أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - أثينا















المزيد.....


أثينا


دلور ميقري

الحوار المتمدن-العدد: 5033 - 2016 / 1 / 3 - 08:51
المحور: الادب والفن
    


1
" أثينا "؛ إنها محطة التهريب الأساسية، التي تربط المشرق بفردوس أوروبا.
هكذا كانت أيضاً منذ نيّفٍ وربع قرن، حينما وصلتُها ذات ظهيرة من بداية آذار. أدهشني الجو الدافئ في هذا الربيع المبكر؛ أنا من سبقَ وأمضى ما يزيد عن العامين في موسكو. الواقع، فلا موقع عاصمة الإغريق ولا مناخها الإقليمي ليختلفان كثيراً عن مثيلهما الدمشقي. بل إنك ستجدُ في أشكال البشر ثمّة، وطريقتهم في الكلام، ما كنتَ قد فارقته في موطنك مذ بعض الوقت. " أثينا "، مدينة المنازل البيضاء، المحاطة بالجبال. ينغرس في وسطها هضبتان تحيطهما الخضرة، يعلو إحداهما معبدٌ وثنيّ، فيما الأخرى تتبارك بكنيسة من زمن التنصير الأول: كذلك كانت مشاهداتي البكر في حاضرةٍ عريقة، لطالما شُغفت بقراءة ما يتعلق بها تأريخاً كان أو أدباً أو أسطورة.
في المطار، كانت شقيقتي الكبرى تنتظرني مع شابين غريبين، سأدركُ من طريقتهما في الكلام أنهما من مهرّبي البشر. أحدهما ( وهوَ من الكرد الفيلية )، كان لديه شقيق أكبر يقيم مع عائلته في نفس عمارة شقيقتي. ذات مرة، كانت هي تتكلم مع إحداهن عن إمكانية مساعدة أخوتها في المجيء إلى السويد، عندما فاجأتها هذه بالقول: " تسألينني عن الطريقة، ولديك جيران من المهربين المعروفين!؟ ". وإذاً، تعرّفتُ منذ اليوم الأول على " أبي جاسم " هذا. كان شخصاً لطيفَ المعشر، طيباً وشهماً. مظهره الخارجي كان يشي بأنه معتلّ الصحة، وكان دائم التفكير لا يكاد يكفّ عن التدخين. الآخر، وهوَ من فلسطينيي لبنان؛ يبدو من مسلكه كم امتحنته الحياة بالشدائد على الرغم من أنه ما كان يتجاوز سنّ الثلاثين. " أبو طارق " هذا، كان فيما مضى أحد مرافقي الزعيم عرفات في مقرّه ببيروت، ثم ما لبث أن استقر في العاصمة اليونانية بصفة موظف في قنصلية منظمة التحرير. ولأنه كان يملك حصانة دبلوماسية، فإنه جعل شقته بؤرة لعمليات تزوير جوازات السفر. بعد بضعة أيام، اصطحبني " أبو جاسم " إلى الأستديو كي أحصل على صوَر شخصية للباسبورت المزوّر. بعدئذٍ، انتقلنا إلى شقة المرافق السابق للزعيم. ثمّة، رحّب بنا الرجل وقام بواجب الضيافة في الصالون. ثمّ نهضَ على الأثر، قائلاً أنه سيرينا غرفة الأولاد. كانت الغرفة خالية تماماً من الأثاث، اللهم إلا طاولة مستديرة أتخِمَتْ بمواد مختلفة كالأختام والحبر، فيما عشرات جوازات السفر متناثرة على الأرضية: " صورتك الشخصية، سيتم وضعها بمكان صورة هذا الشاب اليوناني! "، قالها مُضيفنا وهوَ يريني الصفحة الأولى من باسبورتي الجديد.

