيادة مالية وصلت الى 87 مليار دولار لتغطية أعباء الحرب والاحتلال العسكري في أفغانستان والعراق مما حدا بالمرشح الديموقراطي للانتخابات الرئاسية جون كيري لمهاجمة وانتقاد سياسة بوش الخارجية المدموغة بخطأ فادح بالحسابات التي أدت وستؤدي الى نتائج كارثية على الاقتصاد الأمريكي والاقتصاد العالمي برمته حسب قوله.
كان الرئيس بوش واعياً جدا الى أن مصيره السياسي مرهون بما يحصل في العراق ويمكن أن يتقرر في بغداد وهو غمرة نشاطه الانتحابي الحرج ضد منافسه الديموقراطي كما سرت شائعة في الأوساط الديبلوماسية في واشنطن رددت تعهد جورج بوش غير المعلن عن وقف نزيف القتلى الأمريكيين اعتبارا من شهر آذار 2005 . فبعد أن كانت الحرب ورقته السياسية الرابحة يمكن أن تتحول الى نقطة ضعفه الخطيرة وربما القاتلة. فهو يرتجل قراراته الاعتباطية بصورة سيئة وغير موزونة ولا تدل على خبرة أو تجربة واسعة سواء في أفغانستان أو العراق حيث تتفاقم المواجهات الدموية يوميا أو على المسرح الفلسطيني ـ الإسرائيلي الذي يزداد سوءا وتوترا يوما بعد يوم .
من هذا المنطلق أذعن جورج بوش لضغوط وابتزازات خصومه وقبل بالتوجه للأمم المتحدة لطلب المساعدة من الأمم المتحدة ومجلس الأمن ووافق على دخول ومشاركة قوات عسكرية من دول أخرى مثل الهند والباكستان وتركيا مع الإصرار على عدم تقديم تنازلات كبيرة. فالولايات الأمريكية مازالت عازمة على الاستمرار في قيادة قوات التحالف الدولية والحفاظ على السيطرة التامة على إعادة الإعمار السياسي والاقتصادي للعراق لكن جورج بوش غير واثق أنه سيحصل على مايريد ويتمنى . فالدول التي يعتمد عليها بوش في رفده بقوات دولية إضافية غير أمريكية غير متحمسة في إرسال جنودها الى المحرقة العراقية.
يعتقد روبير ماللي مدير دائرة الشرق الأوسط في مجموعة الاتصالات الدولية ، والمستشار السابق للرئيس بيل كلينتون بأن الرئيس الحالي جورج بوش سيقبل بإعطاء دور أكبر وأكثر أهمية للأمم المتحدة والذي سيدفعه الى ذلك ، على حد اعتقاد روبير ماللي، هو الصعوبات المتنامية التي يواجهها في العراق والضغوط المتزايدة في الداخل الأمريكي حيث يتساءل الأمريكيون أكثر فأكثر لماذا يتحمل يلدهم وحده كافة الخسائر البشرية ولايرون ضرورة وأهمية أن تستمر الولايات المتحدة بتحملها وحدها لأعباء هذه المهمة المكلفة ماديا وبشريا.
مازالت المفاوضات المتوترة دائرة اليوم بين واشنطن وباريس . فواشنطن تريد إزاء أية تنازلات تقدمها الحصول بالمقابل على شيء تستند إليه لاقناع الرأي العام الأمريكي والعالمي بصواب موقفها.فأية تسوية شكلبة لن تغير من جوهر المشكلة أو تغير من طبيعة خطورة الأوضاع المتردية على الساحة العراقية . وذا لم يحصل أي تغيير جوهري ملموس فسوف لن يتغير سوى لون قوات الاحتلال من اللون الأمريكي الى اللون الدولي كما يقول الديبلوماسي المحنك جيمس دوبان الذي قاد فترة ما بعد الحرب في الكوسوفو والبوسنة وأفغانستان وقال أن بوسع فرنسا أن تحدث إنفراجا في الموقف والمساعدة على الخروج من المأزق فالولايات المتحدة الأمريكية مستعدة لتقديم تنازلات مهمة إذا ما شعرت أن فرنسا التي تزعمت المعسكر المتصلب والمناويء للأمريكيين في مجلس الأمن، مستعدة لتقديم مساهمة مهمة لجهود تدعيم الاستقرار في العراق . فالذي تحتاجه واشنطن قبل كل شيء هو توفر الدول القادرة فعليا على تقديم وتمويل قوات مؤهلة لتقديم المساعدة المرجوة لا أن تكون عالة وعب مادي إضافي على عاتق الولايات المتحدة الأمريكية كما هو حال القوات التركبة أو الباكستانية التي أعلنت استعدادها لمشاركة في مساعي عودة الاستقرار والأمن الى العراق والمشاركة في إعادة الإعمار السياسي والاقتصادي ورفد البلد بمؤسسات ومنظمات إنسانية غير حكومية .والحال أنه لاتوجد في العالم سوى أربع أو خمس دول ينطبق عليها هذا الوصف وعلى رأسها فرنسا . فمقابل المشاركة الفرنسية بقوات عسكرية يمكن لواشنطن أن تقبل بقيادة الحلف الأطلسي للقوات المتعددة الجنسيات في العراق كما كان الحال في الكوسوفو والبوسنة. لكن فرنسا لم تبد لحد الآن أية إشارة الى استعدادها لتقديم مثل هذه المساهمة وتليين مواقفها والتخفيف من شروطها فالموقفين الفرنسي والأمريكي متباعدين جدا فمن الذي سيتنازل للآخر؟





الفصل السابع عشر
دوامة الحروب المستمرة في العراق المحتل
عندما اقترب أوان التاريخ الرسمي لتسليم السلطة الى حكومة عراقية انتقالية في حزيران 2004، توقع المراقبون والمحللون السياسيون حصول تسارع في إيقاع المواقف السياسية لمختلف مكونات الطيف السياسي العراقي . ومن أن يرسم الذين يفتقدون لقاعدة شعبية مساندة لهم صورة سوداوية، تركّز على مقولة انعدام الأمن، وعدم نضج الشارع العراقي بعد للانتخابات الخ سعيا لاطالة الحكم المباشر من جانب قوات الاحتلال التي تقودها الولايات المتحدة.
في حين هناك من يريدون رحيل الأميركيين وحلفائهم بأسرع موقت ممكن. وهم يمثلون أحزابا جماهيرية ذات تاريخ وخبرة وتقاليد سياسية وبإمكانهم شغل جزء من الفراغ السياسي الذي خلفه انهيار النظام الصدامي . وهم قلقون من أن الوجود الأميركي الطويل الأمد قد يقود الى قواعد عسكرية يمكن أن تمنعهم من فرض رؤيتهم للمستقبل العراقي وتشكل عائقا أمام سعيهم لفرض مناهجهم السياسية على البلد الذي تحرر حديثا من طغمة الاستبداد.
لقد ظن بعض أعضاء مجلس الحكم السابق لوهلة زمنية قصيرة أن لديهم بعض الصلاحيات أثناء الإعداد لنصوص قانون إدارة الدولة العراقي المؤقت وحاولوا فرض شروط وصيغ غير مقبولة من قبل أغلبية المتواجدين داخل تركيبة مجلس الحكم مثل مشكلة الاستفتاء ومشكلة الإسلام باعتباره المصدر الوحيد أو الأساسي أو أحد مصادر التشريع القانوني في العراق ومشكلة تكتل عدد من المحافظات في اتحاد يمكنه أن يعرقل صدور أو تشريع قانون ومشكلة منع إصدار قوانين وضعية يمكن أن تتعارض مع نصوص الشريعة الإسلامية الخ وقد دخلوا في مشادات كلامية مع بريمر الحاكم المدني الأمريكي للعراق الذي هدد باستخدام صلاحياته وفرض قراراته عليهم بالقسر إذا لزم الأمر ولم يتوصولوا الى اتفاق نهائي بسهولة للتوقيع على قانون إدارة الدولة الذي استمرت مناقشته شهور عديدة.
وقد أثيرت حفيظة بول بريمر، الرجل الهادئ عادة والذي يفكر مرتين قبل اتخاذ خطوة معينة، ليتخذ رد فعل سريع،عندما قدمت إليه صيغة لاتحظى بالاجماع فرفضها مؤكدا انه لن يوقع على مثل هذا الدستورالمؤقت. والغريب أن المعترضين لايمثلون سوى أنفسهم داخل التركيبة الشعبية المعقدة للشعب العراقي في حين ليس لبريمر شرعية تؤهله أن يفرض رأيه على شعب لايريد بقائه ولايتقبل سلطة الفيتو التي منحته إياها سلطات الاحتلال . كل هذا يجري على خلفية من تفاقم عمليات العنف والإرهاب المنظم التي تهز أركان المجتمع العراقي وتعرضه لخطر حرب أهلية مدمرة. فبعد عامين على بدء العمليات العسكرية في العراق والتي اعلن الرئيس بوش الانتهاء منها في الاول من ايار 2003، لا يمر يوم من دون ان تسجل فيه قوى مناوئة لقوات الاحتلال حضورها. فكان لا بد من اعادة النظر في النصر الماحق والحتمي الذي قيل ان الاميركيين حققوه هناك. فما بعد الحرب الرسمية التي أطاحت بالنظام تدور حرباً اخرى مختلفة جذريا عن تلك التي وضعت اوزارها لكن معطياتها السياسية والعسكرية والاجتماعية وحتى الدولية تجعل من الصعب التكهن بمآلها. ولكن كيف وصلت الامور الى هذا الحد؟
مع مرور الوقت يمكن تقييم القرارات التي اتخذها المسؤولون الاميركيون قبل الحرب وما بعدها مباشرة بعيدا عن السجالات المستمرة حول التبريرات الرسمية لهذه القرارات.
فالاهداف السياسية والاستراتيجية والاقتصادية الفعلية لهذه الحرب لم تكن خافية على احد: استبدال نظام صدام حسين بنظام اكثر مطواعية وأشد ولاءاً للمصالح الاميركية واكمال تطويق ايران والحيز السوري ـ اللبناني ـ الفلسطيني، فرض الرقابة على انتاج النفط العراقي والسيطرة على تسويقه لتخفيف نسبة الإعتماد الاميركي على السعودية في هذا المجال وخصوصا انها فقدت بعد اعتداءات 11 ايلول 2001 صفة الشريك الاستراتيجي للولايات المتحدة.
هذه المعطيات الجلية تؤدي الى خلاصات واضحة المعالم بدورها اي ان العراق سيكون بلدا فيدراليا منزوع السلاح الى حد ما مع حكومة مركزية ضعيفة موزعة بين الفئات الثلاث الرئيسية ( الشيعة والسنة العرب والأكراد ) على أساس المحاصصة الطائفية والقومية وهذا لا يزال موضع اخذ ورد خصوصا بسبب تداخل الاكراد والسنّة العرب والشيعة في شمال العراق وفي العاصمة بغداد. ويعتمد الاميركيون في سعيهم على التحالف مع الحزبين الكرديين الرئيسيين المطالبين بحكم ذاتي واسع الصلاحيات من خلال الفيدرالية. كما كانوا يتوقعون تأييدا "حماسيا" من الشيعة على اعتبار ان الفيديرالية نظام يرضي الجميع.
كانت مرحلة ما بعد الحرب تتوقف على نجاح هذا المشروع لكن ما حدث كان تدمير الدولة المركزية العراقية وحل الجيش وقوات الأمن والشرطة ونهب او احراق الوزارات والادارات العامة والتي كان يمكن حمايتها بواسطة عدد محدود من الحراس. فباتت السلطة التي نصبها الاميركيون عاجزة عن السيطرة على البلاد. ان مجلس الحكم الانتقالي تشكل من معارضين منفيين واحزاب لايتمتع أغلبها بعمق شعبي وجماهيري (باستثناء الحزبين الكرديين والمجلس الأعلى وحزب الدعوة والحزب الشيوعي) وهو لا يمتلك أية ادوات أو صلاحيات تمكنه من ممارسة السلطة. وكان بعض اعضائه مدركاً لهذا الحال، فالسيدة عقيلة الهاشمي السكرتيرة السابقة لطارق عزيز عندما كان وزيرا للخارجية ومساعدة المدير المسؤول عن المنظمات الدولية قبل الحرب، وافقت على دخول مجلس الحكم وهي الشيعية المذهب من اجل ترميم علاقات العراق الخارجية وحماية الجهاز الاداري في وزارة الخارجية. وعند مرورها في باريس أكدت انه لن يكون لمجلس الحكم اي سلطة او مشروعية طالما استمر الاحتلال وعلى هذا المجلس السعي لانهاء هذا الاحتلال. وكما هو معروف تعرضت فور عودتها الى بغداد لعملية اغتيال توفيت على اثرها في المستشفى بعد يومين.
الاخطر من ذلك ان العراق عانى 12 عاما من الحصار والتراجع الاقتصادي والاجتماعي الكبير والتبعات الانسانية المدمرة المترتبة على ذلك، فجاء الدمار الحربي ليضاف الى المعاناة مما يتطلب اشهرا من العمل للتخفيف منها دون التمكن من محوها بطبيعة الحال. لا وقود، لا كهرباء، لا عمل، هذا هو مثلث المصاعب الذي لا يرحم في غالبية ارجاء العراق بالرغم من بعض التحسن الطفيف هنا او هناك.
لم تلتزم قوات الاحتلال اعادة اعمار سريعة للاقتصاد العراقي ولا اعادة بناء سياسية. لم يصر الى استنفار الحركات الوطنية العريضة التي تعبّر عن توجه عميق في الرأي العام الذي ساد بعد ثورة 1958 وحتى قيام ديكتاتورية احادية ابتداءاً من عام 1968، كما لم يصر الى التعاون مع النقابات الاصيلة والقوى الشعبية ومؤسسات المجتمع المدني وكوادر الجيش الذين عانوا القمع الصدامي والذين يجسدون الشعور الوطني العراقي. كما لم يستنهض التوجه الاجتماعي العام المعاصر في اتجاه تعميم التعليم والعلمانية النسبية في التشريع او حقوق المرأة. ليس من المبالغة القول ان الشروط السياسية والاقتصادية والاجتماعية لتنامي الرفض كانت متوافرة منذ المرحلة الاولى للاحتلال فلم يبق سوى الشروط العسكرية التي كانت جاهزة هي ايضا.بشكل ما فبرزت أعمال العنف منذ بداية الصيف اي قبل توقع نشوبها. لكن الاجهزة الاميركية تحاول ارجاعها فقط الى انصار النظام السابق والى المنظمات الارهابية القادمة من الخارج والمرتبطة بتنظيم "القاعدة".
لكن هذا التحليل لم يكن دقيقا منذ الوهلة الاولى. فاذا كان انصار الرئيس المخلوع سرعان ما وجدوا الدعم المطلوب في مسقط رأسه تكريت فكيف كان لهم ان يجدوا هذا الدعم في كافة انحاء البلاد لو ارتكزوا فقط على شعبية صدام حسين المفترض انها منهارة. اما المجموعات الخارجية فهي موجودة في الواقع فوق ارض العراق ويتم تجنيدها من كل بلدان المنطقة وقد دخلت من الحدود المتاخمة للعراق عملا بتوجيهات الحركة الاصولية الاكثر تطرفا في الشرق الاوسط.
"الجميع الى العراق" للجهاد ضد المحتل الأمريكي ـ البريطاني كان الشعار الذي رفعته القوى السلفية المتطرفة، وذلك من اجل المواجهة المباشرة مع القوات الاميركية. وبما انه لا فرصة لاختيار الحلفاء في زمن الحرب، فقد وجد هؤلاء شريكا في صفوف المتضررين من الاحتلال وسقوط النظام السابق لكن وجودهم في العراق كان صعبا وغير مؤكد منذ البداية في العراق وخصوصا ان مرجعيتهم الروحية وتصرفاتهم تتنافى مع التقاليد الاجتماعية العراقية وانهم قد يتعرضون لمزيد من الرفض اذا ما وجدوا لانفسهم مستقرا.
في المحصلة جاءت الاحداث لتظهر خطأ التقديرات الاميركية اذ تطورت أعمال العنف والإرهاب وتعممت بعد القبض على صدام حسين. كانت قد بدأت عملياتها مع نهاية الحرب في ربيع 2003. فيوم توقفت مقاومة الجيش في بغداد تفرق الضباط العراقيون الشباب ومعهم الكوادر الاكثر حزما وعناصر اخرى، حاملين معهم اسلحتهم الخفيفة ومدافع الهاون والرشاشات اضافة الى الصواريخ المحمولة على الكتف. انكفأوا الى المناطق الاكثر تجاوبا مع توجهاتهم وحيث يسود نفوذ العشائر التي ينتمون اليها مما جعل التركيز الجغرافي للمقاومة العسكرية متوقعا في المدى القصير او المتوسط.
يمكن تقييم وزن العناصر الاخرى التي تمارس العنف والتخريب المتعمد تبعا لدائرة نشاطها. فاالنشاطات والعمليات العسكرية تعبّر عن امكاناتها وطبيعة تحركاتها من كمائن تنصبها لدوريات الاحتلال او هجماتها على الارتال العسكرية ومراكز القيادة وبالطبع ضد المروحيات والطائرة على علو منخفض. فهم وحدهم المتمرسون والمدربون على هذا النوع من النشاط العسكري. هكذا تحولت أعمال العنف العسكرية الى اهم مكونات مناوئة الاحتلال العسكري للعراق والاكثر فعالية والقادرة على استقطاب المقاتلين والمخبرين وعملاء الاتصال. كما يكون بمقدورها دس العناصر الموالية لها في صفوف الشرطة والجيش التي تدربها القوات الاميركية من اجل جمع المعلومات او تدبير العمليات المدمرة ضدها كما حدث مؤخرا. وصارت تجسد اخيرا التمرد الوطني ضد الاحتلال الاجنبي مما يؤمن لها مساندة داخل بعض الجماعات والطوائف.
بعد اعتقال صدام حسين والاعتقالات الواسعة التي جرت، تمكنت القوى التي تمارس العنف من استقطاب انصار الرئيس المخلوع الراغبين في الانتقام. ولعل وجودها يترسخ اكثر بسبب الاطار العشائري الذي يؤمن لها الحماية.
تلجأ المجموعات القادمة من الخارج، كعادتها، الى اعمال مشهودة دون اعتبار لما توقعه من ضحايا بين المدنيين، كما فعلت في نيروبي ودار السلام وبالي، وكما اعتدت في العراق على مقر الصليب الاحمر او الامم المتحدة وعلى السفارات لأجنبية ( التركية والأردنية) والاعتداء على الأماكن المقدسة الشيعية أثناء أداء الشعائر الدينية أو صلاة الجمعة. وهي قادرة على الاستمرار في هذا النوع من العمليات بفضل المال والدعم الذي تتلقاه من الخارج لكن الرأي العام بدأ يبتعد عنها في ضوء ما تتسبب به من خسائر بشرية. لا يخفي اتساع دائرة أعمال العنف ما يمكن ان تواجهه من مشكلات وعقبات جدّية في المناطق الشيعية والكردية وبعض المناطق السنية المعتدلة.
كما أن جماعة "انصار الاسلام" الاصولية المتطرفة التي ظهرت في آخر مراحل العهد السابق والتي اشتهرت باعتداءاتها على المسيحيين، تعرضت لقصف عنيف من الطيران الحربي الاميركي ومطاردة من الحزبين الكرديين الرئيسيين، اضافة الى اغلاق الحدود الايرانية في وجه عناصرها الذين تضاءل عددهم لولا رفدهم بعناصر قاعدة الجهاد في أرض الرافدين بزعامة الأردني أبو مصعب الزرقاوي. لكن هناك مجموعات اخرى مرتبطة بدول الجوار لا تزال تعترض على هيمنة الحزبين الكرديين الرئيسيين على كردستان لاسباب مختلفة. وهذا ما يؤمّن للقوى التخريبية ما يكفي من التحالفات لتنفذ هجمات مشهودة مثل تلك التي اوقعت 105 قتلى في اربيل في 1 شباط 2004 والتي تبنتها جماعة "انصار السنة" المشكوك في صحة وجودها. من جهتها الطائفة الشيعية غير متجانسة تاريخيا ولو انها اجمعت على مناصبة نظام صدام حسين العداء منذ عمليات القمع والإبادة الواسعة التي اقدم عليها بعد حرب. عام 1991 لكن في المقابل مثّل شيعة العراق مهدا للحركة الوطنية العراقية وحاضنا للاحزاب الوطنية كالحزب الشيوعي الذي كان في اوج نفوذه مع نهاية الخمسينات وبداية الستينات .
ويتوزع ولاء الشيعة اليوم على تيارات عدة، ولو ان المجموعات السياسية والدينية المحافظة هي الاكثر حظوة وتتمتع برعاية ومباركة المرجع الأعلى آية الله العظمى علي السيستاني المقيم في النجف حيث مقر الحوزة العلمية والساعي الى التوصل لاتفاق مع قوات الاحتلال يضمن لهذه الجماعات المحافظة الغلبة السياسية في العراق. والخطة باتت واضحة حيث يصار الى المطالبة بالانتخابات المباشرة فوراً بهدف الوصول الى رأس هرم السلطة عبر العملية الانتخابية بناء على التفوق العددي للشيعة. وهنا مكمن الخطر حيث ترفض قوات الاحتلال حكما مركزيا قويا مستفيدة من معارضة سائر الفئات للهيمنة الشيعية.
تجدر الاشارة ايضا الى تنافس حاد على النفوذ الشيعي مع الدعوة التي اطلقها الزعيم الديني الشاب مقتدى الصدر نجل آية الله محمد صادق الصدر الذي اغتاله صدام حسين سنة 1999، بذريعة مقاتلة الاحتلال بل وصل به الأمر الى حد التشجيع على الاعمال المسلحة حتى في المدن المقدسة الشيعية. اما الاحزاب الموالية لايران فتلتقي مع خطة السيستاني لاقامة سلطة وطنية موحدة مع المطالبة برحيل القوات الاميركية. لكن بعض هذه الفئات عادت لتصلّب لهجتها فتقترب اكثر فأكثر. بعد سبات طويل عادت الى الظهور ثلاثة تيارات وطنية رئيسية كانت انطلقت من البيئة الشيعية في العراق وهي التيار القومي العروبي او الناصري، والشيوعي المتطرف غير الاتجاه الممثل في مجلس الحكم الانتقالي، والجناح البعثي الذي انفصل عن الرئيس المخلوع متهما اياه بخيانة مبادئ البعث وتحويله الى حكم عائلي وسلسلة من الحروب التدميرية متناسيا الوحدة العربية والثورة الاجتماعية والتوجه العلماني. والذي عاد تحت لافتة حزب الإصلاح.
من سيكون الرابح في حرب ما بعد الحرب هذه؟ يبدو ان الولايات المتحدة ازاء الصعوبات البارزة للعيان بدأت تبحث عن مخرج يتمثل في انكفاء قواتها العسكرية الى بعض المواقع الرئيسية القريبة من المناطق النفطية، تشكيل مجلس وطني من دون انتخابات عامة، انشاء شرطة محلية واشراك قوات من دول اخرى تحل محل القوات الاميركية. لكن هذه الاجراءات لايمكن أن تحقق الأمن والاستقرار وتبلغ اهدافها اذ ان اخلاء الارض العراقية قد يفسح المجال امام اتساع نشاط القوى الإرهابية مما يحد من نفوذ السلطة المعينة التي لن يكون في امكانها الاستناد الى الشرطة المخترقة من قبل عناصر التخريب بينما لن يكون امام القوات العسكرية من الدول الاخرى سوى الانكفاء في معسكراتها بسبب جهلها للواقع العراقي وانعدام الدوافع لديها.













