أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - جواد بشارة - مراجعات في السينما التاريخية - التحول من نصوص التاريخ الي الخطاب المرئي















المزيد.....



مراجعات في السينما التاريخية - التحول من نصوص التاريخ الي الخطاب المرئي


جواد بشارة
كاتب ومحلل سياسي وباحث علمي في مجال الكوسمولوجيا وناقد سينمائي وإعلامي

(Bashara Jawad)


الحوار المتمدن-العدد: 1041 - 2004 / 12 / 8 - 12:59
المحور: الادب والفن
    


هناك عدة معادلات سينمائية لاحداث التاريخ وهناك عدة تواريخ للسينما فالسينما وثيقة الصلة بالتاريخ
منذ نشأتها الي يومنا هذا . فولادتها كانت تتغذي من التاريخ ووقائعه واحداثه ثم اصبحت بدورها تاريخاً يروي اي اصبحت السينما تاريخاً منذ المدة التي ظهرت فيها قبل قرن من الزمان.
وقد اصبح تاريخ السينما بطريقة ما تاريخاً للعلاقات مع (التاريخ العام) منذ نهاية القرن التاسع عشر حتي نهايات القرن العشرين وما بعده وفي الصفحات التالية سوف نطرح موضوع العلاقة بين المفهومين (السينما والتاريخ) من خلال تناول المسائل التي تهم وتمس وتشغل هذين المجالين بالاتفاق والتبادل والتعاون بينهما ومن خلال ذلك سنتطرق الي تعريف وتحديد معني فيلم التاريخ ولفيلم التاريخي او الفيلم لذي يتكون موضوعه من مادة تاريخية وذلك بصورة ابعد واعمق من مجرد تعريف اولي اصبح متداولاً يقول ان كل (فيلم تاريخي) يكون مجال وزمن احداثه (الزمان الماضي) بمختلف مراحله واغفال المواضيع التي تدور في (الزمن الحاضر) كأنه زمن جامد لن يكون فيما بعد (ماضياً) اي كأنه لن يصبح (تاريخا) بعد غوره داخل ادغال حركة الزمان التي لاتتوقف.
ان العامل المشترك بين هذين الحقلين) -لسينما والتاريخ- هو المجتمع فهذا الاخير هو الوعاء والحيز الذي يحتويهما وهو حيوي وضروري لكل منهما فلا تاريخ بدون مجتمع ولاسينما بدون مجتمع والمقصود هنا المجتمع بكل وجوده و(تاريخه) وصوره المثبتة علي الاشرطة السمعية البصرية العلاقة بين الاثنين ليست علاقة تكافؤية لان التاريخ موجود منذ فجر الانسانية او موجود قبلاً ومستقل بذاته ويستطيع الاستمرار بدون السينما اما العكس فليس صحيجاً لايمكن للسينما ان توجد وتعيش بدون التاريخ بمفهومه الشمولي والعام اي المفهوم الذي يحتوي بين طياته الازمان الثلاثة اولاً الماضي .(الماضي الحقيقي، والماضي المزيف او الماضي الواقعي والماضي المفترض او المختلق الاحتمالي والمثبت او المدون)والحاضر (الحاضر الموجود فعلياً والذي نعايشه يومياً ولحظوياً والحاضر غير الموجود لانه لايحتل حيزاً زمنياً يذكر اذ هو اما ان يتحول علي الفور الي احد اشكال الماضي التي ذكرناه تواً او ينتظر التحول الي زمن لم يقع او يحدث بعد) والمستقبل (المستقبل حتمي الوقوع او مستحيل الحدوث او المتمني وهنا يصبح بدوره مستقبلاً متخيلاً او يفترض انه سيحصل علي هذا النحو او ذاك وهو الموضوع الاثير للخيال العلمي والفكر الخرافي).
بدهي اننا سنكتشف ان هناك قراءة سينمائية متميزة احادية الرؤية خاصة وذاتية وقصيرة للتاريخ لانها قراءة مقتصرة علي المرحلة الزمنية التي ولدت فيها السينما وعاشت كوسيلة للتعبير ميزت هذ القرن الذي اتسم بحضارة الصورة وبالمقابل هناك قراءة تاريخية للسينما تربط وجودها بأحداث التاريخ التي سجلتها هذه الاداة التعبيرية وفي هذه الحالة ستكون السينما منظور اليها كمادة للدراسة بكل انواعهاة سواء أكانت تتعلق بالسينما الروائية - القصصية والوهمية-ام السينما الوثائقية ام التسجيلية ومنها السينما العلمية والانثروبولوجية الخ.. وعلاقتها بمسيرة الاحداث والوقائع وكيفية تناولها لها داخل اطار احد هذه الانواع مارة الذكر.
بعبارة اخري اصبح بدهيا ان التاريخ كان ومنذ اللحظات الاولي اي منذ اول صورة سينمائية تم تنفيذها مصدراً لاغني عنه للمادة السينمائية ثم اصبحت السينما بدورها في نهاية هذ القرن اهم مصدر للمواضيع والاحداث التاريخية في جميع مناطق العالم بل ولجزء كبير من الوجود الارضي او الفضائي.
والذي اقام هذه المعادلة وما زال يديرها هو (السلطة السياسية) او (سلطة رأس المال) تبعاً للمكان الذي تتحقق فيه في الشرق او في الغرب وتوابعهما قبل التحولات الدولية الجديدة في واخر التسعينات.