2
لأول مرة، ولا مِراء، أتعرّف عن قرب على عالم المهربين.
على أثر عودة شقيقتي إلى مكان إقامتها في السويد، جاء " أبو جاسم الفيلي " إلى الفندق وطلبَ مني أن أتهيأ للإنتقال إلى شقة مستأجَرة. أثناء وجودنا في غرفة الفندق، أراد المهرّب أن يأخذ مني مبلغ ألف دولار. فأخبرته بوضوح، أن شقيقتي طلبت مني ألا أسلمه المبلغ قبل أن أراه جاهزاً جوازَ السفر، المزوّر. ضحك عندئذٍ بطريقته المُتهكّمة، ثم ما لبثَ أن قال لي وقد استعاد ملامحَهُ الحزينة: " سأتكلم معها هاتفياً أمامك. أنا بحاجة ماسّة للنقود ".
حالَ نزولنا من عربة التاكسي، ألقيتُ نظرة عابرة على المنطقة. الدروب والأبنية، كانت شبيهة لمثيلاتها في حيّ " الشعلان " الدمشقي. إلا أنّ أشجار الزينة هنا، كانت تتدلى منها ثمار البرتقال الناضجة. في طريقنا إلى العمارة المطلوبة، أخبرني المهرّبُ أنني سأتقاسم الشقة مع شابين آخرين. كانا في الشقة، وقد رحّبا بي بلكنتهما المردلية. كلاهما من سريان منطقة " الجزيرة "؛ أحدهما في مثل عمري، بينما الآخر أصغر ببضعة أعوام. هذا الأخير، بدا لي على الفور شخصاً يهتم بالثقافة. قريبه، وبغض الطرف عن قلة تعليمه، سيكشف أيضاً عن شخصية متزنة. على ذلك، شعرتُ بالإحراج حينما بادرهما المهرّبُ بلهجة جافة: " سينام هوَ في غرفة النوم، وأنتما تدبرا أمريكما في الصالون! ".
الشقة، كانت أنيقة نوعاً. فضلاً عن ذلك، فإنها لم تكن لتبعد عن البرلمان اليوناني سوى بمسافة ربع ساعة مشياً على الأقدام. عرفتُ ذلك في صباح اليوم التالي، لما رافقتُ مواطنيّ الطيبَيْن إلى مركز المدينة. هناك توقفنا أمام مبنى البرلمان، فشاهدنا مع جمهورٍ غفير مراسيمَ تبديل الحرس، الطريفة. بعد ذلك قال لي المرافقان، أنهما سيعرّفاني على ما دعياه " المقهى العربي ". عليّ أن أذكر هنا، بأن مقاهي " أثينا " التي سبقَ أن غشيتُ بعضها مع شقيقتي، راقتْ لي جداً بأماكنها الرائعة تحتَ شمس الربيع وفي ظلال أشجار الحمضيات وعرائش الياسمين والمجنونة. أما ذاك المقهى، الموسوم، فما أن ولجته حتى بدا لي مكاناً مشبوهاً يقبع في أعماق أحد الأقبية. عبقُ الأركيلة، طغى عليه دخانُ السكائر، الخانق. العراقيون والإيرانيون، شكلوا غالبية المتواجدين. معظم هؤلاء، كانوا يسعون مثلنا إلى اللجوء لدولة اسكندينافية. بيْدَ أنني أبديتُ استغرابي، لما أخذ بعض الإيرانيين خلال الدردشة بالدفاع عن نظام الملالي وتأكيد قدرته على الإنتصار في حربه ضد صدام حسين. بعد قليل، دخلَ شاب عراقيّ ذو لحية صهباء وهيئة هادئة. قدّموه لي، ما أن انضمّ إلى طاولتنا، بأنه خريج هندسة من احدى جامعات يوغوسلافيا: " هو أيضاً مثلكَ، يهتمّ بالرسم! ".