الفصل الثامن عشر
حصيلة كارثية لعراق يبحث عن أفق

يعيش العراقيون ازدواجية في التفكير والموقف فمن جهة يعتقد أغلبية منهم أنهم مدينون بشكل أو بآخر للأمريكيين في إسقاط نظام الدكتاتور صدام حسين ومن جهة ثانية تقف الغالبية العظمى منهم موقف الرافض من الاحتلال الأجنبي لبلدهم وسيطرت قوات الاحتلال على سيادة ومقدرات البلاد الامر الذي اضاف بعدا اخرا للتوقعات العراقية لمرحلة ما بعد الحرب بعد مرور عامين على انتهاء العمليات الحربية وتصفية النظام السابق والقبض على رئيسه المهزوم وهي توقعات تتجاوز التحسن في الوضع الاقتصادي والاجتماعي الى ممارسة حقوقهم السياسية التي طالما حرموا منها.
ولكن بعد عامين من الحكم الامريكي المباشر للعراق يجد العراقيون انفسهم قد استبدلوا الخوف من صدام حسين واجهزته القمعية بخوف ورعب من نوع اخر متمثلا بالفوضى والقتل والسرقة والخطف للاطفال والبنات والاعتقالات العشوائية والمداهمات المباغتة للبيوت التي تقوم بها قوات الاحتلال يوميا ، اضافة لحرمانهم من القليل الذي كانوا يتمتعون به من مقومات الحياة كالكهرباء والماء والوقود ناهيك عن فقدان فرص العمل.
رغم ما عانت منه البنى التحتية من خراب جراء الحروب وسنوات العقوبات والحصار الاقتصادي ، الا ان الخراب الاكبر كان على يد عناصر عراقية استغلت الفوضى والانفلات الأمني الذي عم البلاد بعد سقوط صدام حسين لتدمر ما بقي منها.
الفوضى وانعدام الأمن
السؤال الذي يشغل الكثير من المراقبين: لماذا لم تتخذ سلطات الاحتلال الاحتياطات اللازمة لمثل هذا الامر؟ وعندما حصل لماذا لم تتخذ الاجراءات الحاسمة لمنع استمراره، خاصة وانها حمت بعض المؤسسات مثل ابار النفط ووزارة النفط؟ وأهملت غيرها، الأمر الذي انتهى بسقوط الدولة ومؤسساتها وليس النظام فحسب دون ان توفر سلطات الاحتلال البديل الفاعل، كي تواجه سلطة الاحتلال اليوم مشكلة اعادة ما هدم وهو كثير ومكلف جداً.
ويتساءل المواطن العراقي لماذا لم تستطع امريكا التي اسقطت صدام في ثلاثة اسابيع أن تعيد الكهرباء في غضون عام على سبيل المثال لا الحصر؟
حل المؤسسات القيادية الحاكمة
وكان بأمكان سلطة الاحتلال ان تستفيد من الشرطة العراقية والجيش العراقي بعد تشذيبهما من العناصر الصدامية، خاصة وان للجيش العراقي الفضل في عدم القتال بما ساعد على سقوط بغداد بأقل الخسائر البشرية عراقيا وامريكياً، ومع ذلك قرر البنتاغون حل الجيش العراقي بدلا من اعادة ترتيبه بما تبقى من عناصره النظيفة والمحترفة و يفسح المجال للاستفادة من بعض عناصره او على الاقل عدم تحويلها لقوة معادية من مئات الاف من العاطلين والناقمين. إن محاولة اصلاح الخطأ بدفع رواتبهم لم يحل مشكلة الكبرياء المجروح لهذه الالاف من القوى المدربة التي استغلتها قوى التخريب باسم محاربة "الاحتلال".
ان تصريح وزير الدفاع الامريكي رامسفيلد في بغداد (6 أيلول 2003) بان مسؤولية حفظ الامن تقع على العراقيين فسرها العراقيون على أنها تنصلا من مسؤولية فرضها القانون الدولي على دولة الاحتلال كما جاء في قرار مجلس الأمن 1483.
واذا كان العراقيون ضحية توقعاتهم، فان سلطة الاحتلال المؤقتة كانت ضحية صراع مراكز صنع القرار في واشنطن، و خاضعة لـ "تصورات" ايديولوجية مسبقة لبعض دوائر القرار السياسي ساهمت في خلق وتوحيد الاعداء جراء سياسات قصيرة النظر كحل وزارة الدفاع والجيش وقانون”اجتثاث البعث" واثارة مخاوف العرب السنة بالتعامل معهم كأقلية، الامر الذي وحدهم في الشك بنوايا واشنطن إزاء مستقبلهم مما دفع البعض منهم لحمل السلاح ضدها.
قرار استئصال البعث
اما قرار استئصال البعث فقد اتخذ تحت تأثير تصورات مسبقة في واشنطن ساهمت في ترويجها عناصر عراقية معينة.
ان الخيار في التعامل مع البعث جاء تكرار للتجربة الالمانية بعد سقوط هتلر في اجتثاث النازية. لقد فضلت الاوساط الامريكية النافذة اعتماد النموذج الالماني بما دفع مئات الالاف التي كان العديد منها مستعدا للتعاون مع الواقع الجديد للتوحد في معاداة الادارة المؤقتة.
فبعض الوزارات كادت تفرغ من موظفيها الذين كان اكثرهم من البعثيين السابقين في دولة حكمها حزب واحد خلال 35 عاما وكان لا يسمح الا لأعضائه بالعمل بمناصب مهمة، فخلال 35 عاما تخرج كثيرون ليحتلوا مواقع مهمة في دولة كانت لا تسمح حتى نهاية التسعينات الا للبعثيين في اكمال الدراسات العليا او القبول في الجامعات، ولذلك كان من الضروري ان يكون الكثير من هؤلاء هم الذين يقفون على رأس تلك الوزارات حتى وان لم يكونوا من المؤمنين بفكر البعث او صدام نفسه إلا رياءاً.
"مجلس الحكم"
اختارت سلطات الاحتلال عدم تمكين الشعب العراقي من حكم نفسه وتولت هي حكم العراق، وكانت الذريعة فشل القوى والنخب السياسية العراقية في الاتفاق على صيغة مشتركة مقبولة من الجميع ، إن تشكيل مجلس الحكم ما كان له ان يتم لولا ضغط سلطة الاحتلال، وقد تعامل المشاركون في مجلس الحكم مع التغيير في العراق باعتباره جهد امريكي عليهم حصاد ثماره.
وهكذا لجأت قوات الاحتلال في تموز الماضي الى تعيين "مجلس الحكم" من 25 شخصية عراقية اعتمدت في تشكيله التقسيم الاثني والطائفي للمجتمع العراقي مدشنة بذلك نهجاً طائفيا من الصعب تجاهل مخاطره.
وكذلك الحال في اختيار الوزراء فكانت النتيجة اختيار الاقرباء والحزبيين ضمن صيغة كرست تشكيلة مجلس الحكم في توزيع الحقائب بما يناسب الصيغة العرقية والطائفية اولا وليس الكفاءة، كما لم ينفتح مجلس الحكم على اي من القوى السياسية التي هي خارج مجلس الحكم لحد الآن وكنا نأمل أن يتغير الوضع بعد توقيع اتفاق 15 تشرين الثاني القاضي بتسليم السلطة للعراقيين في الأول من تموز 2004 ولكن لسوء الحظ استمر الحال كما كان حتى بعد إجراء الانتخابات.
ان اعتماد الصيغة العرقية والطائفية كأجراء مؤقت له ما يفسره في غياب اتفاق النخب السياسية العراقية على آليه بديلة، ولكن الخوف هو في تكريسها وتقنينها، واذا كان البعض يشير للحالة اللبنانية كنموذج فالجواب ان لبنان عانى سلسلة من الحروب الاهلية بسبب تلك الصيغة ولا يزال مهددا بالانفجار بسببها فهل يجب علينا أن نمر بنفس المراحل ونعيش حروبا دامية لكي نقتنع بعدم صواب الصيغة اللبنانية وأسلوب المحاصصة العرقية والمذهبية .
ان انشغال العراقيين باللعبة الانتخابية سيسحب البساط من دعاة "العنف" السياسي، والانتخابات التي جرت مؤخرا على صعيد النقابات تؤكد ذلك وسيبقى معظم العراقيين مدركين لاهمية التعاون مع الأمم المتحدة من اجل استرجاع العراق لعافيته السياسية والاقتصادية اضافة لحمايته من بعض جيرانه.
ان الالتزام باللعبة البرلمانية الديمقراطية سيكرس عراق "النموذج الذي يحتذى"، واي انحراف عنها بحجة او اخرى سيضعف عراق المستقبل، كما ان الشروع بالانتخابات وتحديد تاريخ لانجازها سيسحب البساط من القوى المتطرفة التي تريد فرض اجندتها السياسية بالقوة والتخريب.


