ما هو الفيلم التاريخي
لنعد الي السؤال الاول ما هو الفيلم التاريخي؟ هل هو فيلم الوثيقة التي تشهد علي المرحلة المعاصرة او علي مرحلة غابرة من الزمن؟ هل هو كل فيلم يمحور تيمته او موضوعه ونسيج احداثه في الماضي؟ هل هو الفيلم الذي يحكي او يروي قصص الماضي او ينقل هذا الماضي عبر الصورة كما هو او كما حدث بكل تفصيلاته؟ ام هو وهم ورواية متخيله لذلك الماضي تستند الي معطيات ذاتية ونظريات بحتة تعاد صياغتها وتكوينها بصورة يفترض انها تطابق الاصل الذي حدث في وقت ما ولانعرف عنه شياً من الناحية الصورية اي لاتوجد لنا مستندات مرئية عنه لانه وقع قبل اختراع التسجيل الصوري الفوتغرافي او السينمائي.
اذ ما حاولنا الاجابة علي هذه التساؤلات فمن المفترض ان نتعرف اولاً وبتعمق ما هو التاريخ وكيف دون وما هي السينما وكيف سجلت وخلدت احداث التاريخ خلال قرن هو عمرها الحالي؟ وهذا شيء شبه المستحيل.
من المتعارف عليه ان كل (فيلم تاريخي) هو لقاء بين خطابين ووسيلتين للحديث عن شيء كتابية وبصرية الخطاب السينمائي ينبغي ان يكون مشهدي الطابع منظرياً قابلاً للعرض يستحق المشاهدة ويجذب او يشد الانتباه كما يتطلب التقليد الذي نشأ فيه الخطاب التاريخي هو النص الكتابي او الوثيقة المكتوبة في زمن وقوع الحدث او بعده بمدة زمنية طويلة او قصيرة وهو الذي اصطلح علي تسميتة بـ(النص) التاريخي) او الخطاب التاريخي الذي يطرح نفسه كونه (علمي النزعة) وليس استعراضي لنزعة كما هو عليه الخطاب السينمائي.
ان كل واحد من الخطابات همو عذر وحجة للآخر في الفيلم التاريخي فالملابس والبدلات والازياء والديكورات والعربات او المركبات والخيالة او الفرسان ووسائل النقل كلها عناصر مهمتها تمرير وايصال الرسالة التاريخية للحدث بطريقة اكثر امتاعا واقناعاً او بطريقة (استعراضية مشهدية مرئية) كما لو انها تحدث من جديد امام ناظرينا بعد ان كانت تقدم بصورة تبعث علي الملل علي الطريقة التقريرية المدرسية الجافة الكئيبة المكتوبة اكاديمياً فالشخصيات التي افلتت من المنهج المدرسي وكتاب التاريخ ستلبس او تكتسي عبر السينما وبفضل الصورة السينمائية حقيقة تاريخية اكثر اقناعاً وان كانت مغايرة للواقع الحقيقي للحدث التاريخي او للشخصية التاريخية.
مما لاشك فيه ان جميع (الافلام التاريخية) التي حققها ساشا غيتري علي سبيل المثال نجد فيها النموذج الاكثر بديهة لهذه المحاولات اذ نري السينما والتاريخ يمتزجان ويذوبان بسذاجة داخل خطاب واحد هو الذي سيسمي لاحقاً بـ(الايديولوجية البرجوازية ورؤيتها للتاريخ).
من المعروف كذلك ان لكل من السينما والتاريخ مهمة ودعوة ميلاً او نزعة مشتركة لتغذية خيالنا فمن ضمن الآلات التي نستخدمها للرحلة والتجوال داخل الزمن والصعود فيها الي الامام او الخلف في عجلة الزمن وحركة الازمان وهناك الماكنة السينمائية التي تتبوأ مكاناً مرموقاً في مخيلتنا وتمنياتنا.
فمن (ينم التعصب) الذي اخرجه دافيد وارك جريفيث حتي فيلم (باري لندن) الذي اخرجه ستانلي كوبريك مروراً بفيلم (الكسندر نيفسكي) الذي اخرجه ايزنشتين ، او (نابليون) الذي اخرجه ابل غانس او 1900 الذي اخرجه بيروتولوتشي- اذاماقتصرنا علي هذه الامثلة فحسب - لم ندع هذه الصورة الغنائية الحلمية للزمن الماضي تفلت من مخيلتنا حتي وان كانت تحدثنا عن أشياء أخري وتخصها بالاهمية الاولي والاساسية اكثر من الحديث عن الماضي ، لكن هذا التناقض اصبح مألوفاً لدينا. فهذه الافلام (التاريخية) تعلمنا وتخبرنا عن المدة التي صورت فيها بنفس القدر والكمية والمستوي الذي تخبرنا فيه عن الزمن او المدة التي تدور فيها احداث مواضيعها.
