أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق - حمزة الحسن - كل شيء تحطم إلا اللغة















المزيد.....


كل شيء تحطم إلا اللغة


حمزة الحسن

الحوار المتمدن-العدد: 468 - 2003 / 4 / 25 - 02:36
المحور: اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
    


كل شيء تحطم إلا اللغة
حمزة الحسن

رغم أن كل شيء قد تحطم: السلطة، والثروة، والطمأنينة، والخوف، الأسلحة، والسجون، إلا أن اللغة، لغة الكتابة، كما تمارس هنا، ظلت على حالها، حصينة، منيعة، قوية، متماسكة أكثر من النظام نفسه.

لغة مطمئنة كعيون الأبقار في الحضائر.

 كأن أحدا، داخل هذه اللغة، لم يمت، أو جسرا لم ينسف، أو قناعة لم تتبدل، أو وجهة نظر لم تتغير، أو نهارا جديدا لم يولد، أو مستقبلا مظلما مجهولا يصنع خلف كواليس جديدة لم يتم في أنفاق أخرى.

 هذه الحصانة والمناعة لهذه اللغة لا تنبع من قوتها وحيويتها، بل من بؤس وموت هذه اللغة.

فهذه اللغة لم تكن في أي وقت تقول شيئا أو تحمل معنى أو تنقل فكرة أو تناقش وضعا أو تحلم بأمل ما، أو تنذر بعاصفة أو تستشرف مستقبلا، بل كانت ولا تزال لغة إتباع، وذيل، وإخبار، وتعليق.

بهذا المعنى، فإن هذه ليست لغة، بل سلطة.
طبيعة السلطة الإعادة والتكرار والاجترار.

سقطت السلطة كمؤسسة، لكن لغتها، هنا أو هناك، لا تزال قائمة ومتداولة ومحترمة دون أن يعي أحد أن سلطة اللغة أكثر ضراوة وخطورة ووحشية من سلطة المؤسسة.

إن لغة ما قبل حقبة الفاشية كانت لغة تعليق وثنائيات ووصم وحجر وتهميش وإدانة ومصادرة ومحاكمة.

بتعبير أضح وأدق: لغة سياسة في نسخها الأردأ.

 ولغة السياسة هي لغة سوق ومساومة وكسب. أي  لغة تضع هدفها الربح، ربح الجمهور، أو خسارته هو الهدف الأول حتى لو قاد ذلك لتدمر أنبل القيم واشرف المواقف وأدق التحليلات.

ليس في لغة السياسة، السياسة العراقية خاصة، ما يجعل خطاب الحقيقة هو الهدف، خاصة حين يكون خطاب تملق وكسب الجمهور هو الغاية، وهو الوسيلة.

هذا هو سر تماسك اللغة هذه الأيام.
وهو تماسك الأشياء الميتة.

لم يتوقف كاتب واحد ولو ليوم واحد أو أسبوع كي يلقي نظرة جديدة، من زاوية أخرى، مختلفة، على أحداث تجاوزت مراكز أبحاث ودول ومؤسسات وقوى إقليمية أو دولية.

يبدو الأمر، في تقاليد اللغة الميتة، والكتابة السقيمة، كما لو كنا البارحة داخل مقهى في العراق، وعدنا إليه في اليوم التالي، دون أن يقتل طفل، أو تذبح عوائل، أو تسرق دولة، أو ينهب متحف، أو تتأسس سلطة احتلال، أو يهرب طاغية ويتحول إلى شبح في عالم عراقي ضاج بالأشباح الموتى والأحياء.

 لا يبدو، في تقاليد اللغة/ الصنم/ الحجر/ الذبول/ اليباس/ أن شيئا قد حدث لا في الشارع، ولا في التاريخ، ولا حقبة انتهت، ولا يبدو أننا على أبواب مجهول آخر.

 من أين يستمد الكاتب العراقي هذا اليقين بصلابة اللغة وتماسكها الذي يشبه صلابة التابوت، وتماسك الحجر؟

لا شك ينبع من مجموعة أوهام لن تسقط حتى بعد سقوط السلطة الفاشية، بل قد تمهد هذه الأوهام لسلطة استبداد أخرى، منقحة، وملونة، ومزيدة، ومحسنة، وحسب آخر أزياء الحكم العصرية.