الفصل التاسع عشر
"أوروبا الجديدة" كابوس السياسة الأمريكية للقرن الحالي
بينما شهد الاتحاد الأوروبي مؤخراً انضمام عشر دول جديدة، فان الولايات المتحدة تنوي الاستفادة كلياً من هذا التوسع الذي يطال أعضاء جدد موالون لها ويتوددون إليها منذ زمن طويل من اجل مد نفوذها في القارة القديمة.
فصقور البنتاغون، وعلى الأخص السيد ريتشارد بيرل الذي شغل مدة طويلة منصب المستشار المقرب من السيد دونالد رامسفيلد، والذي استقال من منصبه في البنتاغون في 18 شباط عام 2004 "كيلا يضر الرئيس بوش في حملته الانتخابية"، هؤلاء يعتبرون أن على أميركا أن تدافع عن نموذجها في وجه "أوروبا القديمة" بطريقة هجومية. وهم يرون أن توسيع الاتحاد الأوروبي يجب أن يساعد الولايات المتحدة في جمع غالبية من الدول تمنع أوروبا الموسعة من أن تشكل قوة موازية لأميركا. فيما "شيخ" آخر من موجهي السياسة الخارجية الأميركية، وهو السيد زبيغنيو بريجنسكي يلخص هذه المفارقة على الشكل التالي: "فيما القوة الأميركية هي في أوجها فان وضعها في العالم هو في الحضيض"
ولذلك فان الولايات المتحدة، ومع دخول غالبية الدول الشيوعية سابقاً من أوروبا الوسطى والشرقية إلى الاتحاد الأوروبي، سوف تبذل جهدها من أجل تعزيز موقعها في القارة وخصوصاً في القسم الشرقي منها. يضاف الى ذلك، وبعكس ما يراه بعض المحللين، فان المنطقة لم تفقد شيئاً من أهميتها الاستراتيجية، بالرغم من زوال أنظمتها التوتاليتارية، بل نحن نشهد بالأحرى انفتاح فصل جديد من الاستراتيجيا الدائمة التي تحاول أن تقيمها واشنطن فيها.
وقد طبقت هذه الاستراتيجيا من دون انقطاع منذ نهاية الحرب العالمية الثانية سواء أكان سيد البيت الأبيض ديموقراطياً أم جمهورياً، وحتى وإن كانت فرق العمل المتعاقبة تتبنى هذا الاتجاه أو ذاك.
فإن قراءة متأنية بعد العام 1947 للتقارير السنوية حول استراتيجيا الأمن القومي تكفي لفهم أهداف السياسة الأميركية الخارجية إزاء العالم الشيوعي ولتقدير حجم الهوة بين الدعاية والواقع. ففي الواقع أنه فيما كان الأميركيون ينددون بتطبيق موسكو معاهدة يالطا بشكل أحادي، كانوا يتأقلمون شيئاً فشيئاً مع إحكام القبضة السوفياتية على الدول الشرقية.
والدليل على ذلك نوعية المفردات المستعملة في هذه التقارير المتلاحقة. ففي العام 1947 كان الكلام لا يزال دائراً على "سياسة الحجر" على الشيوعية إلى درجة أنه ظهرت في العام 1950 نية على "دحرها" عبر التمويل السري إلى حد ما لمنظمات المهاجرين المعادين للشيوعية التي أنشئت في الولايات المتحدة كما أيضاً عبر إطلاق إذاعة "أوروبا الحرة" التي شكلت ركيزة رئيسية في الحرب النفسية. وعلى كل حال فان ما تشهد عليه مذكرات الزعماء الأميركيين هو أنه لا في العام 1956( التدخل السوفياتي في المجر) ولا في العام 1968 (سحق "ربيع براغ") ولا في العام 1981 (محاصرة بولونيا) لم يكن في نية الولايات المتحدة الذهاب أبعد من الاحتجاجات الشكلية. ومنذ العام 1956 بدأت الديبلوماسية الأميركية تستخدم عبارة "التدخل السلمي" وراحت تتحدث عن "إقامة الجسور" بين الشرق والغرب.
حتى أن واشنطن قد عمدت في ستينات القرن الماضي إلى تثبيط همة بعض المنظمات المناهضة للشيوعية إذ اعتبرتها "عدائية جداً". ولم يعد المطلوب "تحرير الدول الرهائن" بل أصبحت العبارة الجديدة "التمييز" بين الدول الشيوعية، إلى درجة أن الولايات المتحدة أبدت بعض الاهتمام بسياسة "الانفراج والتفاهم والتعاون" التي اعتمدها الرئيس شارل ديغول واهتمت أكثر بالـ"أوزبوليتيك"( الجرأة السياسية) التي أطلقها المستشار الألماني فيلي برانت.
في عهد الرئيس ريتشارد نيكسون (1969-1974) و"سيادة" السيد هنري كيسنجر، وهيمنته على الديبلوماسية الأمريكية ، سرعت واشنطن في سياستها "الانفراجية" تجاه الشرق. وشهدت السبعينات في آنٍ واحد توقيع اتفاقية "سالت" للحد من الأسلحة الاستراتيجية كما التحسن الملموس في العلاقات الثنائية بين الولايات المتحدة والعديد من دول حلف وارشو. وراحت واشنطن تهتم أكثر بوضع علاقاتها مع موسكو أكثر منه بسياسة شركائها العتيدين الداخلية وخصوصاً المتعلق منها بحقوق الإنسان.
وكما فرنسا الجنرال ديغول، اهتمت أميركا ريتشارد نيكسون في درجة أولى برومانيا نيقولاي تشاوشيسكو إذ قدرت له جهوده الاستقلالية في سياسته الخارجية بعد إن كانت بوخارست قد حققت في الواقع بعض التباعد عن موسكو من مثل الاعتراف بجمهورية ألمانيا الاتحادية واتخاذ موقف حيادي في الصراع الصيني - السوفياتي وإبقاء العلاقات الديبلوماسية مع اسرائيل بعد حرب حزيران (1967) ورفض المشاركة في اجتياح تشيكوسلوفاكيا في العام 1968... غير أن هذا النظام كان الأكثر قمعاً في العالم الشيوعي، وهذا لم يمنع رومانيا، وبفضل الدعم الأميركي، من أن تصبح الدولة الأولى من حلف وارشو التي تقبل في العام 1972 في صندوق النقد الدولي وفي البنك الدولي ومن أن تستفيد، ابتداء من العام 1975، من صادراتها وفق نظام الأفضليات.
أما في بولونيا والمجر فأن الأمر كان عكس ذلك. فقد ظهرت في كلا النظامين مؤشرات عديدة إلى التحرر فيما ظلا في سياستهما الخارجية متحالفين مع الاتحاد السوفياتي. وقد استفاد عدد من الطلاب والباحثين من بعض المنح في إطار برنامجي فورد وفولبرايت لينتقلوا إلى الولايات المتحدة حاملين جواز سفر ظل العديد من سائر المواطنين في أوروبا الشرقية، والرومان ضمناً، محرومين منه لفترة طويلة.
في آب/أغسطس عام 1975 عقدت "قمة" في هلسنكي ضمت كل دول القارة الأوروبية (ما عدا ألبانيا) وكندا والولايات المتحدة. غير أنه بدا جلياً أن جيرالد فورد، الذي كان خلف ريتشارد نيكسون المستقيل إثر فضيحة ووترغيت، غير ملم كلياً بالمسائل الدولية. فإذا كان الأوروبيون شددوا على المسائل الإنسانية فقد بدا أن الأميركيين رضخوا للأمر الواقع. حتى أن جيرالد فورد وصف في حملته الانتخابية عام 1976 رومانيا وبولونيا بالدولتين "السيدتين والمستقلتين".
أما الرئيس جيمي كارتر فإنه لم يتابع على هذا المنوال. فقد نصحه مستشاره الرئيسي، السيد زبيغنيو بريجنسكي البولوني الأصل باعتماد سياسة "أكثر دينامية". وهو من دون أن يدعو إلى زعزعة الأنظمة الشيوعية، اقترح تشجيع نشاطات جميع المعارضين. وقد ترجم هذا الدعم للمفكرين المنشقين بمضاعفة توجيه الدعوات إلى الولايات المتحدة وبإعادة الاعتبار لأعمال جمعيات مثل "هلسنكي واتش" أو "محكمة العدل الدولية"، حتى بات احترام حقوق الإنسان خاضعاً لرقابة لصيقة من جانب المؤسسات غير الحكومية التي كانت تمولها إلى حد كبير الإدارة الأميركية.
وقد اعتمدت هذه المؤسسات أيضاً على إذاعة "أوروبا الحرة" المكلفة أن تعكس السياسة الأميركية "الجديدة"، أي المساهمة في تحويل الأنظمة القائمة سلمياً بدلاً من العمل على تدميرها. ففي تلك الحقبة لم يكن أحد في الولايات المتحدة يؤمن بانهيار الدول الشرقية، فالاختصاصيون الأكثر تفاؤلاً كانوا يحلمون بتغير ما على الطريقة "الفنلندية" إنما معكوسة، أي الاستقلال التدريجي للدول الأعضاء في حلف وارشو داخل العالم الشيوعي.
ومع بداية رئاسة السيد رونالد ريغن تسارعت الحرب السايكولوجية. ففي العام 1983 قام نائب الرئيس جورج بوش (الأب) بزيارة يوغوسلافيا ورومانيا والمجر. وفي كانون الأول/ديسمبر أعلنت واشنطن عن إنشاء "المؤسسة الوطنية للديموقراطية" National Endowment for Democracy)) وقد مولها الحزبان الجمهوري والديموقراطي كما وزارة الخارجية ووكالة المخابرات المركزية (CIA) وقد دعمت بعض الأحزاب والنقابات والصحف ودور النشر ومجموعات من المناضلين من أجل "الأفكار الديموقراطية". ومن الذين استفادوا منها تبرز نقابة "تضامن" في بولونيا وأصحاب دور نشر "ساميزدات" الشخصية المجرية.
وهذا ما لم يمنعه أي من الأنظمة التي كانت عرضة لهذا "التدخل" إذ كانت أساساً قد دخلت في طور من التفكك الذي تسارع في العام 1989. وقد تابع الأميركيون الأحداث عن قرب. ففي تموز من نفس السنة قام جورج بوش الأب، الذي تولى الرئاسة، بزيارة بولونيا والمجر. وما أوضحه في ما بعد أن "ما خشيه السوفيات هو أن يكون الهدف من هذه الرحلة التشجيع على التمرد ولو بشكل لاإرادي، وأنا بالعكس كنت أشاطرهم بعضاً من مخاوفهم هذه". وقد رأى مستشار الأمن القومي برون سكاوكروفت أن واشنطن "لعبت دور القابلة القانونية في زمن التحولات السلمية، وإنما المتوترة, التي قادت أوروبا الشرقية من الاستبدادية إلى التعددية"
وفي إطار الذكرى المئوية الثانية للثورة الفرنسية التقى "الكبار" في قمتهم السنوية في باريس. وقد جعل الرئيس بوش أوروبا الشرقية في صلب المباحثات وطالب ببرنامج مساعدة ضخم لصالح الدولتين اللتين كان زارهما أخيراً. لكنه تحاشى أن يثير حفيظة موسكو أو استفزازها حيث كان السيد ميخائيل غورباتشوف يتعرض لضغوط المتمسكين بالخط المتصلب المناهضين لعملية التحرر التي بدأتها كل من بولونيا والمجر.
وكان من البديهي أن يؤثر الأميركيون من أصل بولوني ومجري الذين شغلوا مناصب أساسية في الإدارة أو في عالم الأعمال، على عمل السيد بوش. وقد ساهمت مجموعات الضغط البولونية والمجرية بنوع خاص في إقرار لجنة مجلس الشيوخ، في 20 أيلول ، تقرر اقتراح مساعدة بقيمة 1,2 مليار دولار على مدى ثلاث سنوات لكل من فرصوفيا وبودابست. ومع أن هاتين الدولتين كانتا لا تزالان شيوعيتين فقد أصبحتا شريكتين مميزتين لواشنطن!
أما لوبي دول البلطيق فانه من جهته لم يرضَ بالحذر الذي لزمته واشنطن. فهو إذ بدا مستعجلاً لم يرد انتظار تحرير الأنظمة الشيوعية تدريجياً بل طالب بمنح كل من ليتوانيا وليتونيا واستونيا الاستقلال الفوري. وتجدر الإشارة إلى أن أميركا لم تعترف أبداً بضم هذه الدول إلى الاتحاد السوفياتي في العام 1939 وحافظت معها على علاقات ديبلوماسية "صورية". حتى أن ممثلي هذه الدول مارسوا ضغوطاً على الدول الأربع والثلاثين الموقعة على معاهدة هلسنكي من أجل قبولها كدول مستقلة في "القمة" التي انعقدت في باريس في العام 1990 احتفالاً بانتهاء الحرب الباردة. غير أن موقف باريس الجازم وارتباك واشنطن أديا إلى احتواء هذه المطالب على أساس أنه لم توضع بعد خطة لما بعد زوال الاتحاد السوفياتي. وفيما الاهتمام الدولي يتحول إلى الخليج حيث كان يجري التحضير لتحرير الكويت بعد أن اجتاحها العراق في آب/أغسطس عام 1990... وإذ كان موضوع استقلالها ويوغوسلافيا يفجران الحرب الأهلية راحت واشنطن تولي اهتمامها لدول البلقان. فقد كانت واشنطن تراقب، دونما كبير انزعاج، فشل محاولات التوسط الفرنسية - البريطانية محضرة لدخولها الساحة، عسكرياً وسياسياً، وهو ما أوكله الرئيس بيل كلينتون إلى السيد ريتشارد هولبروك.