بهذا المعني يمكن القول ان كل فيلم هو (فيلم تاريخي)، ويكفي ان نتمعن قليلاً لنري. اذ نحن نعرف في الوقت نفسه ان كلاً من السينما والتاريخ قد تغير عن اصله الاول ووظيفته آليته فلم يعد التاريخ مجرد تدوين وقائع مضاعفة لحياة رجال عظام او مشهورين او ابطال معروفين. فعرض او سرد حكاية المعركة قد اخلي المكان لعرض وسرد تفاصيل حياة كل يوم عادي . وفي المقابل لم تعد السينما مجرد(مصنع للأحلام) كما كانت عليه في الماضي وفي البدايات ، اي في خدمة المومسات والعاهرات وندماء الامراء والملاقين واصحاب السيوف والمقاتلين الاسطوريين - هناك سينما معينة معاصرة تفضل الحديث عن منسيي التاريخ وعن تلك الهفوات والزلات الكاشفة او الموحية للجانب الاخر
للوقائع ، عن المعارك المنسية المجهضة والمسحوقة والمآسي والبؤس والشقاء والعجز البشري الذي ينكر وجوده اليوم ولايعترف به - اي بدات هذه السينما تهتم بالجوانب التي صمت التاريخ الاكاديمي عنها اوقدمها بصورة مغالية ومنافية للواقع ومناقضة للحقيقة والمنطق وعرض المبالغات علي انها حقائق دامغة لاتقبل الدحض او المناقشة - لننظر الي وثائق الحربين الاولي والثانية وكيف قدمها التاريخ الرسمي وبضمنه التاريخ السينمائي الرسمي - ان هذه الجوانب المخفية او المعنية عن الوعي الانساني تهمنا بما تنطوي عليه من احداث واسرار ومعان وما تخفيه من حقائق. واسطع مثال علي مانقوله هو ذلك الفيلم المجهول من قبل اغلب الناس وحتي السينمائيين والنقاد منهم الذي اخرجه مخرجان مجهولان عام 1966 هما كفاين براونلو واندريو مولو في لندن وعنوانه (في انجلترا المحتلة) الذي اثار زوبعة وقلب مسلمات الوعي الوطني البريطاني وذلك تحت انظار هيئة الوقائع الاخبارية - الاكتواليتية - اذ اعيد تجميع الوثائق المصورة وربطها بصورة تحكي لنا عما كان يمكن ان يحدث في بريطانية العظمي لو كان هتلر نجح في احتلال الوطن وعبور المانش، وما كان سيرتكبه من اعمال حصلت او وقعت بالفعل في اماكن اخري في اوروبا المحتلة مثل تواطؤ وخشوع او سكوت واستسلام الاغلبية وخيانة اليمين المتطرف وتعاونه مع المحتل، صيد اليهود ومطاردتهم، الي جانب أنشطة المقاومة المسلحة.
احتاج هذا الفيلم عشرة اعوام يتمكن من الخروج للعرض ويصبح واقعاً بعد ان واجه كل انواع الصعوبات والعوائق منذ ولادة الفكرة وتبلور مفهومها ورسالتها حتي تنفيذها وتوزيعها، وصرفا من الوقت اضعاف ما استغرقه فيلمهما الثاني (التاريخي) هو الاخر والذي كان عنوانه (واينستانلي) ويتحدث عن اول شكل من اشكال الكومونات والمجتمع (الشيوعي) او المشاعي التي ولدت في عام 1649 من حركة الفلاحين بقيادة جيرار واينستانلي، وهي السنة الحاسمة في الحرب الاهلية واعدام الملك شارل الاول في 30 كلنون الثاني من ذلك العام.وخلال عشر سنوات، بين 1642 و 1652 حدثت مناقشات رائعة ونشأت افكار وتم جمع اكثر من 20000 مقالة نقد ورسالة هجاء صاغها مثقفون مرموقون من امثال جون ميلتون. اما الناس البسطاء فقد انضموا تحت لواء الناطق الرسمي باسمهم وهو واينستانلي.
لم يكتب لهذا الفيلم عرض تجاري ولم يتحدث عنه احد ولا يعرفه الا قلة من السينمائيين المتخصصين ناهيك عن عامة الناس او المثقفين. فاخراج فيلم تاريخي اليوم يعني ان تتامل ملياً في التاريخ، ونظراً لصعوبة او شبه استحالة تحقيق مثل هذا الفيلم بصورة موضوعية ينبغي النظر والتأمل الجاد والصادق في التاريخ السينما نفسه لنري ماذا قدمت لنا السينما خلال عمرها القصير من افلام تاريخية. فهناك حتي يومنا هذا اختلاف عميق او جذري بشأن التاريخ المضبوط لولادة هذا الفن وعن مخترعه الحقيقي وهل هوشخص واحد أو عدة اشحاص.
الوثائق المصورة
من المفارفات المهمة التي تجب الاشارة اليها هي ان في متناول الجميع الاطلاع علي اية وثيقة تاريخية مكتوبة - عدا اسرار الدول التي لم يمض عليها الوقت الكافي لتنشر علنياً للناس - بينما نجد علي العكس من ذلك انه ليس بوسع احد ان يطال الوثائق السينمائية المصورة وافلام المعلومات والريبورتاجات بسهولة الا اذا كان غنياً وبامكانه ان يدفع ثمناً سخياً ولن يتم ذلك بالسهولة المتصورة وذلك لانها خاضعة كلها لهيمنة واحتكار التلفزيونات والشركات الانتاجية المتخصصة.
هل يستطيع المؤرخ الاعتماد علي (الوثيقة المصورة سينمائياً) عن حدث حصل في زمن ما - سواء اكان بعيداً أم قريباص نسبيا تاريخياً - كمصدر توثيقي ودليل حاسم في واقعية وحقيقة الحدث المروي او المدون تاريخاً؟ خصوصاً اذا علمنا ان تلك الوثيقة السينمائية كانت صورت بمنهجية معينة واسلوب خاص واختيار محدد ومتعمد او مقصود؟ ولنا في وثائق الحرب العالمية الثانية وابادة اليهود ومعسكرات الاعتقال وجرائم النازية وبطولات المقاومة اكبر منجم للتحليل والدراسة الموضوعية لصدق التايخ او زيفة، لتثبيته او مراجعته جذرياً من اجل التوصل الي الحقائق الموضوعية.
هذا سؤال ملح مطروح للبحث في الوقت الحاضر ولم تقدم له بعد اجابة ناجعة او مقبولة. ناهيك عن نوع معين من الافلام - هي الروائية بالتحديد - التي تتحدث عن فترات زمنية سبقت بكثير زمن ميلاد السينما واعيد بناء اجوائها واحداثها وفق اجتهاد محققيها واستناداً الي وثائق مكتوبة ليست دقيقة او مضبوطة او صادقة بالضرورة وتتم احياناً تحت ضغط وتدخل السلطات السياسية او الدينية من منظور واحد او وجهة نظر احادية، ذاتية وغير موضوعية.لان تدخل الرقابة يطمس الكثير من الحقائق. والتي كان بالامكان ان تمر من عين الكاميرا قبل ان يفقأها مقص الرقيب وتشوهها العقليات المتخثرة لانها تخشي حقائق التاريخ التي لاترحم.
