أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - سيرَة أُخرى 20















المزيد.....

سيرَة أُخرى 20


دلور ميقري

الحوار المتمدن-العدد: 5096 - 2016 / 3 / 7 - 02:50
المحور: الادب والفن
    


1
كنتُ بعد في التاسعة عشر من العمر، لما رأيتني على سراط تجربة جديدة.
على أثر انتهاء دورة الأغرار في كلية الدفاع الجوي بحمص، تمّ فرزي مع آخرين إلى مطار المزة العسكري. ثمة، كان من المُفترض أن نواصل علومنا العسكرية من خلال دورة إمداد وتموين. الدروس، كنا نأخذها في إحدى قاعات المطالعة، التابعة للمطار. فيما شؤون منامتنا ومعيشتنا وإجازاتنا فإنها كانت مرتبطة بفوج الدفاع الجوي، المرابط على طرف المطار الشماليّ. هذه الإزدواجية، كانت تخلق لنا مشاكلَ؛ خصوصاً نحن المنحدرون من الشام، ومن كنا نأمل بالمبيت في منازل الأهل لا في مهجع الفوج. ثلاثة زملاء، وأنا رابعهم، كنا نتمتع أيضاً بالدعم ( الوساطة ). الأفتى بيننا شكلاً، كان من باب توما. الأكثر سمرة، كان من الشاغور. أما الثالث، البَدينُ والمَرِحُ، فكان من الصالحية. من ناحيتي، فإنّ حُسن الحظ جعلني في مكان واحد مع جارنا، النقيب صلاح آله رشي. هذا الجار الشهم، كان آنذاك رئيسَ قسم الشؤون الفنية في المطار. وبالتالي، كان أعلى سلطة من قائد دورتنا. فما أن تنتهي الدروس، ويتوجّه الآخرون إلى مقرّ الفوج للغداء، حتى أكون في طريقي للمنزل سواءً لوحدي أو مع أولئك الزملاء الشوام.
ثمّ بالغنا في التمادي، حدَّ أننا كنا أحياناً نعود أدراجنا ما أن يُختتم الإجتماع الصباحيّ. عندئذٍ، كنا غالباً ما نسلك الطريق الترابيّ الوعر، وصولاً إلى السياج المعدنيّ للفوج والمشرف على الطريق العام. من هناك، كنا نستقلّ إحدى الحافلات الصغيرة ( الميكرو )، المتوجّهة من جديدة عرطوز إلى مركز المدينة. ذلك السياج المعدنيّ، المُطوّق فوجَ الدفاع الجويّ، كانت مسؤولية حمايته ومراقبته تقع على عاتق شرطة إنضباط المطار. هؤلاء، كانوا يملكون الحقّ في توقيف أيّ حافلة يمكن أن يستقلها أحد المتسللين من المطار. على ذلك، فإني كنتُ ألتزم حذري بأن أعمُدَ إلى الإبتعاد قدر المستطاع عن أعين أولئك المترصّدين.
إلى أن كان يوماً من أيام أيار، الربيعية، الشاهد على تسللي إلى خارج المطار صُحبة الفرسان الثلاثة. ما أن حملتنا الحافلة وَهْناً، ثمّ سارتْ بنا هنيهةً، إلا وأفراد شرطة الإنضباط يشيرون لسائقها بعلامة التوقف. أحد هؤلاء، ما لبث أن صعدَ إلى الحافلة وراحَ يُدقق في هيئات الركاب. كنا ثلاثة نرتدي بيريات زرقاء، تشي بالإنتماء للمطار. فما كان من عنصر الإنضباط إلا أن أمرنا فوراً بالنزول. أما زميلنا الرابع ( ابن باب توما )، فإنه كان قد احتاط للأمر مسبقاً، فاعتمرَ كاسكيت عسكري خاكي اللون. دفعوا بنا إلى حجرة خشبية صغيرة ( براكية )، ثمّ أبلغونا بأنهم في صدد إعلام ضابط الأمن كي يُصار نقلنا لاحقاً إلى سجن المطار. ما أن أُوصِدَ علينا، ومضت برهة من الصّمت، حتى تقدّم زميلنا الشاغوريّ من باب البراكية: " ما من أحدٍ خارجاً "، خاطبنا وبدأ بهزّ البابَ. " ماذا تفعل..؟ "، هتفَ بجَزَع الزميلُ الآخر الصالحانيّ. فكان جوابُ الأول ركلة على الباب، جعلته ينخلع: " هيا بنا! إنهم لم ينظروا حتى في بطاقاتنا؛ فعلامَ الخوف؟ "، قالها قبل أن يندفعَ كالعاصفة. بُعيْدَ وهلة تردد، رأيتني أركضُ مُتأثراً خطى ذلك الأخرق. وهذا ما فعله أيضاً، زميلنا الثالث. لما تجاوزنا جميعاً المنطقة الخطرة، عمدنا إلى السير على مهل.
" ولكن، إلى أين نحن نسير..؟ "، خاطبْنا زميلَنا الشاغوريّ. إذاك، كنا على مبعدة أمتار من الباب الرئيس للمطار. فأجابنا بلهجة الدليل، أنّ علينا المشي بهدوء وترك الأمر عليه. فما أن وصل دليلنا إلى البوابة، حتى ألقى السلامَ على من كانوا يحرسونها. وكذلك فعلتُ أنا والزميل الآخر. في الأثناء، كانت سيارة " زيل " كبيرة تهمّ باجتياز الحاجز في طريقها إلى خارج المطار. مما حدى بالعناصر أن يهتموا بها، غيرَ ملتفتين إلى وجودنا. زميلنا الشاغوريّ، ما عتمَ أن تكلمَ مع السائق: " نازل إلى الشام؟ ". هكذا صعدنا إلى تلك السيارة العسكرية الكبيرة، المُتّجهة إلى مركز المدينة.