وفي موازاة ذلك اعتمدت الإدارة الأمريكية سياسة جديدة تجاه أوروبا الوسطى والشرقية ما بعد الشيوعية، قامت على "تشجيع الديموقراطية". وقد اتكلت واشنطن بنوع خاص على حلف الأطلسي الذي كانت دول المنطقة ترغب بالانضمام إليه أكثر منه إلى المؤسسات الأوروبية. وهذا أيضاً من أسباب فشل المشروع الفرنسي للكونفيديرالية الأوروبية الذي قدّم في براغ في حزيران/يونيو عام 1991، فإذا كان البولونيون والمجريون والتشيكيون يتحدثون عن أوروبا فإنهم كانوا يحلمون بأميركا في شكل أساسي...
وإذ تفرد مجلس الشيوخ الأميركي، في تموز عام 1995، في رفع الحظر عن تسليم الأسلحة إلى البوسنة والهرسك، فإنه بذلك أعطى الإشارة على التدخل الأميركي في النزاع. وفي آب/أغسطس جاء الهجوم الكرواتي الذي حضر له وسلحه "مدنيون" أميركيون، ليعقبه قصف طيران حلف الأطلسي المواقع الصربية حول ساراييفو. وفي النهاية، وفي تشرين الثاني/نوفمبر، استقبلت دايتون، القاعدة العسكرية الأميركية في اوهايو، مؤتمر السلام، حيث حلت الولايات المتحدة مكان المفاوضين الأوروبيين، مما شكل فاتحة لوجودها العملي في أوروبا الوسطى والشرقية كما في وقف القتال في دول البلقان.
وقد وقفت الديبلوماسية الأوروبية عاجزة أمام هذا "الاجتياح" الذي نظمه السيدان زبيغنيو بريجنسكي وريتشارد هولبروك، ثم وزيرة الخارجية الأميركية مادلين أولبرايت. فهؤلاء، المتخصصون بـ"أوروبا الأخرى" راحوا يعملون من دون هوادة من أجل تعزيز الزعامة الأميركية في أوروبا الشرقية.
وفي الواقع كانت واشنطن قد وضعت ومن جانب واحد لائحة بأوائل المستفيدين من توسيع حلف الأطلسي، وهي بولونيا والمجر والجمهورية التشيكية. وفي تموز عام 1997 فرضت مرشحيها لذلك في مؤتمر القمة الذي عقد في مدريد. وما يفسر هذا الخيار هو وجود مجموعات ضغط بولونية ومجرية قوية، كما تنحدر السيدة أولبرايت من أصل تشيكي. والحال أن هذا الثلاثي البارز يتألف من دول ذات أسواق مهمة للصناعة العسكرية الأميركية وخصوصاً في زمن استبدال التجهيزات السوفياتية المتداعية.
وإذا ترجمت رغبة الولايات المتحدة في الهيمنة عبر السيطرة الكلية التي مارستها على حلف الأطلسي كما تبين خلال حربي البوسنة وكوسوفو، فإنها ظهرت أيضاً عبر تطوير مواقعها الاقتصادية في مختلف دول أوروبا الوسطى والشرقية. وقد بدا وجودها في دول البلطيق الثلاث أكثر وضوحاً أيضاً، فمنذ العام 1991 بدأ آلاف الأميركيين من أصل ليتواني أو ليتوني أو استوني "يعودون إلى بلادهم"، حيث الأكثر أهلية بينهم احتلوا بسرعة المواقع المهمة في الإدارة أو في القوات المسلحة أو في المجال الاقتصادي ليشكلوا جزءاً من "النزعة الأطلسية المطلقة".
ومع وقوع اعتداءات 11 أيلول/سبتمبر عام 2001 تأكدت طموحات أميركا في ظل السيد جورج دبليو بوش بشكل لافت في 20 أيلول عام 2002 إذ جاءت "الاستراتيجيا الجديدة للأمن القومي" لتؤكد أنه "مع أن الولايات المتحدة مستعدة لبذل كل جهودها للحصول على دعم المجتمع الدولي فإنها لن تتردد في التصرف بمفردها إذا تطلب الأمر ذلك من أجل ممارسة حقها في الدفاع عن نفسها عبر التصرف بشكل وقائي ضد الإرهاب". وإذا كان الهدف من هذا النص هو الدفاع القومي ضد الإرهاب تحديداً فانه على الأرجح يطبق أيضاً على الدفاع عن مجمل المصالح الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية لـ"القوة العظمى"
وحلت السياسات الثنائية الطرف مكان المتعددة في العلاقات بين الحلفاء. وبات قبول هذه الدولة أو تلك في حلف الأطلسي وسيلة لتوثيق هذه العلاقات أكثر. وهذا خصوصاً ما حدث في تشرين الثاني/ نوفمبر عام 2002 لدى انعقاد القمة في براغ من أجل إقرار المرحلة الثانية من توسيع الحلف. فقد كان الرومانيون والبلغار مغتبطين بدخولهم حلف الأطلسي في انتظار قبولهم في الاتحاد الأوروبي. وكانت الدول البلقانية الثلاث قد وقعت أساساً في العام 2001 معاهدات تعاون عسكري مهمة مع الولايات المتحدة. فالكل كان يمني النفس بأن يصبح حليفاً كاملاً لأميركا في النصوص كما في الواقع. ومن هنا جاء دعم الجميع لواشنطن في الأزمة العراقية حتى قبل أن تنشب الحرب.
لكن لا ينبغي لأحد أن يتصور بأن الشرق عبارة عن كتلة متجانسة منحازة إلى أميركا دونما قيد أو شرط. فعندما سئل رئيس الوزراء المجري بيتر مدجيسي عن توقيعه أجاب: "لو لم أوقّع هذه الوثيقة الشهيرة لكنت تعرضت للملامة لرفضي التضامن الأطلسي." وعندما استوضحه الصحافي: "بمعنى آخر كانت هذه الرسالة فخاً؟" أجاب: "بالضبط".
وفي 17 شباط عام 2003 وفي خضم القمة الاستثنائية للمجلس الأوروبي المنعقدة في بروكسيل وفي سياقه انتقاده الدول الأوروبية الشرقية التي انحازت إلى جانب واشنطن هاجم السيد جاك شيراك الدول "التي فوتت على نفسها فرصة الاحتراس". مما أثار موجة احتجاج في أوروبا الشرقية. فحتى في نظر أصدقائه كان على مضيف الإليزيه أن يتكلم بطريقة مختلفة لكي لا يجرح الحساسيات المشروعة. فقد استهدف الكلام الرئاسي، كتشهير رسمي، بولونيا في درجة أولى التي كانت وقتها قد فضلت، في سعيها إلى تحديث سلاحها الجوي، طائرات الـ"اف-16" الأميركية على الطائرات الأوروبية. إلا أن الرئيس الفرنسي أراد أيضاً لفت الانتباه إلى مجمل التناقض بين هذا الالتزام المنحاز إلى أميركا وبين مشروع "المعاهدة الأوروبية" التي تنص مادتها "ال-15" على أن "على الدول الأعضاء أن تدعم بقوة وبدون تحفظ سياسة الاتحاد الخارجية والأمنية المشتركة بذهنية الولاء والتضامن المتبادل وان تمتنع عن القيام بأي عمل ينقض مصالح الاتحاد أو من شأنه أن يضر بفعاليته.
وبعد بضعة أسابيع نشبت الحرب في العراق. ومنذ البداية بدت المواقف الأوروبية الشرقية متحفظة، إن لم تكن معارضة، عن أي مشاركة عسكرية. ثم قررت الحكومات التي "غازلتها" الولايات المتحدة، وبعد مداولات داخلية، ألا ترسل إلا قوات محدودة مؤلفة في معظمها من وحدات غير قتالية، باستثناء بولونيا التي برزت كقوة كبرى إقليمية وحليفة استراتيجية مميزة للولايات المتحدة في هذا القسم من القارة الأوروبية . وهكذا انطلق بضعة آلاف من الجنود البولونيين إلى العراق حيث أوكلت إلى دولتهم قيادة إحدى المناطق المحتلة في العراق وهي مدينة بابل . وفي هذا نوع من الثأر لهذه الأمة التي طالما تعرضت للإذلال عبر تاريخها العريق على أيدي جيرانها الشرقيين منهم والغربيين. فهذه المرة لم يكن البولونيون تحت الاحتلال، إنما محتلون...
وفي مرحلة أولى بدا أنه من حق الدول الأوروبية الشرقية التي شاركت في المغامرة أن تغتبط لما سينتج من وجودها في العراق. فقد أملت كل واحدة منها بأن تحظى بحصتها في إعادة إعمار البلاد كما من منافع نقل القواعد العسكرية الأميركية القائمة في ألمانيا إلى شرق أوروبا. أليس أن تخصيص قواعد عسكرية للطيران الأميركي في رومانيا وبلغاريا، في ربيع العام 2003، قد عاد عليهما بعشرات ملايين الدولارات؟ والبعض يعول على ما يرتقب من إسكان عدد كبير من الجنود الأميركيين وعائلاتهم في محيط بعض المدن البولونية أو الرومانية أو البلغارية مما يعد بالأمن والازدهار...
لكن على الحالمين ألا يسترسلوا في أحلامهم. فإذا كانت واشنطن تفكر في نقل بعض قواعدها العسكرية في ألمانيا إلى شرق أوروبا فسيرافق ذلك خفض عديد العسكريين بفعل تحديث القطاعات. فمن أصل 000 120 جندي متمركزين في أوروبا سيعاد حوالى الثلث إلى البلاد. فهذا التنظيم الجديد الذي سيمتد على مدى سنوات سيساعد، أثناء الأزمات، في نشر القوات الآتية من وراء الأطلسي بشكل أسرع. فالولايات المتحدة تنوي بذلك الاقتراب من مناطق الأزمات في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى، إنما أيضاً من القوقاز بدءاً من جورجيا حليفتها الجديدة المميزة.
من جهة أخرى كان السيد كولن باول قد أكد طبعاً رغبة واشنطن في إقامة بعض المنشآت المؤقتة. إلا أن ردة الفعل الروسية قد حدت من هذا التوجه، فالسيد سيرغي إيفانوف، وزير الدفاع الروسي "يمكنه أن يتفهم إلى حد ما أن تقام قواعد في بلغاريا أو رومانيا، على الطرق المحتمل أن يسلكها الإرهابيون، لكن ما لا يمكن فهمه هو أن يقام مثل هذه القواعد في بولونيا أو في دول البلقان" . وفي كل ذلك أمر واحد أكيد هو توافد الشخصيات المدنية والعسكرية الأميركية إلى أوروبا الوسطى والشرقية متغنين بمآثر العلاقات الوثيقة مع واشنطن. وفي الواقع أن ملايين الدولارات تنهمر على "الحلفاء" الذين قرروا تحديث جيوشهم، شرط أن يشتروا تجهيزاتهم الضرورية من الولايات المتحدة. هذا من دون نسيان تشجيع إدارة بوش للشركات الأميركية التي تشارك في شق الطرقات الكبرى "الاستراتيجية" التي تخترق منطقة البلقان.
غير أن مهمة هؤلاء "المرسلين" ليست بالأمر السهل. فبعد عام على اندلاع حرب العراق أصابت خيبة الأمل حتى الأكثر حماسة من مناصري السياسة الأميركية. ولذلك أسبابه ومنها أن القوات الأوروبية الشرقية بدأت تتعرض لهجومات العناصر المسلحة العراقية، ثم انفضاح الكذب في موضوع أسلحة الدمار الشامل على الملأ، وفشل إقامة السلام، وكل هذا شكك في مصداقية الأميركيين في أوساط الرأي العام، وأبعد من ذلك، في أجهزة الدول. طبعاً لقد اغتبط المحافظون الجدد لتحالف الصرب غير المتوقع معهم، وقد أبدوا استعدادهم لإرسال 700 إلى 800 جندي... إلا أن ذلك كان قبل اعتداءات مدريد. وفي زيارته الأخيرة إلى بلغراد تحدث مساعد وزير الخارجية الأميركي كاثلين ستيفنز عن "مصلحة" للولايات المتحدة في تحديث الجيش الصربي وبالرغم من ذلك لم تقرر صربيا بعد بصورة رسمية إرسال قوات الى العراق كما عرفنا خلال تواجدنا في بلغراد لحضور مؤتمر يوم الصحافة الحرة العالمي الذي أقامته منظمة اليونيسكو.
وكلما تعقدت أمور ما بعد الحرب في العراق، بدأ البعض، في الأوساط السياسية الأوروبية الشرقية، يعيدون النظر في الدور الذي على أوروبا أن تلعبه. وشيئاً فشيئاً بدأ الأعضاء الجدد في الاتحاد الأوروبي، كما المرشحون للانضمام إليه، يدركون أهمية "أوروبا القديمة" بالنسبة إلى مستقبلهم الخاص. فإذا ظلت الولايات المتحدة حليفتهم وصديقتهم، فسوف يكونون منافسين لنا.