لنا في السينما الدعائية الهتلرية خير مثال علي ذلك فكيف يمكن التحدث عن التاريخ النازي الحقيقي اعتماداً علي افلام دعائية محرفة ومشوهة للحقائق والاحداث وكيف يمكننا الاستناد الي نظيرها من الافلام الدعائية المضادة المسيسة التي تشيد بعبادة الشخصية وايجابية البطل الاشتراكي او البطل القومي وتتحدث عن السعادة التي يتمتع بها الملايين بلا استثناء او تمييز في الوقت الذي يموت فيه الآلاف من السجناء والمعارضين والفقراء. أن قائداً ملهماً من طراز لينين منذ بواكير الثورة الاشتراكية لاهمية وقدرة هذا الفن عندما وصف السينما بأنها (الفن الاهم من بين جميع الفنون بالنسبة الينا).
ثم صرح ليون تروتسكي قائلاً (طالما اننا ما دمنا لم نهيمن او نضع يدنا كلياً علي السينما لحد الان - في سنة 1923 - فان ذلك يثبت لنا أثنا جهلة واميون ورعناء ان لم تقل حمقي واغبياء. فالسينما اداة تفرض نفسها كونها افضل اداة للدعاية والتوجيه وتكييف الرأي العام وتجييش العواطف). وعند ذلك طالب السياسيون بالسينما المباشرة وسينما الحقيقة والسينما الواقعية والسينما الملتزمة، وغيرها من المصطلحات التي تحولت الي مفاهيم ومناهج ومدارس وتيارات لها أتباع ومريديون ومدافعون في الغرب والشرق علي السواء.
منذ بداية هذا القرن منذ ولادة الفن السينمائي تم تصوير كم هائل من الافلام والوثائق المصورة الخام التي اصبحت تشكل اليوم ارشيفاً مذهلاً يستغله المؤرخون لتدوين وقائع التاريخ البشري خلال القرن الاخير. ومنذ ذلك الحين وحتي اليوم اصبحت علاقة الناس بماضيهم مرتبطة عضوياً بهذا الارشيف الصوري او المرئي اي اصبحت تلك الاشرطة المصورة هي الذاكرة الفليمية للشعوب بشكل ما. وكما ذكرنا قبل قليل فان الطبقات الحاكمة لم تكن في بادئ الامر تعطي الصورة أهمية كبري ولم تكن تخصها بمكانة تفوق مكانة الكلمة المكتوبة. وكان السوفييت والالمان اول من انتبه لاهمية السينما بكل ابعادها وحللوا وظيفتها وفعاليتها ومنحوها مكانة متميزة في عالم المعرفة والاعلام والمعلومات والدعاية والثقافة التي يريدون بثها وزرعها في العقول. كان لوناشارسكي قد فهم جيداً الدور الذي يمكن ان تلعبه السينما وحقق بنفسه فييلماً عام 1918 اظهر فيه ضرورة التقارب بين البرجوازية لمتنورة والطبقة العاملة. وكان لينين يعبر عن رغبته في تحقيق افلام تعليمية وقد اخضع السوفيت السينما كلياً لسيطرتهم التامة واشرافهم الكامل في عام 1927 . ولم تقتصر السينما علي دور الدعاية في الفكر النازي بل تعدتها الي لعب دور الاعلام والتوجيه وكان هتلر وغوبلز يمضيان ساعات طويلة يشاهدان فيها الافلام السينمائية وكان غوبلز يشارك بالفعل في مراحل عمل الفيلم جميعها من نوعية (اليهودي سوس) ولم يكتف بدور كاتب السيناريو.
صورالتاريخ
في سلسلة افلام حققت تحت عنوان (صور للتاريخ) لحساب باتيه - هاشيت تم انجاز فيلم عن الجزائر بعنوان (ثورة مستعمر) عام 1954 ومدته 15 دقيقة. عند تفحص هذا الفيلم يبدو لنا واضحاً ان من المستحيل الادعاء بموضوعية العمل أو تناوله العلمي للمشكلة. فقد اختار جانباً واحداً من المشكلة وهو (تمرد المستعمر ورد فعل المستعمر). كان ممكناً تعريف النظام الاستعماري وتوضيح اسباب الصدام والمواجهة بصيغتها الحتمية التي لايمكن عكسها اي باختصار عرض سلوك وخطاب ورؤية الثائر الجزائري بصورتها الشمولية والعمومية ولكن من الصعب التعبير عن مشروعية او عدم مشروعية هذا الحدث الذي يحتاج لعمل من نوع آخر وكان هذا العمل ضرورياً بصيغته الاولية قبل ان تبادر الدولة الفرنسية الي محو وطمس بعض الومضات والثغرات في هذا الماضي وقبل ان تبادر المؤسسات، المختصة والمكلفة بتدوين التاريخ الرسمي ، الي وضع هذا الخطاب في أجهزة الكومبيوتر بالغة السرية او تدمر وجوده الفيزيائي كلياً لتمحوه من الوجود.