2
ذلك، كان في بداية ثمانينات القرن المنصرم.
آنذاك كان من تقاليد معهد اللغة للأجانب، التابع لجامعة موسكو، أن يُقيمَ حفلة تعارف لطلابه بعد مرور شهر على استهلالهم الدراسة. هؤلاء الطلبة، كانوا ينتمون لمختلف قارات العالم. السوريون، كانوا من بين أكبر المجموعات، وأغلبهم بعثيين أو من طرف الحكومة. وإذاً، ففي مساءٍ خريفيّ دافئ اجتمعنا في صالة بالمعهد، مخصصة لهكذا نشاطات.
كانت العادة، أن يقدّم كلٌّ من الطلبة نفسَهُ للآخرين مَشفوعاً بما يمتلكه من موهبة؛ إن كان شِعْرأً أو رسماً أو موسيقى أو تمثيلاً. أحد الطلبة التوانسة، وكان ثقيل الوزن والروح على حدّ سواء، نهضَ عندما جاء دَوْرُهُ وفي يدِهِ ورقة. بدأ بإلقاء قصيدة، مُختتماً كلّ مقطعٍ فيها بعبارة " أنا عربيّ ". وإذا بأحد الطلبة السوريين، وكان طوله عدّة بوصات، يقفز كالمَمْسوس صارخاً: " أمة عربية واحدة..! ". بُعيْدَ وَهلة تردد، هتفَ رفاقه من خلفه بقية الشعار: " ذات رسالة خالدة!! ". هذا الطالب ( شقيق شكرية المحاميد، الرئيسة السابقة للإتحاد النسائي الرسمي )، ما لبثَ أن أظهرَ موهبة أخرى مع ذلك الزميل التونسيّ. كلاهما، كان سيدرس الإخراجَ السينمائي بعد انتهاء سنة اللغة. على ذلك، تقدّما معاً لإتحافنا بمشهدٍ تمثيليّ يدلّ على موهبتيهما: طلبا من زميل ثالث أن يقفَ، فوضعَ أحدهما قمعاً بلاستيكياً في فتحة سرواله ثمّ صبّ الآخر قدحاً من الماء هناك.
تقليدٌ آخر، كان مُتَّبعاً في ذلك المعهد. ففي عطلة الميلاد ورأس السنة، كانوا يمنحوننا إجازة أسبوعين مجاناً في منتجعٍ شتويّ بإحدى ضواحي العاصمة الروسية. ثمّة، كان من الممكن لأحدنا أن يُمارس هواية التزلج على الثلج أو التمتع بأمسيات جميلة صُحبة الموسيقى والغناء والرقص. مخرجُ المستقبل، التونسيّ، شاءَ لسببٍ ما أن يقطع إجازته. عادَ إذاً إلى مسكننا الطلابيّ، وكان برفقة زميل آخر من موطنه. كلاهما، كان مُصاحباً فتاة فلسطينية من الأردن. في إحدى تلك الليالي المُثلجة والمُعيّدة، كان الأصدقاء الأربعة في طريقهم من بناء السكن المخصص لطلبة اللغة إلى البناء الآخر، الذي يضمّ طلبة الدراسة الجامعية. الأبواب الداخلية بين البنائين، كانت تُغلق عادةً بعد الساعة الحادية عشر ليلاً. عندئذٍ، عمدَ أولئك الأصدقاء إلى الخروج من الباب الرئيس وصولاً إلى الباب الآخر. وكانوا في منتصف المسافة، حينما سقطتْ على غرّة زجاجةُ فودكا فارغة على رأس صديقة مُخرجنا العتيد. بدأ هذا بالصراخ شاتماً لاعناً وهوَ يتطلع نحوَ الطوابق العليا، حتى غطى على أصوات الألم، المنبعثة من صديقته. هُرع إذاك عددٌ من الطلبة الروس، الذين كانوا بالصدفة يسيرون بالممر. إحداهن، كانت قد أخرجتْ منديلاً قماشياً من حقيبتها كي تربط به رأس المُصابة المُخضّب بالدم. فما كان من صديق هذه الأخيرة، إلا الإلتفات إلى الفتاة الروسية المُسْعِفَة لينهال عليها لكماً وركلاً مع شتائمه المُقذعة. حينما حضرت سيارة الإسعاف، كانت الفتاة الروسية المسكينة راقدة أيضاً بلا حراك بجانب زميلتنا المُصابة. أما مخرج المستقبل، فإنّ إدارة المعهد اكتفتْ في اليوم التالي بتوبيخه. تساهلتْ مع الوحش بالنظر إلى ما قالت أنها حالته النفسية، الطارئة.