الفصل العشرون
التيار الديني ودوره في رسم خارطة العراق السياسية



كان للتيار الديني في العراق دوماً دوراً حيوياً ومؤثراً في مجريات السياسة الداخلية والخارجية للبلاد منذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة في العشرينات من القرن الماضي وقد تركزت القيادة السياسية للتيار الديني في المرجعية الشيعية لغياب الأحزاب السياسية الدينية آنذاك . أما في الشق السني فقد كانت هناك محاولات بسيطة ومتواضعة لتشكيل قوة سياسية ذات برنامج سياسي وديني تستلهم أهدافها من حركة الأخوان المسلمين التي تأسست في مصر في ذلك الوقت لكنها لم تتبلور في صيغة حزب سياسي على غرار ما حدث في مصر ودول أخرى باعتبار أن الأقلية السنية في العراق هي التي كانت تمتلك السلطة السياسية في العراق. وقد واجهت بريطانيا الدولة الاستعمارية العظمى حينذاك، صعوبات جمة في التعامل مع الظاهرة الدينية في العراق عند احتلالها لهذا البلد وطبقت مبدأ فرّق تسد للسيطرة على الوضع المتفجرآنذاك. فبالنسبة لهم الإسلام والعروبة لايتضادان أو لايتعارضان ، وكان لدى الاستعمار البريطاني المهيمن لازمة أو نتيجة طبيعية تتمثل بالنخب المنحدرة من الأقلية العربية ـ السنية التي اتجهت نحو خدمة الأسياد الجدد للبلاد والتي أعتبرت الدولة الجديدة ملكيتها المحتكرة . وقد أستبدلت هذه النخب بسرعة مذهلة ولائها الإسلامي للسلطان ـ الخليفة العثماني ومنحته لقوة " كافرة" وأنتقلت بسهولة وبلا مقاومة من العثمانية إلى العروبية . نجحت بريطانيا في قهر الحركة الدينية بإسم مفهوم قومي عربي لايشكل الإسلام فيه سوى مجرد صنف أو مكون ثقافي من مكونات العروبية . إن عروبية الدولة العراقية الجديدة أختزلت الشعور بالانتماء العربي لدى غالبية العراقية إلى مجرد أيديولوجية إثنية أو عرقية حصرا لايجد ، لا الشيعة ولا الأكراد ، أنفسهم فيها. الدولة العراقية بنيت ضد مجتمعها وأضفت المسحة المؤسساتية على علاقة الهيمنة الطائفية للسنة على الشيعة، قبل الهيمنة الإثنية أو العرقية للعرب على الأكراد . وهذا الجانب الأخير من المسألة العراقية أصبح ملموسا إبتداءاً من ضم ولاية الموصل إلى العراق من قبل عصبة الأمم سنة 1925 بإلحاح من بريطانيا الطامعة بنفط كركوك .أستبعد الشيعة والأكراد الذين يشكلون ثلاثة أرباع السكان العراقيين من السلطة طيلة القرن العشرين وكان نظام صدام حسين آخر كارثة لنظام التمييز الطائفي والعرقي الذي وصل إلى مداه. إن الحرب الأخيرة التي شنتها الولايات المتحدة الأمريكية أطاح بهذا النظام السياسي الذي أسسه حلفاؤها البريطانيون منذ أكثر من ثمانين عاماً مضت. وكان ذلك بإسم مباديء تحررية أوانعتاقية عرفت بدمقرطة العراق .كيف يمكننا أن نشخص تكرار التاريخ لنفسه؟
عندما قررت الولايات المتحدة غزو العراق واحتلاله عسكريا لم تكن قد وضعت نصب عينيها هذه المعضلة الكأداء المتمثلة بالتيار الديني الذي لم تكن تحسب له حسابا كبيرا. لكنها اصطدمت على أرض الواقع بثقل هذا التيار وتاثيره بشقيه الشيعي والسني وبمختلف تنوعاته وأطرافه واجتهاداته .
في السابع من حزيران 2003، كان المجلس الاعلى للثورة الاسلامية بقيادة سماحة آية الله العظمى الشهيد السيد محمد باقر الحكيم، قد أعلن ، انه لن يشارك في المجلس الحكومي المؤقت المؤلف من 25 شخصا الذي رغب الحاكم المدني الاميركي للعراق بول بريمر تعيينه. فلم يكن واردا في نظر الشهيد الراحل السيد محمد باقر الحكيم ان تحوز الحكومة الانتقالية المعينة من جهة أجنبية اية شرعية، لكن وتحت ألتأثير الكبير للقيادي البارز في المجلس عادل عبد المهدي لم يبق المجلس صامدا في موقفه القائل بأن على الولايات المتحدة الالتزام بالخطة الاصلية التي تنص على عقد مؤتمر وطني ينتخب المندوبون اليه حكومة انتقالية وتبنى في نهاية المطاف الرؤية الأمريكية لإدارة شؤون العراق ولو على مضض وقرر الدخول في هذا المجلس الحكومي العراقي المؤقت ممثلا بشخص السيد عبد العزيز الحكيم .
لدى المجلس الاعلى للثورة الاسلامية قاعدة شعبية وجناح مسلح مؤلف من 10 الى 15 الف عنصر مدرب وهذا هو الرصيد الذي يستند إليه المجلس كثقل أساسي في المعادلة السياسية العراقية رغم تجريد عناصر فيلق بدر من اسلحتهم الثقيلة من قبل الأمريكيين وقد تأكد هذا التشخيص بالانتصار الكاسح الذي حققته لائحة الإئتلاف العراقي الموحد بزعامة المجلس في الانتخابات النيابية الأخيرة في يناير 2005.
وإبان المفاوضات بين الأطراف السياسية العراقية والولايات المتحدة ، عندما كانت قيادة المجلس الأعلى متواجدة في طهران كان هذا هو الحزب الاسلامي الوحيد الذي انضم الى الجهود الاميركية لاطاحة نظام صدام حسين وشارك في اجتماعات واشنطن خلال صيف 2002. وبدأ يؤكد وجوده منذ سقوط النظام البعثي في 9 نيسان/ابريل 2003 وخصوصا في المدن ذات الغالبية الشيعية القريبة من الحدود الايرانية حيث يتجمع العائدون من فيلق بدر، الميليشيا المؤلفة من المنفيين العراقيين في ايران والذين تلقوا تدريباتهم على يد حراس الثورة هناك.
أما حزب الدعوة الإسلامية في العراق فقد كان رافضا لفكرة المشاركة في المفاوضات وفي أية ترتيبات أمريكية لمستقبل العراق لكن جناجاً رئيسيا فيه غير موقفه في اللحظات الأخيرة وقرر المشاركة في تشكيلة المجلس الحكومي العراقي المؤقت بشخص المتحدث الرسمي بإسمه وأحد قيادييه الكبار وهو السيد إبراهيم الجعفري .
وهناك قوى إسلامية سياسية صغيرة أو شخصيات إسلامية مؤثرة على الشارع الإسلامي الشيعي كمنظمة العلماء المجاهدين ومجموعة محمد تقي المدرسي والعلامة السيد محمد بحر العلوم وغيرهم أنخرطوا هم أيضاً في مشروع الزواج المؤقت مع الإدارة الأمريكية في العراق في إطار هذه المنظومة التي حملت إسم مجلس الحكم العراقي المؤقت .

تجدر الإشارة إلى أن الشيعة يشكلون ما بين 60 و65 في المئة من سكان العراق ويتوزعون بين العناصر العلمانية من الطبقات الوسطى والعمالية في المدن والذين يتعاطفون مع الاحزاب الدينية. شيعة العراق العلمانيون غير منظمين سياسيا لكن حضورهم كان طاغيا في الخمسينات في صفوف الحزب الشيوعي . وفي الريف يوجد العديد من الشيعة غير العلمانيين يوالون زعماء العشائر اكثر من موالاتهم المسؤولين السياسيين الدينيين ، والبعض الآخر يمنح ولائه للحوزة العلمية التقليدية .
اما الشيعة المتدينون فهم منظمين جيدا في اتجاهات ومراكز قوى متعددة وينقسمون إلى اربع مجموعات رئيسية. هناك نسبة لابأس بها تتبع عائلة الصدر التي يقودها اليوم مقتدى الصدر وهو شاب نشط في الثلاثين من عمره اغتيل والده في شباط من العام 1999 وهو يتخذ مواقف متطرفة يبدو ظاهرها أنها معادية للأمريكيين ومستعد لخوض الكفاح المسلح والمقاومة العنيفة إذا ما أضطر إلى ذلك خاصة بعد استبعاده من قبل الأمريكيين وعدم تمثيله داخل الهيئة القيادية العراقية المسماة مجلس الحكم العراقي المؤقت، ومجموعة مهدي وجواد الخلصي التي رفضت الالتحاق بالركب الأمريكي هي الأخرى. تجدر الاشارة الى ان المجلس الاعلى للثورة الاسلامية يتمتع بقاعدة شعبية في المدن الشرقية القريبة من الحدود مع ايران بينما يسيطر حزب الدعوة في الوسط خصوصا في الناصرية والبصرة. اخيرا يوجد قسم من الشيعة مناصرون لآية الله العظمى والمرجع الأعلى السيد علي السيستاني وهو من الوجوه الشيعية البارزة ويتبوأ موقع المرجعية العليا خلفا لآية الله العظمى الراحل أبو القاسم الخوئي والد السيد عبد المجيد الخوئي الذي قتل غدرا في الأيام الأولى لسقوط النظام البائد على يد مجموعة يعتقد أنها قريبة من جماعة مقتدى الصدر ، أما وزنه السياسي فيتناسب مع ما يوحي به موقعه الكبير داخل تراتبية رجال الدين الشيعة.
يتميز المجلس الاعلى بدرجة عالية من التنظيم وقدرات عسكرية وعلاقات متقلبة مع واشنطن. تم تأسيسه في طهران عام 1982 على يد الراحل الشهيد السيد محمد باقر الحكيم وغيره من رجال الدين المنفيين، وسرعان ما ناصب صدام حسين العداء. اجتمع المجلس الاعلى لمرات عديدة مع المؤتمر الوطني العراقي بزعامة أحمد الجلبي المدعوم من واشنطن في خريف وشتاء 2002 ـ2003 ، لكن الولايات المتحدة لم تعد مرتاحة لهذا التحالف بسبب العلاقات الوثيقة للمجلس الاعلى للثورة الاسلامية مع الفئات الايرانية الاكثر تشددا. فقد ابعدت واشنطن فيلق بدر عن الحرب على صدام وقبلت بمشاركة الميليشيات الكردية. لذلك رفض المجلس الاعلى المشاركة في اول اجتماع للمعارضة (15 نيسان/ابريل) بعد سقوط النظام وحيث جرت تظاهرات قام بها الآلاف من الشيعة المنددين بالاحتلال الاجنبي.
مدينة يعقوبة (280 الف نسمة) الى الشمال الشرقي من بغداد هي احد الاماكن التي بدأ فيها المجلس الاعلى للثورة الاسلامية نشاطا مكثفا فور انتهاء الحرب، ولم يصل جنود البحرية الاميركيون الى عاصمة محافظة ديالى هذه الا بعد اسابيع. في هذه الاثناء استعرت المنافسة المحلية وفي مطلع نيسان/ابريل اغار مقاتلو فيلق بدر العائدون من ايران على المدينة لانتزاعها من نفوذ البعثيين ومجاهدي خلق، المنظمة الايرانية المناهضة للحكم في طهران والتي وافق صدام حسين على انشاء قواعد لها في العراق وصنفتها واشنطن ضمن التنظيمات "الارهابية".
في 28 نيسان/ابريل وصل الى يعقوبة حوالى ثلاثة آلاف من الجنود الاميركيين وفي 4 ايار/مايو صرح الملازم روبرت فلديفيا لصحيفة "اراب نيوز" ان "القوات الاميركية وجدت ملصقات دعائية ايرانية ومخبأ للاسلحة الثقيلة في مركز الشرطة وان الشرطة المحلية تتعاون مع مقاتلي فيلق بدر الذراع المسلحة لاكبر حزب شيعي في العراق". واشتكى كابتن اميركي في 9 ايار/مايو قائلا: "يطلقون علينا النار كل ليلة". وقال احد مقاتلي فيلق بدر: "اريد ان يعيش الناس في ظل نظام اسلامي واريد استخدام وسائل الاعلام والخطب لاقناعهم".
في الوقت نفسه وفي مدينتي شهرابان والخالص المجاورتين، كان فيلق بدر ينظم السكان سياسيا ويكسب شعبية واسعة. من جهة اخرى ساعد هؤلاء المقاتلون احد رجال الدين، السيد عباس فاضل، في محاولته للوصول الى السلطة في مدينة الكوت (380 الف نسمة). احتل هذا الاخير دار البلدية مع اعوانه واعلن نفسه رئيسا لها. في البداية صمم رجال المارينز على قتله بكل بساطة وفي منتصف نيسان/ابريل حاولوا التدخل ضده لكن ما يقارب من 1200 شخص طوقوا عشرين من رجال البحرية الذين تراجعوا. بحسب واشنطن يتمتع فاضل بدعم ايران ويستخدم حراسه المسلحين لترهيب سائر المرشحين الى رئاسة البلدية.
في 16 نيسان/ابريل استقبل نحو عشرين ألفاً السيد عبد العزيز الحكيم قائد فيلق بدر العائد من ايران حشدهم له في مدينة الكوت السيد فاضل بسبب موقعه المتميز. ومن هناك اطلق دعوة الى التظاهر في كربلاء ضد الوجود الاميركي لكن من دون نتيجة. بعد يومين وفي مقابلة مع التلفزيون الايراني عرض وجهة نظر حزبه بالنسبة الى الاوضاع في العراق قائلاً: "سنسعى اولا الى اقامة نظام سياسي وطني تتمثل فيه الاحزاب والطوائف لكن الشعب في النهاية سيطالب بحكومة اسلامية". وأوضح ان ارادة الشيعة هذه ستنتصر في النظام الديموقراطي لانهم يشكلون 60 في المئة من السكان.
في وقت لاحق وخلال مؤتمر صحافي دعا الحكيم الى قيام "دولة حديثة واسلامية" حيث يشعر الجميع بالامان وتلعب فيها المرأة دورا اساسيا. وأكد انه اذا حكم العراق وفق المبادئ الحديثة فسيصبح بلد "الجهاد من اجل اعادة الاعمار والمحبة والصداقة بعيدا عن الكراهية والدمار". وأضاف من دون ان يسمي الولايات المتحدة: "نطالب بحكومة مستقلة ونرفض اي حكومة مفروضة فرضا"، وقال ايضا انه يجب "ان تراعي قوانين العراق المبادئ الاسلامية وتمنع بعض السلوكيات الأخلاقية المقبولة في الغرب ولكن يحرمها الاسلام". لكنه كان من الذكاء والحنكة بمكان أنه تجنب إثارة سنة العراق وقطاع واسع من النساء العلمانيات اللواتي لايرغبن بحكم إسلامي على الطريقة الإيرانية التي تفرض عليهن لبس الحجاب قسرا وبالقوة.
وجه المدير الاول لمكتب اعادة الاعمار في العراق سابقا الجنرال الاميركي المتقاعد جاي غارنر دعوة الى المجلس الاعلى للثورة الاسلامية لحضور الاجتماع الثاني للوجهاء العراقيين فأرسل المجلس وفدا من الصف الثاني، وفي الخامس من ايار/مايو حاول غارنر استمالة المجلس بالاعلان ان مجلسا من مسؤولي الاحزاب سيتولى الدعوة الى مؤتمر وطني في حزيران/يونيو حيث يقوم المندوبون باختيار حكومة انتقالية.وقد أفلح الأمريكيون باستمالة المجلس الأعلى للثورة الاسلامية في العراق وحزب الدعوة وعدد آخر من القوى السياسية والشخصيات الدينية الشيعية للدخول إلى التشكيلة القيادية العراقية المؤقتة إلى جانب شخصيات مستقلة وأخرى بعثية سابقة منشقة عن النظام البائد وأخرى موالية للولايات المتحدة الأمريكية منذ البداية مثل المؤتمر الوطني بقيادة أحمد الجلبي وحركة الوفاق الوطني بقيادة أياد علاوي وحركة المستقلين الديموقراطيين بقيادة عدنان الباجه جي .
كان صقور البنتاغون يحاولون من خلال هذه المناورات وضع السلطة بين ايدي حلفائهم القدامى في المؤتمر الوطني العراقي بزعامة احمد الجلبي. لكن مشروع وزارة الدفاع لم يعمّر طويلا وانتصر موقف وزارة الخارجية الذي برهن للرئيس ان الوضع في العراق شارف الكارثة تحت اشراف غارنر. لذلك خلفه السيد بول بريمر في 12 ايار/مايو وتخلىهذا الأخير شيئا فشيئا عن مشاريع سلفه بالتراجع عن مجلس السبعة ليجعله مجرد "لجنة تخطيط" معلنا عن نيته في اضافة 23 عضوا جديدا اليها منهم عراقيون من الداخل ليخفف هكذا من سلطة المنفيين والحزبين الكرديين. كما الغى مشروع عقد مؤتمر ينتخب حكومة انتقالية خلال فصل الصيف واعلن ان على جميع الميليشيات تسليم اسلحتها قبل 15 حزيران/يونيو باستثناء الميليشيات الكردية في الشمال.
اغتاظ مسؤولو المجلس الاعلى من هذه التدابير المتناقضة مع الوعود المقطوعة لهم وبالرغم من موافقتهم على تسليم الاسلحة إلا أنهم اصروا على احتفاظ مقاتلي فيلق بدر بأسلحتهم الاتوماتيكية. وفي 7 حزيران/يونيو اعلن السيد عبد العزيز الحكيم انه لن يشارك في مجلس يعيّنه بريمر الا اذا ادى في المدى القصير الى تشكيل حكومة منتخبة.
كانت علاقات المجلس الاعلى للثورة الاسلامية مع الولايات المتحدة دائمة الاضطراب، فهما متحالفان بالضرورة وتبعا للظروف وكل طرف لا يكنّ الوفاء للآخر. ليس معروفاً ما الذي حدا بصقور واشنطن الى ابرام هذه الشراكة لكن من المرجح ان يكون احمد الجلبي قد لعب دورا في ذلك مطئنا الاميركيين حول اعتدال هذه الحركة التي تتمتع بالشعبية في اوساط الشيعة المتدينين.
المجلس الاعلى للثورة الاسلامية في العراق حزب براغماتي ومستعد للتعامل مع الولايات المتحدة ولكن بشروطه وضمن حدود معينة وخطوط حمر لايسمح لنفسه بتجاوزها وإلا سيفقد مصداقيته وقاعدته الشعبية التي ينافسه عليه الكثيرون وعلى رأسهم مقتدى الصدر.
حزب الدعوة الإسلامية لم ينجح لحد الآن في إعادة بناء قاعدته الشعبية الواسعة التي كان يتمتع بها قبل أن يبطش به نظام صدام حسين البائد وهو حزب ممزق من الداخل إلى عدة تيارات وأجنحة متنافسة وبالرغم من تردده ورفضه باديء الأمر إلا أنه وافق أخيرا على الانضمام إلى الرؤية الأمريكية لتمرير الفترة الانتقالية ولو بصورة مؤقتة لالتقاط الأنفاس وليتيح لنفسه فرصة إعادة هيكلية التنظيم.
أما الشق السني من التيار الإسلامي العراقي فهو أيضا موزع بين معتدلين يتمثلون بالحزب الإسلامي العراقي المشارك في المجلس الحكومي العراقي المؤقت والمتطرفين الأصوليين أو السلفيين المعروفين بإسم التيار الوهابي الذين يخوضون مواجهة مسلحة شرسة وغير متكافئة ضد قوات الاحتلال الأمريكية خاصة فيما يسمى إعلاميا بالمثلث السني الذي هو أيضا منطقة نفوذ للنظام البعثي المنهار .
الولايات المتحدة الأمريكية عازمة على منع التيار الديني في العراق من الاستفراد بالسلطة مهما كلف الأمر ومهما كانت النتائج المترتبة على مثل هذه السياسة حتى لو فاز هذا االتيار بأغلبية الأصوات في انتخابات ديموقراطية حرة ومستقلة جرت في العراق في يناير كانون الثاني 2005 . فهل ستحصل القطيعة ويقع الطلاق بين هذا التيار وأمريكا أم سيستمر الغزل والمناورة بين الجانبين؟
من الواضح أن مصلحة التيار الديني في العراقي بشقيه الشيعي والسني المعتدلين تكمن في التعايش والتعاون مع قوات التحالف التي تحتل البلاد تحت غطاء دولي يتجسد بالقرار رقم 1483 المصوّت عليه بالإجماع في مجلس الأمن الدولي على أمل تسليم قوات الاحتلال السلطة للعراقيين بموجب اتفاق أيار 2003 وذلك بتاريخ حزيران سنة 2004 والإعدادا لتنظيم انتخابات ديموقراطية حرة على مرحلتين الأولى في بداية عام 2005 لانتخاب مجلس تأسيسي لكتابة الدستور والثانية في نهاية عام 2005 يجري بين هذين التاريخين تشكيل حكومة عراقية مؤقتة وانتقالية ذات سيادة وصلاحيات تمتلك شرعية محدودة لحين انتخابها ديموقراطياً وبالاقتراع السري المباشر ولكن إذا لم تحترم قوات الاحتلال والمجموعة الدولية تعهداتهم بمنح العراق حريته واستقلاله فمن المؤكد أن التيار الديني والتيار الوطني الديموقراطي وكافة القوى السياسية العراقية سيخوضون حرب استقلال ومقاومة مسلحة مشروعة لاستئصال الاحتلال وتصفيته بالقوة وستحصل هذه المقاومة على كافة اشكال الدعم والتأييد الإقليمي والدولي من قبل القوى الشريفة والرأى العام العالمي والعربي والاقليمي والإسلامي .