ولتحقيق فيلم عن المانيا الهتلرية في هذه السلسلة نفسها (صور للتاريخ) كان ينبغي اولاً طرح السؤال التالي :(كيف اصبحت المانيا نازية) وكان هذا هو عنوان الفيلم الذي اخرجه رديريير ومدته 16 دقيقة . وكان هذا التساؤل هو الذي حدد افق او منظور المعالجة ، التي كانت في هذا المثال، سوسيولوجية وتاريخية في الوقت نفسه، وكما كان الحال في مثال الجزائر انتفت الموضوعية اساساً من العمل لانه كان من الصعب جر المواطنين الالمان للحديث عن هذه المدة من الماضي بصراحة، وكان من الضروري الاحتفاظ بأثر وبوثيقة لتلك الشهادات التي نفذت قبل تقلب الاوضاع الدولية ، وقيل ان تندثر نهائياً.
ماهو موقف المؤرخ الذي يواجه هذه الوثائق والاجهزة السلطوية - الاحزاب السياسية - التي تستخدمها أو التي تحتفظ بها وتمنع الوصول اليها؟
لم يتمكن المؤرخون من حل هذه المعضلة فمهمتهم الاولي هي اعادة التاريخ للمجتمع وهو التاريخ الذي تحتكره الاجهزة المؤسساتية وتوافق في زمن معين علي الافراج عنه دون ان تتدخل فيه وعلي المؤرخ ان يستجوب المجتمع ويستمع اليه بدلاً من الاكتفاء باستخدام مواد الارشيف المخزونة عنه، وعليه ان يخلق ارشيفاً موازياً ومادة موازية للمادة الرسمية ويقابل بينهما، وان يقوم بمقابلة وتصوير واستجواب من كانوا محرومين من الكلام او الذين لم يتمكنوا من الادلاء بشهاداتهم وعليه ان يساعد المجتمع في ان يعي حقيقة ذاته وتاريخه وازالة الالغاز والغموض الذي يكتنف ذلك التاريخ. ومن ثم القيام بمقاربة ومقارنة وغربلة بين مختلف الخطابات التاريخية عن الحدث الواحد لاكتشاف حقيقة غير مرئية او ملحوظة وقد قام مؤرخو الحوليات وميشيل فوكو بمثل هذه المبادرات ومازال الطريق طويلاً أمامهم ويجب ان يحصل الشيء نفسه في مايتعلق بالسينما للحصول علي القراءة المتبادلة والمنشودة بينهما للواقع والحقيقة. والمثال الذ نختتم به هذه المداخلة السريعة عن السينما والتاريخ الذي يمكن ان يكشف البعد الحقيقي الذي يمكن ان تكسبه السينما في علاقتها بالتاريخ وكشفه هو فيلم (جون فيتزجيرالد كندي) من اخراج اوليفر ستون. وهو فيلم يعيد الي الاذهان حادثة اغتيال الرئيس الامريكي الاسبق جون كندي والملابسات التي احاطت بها والاسرار التي غلفتها والغموض الذي علق بها. يقول التاريخ الرسمي لهذا الحدث التاريخي المهم ان الرئيس الامريكي جون كندي قد اغتيل في 22 نوفمبر عام 1963 وبعد اقل من ساعتين تم اعتقال مشتبه به هو لي هارفي اوسفالد وبعد ايام قلائل، وعندما كان هذا المتهم ينكر تهمة تورطه في اغتيال الرئيس وينفي عن نفسه أية مسؤولية في هذه الجريمة اغتيل بدوره علي يد جاك روبي وهو صاحب احدي العلب الليلية الذي اخذته الحماسة الوطنية فقام بقتل هذا الخائن للوطن في نظره. بهذا تسدل الرواية الرسمية الستار علي هذه الواقعة الغامضة وبعد مرور سنوات يكرس مدعي عام ولاية اورليون وقته وطاقته لكشف ملابسات واسرار هذا الحدث من خلال مراجعة واعادة قراءة اقوال الشهود ووثائق الحدث خصوصاً تلك المصورة منها - افلام تلفزيونية وافلام هواة قياس 8 ملم ووثائق مصورة او صور فو توغرافية لعمليات التشريح الطبية التي اجريت علي جثة الرئيس المقتول - ويجري عليها دراسة علمية دقيقة ليكتشف ابعاد وتفاصيل المؤامرة والانقلاب العسكري الذي قام به الجيش الامريكي ووكالة المخابرات الامريكية - سي آي أي- ومكتب التحقيقات الفيدرالي -أف بي آي - وظلوعهم فيها بالتواطؤ مع نائب الرئيس الامريكي المنتخب خلفاً لكندي آنذاك وهو ليندون جونسون الذي انصاع لضغوط وابتزاز اللوبي الصناعي والعسكري الذي كان يريد خوض حرب فيتنام بأي ثمن وغزو كوبا وتصعيد المواجهة مع الاتحاد السوفيتي. وهذا ما نجح الفيلم المعنون ج ف ك - جون فيتزجيرالد كندي - في كشفه بدقة متناهية واسلوب شيق ودقيق وقدرة تقنية عالية في تنفيذ المونتاج والتقطيع الفني والتمثيل الذي برع فيه كيفن كوستنير وجاك ليمون وتومي لي جونس ولوري ماتكلاف الخ.. لقد اعاد هذا الفيلم - لذي احدث ضجة كبري في الولايات المتحدة الامريكية في عام 1991 عند عرضـــــه الاول-قراءة هذا الملف التاريخي المغمور تحت اختام السرية القصوي ومصلحة الدول العظمي اذ كان الهدف- كما كشف الفيلم عبر التحقيقات- هو اتهام كوبا باغتيال الرئيس ومعاقبتها بغزوها وجر الاتحاد السوفيتي لمواجهة نووية او التستر علي المؤامرة بحجة المحافظة علي السلام الدولي وعدم خوض مواجهة عسكرية مع الدولة العظمي الاخري بقيادة خروتشوف آنذاك.