3
في مقهى بأثينا، تعرفتُ إذاً على شاب عراقيّ كان يَسعى أيضاً إلى اللجوء.
كان شخصاً إشكالياً، لو جازَ التعبير. ملامحه الحزينة، كانت تفصح عن انتمائه إلى جنوب الرافدين أكثرَ من بغداد؛ مسقط رأسه بحَسَب ما قال. على الرغم من كونه مُقلاً بالكلام، فإنّ شذرات حديثه أوحتْ لي بأنه كان موالٍ يوماً لتنظيم شيوعيّ. أو ربما أن استنتاجي كان مبنياً على حقيقة دراسته في يوغسلافيا: " اختياري دراسة هندسة العمارة، عائدٌ لشغفي بالرسم "، أضافَ في التعريف بنفسه. على الأثر، اتفقتُ مع الأخ على موعدٍ في عصر اليوم التالي. كان من المقرر عندئذٍ أن يُريني لوحاته الزيتية، الموجودة في غرفة إيجار يقيم بها. كذلك أخبرني، وليسَ بدون قليلٍ من الزهو، بأنّ ثمة تاجر تحف يقتني بعض لوحاته.
صباحاً، توجهتُ لوحدي نحوَ هضبة " الأكروبول "، أينَ معبدها الأشهر. في واقع الحال، فإن كل ما في هذه الحاضرة الساحرة من موجودات، يجعلها متحفاً مفتوحاً: الدروب، تترامى على جانبيها المنازلُ ذات الطراز المعماري الإغريقي، سواء أكانت قديمة البناء أو حديثة. حتى المحلات والمؤسسات المختلفة، من شركات وبنوك، فإنّ واجهاتها تحتفي بنمط الأفاريز والأعمدة الكورنثية. وهوَ ذا " الأكروبول " على مرمى البصر، يتشامخُ فوق هضبة تقع في قلب المدينة، يُحيطها غوطة صغيرة من الأشجار المثمرة والحرجية. ثمّة، في قاعدة الهضبة، تتمركز حياة المدينة بما فيها من أسواق ومطاعم ومقاهٍ ومحلات الأنتيك. الحقيقة، فلم تجد نفسي أبداً مكاناً جلبَ لها الراحة والسكينة والدِعَة كهذه المنطقة، المُغرَقة في العراقة.
عقب زيارتي للمعبد، والمتحف الملحق به، كان الوقتُ قد آن لتناول الغداء. مطعم، كان منزوياً بين صخور طلعة الهضبة، أغراني للدخول بما كان من البريق الذهبيّ لأقداح الجعة، المتناثرة فوق الموائد وسط ثرثرة المرتادين وأغلبهم سياح. إلا أن نظرة عابرة على لائحة الطعام، عليها كان أن تجعلني أكتفي بتناول زجاجة بيرة محلية. بعد ذلك، نزلتُ إلى منطقة الأسواق بحثاً عن مطعم مناسب. في المكان المطلوب، آثرتُ اختيارَ وجبة شيش كباب مع سَلَطة يونانية وربعيّة عرَق أوزو. كنتُ منهمكاً في الأكل والشرب، حينما انجذبَ بصري هذه المرة إلى حسناء يانعة، كانت قد دلفتْ تواً إلى المحل المزدحم بالزبائن. كان برفقتها امرأة ذاتَ شعر أشقر، أو مصبوغ، أعتقدتُ لوهلةٍ أنها أمها. عينا الفتاة، الخضراوان والمكحولتان، كانتا تبحثان عن طاولة فارغة إلى أن استقرتا في عينيّ. بعد جلوسهما بمواجهتي، ألقى كلّ منهما نظرات الأنثى الفضولية على شخصٍ غريب. ولكن، يا للسعادة. فالفتاة الفاتنة، ما لبثت أن رشقتني بغمزة من إحدى عينيها الرائعتين. رأسي الساخن بأُوار العرَق، ما عتمَ بدَوره أن التفتَ إلى الحسناء. عندئذٍ، بادرت هيَ إلى الحديث وبلغة انكليزية أقل فظاعة ولا شك من انكليزيتي. لاحظتُ من ناحيتي، أنني عندما كنتُ أتكلم عن انطباعاتي حول مدينتهم الجميلة، فإنهما تبادلتا أكثر من مرة ما يُشبه الابتسامة المتهكّمة. بَيْد أن هذا الخاطر شاءَ أن يتبدد حالاً، حينما مدّتْ لي الفتاة كفاً رقيقة تقبض على كرتٍ شخصيّ. على الكرت، كان مدوناً اسمها وكنيتها باللغتين اليونانية والانكليزية، علاوة طبعاً على رقم التليفون. اسمها، كان إغريقياً أصيلاً؛ " الكسندرا ".