الفصل الحادي والعشرون
المأزق المادي للوجود الأمريكي في العراق

إن الاحتفاظ بعشرة آلاف جندي أمريكي في أفغانستان يُـكلّـف الولايات المتحدة مليار دولار شهرياً.
و إن وجود قوات عربية في العراق يعد من وجهة النظر الأمريكية حلا نموذجيا للورطة الأمريكية. لكنه غير ممكن التحقيق في الوقت الحاضر لاعتبارات سياسية ونفسية كثيرة.

لا يخفى على أحد الورطة والأزمة التي تعيشها الإدارة الأمريكية بسبب احتلالها للعراق.. ويوماً بعد يوم تتضح أبعاد هذه الورطة ، وعلى صعيد التكلفة المادية للتدخل الأمريكي في العراق فقد أقرّت إدارة الرئيس جورج بوش بأن تكاليف الاحتلال الأمريكي للعراق قد تناهز مليار دولار في الأسبوع.

وأثار هذا الإقرار جدلا في الكونجرس ووسائل الإعلام حول فداحة الثمن الذي سيدفعه المواطنون من ضرائب نتيجة استراتيجية الحروب الوقائية، في وقت يعاني فيه الاقتصاد الأمريكي من أزمة الركود والبطالة وانخفاض معدل التنمية وتفاقم العجز في الميزانية وتراكم الديون، ورغم كل الجهود المبذولة لتحفيز النشاط الاقتصادي، وفيما تعاني الميزانية الأمريكية من عجز لم يسبق له مثيل، فوجئ الكونجرس والشعب الأمريكي بأن التبسيط الذي روّجت له الإدارة الأمريكية قبل الحرب على العراق فيما يتعلق بتكاليف بقاء القوات الأمريكية لإعمار العراق كان مضللا، وأن التقدير الحقيقي لتكاليف الاحتلال الأمريكي يصل إلى 4 مليار دولار كل شهر.

وزاد الشعور بعدم ثقة الشعب الأمريكي في مصداقية إدارة الرئيس بوش، عندما استماتت الإدارة في محاولات التغطية على التضليل والمبالغة التي لجأت إليهما لتبرير الحرب على العراق ببيانات غير موثقة.
احتكار اقتصادي
ثم اهتز ما تبقى من ثقة في الطريقة التي تتصرف بها الإدارة الأمريكية في العراق مع توصل فريق من الخبراء الذين كلّـفتهم وزارة الدفاع الأمريكية بتقييم الوضع في العراق إلى أن فرص نجاح المهمة الموكلة للقوات الأمريكية هناك تتضاءل يوما بعد يوم، خاصة مع إصرار حكومة الرئيس بوش على احتكار عمليات إعادة إعمار العراق، وعدم الاستعانة بالكثير من المؤسسات الدولية التي لها خبرات واسعة في ذلك المجال على عكس وزارة الدفاع الأمريكية.

وسرعان ما زاد الإحباط في أوساط عائلات الجنود والضباط الأمريكيين في العراق إزاء تعثّـر المحاولات الأمريكية لإحلال قوات دولية محل أفراد الفرقة الثالثة مشاة الذين وعدتهم القيادة الأمريكية بأنهم سيعودون لأهاليهم في غضون شهر، ثم عادت لتؤجل عودتهم مدة شهرين أو ثلاثة مع زيادة احتمال عدم تخفيض القوات الأمريكية في العراق، والتي يبلغ قوامها 148 ألف جندي، بل تبديل الوحدات التي أمضت شهورا طويلة في الصحراء قبل الحرب وبعدها بوحدات جديدة.
تكاليف وانسحاب متأخر
ومما زاد الطين بلّـة بالنسبة لتكاليف الحفاظ على الهيبة الإمبراطورية الجديدة للولايات المتحدة، هو أن الاحتفاظ بعشرة آلاف جندي أمريكي في أفغانستان يُـكلّـف الولايات المتحدة مليار دولار شهريا مما يرفع تكلفة الوجود العسكري الأمريكي في كل من العراق وأفغانستان إلى 60 مليار دولار سنويا، ولا ينتظر سحب تلك القوات قبل أربعة أعوام بتكلفة قد تصل إلى 240 مليار دولار.

وبالإضافة إلى تكاليف القوات الأمريكية في العراق وأفغانستان، تعيّـن على إدارة الرئيس بوش تخصيص اعتمادات إضافية في ميزانية المساعدات الخارجية للعام الحالي، لتضمن مساندة الدول المتلقية لتلك المساعدات للحرب الأمريكية على الإرهاب ، فخصصت ألف مليون دولار لإسرائيل بالإضافة إلى حوالي 2700 مليون دولار من المساعدات الأساسية، ولضمان التأييد والمساندة الأردنية، خصّـصت واشنطن 1106 مليون دولار كمساعدات إضافية، وحصلت تركيا كذلك على ألف مليون دولار إضافية، ومصر على 300 مليون دولار زيادة عن حصّـتها من المساعدات الخارجية الأمريكية الأصلية التي وصلت إلى 1904 مليون دولار. كما منحت الولايات المتحدة باكستان 200 مليون دولار من المساعدات الإضافية.

إن ثروات أمريكا يستنفذها الساسة والقادة العسكريون بسرعة، ويبدو أن الأمريكان بل والعالم ككل لا يمكنه دفع ثمن شهية وزارة الدفاع الأمريكية اللا محدودة، أو يعزز الوجود العسكري في كل قارة، وليس بمقدور الشعب الأمريكي دفع فاتورة الفائدة على الدين الوطني بدون استنزاف مصادر بلاده الطبيعية.
حقيقة المشاركة العربية
وكانت مصادر إعلامية عربية وغربية قد قالت إن مصر والأردن والسعودية والكويت والمغرب وقطر تستعد للمشاركة بنحو 30 ألف جندي في قوات "حفظ السلام" المزمعة للعراق التي دعيت 50 دولة للمساهمة فيها, وأعلنت 15 منها حتى الآن عزمها على الانضواء تحت لوائها ، وذكرت مصادر دبلوماسية بريطانية في كل من القاهرة وعمان أن هذه الدول العربية أبلغت واشنطن موافقتها على المشاركة في قوات "حفظ السلام" الدولية في العراق "التي من المتوقع أن يصل تعدادها في نهاية المطاف إلى أكثر من 100 ألف جندي".

وكشفت المصادر النقاب عن أن الأمين العام للأمم المتحدة كوفي عنان, رفض اقتراحين فرنسي وروسي بحصر عدد تلك القوات بما دون الخمسين ألفا, مصرا على أن الأمم المتحدة التي ستشرف على تلك القوات "ليست مستعدة لأن تصاب بأي انتكاسة أو هزيمة في العراق" وأنه لن يوافق على إرسال أقل من 100 ألف جندي وألفي دبابة وآلية و300 طائرة هليكوبتر ومعدات أخرى "إلى هذا البلد الكبير الذي تبلغ مساحته نحو 435 ألف كيلو متر مربع وعدد سكانه حوالي 27 مليونا, فيما أرسلت الأمم المتحدة إلى كوسوفا 75 ألف جندي دولي رغم أن مساحتها لا تتجاوز عشرة آلاف و900 كيلو متر مربع وعدد سكانها يبلغ نحو مليون و900 ألف نسمة". وأعربت المصادر الدبلوماسية في القاهرة عن أن "سبب استعجال الأمريكيين والبريطانيين إرسال القوات الدولية لحفظ السلام إلى العراق, قد يكون عزمهم على فتح جبهة أخرى في المنطقة بقواتهم الموجودة الآن في الأراضي العراقية والبالغ عددها 160 ألف جندي أمريكي ونحو 40 ألف جندي بريطاني بالإضافة إلى قوات رمزية من استراليا وايطاليا ودول أخرى .

وقد أكد برلمانيون أردنيون أن مجلس النواب الأردني سيقف ضد إرسال قوات أردنية إلى العراق، وذلك في أعقاب تردد أنباء حول تلقي الحكومة الأردنية طلبا من الولايات المتحدة للمشاركة في قوات حفظ الأمن التي ترغب واشنطن في تشكيلها بالعراق؛ لتفادي الخسائر المتزايدة في صفوف قواتها بفعل هجمات العناصر المسلحة والمتمردة.

وقال رئيس كتلة الحركة الإسلامية في مجلس النواب المهندس عزام الهنيدي: إن "المجلس ضد إرسال أي قوات إلى العراق بشكل نهائي"، كما حذر الحكومة الأردنية من "الموافقة على الطلب الأمريكي الذي رفضته دول أخرى".

وتقول مصادر داخل مجلس النواب الأردني: إن المجلس بما في ذلك أعضاؤه المستقلون سيرفض أي فكرة لإرسال قوات أردنية للعراق ما دام محتلا من قبل القوات الأمريكية؛ لأن ذلك سيعد تكريسا للوجود الأمريكي.

وجاءت هذه التصريحات في أعقاب تردد أنباء عن تلقي الحكومة الأردنية طلبا رسميا من الولايات المتحدة لإرسال قوات للعراق للمشاركة في عملية حفظ السلام هناك. وفي السياق نفسه، قالت صحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية : إن "الأردن يدرس الطلب بجدية".

وكانت الولايات المتحدة الأمريكية قد طالبت العديد من الدول العربية من بينها مصر والسعودية بإرسال قوات للعراق، لكن القاهرة والرياض أعربتا عن رفضهما للمطالب الأمريكية، مؤكدتين أن أي مشاركة لا بد أن تكون بتفويض من الأمم المتحدة.

وأبلغت مصر وفدا أمنيا سياسيا أمريكيا زار القاهرة رفضها المشاركة في أي ترتيبات أمنية بالعراق تحت إدارة الولايات المتحدة، مؤكدة أن أي مشاركة مصرية لا بد أن تكون بتفويض من الأمم المتحدة، كما أبلغت مصر الوفد رفضها استمرار الاحتلال الأمريكي للعراق.. وكذلك فعلت السعودية.
موقف الجامعة العربية
هذا وقد ناقش وزراء خارجية الدول الأعضاء في لجنة المتابعة العربية الثلاثاء 5-8-2003 في مقر الجامعة العربية بالقاهرة موضوع إرسال قوات عربية إلى العراق للمساهمة في ضمان استقرار هذا البلد الذي تتعرض فيه القوات الأمريكية والبريطانية لهجمات يومية ، وقد أبدت معظم الدول العربية تحفظها على إرسال مثل هذه القوات دون غطاء دولي.