ومثل سلطة الاستبداد القديمة بدأت تتكون مؤسسات ومراكز قوى وقلاع جديدة من خلال السطو اليومي على الأملاك العامة تحت هذه الذريعة أو تلك، حتى تحولت مدن العراق إلى مؤسسات حزبية جديدة، ومقرات مسروقة، ومسطو عليها في غياب حضور القانون  عدا قانون القوة.

أي قانون السلطة الغائبة.
أي قانون الغريزة.
لأننا عدنا، بفضل هذه الحرب، إلى ما قبل الدولة، أي إلى القبيلة، لأن الأخيرة تكوين طبيعي.

فهذه السلطة غابت كنظام، وحضرت مرة أخرى من خلال رموز ظلم جديدة، من خلال لغة .

لذلك لم تتغير اللغة.

ولن تتغير مادام السياسي نفسه من يؤسس ويشرع ويفتي في كل الأمور.
مادام السياسي هو من يقوم بأخطر ممارسة وهي تسييس الفكر. أي تحويل الفكر إلى سياسة.
إن تحويل الفكر إلى سياسة هو غلق لكل خلق أو بحث أو سؤال أو إبداع أو شك أو أفق.

والخلط اليوم، كما هو في الماضي، هو تحويل لغة الفكر، لغة الثقافة، إلى لغة سياسة.

في لغة السياسة يصبح كل شيء ممكنا.
فهي لغة تبرير.
ولغة تلفيق.
ولغة أجوبة جاهزة.
وكل جواب جاهز هو خيانة جاهزة.
لأن الجواب خلق كالسؤال.
ولغة السياسة تقتل الجواب لأنه جاهز، وتخنق السؤال لأنها ترفض الأسئلة.

لغة السياسة هي لغة آيديولوجيا تتضمن السؤال ومعه الجواب، فلماذا البحث والكشف والخلق والسؤال والإبداع؟

ومع السياسي أنضاف الفقيه في السلطة الجديدة الناشئة، ومعهما ولد من رحم السجلات البريطانية القديمة الشيخ.

وكل هؤلاء: السياسي، والفقيه، والشيخ، لا يتحدثون إلا بلغة واحدة، محافظة، ميتة، لغة نصوص.
 فكما يحيلك السياسي إلى نص مكتوب عقيدي، يحيلك الفقيه إلى نص مماثل، أما شيخ القبيلة فهو يحيل دائما إلى لغة الأعراف الأكثر رسوخا من الجبال.

في كل الأحوال نحن أمام حائط.

 ما هي الأوهام التي جعلت اللغة على هذا النحو من صلابة الحجر، وموت المعنى، وغياب كل قدرة على مراجعة الذات، وفحص الوقائع من جديد، كأننا ننظر إلى العالم، وقد تغير كليا، بذات العيون العمياء؟

ـ الوهم الأول: هو وهم سياسي بالدرجة الأولى .
يقول هذا الوهم أن التغيير الحقيقي هو تغيير المؤسسة، لا تغيير العقلية، وتغيير الشعار، لا تغيير الذهنية، وتغيير العنوان، لا تغيير المحتوى،وتغيير الاسم، لا تغيير الوضعية.

ـ الوهم الثاني مصدره فهم مشوش ، مضطرب، وسطحي، لوظيفة لغة الكتابة. مصدره العميق سياسي أيضا مثل كل مصادر المساوئ الأخرى القادمة.

هذا الوهم يقوم على فكرة خاطئة  تقول أن اللغة أداة محايدة، وتقع خارج السلطة، مهما كانت، والإطاحة بسلطة ما، لا يتطلب  الإطاحة بنظام اللغة كذلك.

وهذا الوهم السخيف مرتبط بجهل وظيفة اللغة، وجهل وظيفة السلطة، والذين يفكرون على هذا النحو لا يرون من السلطة غير الشرطة فحسب، دون رؤية الحجوم المجهرية الهائلة التي تؤسسها السلطة، حتى في نفوس ضحاياها.