4
بعد الغداء، غادرتُ المطعمَ ورأسي مثقلٌ بفعل المُدام ونديمته على حدّ سواء.
شريكيّ في الشقّة، كانا كالعادة في حجرة الصالة. تجهّمُ وجهيهما، جعلني أحدُسُ بأنهما أنهيا للتوّ إحدى المجادلات العقيمة. سببُ هذه الحالة، كان قلة خروجهما من المنزل، علاوة على مشاعر القلق والتوجّس تجاه المجهول في قادم الأيام. ففيزا الإقامة السياحية لكليهما، كانت قد آذنتْ بالانتهاء. كما أنّ المهرّب، من ناحية أخرى، قد ضاق ذرعاً بمماطلات أقاربهما بخصوص المال المطلوب.
على أثر قيلولة مُبتسَرة، توجّهتُ مشياً إلى موعدي مع " هادي "؛ الصديق العراقي، الذي تعرّفتُ عليه بالأمس. المقهى العربي، كان قد أضحى مركزَ لقاءٍ بالنسبة لكثيرين من طالبي اللجوء. بعد شرب الشاي وسَطَ اللغط ودخان السكائر، شاءَ الرجل أن نذهبَ فوراً إلى غرفته كي يُريني رسوماته. ثمّة وحال دخولي الحجرة، الملحقة بأعلى جزء في بناءٍ من عدة أدوار، زكمَ أنفي ما كان من رائحة الرطوبة وربما العفونة أيضاً. كان مكاناً رثاً، شبهَ عارٍ من أيّ أثاث مُعتَبَر. اللوحات المَعنية، فاقمتْ من صدمتي بموجودات الحجرة. سألني بنبرَة مُحرَجة بعدما عاينَ صمتي: " كيفَ وجدتَّ الرسوم؟ ". مُداوراً، قلتُ له أنّ لوحاته تحتاج لبعض اللمسات اللونية. وإذا به يرجوني أن أضيفَ بنفسي ما أراه لازماً من خطوط وألوان. يتحتّم عليّ هنا القول، بأنني لم أكن يوماً بارعاً بالتلوين الزيتيّ. إلا أنّ الرجل فاجأني بتحمّسه للتعديلات، التي قمتُ بإجرائها على إحدى لوحاته. وبالغَ في الحماسة، لما طلبَ مني أن أرافقه إلى متجر تحف كي يَعرض على صاحبه تلك اللوحة المنجزة.
في الأثناء، كانت صديقته اليونانية قد حضَرتْ. كانت تبدو في الثلاثينيات؛ ضئيلة القامة وبوجهٍ صغير شبيهٍ بالفأر. إذاك، غبطتُ نفسي على حُسْن وفتنة " صديقتي ". عندما كنا في الطريق إلى تاجر التحف، رأيتُ أنّ الوقتَ مناسبٌ لأحدّث " هادي " عن موضوع تلك الفتاة. الحق، فإنني كنتُ أرغبُ أن يقوم هوَ بمهاتفتها بما أن انكليزيته ممتازة. من ناحيته، بدا مُتشككاً بخصوص بعض التفاصيل؛ كمبادرة الفتاة للتعرّف إليّ: " على كلّ حال، ممكن أن نتصل معها بعد قليل "، قال لي أخيراً بلهجته المتحفّظة. عندئذٍ، كنا قد وصلنا إلى المكان المقصود. سحنة التاجر، مثلما لاحظتُ لأول وهلة، لم تكن تُبشّر بالخير. وهذا ما كان فعلاً. لم يعبأ باللوحة الجديدة، بل راح يصيح في وجه صديقنا بإنكليزيّة بائسة. ثمّ لم يلبث أن أشارَ إلى لوحاتٍ سبقَ أن تُرِكتْ لديه للبيع، قائلاً لصاحبها المسكين: " ما هذا، ما هذا؟.. خذها من هنا حالاً! ".