انه فيلم روائي ذو حبكة وممثلون واخراج وديكورات لكنه لم يتوان عن استخدام المادة الوثائقية بكثرة وبمهارة عالية واتقان مذهل في خدمة المشاهد وتقديم او كشف الحقيقة التاريخية الخافية وهذا هو مبعث الفضيحة التي اثارها الفيلم الذي لولا المناخ الديمفراطي واحترام حرية الانسان والفن والصحافة التي تدعمه لما كان بامكان هذا الفيلم ان يري النور ويواجه الجمهور الامريكي والعالمي، وبامكاننا ايضاً الاستشهاد بالافلام الكثيرة التي وضعت عن حرب فيتنام القذرة وكلها اكاذيب وتشويهات للحقائق عدا استثناءات قليلة منها فيام فرنسيس فورد كوبولا ( القيامة الان) وفيلم اخر عن فيتنام من اخراج اوليفر ستون نفسه مخرج فيلم كندي..
ان كل واحد من الخطابات همو عذر وحجة للآخر في الفيلم التاريخي فالملابس والبدلات والازياء والديكورات والعربات او المركبات والخيالة او الفرسان ووسائل النقل كلها عناصر مهمتها تمرير وايصال الرسالة التاريخية للحدث بطريقة اكثر امتاعا واقناعاً او بطريقة (استعراضية مشهدية مرئية) كما لو انها تحدث من جديد امام ناظرينا بعد ان كانت تقدم بصورة تبعث علي الملل علي الطريقة التقريرية المدرسية الجافة الكئيبة المكتوبة اكاديمياً فالشخصيات التي افلتت من المنهج المدرسي وكتاب التاريخ ستلبس او تكتسي عبر السينما وبفضل الصورة السينمائية حقيقة تاريخية اكثر اقناعاً وان كانت مغايرة للواقع الحقيقي للحدث التاريخي او للشخصية التاريخية.
مما لاشك فيه ان جميع (الافلام التاريخية) التي حققها ساشا غيتري علي سبيل المثال نجد فيها النموذج الاكثر بديهة لهذه المحاولات اذ نري السينما والتاريخ يمتزجان ويذوبان بسذاجة داخل خطاب واحد هو الذي سيسمي لاحقاً بـ(الايديولوجية البرجوازية ورؤيتها للتاريخ).
من المعروف كذلك ان لكل من السينما والتاريخ مهمة ودعوة ميلاً او نزعة مشتركة لتغذية خيالنا فمن ضمن الآلات التي نستخدمها للرحلة والتجوال داخل الزمن والصعود فيها الي الامام او الخلف في عجلة الزمن وحركة الازمان وهناك الماكنة السينمائية التي تتبوأ مكاناً مرموقاً في مخيلتنا وتمنياتنا.
فمن (ينم التعصب) الذي اخرجه دافيد وارك جريفيث حتي فيلم (باري لندن) الذي اخرجه ستانلي كوبريك مروراً بفيلم (الكسندر نيفسكي) الذي اخرجه ايزنشتين ، او (نابليون) الذي اخرجه ابل غانس او 1900 الذي اخرجه بيروتولوتشي- اذاماقتصرنا علي هذه الامثلة فحسب - لم ندع هذه الصورة الغنائية الحلمية للزمن الماضي تفلت من مخيلتنا حتي وان كانت تحدثنا عن أشياء أخري وتخصها بالاهمية الاولي والاساسية اكثر من الحديث عن الماضي ، لكن هذا التناقض اصبح مألوفاً لدينا. فهذه الافلام (التاريخية) تعلمنا وتخبرنا عن المدة التي صورت فيها بنفس القدر والكمية والمستوي الذي تخبرنا فيه عن الزمن او المدة التي تدور فيها احداث مواضيعها.
بهذا المعني يمكن القول ان كل فيلم هو (فيلم تاريخي)، ويكفي ان نتمعن قليلاً لنري. اذ نحن نعرف في الوقت نفسه ان كلاً من السينما والتاريخ قد تغير عن اصله الاول ووظيفته آليته فلم يعد التاريخ مجرد تدوين وقائع مضاعفة لحياة رجال عظام او مشهورين او ابطال معروفين. فعرض او سرد حكاية المعركة قد اخلي المكان لعرض وسرد تفاصيل حياة كل يوم عادي . وفي المقابل لم تعد السينما مجرد(مصنع للأحلام) كما كانت عليه في الماضي وفي البدايات ، اي في خدمة المومسات والعاهرات وندماء الامراء والملاقين واصحاب السيوف والمقاتلين الاسطوريين - هناك سينما معينة معاصرة تفضل الحديث عن منسيي التاريخ وعن تلك الهفوات والزلات الكاشفة او الموحية للجانب الاخر
للوقائع ، عن المعارك المنسية المجهضة والمسحوقة والمآسي والبؤس والشقاء والعجز البشري الذي ينكر وجوده اليوم ولايعترف به - اي بدات هذه السينما تهتم بالجوانب التي صمت التاريخ الاكاديمي عنها اوقدمها بصورة مغالية ومنافية للواقع ومناقضة للحقيقة والمنطق وعرض المبالغات علي انها حقائق دامغة لاتقبل الدحض او المناقشة - لننظر الي وثائق الحربين الاولي والثانية وكيف قدمها التاريخ الرسمي وبضمنه التاريخ السينمائي الرسمي - ان هذه الجوانب المخفية او المعنية عن الوعي الانساني تهمنا بما تنطوي عليه من احداث واسرار ومعان وما تخفيه من حقائق. واسطع مثال علي مانقوله هو ذلك الفيلم المجهول من قبل اغلب الناس وحتي السينمائيين والنقاد منهم الذي اخرجه مخرجان مجهولان عام 1966 هما كفاين براونلو واندريو مولو في لندن وعنوانه (في انجلترا المحتلة) الذي اثار زوبعة وقلب مسلمات الوعي الوطني البريطاني وذلك تحت انظار هيئة الوقائع الاخبارية - الاكتواليتية - اذ اعيد تجميع الوثائق المصورة وربطها بصورة تحكي لنا عما كان يمكن ان يحدث في بريطانية العظمي لو كان هتلر نجح في احتلال الوطن وعبور المانش، وما كان سيرتكبه من اعمال حصلت او وقعت بالفعل في اماكن اخري في اوروبا المحتلة مثل تواطؤ وخشوع او سكوت واستسلام الاغلبية وخيانة اليمين المتطرف وتعاونه مع المحتل، صيد اليهود ومطاردتهم، الي جانب أنشطة المقاومة المسلحة.