فالسلطة حاضرة في العبارة وفي الكلام وفي النظرة وفي العقلية وفي وجهة النظر وفي ثقافة حذف الآخر أو تعهير وشيطنة الآخر، وخلق صورة خاصة له في ذهن الجمهور تتطابق مع أخلاقية مشوهة.

هذه هي ثقافة سلطة.

وأسوأ ما في السلطة هو نقل لغتها، بوعي أو دون وعي، داخل أعماق، وداخل لغة ضحاياها، حتى تتحول الضحية إلى سلطة، أو جيفة متجولة، دون أن تعي ذلك في الغالب، لأن مرض القهر يصيب ضحاياه على مراحل وبسرية وهدوء كأي مرض فتاك.

ـ الوهم الثالث هو وهم خطير أيضا . وهذا الوهم أو الغياب لا يرى في اللغة وسيلة إخضاع. اللغة هي وسيلة قهر وسلطة من نوع ما. وأنا حين أكتب الآن، فإني أمارس سلطة ما على فرد أو شريحة.

اللغة ليست بريئة أبدا.
اللغة ورطة.

وكما تصاب الدولة بالاختناق، والشعب بالرعب، والثروة بالهدر، والسيادة الوطنية بالعطب، كذلك تصاب اللغة بعاهات كثيرة وخطيرة.

فلماذا نطالب بتصليح كل شيء، حنفيات الماء، ومحطات الكهرباء، وقنوات الصرف الصحي، ولا ندرك، حتى مجرد إدراك بسيط، أن الأجدر بالإصلاح أولا وقبل كل شيء هو اللغة المصابة بكل أنوع الفقر والشحوب والابتذال والسطحية والموت؟

كان أول شيء عملته الثورة الفرنسية في وعي عميق ودقيق ومدهش لوظيفة اللغة هو إعادة النظر في القاموس الفرنسي.

إن تبديل القاموس خطوة على طريق تبديل العقل والمؤسسة والدولة والذهنية.

إن مفردات مثل: قوى مضادة، وثورة مضادة، والعدو، وتوفيقي، وتصالحي، وغير وطني، أو ملحد...الخ... هي مفردات سلطة. هي مفردات تؤسس لبنية تحتية لحرب أهلية علنية أو مضمرة تحت السطح( حالنا اليوم).
أية لغة سياسية لا تتوفر على شروط الكتابة القانونية هي لغة سلطة غاشمة مهما كان موقع صاحبها.

الوعي القانوني هو وعي أخلاقي أيضا.
والكتابة تتناقض مع الحيلة.
رغم أن هناك من يعمل بلا كلل أو تعب على تحويل البلف إلى ثقافة كما فعل أحدهم حين قرر الإقامة في مقهى للعاطلين عن الوعي وقرر إطلاق النار من زريبته على كل وردة أو نجمة أو ضوء أو أمسية جميلة.

ومن المضحك أن هذا النموذج غير قادر أبدا على الخروج من هذه الزريبة أو المقهى إلى مساحات للكتابة أرحب وأوسع في عالم عربي تنتشر فيه الصحافة الأدبية والثقافية والسياسية والمواقع على نطاق واسع.

واللغز: لأنه ليس هناك في هذه المواقع الصحية والنظيفة والناضجة  حفنة غشم وعوج وغلط وغوغاء.

والصرصار لا يعيش في أواني الورد، كما هو معروف لمنظفي المرافق الصحية. 

هذه اللغة التي بها نكتب ونتكلم ليست لغة معرفية، لأن لغة المعرفة هي لغة بحث وشك منهجي، ومنطق، ولغة عقل، ولغة السؤال الثقافي أو الفكري.

اللغة التافهة، لغة السلطة، التي بها نكتب، ونتكلم، هي لغة وصم، وتحقير، وتخوين، وإعلان، ودعاية، واستهلاك، وبيع وشراء، ولغة ذات مهشمة محطمة مثل أجساد مخلوقاتها.

 أحاول منذ أشهر تصنيف مئات المقالات التي كتبت في هذه المرحلة قبل الحرب وبعدها كي تكون سجلا حقيقيا للأجيال القادمة على نوعية العقول التي تخوض في قضايا مصيرية.