3
زقاق الميقري؛ ما فتأ يحتفظ باللوحة المعدنية، المُثبّتة نسَبَهُ منذ قرابة قرنين من الزمن. أتذكّرها، بلونها الأبيض وأحرفها الخضراء، البارزة. في نهاية الثمانينات ( أيْ بعدَ هجرتي إلى الغرب )، فُقِدَت هذه اللوحة بسبب جرف الحائط المُستندة عليه بضربة من آليّة متعهّد الأبنية. آنذاك، هبّ بعضُ أبناء العمومة لمحاولة العثور على نَسَب زقاقنا، الضائع. أخيراً، وبعد بحثٍ محموم بين ركام المنازل القديمة، فإنهم وجدوا اللوحة المفقودة. فأعادوا تثبيتها لاحقاً على جدار إحدى العمارات، الجديدة..!
آل ميقري، يُشنَّع عليهم من قبل بعض الجيران اللدودين، وخصوصاً الآله رشية، بأنهم سلالة يَسيلُ في عرقها دمُ الجنون. هؤلاء الجيران، يُحيلون إلى عديد أفراد آلنا ممن ابتلوا باختلال العقل لسبب أو لآخر. أو بالأصح، الذين مَسَّهُم جنونُ العبقرية ـ بحَسَب وجهة نظرنا. على ذلك، فعندما كان أولئك الأقارب يبحثون عن تلك اللوحة المعدنية المفقودة، فإنّ أحد ظرفاء الآله رشية قال لهم: " لقد أخذ المسئولون اللوحة، لكي يُثبّتوها على باب الجناح الخاص بعائلتكم في مشفى ابن سينا!! ".



#دلور_ميقري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- غرائب اللغات
- قلب أبيض
- نبع
- سيرَة أُخرى 19
- الإنسجامُ المعدوم
- سيرَة أُخرى 18
- ( اسمُ الوردة )؛ الرواية كفيلمٍ فذ
- لقطة قديمة
- سيرَة أُخرى 17
- امرأة سمراء
- سيرَة أُخرى 16
- المتسوّلة
- سيرَة أُخرى 15
- درهم
- سيرَة أُخرى 14
- خفيفاً كعصفور
- سيرَة أُخرى 13
- أقوال غير مأثورة 2
- شريحة لحم
- إغراءُ أغادير 5


المزيد.....




- -بنات ألفة- و-رحلة 404? أبرز الفائزين في مهرجان أسوان لأفلام ...
- تابع HD. مسلسل الطائر الرفراف الحلقه 67 مترجمة للعربية وجمي ...
- -حالة توتر وجو مشحون- يخيم على مهرجان الفيلم العربي في برلين ...
- -خاتم سُليمى-: رواية حب واقعية تحكمها الأحلام والأمكنة
- موعد امتحانات البكالوريا 2024 الجزائر القسمين العلمي والأدبي ...
- التمثيل الضوئي للنبات يلهم باحثين لتصنيع بطارية ورقية
- 1.8 مليار دولار، قيمة صادرات الخدمات الفنية والهندسية الايرا ...
- ثبتها أطفالك هطير من الفرحه… تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- -صافح شبحا-.. فيديو تصرف غريب من بايدن على المسرح يشعل تفاعل ...
- أمية جحا تكتب: يوميات فنانة تشكيلية من غزة نزحت قسرا إلى عنب ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - سيرَة أُخرى 20