احتاج هذا الفيلم عشرة اعوام يتمكن من الخروج للعرض ويصبح واقعاً بعد ان واجه كل انواع الصعوبات والعوائق منذ ولادة الفكرة وتبلور مفهومها ورسالتها حتي تنفيذها وتوزيعها، وصرفا من الوقت اضعاف ما استغرقه فيلمهما الثاني (التاريخي) هو الاخر والذي كان عنوانه (واينستانلي) ويتحدث عن اول شكل من اشكال الكومونات والمجتمع (الشيوعي) او المشاعي التي ولدت في عام 1649 من حركة الفلاحين بقيادة جيرار واينستانلي، وهي السنة الحاسمة في الحرب الاهلية واعدام الملك شارل الاول في 30 كلنون الثاني من ذلك العام.وخلال عشر سنوات، بين 1642 و 1652 حدثت مناقشات رائعة ونشأت افكار وتم جمع اكثر من 20000 مقالة نقد ورسالة هجاء صاغها مثقفون مرموقون من امثال جون ميلتون. اما الناس البسطاء فقد انضموا تحت لواء الناطق الرسمي باسمهم وهو واينستانلي.
لم يكتب لهذا الفيلم عرض تجاري ولم يتحدث عنه احد ولا يعرفه الا قلة من السينمائيين المتخصصين ناهيك عن عامة الناس او المثقفين. فاخراج فيلم تاريخي اليوم يعني ان تتامل ملياً في التاريخ، ونظراً لصعوبة او شبه استحالة تحقيق مثل هذا الفيلم بصورة موضوعية ينبغي النظر والتأمل الجاد والصادق في التاريخ السينما نفسه لنري ماذا قدمت لنا السينما خلال عمرها القصير من افلام تاريخية. فهناك حتي يومنا هذا اختلاف عميق او جذري بشأن التاريخ المضبوط لولادة هذا الفن وعن مخترعه الحقيقي وهل هوشخص واحد أو عدة اشحاص.
الوثائق المصورة
من المفارفات المهمة التي تجب الاشارة اليها هي ان في متناول الجميع الاطلاع علي اية وثيقة تاريخية مكتوبة - عدا اسرار الدول التي لم يمض عليها الوقت الكافي لتنشر علنياً للناس - بينما نجد علي العكس من ذلك انه ليس بوسع احد ان يطال الوثائق السينمائية المصورة وافلام المعلومات والريبورتاجات بسهولة الا اذا كان غنياً وبامكانه ان يدفع ثمناً سخياً ولن يتم ذلك بالسهولة المتصورة وذلك لانها خاضعة كلها لهيمنة واحتكار التلفزيونات والشركات الانتاجية المتخصصة.
هل يستطيع المؤرخ الاعتماد علي (الوثيقة المصورة سينمائياً) عن حدث حصل في زمن ما - سواء اكان بعيداً أم قريباص نسبيا تاريخياً - كمصدر توثيقي ودليل حاسم في واقعية وحقيقة الحدث المروي او المدون تاريخاً؟ خصوصاً اذا علمنا ان تلك الوثيقة السينمائية كانت صورت بمنهجية معينة واسلوب خاص واختيار محدد ومتعمد او مقصود؟ ولنا في وثائق الحرب العالمية الثانية وابادة اليهود ومعسكرات الاعتقال وجرائم النازية وبطولات المقاومة اكبر منجم للتحليل والدراسة الموضوعية لصدق التايخ او زيفة، لتثبيته او مراجعته جذرياً من اجل التوصل الي الحقائق الموضوعية.
هذا سؤال ملح مطروح للبحث في الوقت الحاضر ولم تقدم له بعد اجابة ناجعة او مقبولة. ناهيك عن نوع معين من الافلام - هي الروائية بالتحديد - التي تتحدث عن فترات زمنية سبقت بكثير زمن ميلاد السينما واعيد بناء اجوائها واحداثها وفق اجتهاد محققيها واستناداً الي وثائق مكتوبة ليست دقيقة او مضبوطة او صادقة بالضرورة وتتم احياناً تحت ضغط وتدخل السلطات السياسية او الدينية من منظور واحد او وجهة نظر احادية، ذاتية وغير موضوعية.لان تدخل الرقابة يطمس الكثير من الحقائق. والتي كان بالامكان ان تمر من عين الكاميرا قبل ان يفقأها مقص الرقيب وتشوهها العقليات المتخثرة لانها تخشي حقائق التاريخ التي لاترحم.
لنا في السينما الدعائية الهتلرية خير مثال علي ذلك فكيف يمكن التحدث عن التاريخ النازي الحقيقي اعتماداً علي افلام دعائية محرفة ومشوهة للحقائق والاحداث وكيف يمكننا الاستناد الي نظيرها من الافلام الدعائية المضادة المسيسة التي تشيد بعبادة الشخصية وايجابية البطل الاشتراكي او البطل القومي وتتحدث عن السعادة التي يتمتع بها الملايين بلا استثناء او تمييز في الوقت الذي يموت فيه الآلاف من السجناء والمعارضين والفقراء. أن قائداً ملهماً من طراز لينين منذ بواكير الثورة الاشتراكية لاهمية وقدرة هذا الفن عندما وصف السينما بأنها (الفن الاهم من بين جميع الفنون بالنسبة الينا).