5
مكالمة مقتضبة مع " الكسندرا "، اتفقنا خلالها على موعدٍ في اليوم التالي.
كنتُ عندئذٍ مع الصديق العراقي " هادي "، المُتعكّر المزاج بعدُ على أثر اللقاء غير الطيّب مع تاجر التحف. هذا الأخير، كان قد تغيّرَ مزاجُهُ بدَوره فوافقَ على ضمّ اللوحة الجديدة إلى أخواتها العوانس. مُعلّقاً على الأمر، قال لي صديقي : " طلبَ مني أن أقومَ بإجراء تعديلاتٍ في ألوان بقية لوحاتي، الموجودة لديه ". كان واضحاً أنه يحاول استعادة ثقته بنفسه، وفي آن، توريطي مجدداً برسومه البائسة.
المهرّب العتيد، كان في الشقة لدى إيابي ليلاً. وكالمألوف، كان يبدو متعباً نفسياً. كان يتكلم بازدراء مع رفيقيّ المسكن: " لقد سبقَ وأوصيتُ ألا ترتادا المقهى العربي، لاحتمال مداهمة من البوليس في أيّ لحظة "، قالها ثم انتقل إلى موضوع آخر وبنبرة أحدّ " عليكما أن تتكلما مع أقاربكما في السويد. إنني لا أستطيع فعل شيء بدون فلوس! ". بعد ذلك، نهضَ وافترشَ لنفسه منامةً في ردهة الشقة.
صباحاً، رافقتُ المهرّب إلى مركز المدينة. شمسُ " أثينا " ونسيمها المنعش، في هذا الوقت من منتصف آذار، كانا يبرهنان على حقيقة ربيعها الخالد. وربما أسهَمَ ذلك في تحسين مزاج رفيق الدرب. لقد كان لطيفاً معي دوماً، وعلى الرغم من طريقته المتهكّمة في الكلام. طمأنني بخصوص جواز السفر المزوّر، قائلاً أنه سيكون جاهزاً خلال يومين: " إلا أنّ تدبير فيزا إلى فيينا، أو أمستردام، قد يحتاج لوقتٍ أطول ". بعد وهلة صمت، قال لي فجأة: " عشرون ألف دولار؛ هيَ كلّ ما أحتاجه كي أفتح محلاً في ستوكهولم! ".
أخيراً، أطلّتْ من كنتُ في لهفةٍ إلى لقائها، وكنتُ آنئذٍ مع " هادي " ننتظرها قدّام إحدى الكافيتريات. لم تكن " الكسندرا " متأنقة مثلما كنتُ قد رأيتها للمرة الأولى، في ذلك المطعم. بيْدَ أنها، بالمقابل، كانت ما تفتأ متألقة وفاتنة. عرّفتها على صديقي، الذي تكلّمتْ هيَ معه بالأمس هاتفياً. بعد ذلك، جاء النادلُ بالقهوة والآيس كريم. في الأثناء، لاحظتُ أنها ترمق " هادي " بنظراتٍ تُفصح عن نفور. هنا، إذا به يقترحُ عليّ أن أقوم برسم بورتريت لها. وافقت هيَ على فكرته في شيء من التردد، دونما أن يتغيّر تعبيرُ ملامحها. فمدّ لي صاحبنا على الفور يدَهُ بدفتر وقلم ناشف. كان يبدو أنه يحتفظ بهما على الدوام، كونه رساماً. نعم.