أدهشتني طمأنينة وثقة أحدهم، وهو ممثل لتيار من هذا النمط المزري، حين يكتب عن آخرين.

فاللغة التي كتب بها هذا المسخ لا تختلف عن لغة النظام الحاكم، بل أكثر رداءة.

قرأت بدهشة ما كتبه هذا الكائن عن السيد علاء اللامي وعن الكاتب الفلسطيني الشجاع نضال حمد قائلا بالحرف الواحد( لا أشك في وطنية علاء أو نضال ..!). يقولها بلغة يقينية قاطعة متعالية وثوقية.

أي انه هو وليس غيره من يمنح صكوك الوطنية.
هو يشك أو لا يشك. تلك هي المسألة.

 وماذا يحدث لو أنه شك في وطنيتهم؟
ما هو المعيار؟ على أي أساس؟
وكل شي آخر لا قيمة له.
أي أن وطنية الآخرين لا وجود لها ما لم تكن ممهورة بختم هذا التويفه الذي يمدح هذا الفرد اليوم، ويشتمه غدا، كما حدث مع عشرات الكتاب، مما يؤكد أن هذا الخرف( الذي يحاول أن يجعل من نفسه معيارا للحقائق والوطنية والشرف، وهو مفرغ منها) يتساوى عنده فعل القول والبول.

ـ الوهم الرابع هو وهم رهان اللغة كأداة كشف . هذا وهم الغالبية العظمى من الكتاب الذين يعتقدون خطأ أو صوابا، أن كل ما يكتبونه هو بحث عن "الحقيقة" من دون أي توصيف لمفهوم الحقيقة الذي دوخ فلاسفة العالم.

الحقيقة هرمية، متعددة، متغيرة، نسبية، غير مطلقة، احتمالية.
والحقيقة الثقافية مثلا، تختلف عن الحقيقة العلمية، وهذه تختلف عن الحقيقة الاجتماعية فهذه نسبية ومتغيرة من بيئة إلى أخرى ومن زمان إلى آخر..

كما أن " الحقيقة" السياسية هي كذبة في أحيان كثيرة، لأنها من وجهة نظر أخرى ترويج، أو ترويع، أو وهم، أو تلفيق.

إذن عن أية حقيقة ندافع ونعلن؟

يجب أن نعرّف الحقائق أولا ونصفها قبل الكلام العمومي والإنشائي عنها.

إن وهم الكتابة عن الحقيقة هو وهم مضحك خاصة حين يكتب بلغة السياسة.

ـ الوهم الخامس هو وهم عزل اللغة من الزمن. أي بمعنى أوضح وضع اللغة فوق الأزمنة. وبهذا يتم تحويل اللغة من لغة بحث وكشف وخلق، إلى لغة فقهية تكرارية استعادية.

والدليل: نحن الآن نكتب بلغة تقع خارج زمنها. أي أن شيئا لا يبدو أنه قد وقع ولا تزال اللغة القديمة هي المهيمنة على الخطاب السياسي وغيره.

وحين تصبح اللغة كائنا متعاليا على الزمن، تصبح سلطة، أي تصبح خرافة ومؤسسة وأداة قمع. تصبح شيئا مقدسا.

لماذا أداة قمع؟
كل حجب هو قمع.
هذا باختصار.

 ـ الوهم السادس هو عزل اللغة عن التاريخ والمجتمع والسلطة. وهنا أيضا تتحول اللغة إلى كائن متعال، فوق اجتماعي، يحلل ويفكر لحسابه الخاص خارج العقل، لأن العقل زمني وتاريخي واجتماعي.

ـ الوهم السابع هو وهم سحرية اللغة.
وهذا من أطرف الأوهام وأخطرها في آن.

لا يشك أصحاب ثقافة منح صكوك الوطنية أو سحبها، ومنح صكوك الشرف أو سحبه، لا يشك هؤلاء، وبثقة أبقار الحضائر، أبدا في أن كل كلمة أو عبارة أو وصف يقولونه سيتطابق مع الفرد الموصوف أو الحالة أو الظاهرة تطابقا تاما لا يحدث حتى في الصور الفوتوغرافية.

