جواد بشارة
كاتب ومحلل سياسي وباحث علمي في مجال الكوسمولوجيا وناقد سينمائي وإعلامي
(Bashara Jawad)
الحوار المتمدن-العدد: 1351 - 2005 / 10 / 18 - 10:43
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
كان العراق وما يزال، وسيظل، ملفاً صعباً من ملفات الإدارات الأمريكية المتعاقبة على الحكم في الولايات المتحدة الأمريكية منذ أكثر من أربعة عقود.
في بداية عقد التسعينات من القرن المنصرم، كان القادة العسكريون الأمريكيون يقولون للرئيس جورج بوش الأب، إذا أردت إطاحة صدام حسين، فما عليك سوى الذهاب إلى بغداد. بيد أن الأمور لم تكن واضحة في ذهن الرئيس الأمريكي آنذاك، وهو محاط بجملة من المخاوف والتساؤلات والتحذيرات التي توالت عليه من كل جانب، بما فيه من جانب الكويت المنكوبة، والعربية السعودية المهددة بحماقات صدام حسين. من بين تلك التساؤلات التي لم يتمكن سيد البيت الأبيض في ذلك الوقت من إيجاد إجابات عليها : أية حكومة يمكن تنصيبها في مكان حكومة صدام حسين ؟ وما نوع النظام الذي سيحل محل نظام البعث ؟ هل هو نظام سني، أم شيعي، أم كردي أم نظام إئتلافي؟ هل سيميل النظام البديل نحو الإبقاء على الاتجاه البعثي بعد اجتثاث رؤوسه الإجرامية، أم نحو الأصولية الدينية بشقيها السني والشيعي؟ وماهي مصداقية مثل هذا النظام الذي سينصبه الأمريكيان بقوة السلاح وبدعم من قوات الاحتلال التي ستدخل بغداد ؟ وكم من الوقت ستحتاج الولايات المتحدة للبقاء عسكرياً في بلاد الرافدين لدعم وحماية النظام الجديد الذي سيخلف نظام صدام حسين المنهزم بعد غزوه للكويت؟ وماذا سيحدث في العراق بعد مغادرة القوات الأمريكية له في أعقاب إنهاء مهمتها في تحرير الكويت وإطاحة صدام حسين؟ كانت هذه التساؤلات قد وردت حرفيا على لسان وزير الدفاع الأمريكي السابق ونائب الرئيس الحالي ديك شيني في 13 نيسان 1991، وقد أعاد طرحها حرفياً سنة 2003 قبل أيام من شن الحرب ودخول قوات الاحتلال الأمريكي للمدن العراقية.
الوضع الاستراتيجي للعراق يبدو اليوم أكثر تعقيدا وتفاقما بالنسبة لجورج دبليو بوش وتوني بلير عما كان عليه إبان حرب الكويت. ففي ذلك الوقت كسبت قوات التحالف الحرب العسكرية والسياسية معاً، لكنها اليوم كسبت الحرب العسكرية في أول الأمر، وبدأت تنزلق نحو مستنقع العمليات العسكرية المناوئة وتخسر عسكريا بالتدريج، وتقدم الخسائر تلو الأخرى في المعدات والأرواح، وكذلك خسرت الحرب السياسية والقانونية. والزعيمان الغربيان الرئيسيان يعيان ذلك تماماً، إلا أنه من الصعب جداً، إن لم نقل من المستحيل عليهما سياسياً القبول بهذه البديهية والإقرار بها علناً. لكنهما يعترفان بأن الأمور صعبة جداً وتزداد صعوبة يوماً بعد يوم رغم تطور العملية السياسية وتقدمها، وهو أمر ليس بديهياً. فكسب الحرب يعني إنهاء أعمال العنف المسلح وهذا ما لم تتمكن من تحقيقه قوات الاحتلال وقوات الحكومة العراقية على السواء لحد الآن. كما يعني تكريس حكومة وطنية شرعية ومنتخبة تكون في نفس الوقت صديقة وموالية للولايات المتحدة وبريطانيا تحفظ لهما مصالحهما الاستراتيجية والاقتصادية، مما يضمن لهما دعم وتأييد الرأي العام في بلديهما. والحال أن الحكومات العراقية المتوالية على العراق منذ سقوط النظام السابق وإلى اليوم، كانت حكومات ضعيفة وعاجزة عن إحداث انعطافة حقيقية في حياة مواطنيها، وتأمين الحد الأدنى الضروري من أمن وخدمات. الوحدة العراقية مهددة بالصدامات العرقية والمذهبية والطائفية والفئوية، والجيش العراقي غير مؤهل بعد لحمل المهمة الأمنية كاملة على عاتقه، مما جعل الأمريكيون يشكون بقدرته وفعاليته، ويمتنعون عن تزويده بالمعدات والآليات الحديثة والمتطورة والأسلحة الحديثة خوفاً من سقوطها بيد المناوئين والعناصر المسلحة السلفية والتكفيرية وبقايا النظام السابق المتغلغلة داخل قوات الجيش والشرطة بكثرة. الأمريكيون يعارضون بقوة أكثر فأكثر الوجود العسكري الأمريكي في العراق، مما يثقل كاهل دافع الضرائب الأمريكي، وقد أثبت إعصار كاترينا هذه المعادلة وهشاشة القدرات الأمريكية في مواجهة الكوارث والمصاعب في كل مكان وفي آن واحد. الإرهاب إزداد عنفاً وضرواة منذ بدء الحرب وأعداد القتلى من الجنود يتضاعف يومياً بحيث استقطبت إمرأة