والمعلومات المتوفرة تشير بوضوح إلى أن الجامعة العربية أو لجنة المتابعة لم تتلقيا أي طلب من أية دولة عربية بهذا الخصوص، في الوقت ذاته لا توجد جهة عراقية يمكن أن تتقدم بطلب من ذلك القبيل، خصوصاً أن مسألة تمثيل العراق لدى الجامعة وغيرها من المنظمات أو المحافل الدولية لم تحسم بعد، حتى بعدما أضفى مجلس الأمن شرعية على سلطة الاحتلال الأمريكي، في تناقض مدهش مع موقفه السابق واحتلالها. حتى بدا وكأن مجلس الأمن رفض الحرب ثم عاد وقبل بنتائجها!

واعتبر مسؤول في الجامعة أن "هذا الموضوع هو مسألة شائكة للدول العربية". وقال هذا المسئول: "هناك دول تعارض بشدة إرسال قوات عربية إلى العراق، في حين أن دولا أخرى لا تمانع في إرسال قوات بشرط صدور قرار من مجلس الأمن وطلب من حكومة عراقية شرعية".
وقال عمرو موسى الأمين العام للجامعة: إن هذا الموضوع غير مطروح للمناقشة من أساسه ، ومن الواضح أن الأمين العام لعب دوراً كبيراً لقطع الطريق على الدول التي تريد أن تستجيب للضغوط الأمريكية وتشارك .
وقد أثار موقف الجامعة العربية وأمينها العام حفيظة الإدارة الأمريكية ، فشنت حملة شعواء على الجامعة خاصة وأنها رفضت الاعتراف بمجلس الحكم الذي شكلته أمريكا في العراق .

ولقد أغضب أمريكا كثيرا أن ترفض الجامعة إرسال قوات عربية إلى العراق بحجة أن هذا الأمر ليس واردا في ظروف الاحتلال الراهنة.. وتشديدها في الوقت ذاته على سرعة إنهاء الاحتلال الأمريكي ـ البريطاني للعراق والبدء في تشكيل حكومة وطنية شرعية وفق جدول زمني محدد, في إطار المساواة في الحقوق وكفالة العدالة لجميع المواطنين العراقيين دون تمييز علي أساس العرق أو المذهب أو الدين كي يتسنى التعامل مع تمثيل عراقي مشروع ، كما أكدت الجامعة بإلحاح ضرورة الحفاظ علي الانتماء العربي للعراق صونا لوحدته الوطنية.

الغريب والمدهش أن أمريكا لم تتحمل هذا الرد من الجامعة العربية واعتبرت رفضها الاعتراف بمجلس الحكم الانتقالي في العراق عملا غير صحيح ومخالفا لروح ميثاق الجامعة وانبري منظرو الإدارة الأمريكية يفندون اتهاماتهم للجامعة فيقولون صحيح إن الميثاق الذي وضع بالإسكندرية في عام1945 ينص على عدم انضمام أي دولة تحت الاحتلال للجامعة إلا أن الجامعة ذاتها وطبقا لطلب مقدم للجامعة من مصر والسعودية قررت تعديل الميثاق وأضافت بندا خاصا بفلسطين يعلن قبولها عضوا كاملا بالجامعة وهو ما تطالب أمريكا بعمله مع مجلس الحكم الانتقالي.

واتهم منظرو الإدارة الأمريكية الجامعة بأنها تكيل بمكيالين وطالبتها بإبداء هذا القدر من المرونة مع حالة العراق كما كان الحال في حالة فلسطين.

بل ذهب هؤلاء إلى القول بأن الدول السبع المؤسسة للجامعة العربية كانت بعضها تحت الاحتلال أو بها قواعد لدول أجنبية مثل بريطانيا التي كانت تحتل معظم الدول العربية حتى منتصف خمسينات القرن الماضي, ومن ثم فلا غرو من أن تعترف الجامعة اليوم بمجلس الحكم الانتقالي في العراق المحتل!

.. وأمام إصرار الجامعة على موقفها( الذي ليس أكثر من موقف عام لمعظم الدول الأعضاء فيها) شنت أمريكا حملة ضارية عليها, وحذرتها على لسان مساعد المتحدث باسم الخارجية الأمريكية فيليب ريكر من الاستمرار في التعاطي مع الموضوع بما أسمته لغة كسب الشارع العربي وطالبتها بالحيادية والاعتدال.

وعبر اتصالات مكثفة سواء مع الأمين العام للجامعة عمرو موسي أو مع حكومات بعض الدول الأعضاء أضافت أمريكا مطالب أخرى منها التعاون مع واشنطن في مكافحة الإرهاب في العراق ، وتوفير الدعم المالي اللازم للقضاء على العمليات العسكرية المسلحة التي تقودها فلول النظام السابق, وهو ما رفضته عدة دول عربية بالطبع, وإنشاء صندوق عربي تابع للجامعة يقوم ببعض المشروعات وتحديث هيكلة الاقتصاد العراقي وإصلاح آبار البترول التي دمرتها أمريكا!!
هل يخرج الأمريكان من ورطتهم بأيدي عربية ؟
إن وجود قوات عربية في العراق يعد من وجهة النظر الأمريكية حلا نموذجيا للورطة الأمريكية لأن ذلك يحقق للولايات المتحدة مرادها في إقصاء الأمم المتحدة واستبعاد الحلفاء غير المرغوب فيهم في حلف شمال الأطلنطي، وفي الوقت ذاته فإنه سوف يحسن كثيرا صورة الإدارة الأمريكية أمام الرأي العالمي الذي خرجت جماهيره معارضة للحرب إذ سيجد الجميع أن الأشقاء العرب بشحمهم ودمائهم قد ذهبوا متعاونين مع قوات الاحتلال.

ويعني أيضاً اعترافاً من الدول العربية بشرعية الاحتلال الذي يصل إلى حد الإسهام في تأمين وجوده.

كما قد يؤدي ذلك الوجود إلى تخفيف حدة أعمال العنف ضد القوات الأمريكية التي ينتظر أن تبقى في هذه الحالة خارج المدن، إذ قد تتردد اعناصر المسلح في القيام بعملياتها إذا ما وجدت أن ضحاياها سيكونون من بين "الأشقاء العرب".

إن الإدارة الأمريكية قد صعدت ضغوطها على الدول العربية ، لانتزاع موافقتها على الدخول في هذه المخاطرة التاريخية، ليس بهدف إشراك العرب في صياغة "العراق الجديد" كما تدعي واشنطن، ولكن بهدف تصدير القوات العربية هذه لمواجهة الهجمات الإرهابية العراقية، ولتنفيذ السياسة الأمريكية من خلال وجودها على الأرض وفي المواجهات اليومية الدامية، فهي تريدها درعا للحماية إذن.

لكن عددا ضئيلا من الدول العربية المستهدفة، قد سارع بإبداء الترحيب بالدعوة الأمريكية ، بينما لا زالت دول عربية أخرى مترددة أو متوجسة من هذه الدعوة، لأنها تعرف أن الهدف هو توريطها سياسيا ومعنويا في إضفاء الشرعية العربية على الاحتلال الأجنبي للعراق، ومساعدة أمريكا في الخروج من الورطة الدامية.

إن هناك أسبابا كثيرة دفعت السياسة الأمريكية، مؤخرا إلى البحث عن الخروج من الورطة العراقية أولها، أهمية الانتخابات والرغبة في عدم استخدام الخصوم من الحزب الديمقراطي للآثار السلبية لهذه الحرب ضد الرئيس بوش.

وثانيها، المأزق السياسي الأخلاقي الذي وقع فيه الرئيس بوش وإدارته، حول فضائح مبررات الحرب، بعدما انكشفت أمام الرأي العام الأمريكي والدولي، مدى عدم مصداقية المبررات التي ساقها بوش و بلير، وخصوصا امتلاك العراق لأسلحة الدمار الشامل، وعلاقة نظام صدام بتنظيم القاعدة بقيادة أسامة بن لادن.

وثالثها،الأثر السلبي العميق، الذي تتركه أنباء تتالي سقوط القتلى الأمريكيين يوميا ، والتي تزداد يوما بعد يوم.

ورابعها، الاستنزاف المالي للخزينة الأمريكية بعد الاستنزاف البشري للشعب الأمريكي، ذلك لأن أمريكا استأثرت وحدها مع بريطانيا بقرار شن الحرب بعيدا عن ساحة الأمم المتحدة، فهي الآن تتحمل مع حليفتها أساسا، وبدعم قليل ضئيل من دول أخرى معدودة، النتائج كاملة والخسائر كاملة أيضا، وتنفق وحدها على نتائج الحرب، كما أنفقت وحدها من قبل على الحرب، مما حمل وسيحمل الخزينة ودافع الضرائب الأمريكي، أعباء اقتصادية ومالية هائلة، عرفنا بعضها من مئات المليارات المرصودة والمطلوبة.

ويجمع الخبراء والمحللون أن ثمة حلا وحيدا أمام العرب ، فالأمريكان هم المسئولون عن الأزمة أولا ، ثم أنه لا يعقل أن يطالبوا الدول العربية بأن تخرجهم من ورطتهم ناهيك عن أن تتورط معهم ، والحل هو أن يتم إرسال قوات سلام عربية ودولية في إطار اتفاق سياسي ، يحدد أجلا للانسحاب الأمريكي من العراق ، ويضع جدولا زمنيا لذلك الانسحاب ، أو في إطار قوات حفظ سلام دولية لتنفيذ اتفاق تشرف عليه الأمم المتحدة بشان مستقبل العراق .

