فهو وطني إذا قرروا ذلك.
وهو غير وطني، أو كافر، أو متمرد، أو زنديق، إذا قرروا ذلك أيضا.
مع أن الوطنية فطرة وليست سياسة :( فحتى النملة تعتز بثقب الأرض).

 وهذه هي صفة لغة الشعوذة. فحين يقول لك ساحر أو دجال أنك أصبحت فأرا أو جبلا أو نارا أو دخانا عليك أن تصدق أنه يعني ما يقول.

ليس لديه أدنى شك في أنك ستحمل الوصف الذي يريد. لم لا؟ أليس هو سلطة غاشمة؟ أليس هو أو هي ـ سلطة ـ من يمنح حق الحياة أو حق الموت أو حق الحكم على الكائنات؟

لذلك فإن قول ميشيل فوكو بأن السلطة لا تتأسس خارج اللغة، ولا تنمو بدونها، هو قول صائب إلى ابعد حد.

إن أية سلطة في العالم تقوم على لغة سلبا أو إيجابا. وهذه السلطة لا تنمو خارج اللغة، بل في صراع معها أو في انسجام.

قد تسقط سلطة ما، لكن لغتها تظل حية في الوعي العام والمخفي عشرات السنوات أو حتى لقرون عديدة وقد تشكل حاضنة حقبة قمع جديدة  بشكل آخر (  طرد سكان حي الكمالية وهو حي غجري (كاولي) جنوب بغداد من منازلهم بعد هجمة من أصحاب اللحى والسيوف. مع  أن سكان الكمالية لا شغل لهم غير ضرب الطنبور وهز الخصور في كل الحقب. أحد أبناء هذا الحي وهو شويعر يعيش في دمشق كمقاول وسكرتير تحرير جريدة البعث ( اليساري!) بعد هجر اليميني، كان قد كتب عني مقالات ضارية اتهمني فيها  بمئات التهم ظهر أنها كلها موجودة فيه، ونسى أنه يكتب على موقعه بأنه من سكان حي الكمالية السيء الصيت. وقاحة كاولي كما يقول المثل العراقي ! ).

ـ وهم العزل بين اللغة والخيال.

ليس هناك خيال بدون لغة. فنحن لا نتخيل بدون رموز وشفرات وكلمات. لكن حين يتم، في خطاب المعرفة أو خطاب السياسة، وقد يكون الأدب مستثنى من هذا التصنيف، حين يتم تحويل الخيال كله إلى لغة، أو تحويل اللغة كلها إلى خيال في مجال معرفي صرف، في هذه الحالة تصير اللغة رطينة تافهة أو هذيانا لا قيمة له كما هو حاصل الآن في الكتابة النمطية( طبعا الاستثناء موجود دائما).

ومن المعروف لعلماء النفس واللغة والأسطورة أنه حيثما وجد صراع بين اللغة والخيال، أو بين الخيال والإرادة، فإن الخيال هو المنتصر دائما.

لأن الخيال أقدم من اللغة وأقدم من الإرادة.
اللغة اختراع حديث، والإرادة طاقة نمت مع الإنسان ولم تخلق معه، والخيال تقنية بدائية أو نواة العقل التحليلي.

ـ إن مفهوم اللوغس الأغريقي يعني التماثل بين اللغة والمنطق. أي تطابق الحكمة مع العبارة كما يقول ابن عربي.

لكن" اللوغس" في العقل السياسي العراقي السائد يعني الانفصال بين الحكمة وبين اللغة، بين المنطق وبين اللغة. المنتصر في هذا الصراع هو المصلحة والبراغماتية.

وهم الانفصال هذا هو من نتائج تسييس الفكر. أي تحويل الفكر إلى سياسة، أو مصلحة، أو منفعة على حساب المعرفة والحقيقة والفكر. وحين يتحول الفكر إلى سياسة، مرة أخرى، تصير اللغة جاهزة للإجابة على كل شيء، بما في ذلك الغيب والمجهول والضباب ومواسم سقوط المطر والنيازك. تصير، بمعنى أدق، لغة شعوذة.