ثم صرح ليون تروتسكي قائلاً (طالما اننا ما دمنا لم نهيمن او نضع يدنا كلياً علي السينما لحد الان - في سنة 1923 - فان ذلك يثبت لنا أثنا جهلة واميون ورعناء ان لم تقل حمقي واغبياء. فالسينما اداة تفرض نفسها كونها افضل اداة للدعاية والتوجيه وتكييف الرأي العام وتجييش العواطف). وعند ذلك طالب السياسيون بالسينما المباشرة وسينما الحقيقة والسينما الواقعية والسينما الملتزمة، وغيرها من المصطلحات التي تحولت الي مفاهيم ومناهج ومدارس وتيارات لها أتباع ومريديون ومدافعون في الغرب والشرق علي السواء.
منذ بداية هذا القرن منذ ولادة الفن السينمائي تم تصوير كم هائل من الافلام والوثائق المصورة الخام التي اصبحت تشكل اليوم ارشيفاً مذهلاً يستغله المؤرخون لتدوين وقائع التاريخ البشري خلال القرن الاخير. ومنذ ذلك الحين وحتي اليوم اصبحت علاقة الناس بماضيهم مرتبطة عضوياً بهذا الارشيف الصوري او المرئي اي اصبحت تلك الاشرطة المصورة هي الذاكرة الفليمية للشعوب بشكل ما. وكما ذكرنا قبل قليل فان الطبقات الحاكمة لم تكن في بادئ الامر تعطي الصورة أهمية كبري ولم تكن تخصها بمكانة تفوق مكانة الكلمة المكتوبة. وكان السوفييت والالمان اول من انتبه لاهمية السينما بكل ابعادها وحللوا وظيفتها وفعاليتها ومنحوها مكانة متميزة في عالم المعرفة والاعلام والمعلومات والدعاية والثقافة التي يريدون بثها وزرعها في العقول. كان لوناشارسكي قد فهم جيداً الدور الذي يمكن ان تلعبه السينما وحقق بنفسه فييلماً عام 1918 اظهر فيه ضرورة التقارب بين البرجوازية لمتنورة والطبقة العاملة. وكان لينين يعبر عن رغبته في تحقيق افلام تعليمية وقد اخضع السوفيت السينما كلياً لسيطرتهم التامة واشرافهم الكامل في عام 1927 . ولم تقتصر السينما علي دور الدعاية في الفكر النازي بل تعدتها الي لعب دور الاعلام والتوجيه وكان هتلر وغوبلز يمضيان ساعات طويلة يشاهدان فيها الافلام السينمائية وكان غوبلز يشارك بالفعل في مراحل عمل الفيلم جميعها من نوعية (اليهودي سوس) ولم يكتف بدور كاتب السيناريو.
د. جواد بشارة



#جواد_بشارة (هاشتاغ)       Bashara_Jawad#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حوار مع جواد بشارة
- التيار الديني معضلة واشنطن في العراق
- جدلية القوة والضعف في أعمال المخرج الألماني فيرنر هيرزوغ
- على مفترق الطرق : العراق وآفاق الحل
- العراق : اليوم وما بعد اليوم هل يمكن أن تصبح بلاد الرافدين ف ...
- من الانتداب الأول إلى الانتداب الثاني: إنهيار نظام ما بعد ال ...
- تداعيات من داخل الجحيم البغدادي
- الإسلام يهدد الغرب أم يتعايش معه ؟
- من الانتداب الأول إلى الانتداب الثاني: إنهيار نظام ما بعد ال ...
- من الانتداب الأول إلى الانتداب الثاني: إنهيار نظام ما بعد ال ...
- رؤية أمريكية للوضع في الشرق الأوسط
- من الانتداب الأول إلى الانتداب الثاني: إنهيار نظام ما بعد ال ...
- أمريكا ومنهج التجريب في العراق : قراءة في تحليلات وسائل الإع ...
- الرؤوس المفكرة الأمريكية في خدمة الدولة العبرية
- التيار الديني معضلة واشنطن في العراق
- تقرير عن حقوق الإنسان في العراق
- حلول اللحظة الأخيرة للمحنة العراقية
- عراق الأمس وعراق الغد : بين طموحات التحرر ومطامع الإمبراطوري ...
- حرب النفط الأمريكية وإعادة رسم خارطة العراق والعالم العربي
- مأزق واشنطن في العراق: نظرة تجديدية


المزيد.....




- روحي فتوح: منظمة التحرير الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطي ...
- طرد السفير ووزير الثقافة الإيطالي من معرض تونس الدولي للكتاب ...
- الفيلم اليمني -المرهقون- يفوز بالجائزة الخاصة لمهرجان مالمو ...
- الغاوون,قصيدة عامية مصرية بعنوان (بُكى البنفسج) الشاعرة روض ...
- الغاوون,قصيدة عارفة للشاعر:علاء شعبان الخطيب تغنيها الفنانة( ...
- شغال مجاني.. رابط موقع ايجي بست EgyBest الأصلي 2024 لتحميل و ...
- في وداعها الأخير
- ماريو فارغاس يوسا وفردوسهُ الإيروسيُّ المفقود
- عوالم -جامع الفنا- في -إحدى عشرة حكاية من مراكش- للمغربي أني ...
- شعراء أرادوا أن يغيروا العالم


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - جواد بشارة - مراجعات في السينما التاريخية - التحول من نصوص التاريخ الي الخطاب المرئي