الفصل الثاني والعشرون
الحلم الإمبراطوري أمام المستنقع العراقي

من التوافق إلى الشك
في آب/أغسطس 1964، انطلقت واشنطن في حرب باطلة وكارثية في آسيا كلفت عشرات آلاف القتلى الاميركيين وملايين الفيتناميين. وكان الدافع وراء حرب فيتنام خشية واشنطن من فقدان مصداقيتها أكثر منه العدوى الشيوعية المحتملة (مفعول "الدومينو") في شرق آسيا وقد دامت هذه الحرب لأكثر من عقد من الزمن وأحدثت شرخاً داخل المجتمع الاميركي. مع أن بعض العقلاء داخل جهاز الدولة كانوا يدركون منذ العام 1967 أن هذه الحرب خاسرة سلفاً، فقد لزم الأمر الانتظار حتى العام 1973 كي يقدم الرئيس ريتشارد نيكسون المنتخب في العام 1968 والمصمم كما سلفه السيد ليندون جونسون على "أن لا يكون أول رئيس اميركي يخسر حرباً"، كي يقدم أخيراً على الانسحاب وترك حكومة سايغون تواجه مصيرها. وفي تعبير عن رغبة الانتقام أراد ترك بصماته من خلال "سحق هذا البلد الحقير، فيتنام الشمالية (تحت القنابل)". وكما كتب السيد ستانلي كارنو فان الحرب برهنت " غرور وقصر نظر وازدواجية" النخب الحاكمة.
بعد أربعين عاماً، يعود شبح فيتنام ليقض مضاجع الولايات المتحدة. فان تحالف اليمين المتطرف الذي وصل إلى السلطة عام 2000، وأعيد انتخابه عام 2005، مهووسا بفكرة "ترميم إرادة النصر" بحسب تعبير السيد ريتشارد بيرل ودفن "الإعراض الفيتنامي" نهائيا، تحلق حول إدارة بوش ليغرقها في المستنقع العراقي ضمن حرب تجريبية تؤدي إلى أزمة مشروعية عميقة.
ويبدو أن التاريخ يعيد نفسه، ففي نهاية العام 1960، انتاب فئة كبيرة من الشعب الاميركي شعور بان "النخبة الحاكمة فقدت رشدها". فبعد عام على غزو العراق ينقسم المجتمع الاميركي في العمق والبلد يعاني الشك ويمكن ملاحظة انقلاب ملموس في الرأي العام حيث ما انكشف من ممارسات التعذيب في السجون العراقية يضرب بقوة سلطة الدولة وتضاف إلى الاستنتاج الشائع بان الحرب ضاعفت من الخطر الإرهابي بدل الحد منه.
على المستوى المؤسساتي يبدو الانزعاج حادا خصوصا في صفوف جيش المشاة المسؤول في طبيعة الحال عن احتلال العراق كما تدل على ذلك دراستان حديثتا العهد. وتبرز الدراسة الأولى التي أجراها الجيش نفسه هبوط معنويات الوحدات النظامية المنتشرة هناك حيث يقر 50 في المئة من الجنود أن "معنوياتهم منخفضة. أما الثانية فتشدد على قلق عائلات الجنود أمام احتمال الحرب الطويلة الأمد أو توسع النزاع مما يؤثر على عمليات المناقلة بين أفراد الجيش. إن هذه الخلاصة غير مفاجئة خصوصاً وأن قلة من الجنود تتطوع حبا بالمهنة واحترافها بينما الأكثرية تلتحق بالجيش لأسباب أخرى وخصوصاً للاستفادة من فرص الإعداد والامتيازات المهنية والاجتماعية المهمة. ويبدو احتمال انخفاض تعداد الجيش ممكناً ويصرح العديد من الخبراء أن الانتشار العسكري واسع جداً والأمور تقترب من "أزمة مؤسساتية". وفي الدوائر العسكرية العليا، يطرح أيضاً التساؤل حول مبدأ الحرب نفسها والأهداف المحددة لها.
يكتب السيد جيفري ريكورد الأستاذ في "معهد الحرب الاميركي" معبراً عن الانتقادات اللاذعة التي يطلقها في حلقاتهم الخاصة العديد من كبار الضباط حتى داخل قيادة الأركان: "إن الخلط (الذي قام به البيت الأبيض) بين القاعدة وعراق صدام حسين كان خطأ استراتيجيا من الطراز الأول نتج منه حرب وقائية (ضد بلد) كان يمكن ردعه ، وإيجاد جبهة جديدة للإرهاب الإسلامي في الشرق الأوسط وتبديدا للموارد (الاميركية)". وفي نظر الكاتب إن الأهداف الاستراتيجية المعلنة في "الحرب الشاملة على الإرهاب" هي "غير واقعية وترغم الولايات المتحدة على السعي من دون نتيجة وراء الأمن المطلق". ويورد السيد ريكورد تقريراً داخلياً للجيش الاميركي (المشاة) جرت كتابته قبل الغزو ويتوقع "مشكلات حادة في العراق" في حال احتلال طويل المدى من دون دعم دولي، كما يعتبر أن الحال المزرية للمالية العامة الاميركية والنقص في الدعم الشعبي سيرغمان الولايات المتحدة قريبا على "الحد من مطامحها في العراق".
تتخذ هذه الانتقادات "الواقعية" أهمية أكبر إذا أضيفت إلى انتقادات أخرى يوجهها موظفون كبار سابقون في جهاز الاستخبارات. فبالنسبة إلى السيد ريتشارد كلارك مثلاً وهو الذي أمضى 30 عاما في هذا الحقل، "إن الرئيس الاميركي قد دك الحرب على الإرهاب باجتياحه العراق". كذلك ومن بين ضباط سابقين آخرين كبار في "السي أي آي"، يلاحظ السيد ميلت بيردن أن الولايات المتحدة "لا تبخس فقط قدر عدو لا تعرفه حق المعرفة" بل إنها تواجه في العراق وضعا مشابها لوضع القوات السوفياتية في أفغانستان. ويذهب السيد راي كلوز أبعد من ذلك، وهو كان مسؤولاً عن مكتب وكالة الاستخبارات المركزية في السعودية: "إن الاستراتيجيا الاميركية الشاملة في العراق والمبنية على افتراضات وتوصيات من عصبة المحافظين الجدد في واشنطن تقود في النهاية إلى كارثة كان المراقبون المطلعون يتوقعون حدوثها في نهاية المطاف". ومن بين الإشارات الدالة على الخلافات المؤسساتية، لعبة "الكراسي الموسيقية" لمسؤولي وكالة الاستخبارات المركزية في بغداد حيث توالى خلال عام واحد ثلاثة مديرين وقد تم استبدال الثاني لأنه نقل بموضوعية صورة عن تصميم المتمردين.
أما وزارة الخارجية التي تهمش دورها بعد الانقلاب المؤسساتي لصالح البنتاغون إثر 11 أيلول/سبتمبر 2001، فالمعروف أن العاملين فيها يتنازعهم الإحباط والذهول والغضب. ومن التعبيرات النادرة ما قاله السيد لاري ويلكرسون، مدير مكتب وزير الخارجية كولن باول، مستنكراً علانيةً "الطوباويين (أمثال ريتشارد بيرل أو بول وولفوفيتز) الذين لا يعرفون الحرب ويرسلون الرجال والنساء إلى الموت بكل خفة.
وإذ تضاف إلى ما كشف من تضخيم متعمد للخطر العراقي، فان التكلفة البشرية والمالية لاحتلال يثير عددا من الإشكالات لم تكن في الحسبان، تغذي مناخ الانتقادات. وبحسب السيد انطوني كوردسمان من "مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، "اختار التحالف عمداً وبشكل واسع تبخيس الكلفة البشرية الفعلية للمعارك" من خلال التخفيف الإعلامي من خسائر الحلفاء و"التعتيم المنهجي على الخسائر العراقية". فإلى الـ 700 قتيل أميركي (في 17 نيسان/ابريل 2004) يضاف آلاف الجرحى الخطرين (2449 تم إحصاؤهم في 31 آذار/مارس) فيما تجاوز عدد القتلى الأمريكيين فقط لغاية شباط 2005 حوالي 1500 قتيل. لكن هذا الإحصاء يغفل الرقم الفعلي للقتلى والجرحى. فبحسب الكولونيل الان ديلان، المسؤول في قاعدة اندروز التي تستقبل الجرحى في الولايات المتحدة، وخلال مقابلة مع الإذاعة الوطنية العامة بتاريخ 28 تموز/يوليو 2003، "لا يمكنني إعطاء رقم دقيق لأنها معلومات مصنفة سرية. لكن يمكنني القول انه منذ ابتداء الحرب بقي هنا أكثر من 4000 جريح لكن علينا مضاعفة هذا الرقم إذا احتسبنا الذين أعيد إرسالهم إلى مستشفيات أخرى في والتر ريد وبيتيسدا". أما الخسائر المدنية العراقية والمقدرة بين 8 آلاف و10 آلاف قتيل فلا يصار أبداً إلى ذكرها.
وحول التكلفة المالية فان السيد كوردسمان يشكك في مبلغ 50 إلى 100 مليار دولار الذي قدره رسميا للمرحلة ما بين 2004 و2007 مكتب الموازنة في الكونغرس، إذ أن هذه الأرقام "لا تغطي التكلفة الفعلية لإنشاء اقتصاد جديد يلبي الحاجات الإنسانية". وحتى لو افترضنا "أن الحرب والتخريب لا يضاعفان من هذا العبء فإن التقديرات متفائلة جداً حول التمويل المطلوب. فالموازنة المطلوبة لإعادة البناء وإطلاق عمل الحكومة قد تراوح بين 94 و160 مليار دولار خلال تلك الفترة. في المقابل تقدر العائدات النفطية بين 44 و89 مليار دولار وستقل على الأرجح عن 70 ملياراً". ألايكفي مبلغ العائدات النفطية تسيير عجلة الاقتصاد العراقي المدنية لولا تكاليف قوات الاحتلال وعمليات الإرهاب والتخريب بسبب وجود القوات المحتلة؟
في المحصلة، نحن نشهد تفتتا للهيمنة الإيديولوجية التي كانت الإدارة تمارسها وكانت تعتمد فيها على "الحماسة القتالية للاميركييين" وفق تعبير الكاتب غاري فيليبس، من اجل تنفيذ سياستها في تغيير التوجه الاستراتيجي وتأمين الفوز في الانتخابات وقد نجحت في هذه النقطة. كما كان البيت الأبيض يراهن على الخوف الناتج من 11 أيلول/سبتمبر 2001 والغضب الذي ولده هذا الخوف من اجل تعبئة المواطنين خلف دولة الأمن القومي وتأمين تماسك النخب وتخفيف التناقضات داخل اللعبة الديموقراطية الاميركية. وبالفعل فقد شجع فرض مقاربة ثنائية وشمولية للتحدي الإرهابي إدارة بوش لمحاولة توحيد البلاد ـ بنجاح في البداية ـ خلف رئاسة لم تكن تحوز الأكثرية وكانت عرضة لشتى الانتقادات.
إن الخوف الذي يغذيه شبح التلويح بالإفناء النووي قد فتح الطريق أمام تمركز استثنائي للسلطة التنفيذية وتهميش السلطات المضادة وبروز اعتباطية الإجراءات الرسمية وفي العديد من الحالات خرق الحماية الدستورية البديهية. فتحول الخوف إلى حال من الغضب القومي تغذيها الحكومة وموجهة في الداخل كما في الخارج ضد كل من يجرؤ على معارضة الدولة.
إن هذه "الهستيريا الوطنية" التي يشبهها اناتول ليافن من مؤسسة كارنجي بتعبئة النفوس في أوروبا عشية 1914، قد خدمت أغراض الرئاسة الإمبراطورية. فاحتجبت السلطة خلف ستار سميك من السرية فطمست التناقضات وحضرت الرأي العام للحرب. فأطلقت حملة تضليل إعلامي ضد مفتشي الأمم المتحدة وغذت الإشاعات الصادرة عن أجواء البنتاغون حول علاقة مفترضة لصدام حسين بأحداث 11 أيلول/سبتمبر 2001. هكذا نجحت الإدارة في صياغة وفاق وطني مدعومة من الرأي العام الواقع تحت صدمة الاعتداءات (حوالى ثلاثة أرباع الاميركيين أيدوا غزو العراق).
لكن هذا الوفاق يتكسر اليوم في المدن العراقية والجبال الأفغانية. فحرب العراق "نفست المشروع الإمبراطوري" بحسب قول السيد جيريمي شابيرو من مؤسسة "بروكنغز". فالوحدة الوطنية كانت تقوم على قدرة الدولة على المحافظة على التعبئة الدائمة للمجتمع. خلال الحرب الباردة، سمح وجود عدو شامل بتوجيه قدرات المجتمع في مجهود جماعي طويل المدى ومتماسك إلى حدٍّ ما. فباستثناء فيتنام كانت التضحيات المطلوبة ضئيلة: فالدولة "الكينزية" كانت تقدم للشعب "الزبدة والمدافع". وفي مرحلة ما بعد الحرب الباردة، باتت التعبئة أكثر صعوبة "إلا إذا أعيد ولأسباب سياسية اختراع عدو أجنبي جديد وقوي ضمن منظور ثقافي جديد . وحتى لو أن الإسلام الراديكالي حل إلى حد ما محل الاتحاد السوفياتي كخطر شامل في الخيال الجماعي، فان احتمال قيام حرب بلا نهاية بكلفة باهظة أعاد الانقسام العميق إلى المجتمع.
قبل عام كان التحالف الجمهوري المنغرس في الجنوب وولايات الغرب يتدعم ولم يكن وارداً في ذهن أحد إمكان أن يخسر جورج بوش الانتخابات الرئاسية في العام 2004. وبدا الحزب الجمهوري خارج السباق لما يعانيه من خلافات داخلية ولاضطراره التزام الصمت حيال حرب وافق عليها زعماؤه بشكل واسع. تغير الوضع اليوم مع انطلاق قاعدة الحزب في التعبير عن غضبها بعد أن حرمت عام 2000 من الانتصار الرئاسي بسبب ممارسات مؤسساتية قديمة تتمثل في الانتخاب غير المباشر.
وأصبح مستقبل المشروع الإمبراطوري لإدارة بوش معلقا بنتائج انتخابات العام 2004 لذلك صمم الرئيس الأمريكي وفريقه على كسب الانتخابات مهما كلف الأمر . فلو فاز الديموقراطيون لأمكن أن نشهد "اندفاعة مستعادة في اتجاه التعاون وإعادة تأسيس العلاقات الأطلسية" أي إدارة أكثر توافقية مع الحلفاء الأوروبيين وأكثر واقعية للعلاقات الدولية. هذا ما يؤكده السيد انطوني بلينكن المستشار في السياسة الخارجية لدى المجموعة الديموقراطية في مجلس الشيوخ. لا يعني ذلك العودة إلى الوضع السابق بل كان يمكن أن يخلق ظروفا لاحتواء انتشار الأزمة. وألا يخشى حصول هروب إلى الأمام وتجسيد النبوءة التي صنّعها اليمين الاميركي حول "نزاع الحضارات" بين الإسلام والغرب. عندها سيخضع النظام الدولي لضغوط لا تحتمل.
تتأرجح الولايات المتحدة بين اليقظة الديموقراطية والتراجع السلطوي الطويل المدى. إن النزعة الإمبراطورية تعاني الضعف لكن لم يقض عليها. ففي 14 كانون الثاني/يناير قال نائب الرئيس ديك تشيني بكل فخر أمام "مجلس العلاقات الدولية" في لوس انجلس: "سيحصى من بين ما أنجزته هذه الإدارة(...) التغييرات الجوهرية والدراماتيكية في بنية قواتنا المسلحة وفي استراتجيتنا للأمن القومي وطريقة استخدام قواتنا منذ الحرب العالمية الثانية". أما في نظر السيد ريتشارد بيرل فالطريق واضحة المعالم: "(النظامان الإيراني والكوري الشمالي) يمثلان تهديدا لا يطاق للأمن الاميركي. علينا العمل بقوة ضدهما وضد سائر رعاة الإرهاب كسوريا وليبيا والسعودية وليس أمامنا متسع كبير من الوقت".






















خاتمة

من بوش الأب إلى بوش الإبن

ما أشبه اليوم بالبارحة. هاهو جورج دبليو بوش الإبن يكمل مشوار والده الحربي الذي بدأ قبل خمسة عشر عاماً بحرب الخليج الثانية، ليشن حرباً ثالثة في الخليج تحمل إسمه وتسمى " حرب بوش".
كل شيء يثير الحيرة والاضطراب والتساؤلات في علاقات آل بوش بالأوساط المالية والاقتصادية والبترولية والسياسية العالمية، فهناك علاقات متينة تربط بين عائلة بوش وعائلة بن لادن كما بات معروفاً للقاصي والداني. وهناك صفقات مشبوهة لمواد سامة تستخدم في الأسلحة البيولوجية ومادة الأنثراكس والعصيّات السامة باعتها أمريكا للعراق خلال فترة رئاسة جورج بوش الأب وصمت الإدارة الأمريكية المريب عن جريمة صدام حسين حين ضرب مدينة حلبجة بالغازات السامة على مسمع ومرآي العالم برمته وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمريكية التي لم تنطق بكلمة واحدة وهي تشاهده يطلق الأسلحة الكيماوية على المدن الإيرانية ضد المدنيين والعسكريين على السواء.واليوم أصبحت نفس هذه التصرفات والجرائم حافزاً وذريعة يستخدمها جورج بوش الإبن لضرب صدام حسين وقلب نظامه وفي نفس الوقت تركيع العراق مرة وإلى الأبد. وهكذا وجدنا تاريخاً من العلاقات الغامضة والسرية تربط بين الولايات المتحدة الأمريكية وأحد أعمدة " محور الشر" الذي ضم إلى جانب العراق ، إيران وكوريا الشمالية.وسوغت واشنطن لنفسها التحول من حملة محاربة الإرهاب الدولي التي بدأتها بحربها ضد أفغانستان إلى إحكام القبضة على العراق وفي نفس الوقت التخلص من الحليف السابق الذي أصبح مثيراً للإزعاج والنفور والاشمئزاز لضخامة جرائمه التي أصبحت تزكم الأنوف وجنون العظمة الذي يعتليه مما يجعله غير قابل للت



#جواد_بشارة (هاشتاغ)       Bashara_Jawad#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- آفاق الحرب العالمية لمكافحة الإرهاب
- المفارقة العراقية
- دروس في الإخراج السينمائي
- العراق بين الآمال والقلق
- نشاط اللوبي الصدامي ـ الفرنسي في باريس ودمشق
- الإسلام والغرب وفن صناعة العدو
- مقابلة مع د. جواد بشارة
- إيران وسورية في مرمى الإصابة الأمريكية
- الخرائط الأمريكية للعراق والشرق الأوسط
- يوميات عراقية من مدينة بغداد الجريحة
- السينما العراقية بين الممكن والمستحيل
- الخرائط الأمريكية اللعينة للعراق والشرق الأوسط
- من أجل معالجة وانهاض النشاط السينمائي في العراق
- رأيت نهاية العالم القديم
- مراجعات في ما بعد الحداثة السينمائية من المفاهيم النظرية الي ...
- - فقه العنف المسلح في الاسلام
- التشكيلة الهلامية للميليشيات المسلحة في العراق
- محاولات التجديد للأثر الفيلمي ضوئياً
- رؤية تحليلية للسياسة الفرنسية إزاء الاستراتيجية الأمريكية -ا ...
- مراجعات في السينما التاريخية - التحول من نصوص التاريخ الي ال ...


المزيد.....




- مراهق اعتقلته الشرطة بعد مطاردة خطيرة.. كاميرا من الجو توثق ...
- فيكتوريا بيكهام في الخمسين من عمرها.. لحظات الموضة الأكثر تم ...
- مسؤول أمريكي: فيديو رهينة حماس وصل لبايدن قبل يومين من نشره ...
- السعودية.. محتوى -مسيء للذات الإلهية- يثير تفاعلا والداخلية ...
- جريح في غارة إسرائيلية استهدفت شاحنة في بعلبك شرق لبنان
- الجيش الأمريكي: إسقاط صاروخ مضاد للسفن وأربع مسيرات للحوثيين ...
- الوحدة الشعبية ينعي الرفيق المؤسس المناضل “محمد شكري عبد الر ...
- كاميرات المراقبة ترصد انهيار المباني أثناء زلازل تايوان
- الصين تعرض على مصر إنشاء مدينة ضخمة
- الأهلي المصري يرد على الهجوم عليه بسبب فلسطين


المزيد.....

- في يوم العمَّال العالمي! / ادم عربي
- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - جواد بشارة - كتاب العراق وأمريكا وحافة الهاوية