الأجوبة، حسب هذه اللغة، ليست خلقا، بل في النص.
والأسئلة، حسب هذه اللغة، ليست بحثا، بل إعادة.

بهذه الصورة تصير اللغة ورطة.
تصير سلطة.
تصير دوامة.
تصير اجترارا.
تصير حلقة مفرغة.

لذلك ليس المهم سقوط الفاشية، بل الأهم هو سقوط اللسان والمفهوم والعبارة والبيان والقاعدة والخيال والمنطق الوصفي السطحي الذي جعل من اللغة أكثر صلابة من السلطة.

ويا لها من مفارقة مخيفة أن كل هذه الأسلحة التي أسقطت أقوى فاشية في التاريخ، لم تستطع إسقاط جملة واحدة من لغة نكتب بها كل يوم تاريخا جديدا من الدم بوعي أو دونه.

لا أدري لم أتذكر في نهاية كل حرب قول الروائي الألماني العظيم اريك مارياك صحاب رواية( للحب وقت، وللموت وقت) حين قال: إن القنابل التي سقطت فوق برلين، سقطت فوق المسرح، واللغة، والسرير، وعلاقات الأسرة، وقواعد الكتابة.


 فهل سقطت قنابل ثلاثة حروب فوق مقبرة؟!



#حمزة_الحسن (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- سنواصل المنفى ونحرض الشجر
- سقوط الرهانات الكبرى
- الوجه الآخر للدكتاتور
- أبناء منتصف الليل
- سرقوا الوطن، سرقوا المنفى
- لا تزعجوا هذا الجندي النائم
- خاتمة محنة البطريق/ رسالة منتصف الليل
- وداعا أيتها البصرة الرهينة 21
- الأخطاء القاتلة 20
- الروائي المصري رؤوف مسعد/ السيرة الذاتية كفضيحة
- الشاعر الأسباني لوركا / نائم والعشب ينبت بين أصابعه
- نهاية التاريخ والقرد الأخير 19
- حروب الأعزل 18
- الشاعرة باميلا لويس/ عاد ميتا بهداياه
- ولادة جيل الغضب 17
- الشاعر رعد عبد القادر / أسرار اللحظات الأخيرة
- سعدي يوسف للجنرال فرانكس:لا تقطع شجرة! 16
- ما جدوى أن تكون مثقفا؟ 15
- أسرار ليلة الدخلة 14
- يوميات قلعة الموتى 13


المزيد.....




- السعودي المسجون بأمريكا حميدان التركي أمام المحكمة مجددا.. و ...
- وزير الخارجية الأمريكي يأمل في إحراز تقدم مع الصين وبكين تكش ...
- مباشر: ماكرون يهدد بعقوبات ضد المستوطنين -المذنبين بارتكاب ع ...
- أمريكا تعلن البدء في بناء رصيف بحري مؤقت قبالة ساحل غزة لإيص ...
- غضب في لبنان بعد تعرض محامية للضرب والسحل أمام المحكمة (فيدي ...
- آخر تطورات العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا /26.04.2024/ ...
- البنتاغون يؤكد بناء رصيف بحري جنوب قطاع غزة وحماس تتعهد بمق ...
- لماذا غيّر رئيس مجلس النواب الأمريكي موقفه بخصوص أوكرانيا؟
- شاهد.. الشرطة الأوروبية تداهم أكبر ورشة لتصنيع العملات المزي ...
- -البول يساوي وزنه ذهبا-.. فكرة غريبة لزراعة الخضروات!


المزيد.....

- الحزب الشيوعي العراقي.. رسائل وملاحظات / صباح كنجي
- التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية الاعتيادي ل ... / الحزب الشيوعي العراقي
- التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية للحزب الشيو ... / الحزب الشيوعي العراقي
- المجتمع العراقي والدولة المركزية : الخيار الصعب والضرورة الت ... / ثامر عباس
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 11 - 11 العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 10 - 11- العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 9 - 11 - العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 7 - 11 / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 6 - 11 العراق في العهد ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 5 - 11 العهد الملكي 3 / كاظم حبيب


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق - حمزة الحسن - كل شيء تحطم إلا اللغة