واحدة، والدة أحد الجنود القتلى في العراق، مشاعر العطف والتأييد والدعم لها، وتحولت إلى رمز لمعارضة سياسة بوش في العراق وهي سندي شيهان. بات الناس في الولايات المتحدة الأمريكية يقارنون ما يجري في العراق اليوم بما جرى في فيتنام في ستينات وسبعينات القرن العشرين. ويرد جورج بوش بيأس " لو انسحبنا فجأة من العراق فستعم الفوضى والدمار والحرب الأهلية في العراق والتي ستمتد لامحالة إلى دول المنطقة برمتها، وسنفتح ابواب الجحيم لذلك لن نهرب من العراق كما فعلنا في فيتنام" . يرد عليه كثيرون أن الجحيم هو الذي يطبع حياة العراقيين منذ سنتين ونصف منذ سقوط النظام السابق ودخول القوات المحتلة إلى بلد مابين النهرين. الأمور ليست بأفضل بالنسبة لتوني بلير الذي يواجه نفس التحدي ونفس المنطق ويعجز عن الرد. فللمرة الأولى ينبري زعيم للمحافظين، الحلفاء التقليديين لواشنطن، وهو كينيث كلارك، لقيادة حملة مضادة لتوني بلير وسياسته العراقية مؤكداً:" إن قرار بلير أن يصبح الحليف الاستراتيجي الأساسي لجورج دبليو بوش في معضلته العراقية قد وضع بريطانيا على الخطوط الأولى للهجمات الإرهابية التي يشنها المتطرفون التكفيريون الإسلامويون اليوم ضدنا". إنه لأمر مدهش أن يقوم زعيم محافظ يقف تقليدياً إلى جانب أمريكا، وأكثر ميلاً للحلف الأطلسي من العماليين، بنقد وتوبيخ توني بلير لوقوفه إلى جانب بوش وانحيازه بلا قيد أو شرط لسياسات واشنطن في العراق.
من الصعب على بوش وبلير العثور على مخرج ينقذ ماء وجهيهما من ورطة العراق. كيف يخرجان من العراق قبل استعادة الأمن والاستقرار في هذا البلد المنكوب دون تعرضهما للإهانة والإحراج، وكيف يمكنهما الادعاء بإكمال مهمتهما دون أن يفقدا مصداقيتهما أمام الرأي العام العالمي والمحلي؟
مهمة جورج بوش تبدو أصعب من حليفه البريطاني، لاسيما بعد تعرض بلاده لكوارث طبيعية كشفت عن عجزه في مواجهتها، وتقديم الخدمات الضرورية لشعبه بدلا من تبديدها في مغامرات عسكرية مدمرة ومكلفة جداً وتؤثر على الميزانية الفيدرالية. صحيح أنه زعيم لأكبر قوة عظمى في العالم، وتمكن من غزو أفغانستان والعراقن وكنس بإشارة من يده بروتوكول كيوتو لحماية البيئة، وتوهم أن بإمكانه فرض "الديموقراطية" في الشرق الأوسط،إلا أنه غير قادر على محو التناقضات في خطابه وبرنامجه السياسي الذي وعد بخفض الضرائب والعجز في الميزانية في آن واحد، وهو أمر شبه مستحيل، مثلما قرر خصخصة حسابات صندوق التقاعد وفي نفس الوقت التأثير لوقت طويل على الخيارات الأخلاقية والمعنوية للمجتمع الأمريكي، - وهو أمر غير مقبول من جانب الغالبية الساحقة من الأمريكيين-، وتعيينه لقضاة محافظين، بل ورجعيين على رأس المحكمة العليا في الولايات المتحدة الأمريكية رغم معارضة الديموقراطيين وجزء من الجمهوريين في الكونغرس الأمريكي.
من هنا، ينبغي النظر إلى مواقف جورج بوش تجاه العراق وتفحصها بدقة لمعرفة سبب تحمسه وإصراره لإجراء الاستفتاء والانتخابات في مواعيدها المحددة والمضي قدماً بالعملية السياسية في العراق في الطريق المرسومة لها وفق الأجندة الأمريكية، لأنها في النتيجة سوف تفرز أمراً واقعاً على الجميع التعامل معه بواقعية وعقلانية، طواعية أو بالقسر، لكي يثبت لخصومه أنه لم يخطىء في حساباته، وأن العراق القادم سيكون واحة سلام واستقرار وأنموذج مثالي للآخرين، وسوف يكون مزدهراً اقتصادياً ومنبعاً لاينضب للصفقات والعقود والتبادلات التجارية التي ستستفيد منها الولايات المتحدة أولا وقبل أي طرف آخر. لذلك سيركز بكل قوته على إجراء الانتخابات في نهاية سنة 2005 أو بداية 2006 لتشكيل حكومة عراقية شرعية ومنتخبة، وتعديل دستور عراقي يقبله الجميع، وبرلمان عراقي شرعي يسيٌر أمور البلد ويحافظ على الأمن والاستقرار. فهل سينجح في هذه المهمة العسيرة في بلد تعصف به التناقضات والصراعات والمصالح الخاصة والضيقة، وتسوده مشاعر الخوف وفقدان الثقة بالآخرين؟ هذا ما ستكشفه الأيام والأسابيع والشهور القليلة القادمة بعد الانتهاء من عملية الاستفتاء والاستعداد للانتخابات القادمة التي ستكون بلا شك المفصل المصيري لهذا البلد المثخن بالجراح.
#جواد_بشارة (هاشتاغ)
Bashara_Jawad#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