6
لبورتريت، كان موفقاً بدليل نيله إعجاب " الكسندرا " ورغبتها في الاحتفاظ به.
خارج الكافيتريا، وقفنا ننتظرُ " هادي " المتواجد في الحمّام. عند ذلك، أشعلت هي سيكارة وراحت تنفث دخانها بطريقة مثيرة. كانت ترمقني بنظراتٍ حميمة، مما شجعني على إبداء إعجابي بها. قالت لي بنبرة أقرب للتهكّم: " وأنا أيضاً معجبة بك ". هنا، اقترحتُ عليها أن نمضي إلى غرفة الصديق العراقي. ترددها في الجواب، أوحى لي بأنني نطقتُ كلاماً متهوّراً. فكم فاجأتني، لما اقترحتْ هي بالمقابل أن نمضي أولاً إلى بارٍ قريب ومن ثمّ نكمل السهرة في شقتها: " أنا وأنتَ حَسْب! "، قالتها وهيَ تفتح عينيها الجميلتين على وسعهما. لا أدري، لِمَ لم أتحمّس لموضوع الذهاب إلى بيتها. إلا أنّ " هادي " خرجَ أخيراً، فانقطع الحديث.
البار، كان مزدحماً جداً مما اضطرنا أن نشارك مجموعة من الفتيات طاولتهن. كنتُ سأتوجّه إلى سدّة البار، كي أجلب مشروباً، وإذا بحسنائي تنهضُ على الأثر: " لنذهب من هنا.. "، قالتها بنزق ثم مشتْ أولاً. أولئك الفتيات، مثلما لاحظتُ قبل وهلةٍ، كن يُحدّقن فيها ثمّ يتبادلن نظرات متبسمة. في الشارع الممتلئة عتمته بوميض أضواء المحلات والسيارات، كنا نمشي بدون هدى أو نأمة. بعد قليل، انتبهتُ إلى أنّ سيرنا يتوافق مع خطوات الصديق العراقي. هذا الأخير، ما لبثَ أن أشار إلى جادة ضيقة مُخاطباً الفتاة: " أنا أقيم هنا ". ثمّ أضافَ، أنه سيشتري من أحد المحلات زجاجة نبيذ. إذاك، جازَ لدهشتي أن تتفاقمَ حينما قالت له الحسناءُ ببساطة: " أما أنا، فأرغبُ ليكيور كريم! ".
في حوالي منتصف الليل، تركنا " هادي " لوحدنا بعدما صدّعَ رأسينا بثرثرته. الخمرة، يبدو أنها كانت هيَ من حلَّ عقدة لسانه. على بصيص المصباح الصغير، المنتصب فوق منضدة السرير الرثّ، راحت " الكسندرا " تخلع ملابسها رويداً. ثم استلقت بعدئذٍ على السرير وهيَ عارية إلا من كولونٍ رهيف، أسود اللون. بدأتُ بتقبيلها. غير أنها بقيتْ جامدة كأحد تماثيل متحف " الأكروبول "، الممثّلة ربّة الحبّ الإغريقية. عندما سألتها عما دهى، لم تُجِب فوراً. مدّت يدها إلى درج منضدة السرير، فسحبته: " ضَعْ هنا مائة دولار ثم أفعل معي ما بدا لك!! "، ندّت عنها بخفّة وشدّة في آن.

7
في حقيقة الحال، لم أفاجأ تماماً بكون " الكسندرا " مومساً.
على الرغم من أنها المرة الثانية، التي ألتقي فيها هذه الفتاة الفاتنة، فإنّ علامات عديدة كانت قد أوحت لي بشكوكٍ مبهمة حول شخصيتها. لقد بدَتْ نهاراً على عجلة من أمرها، مستهترةً خصوصاً بتمثيلية البورتريت. وهيَ ذي اللحظة تنتظرُ جوابي، راسمةً على فمها المنمنم ابتسامة ساخرة.
" لنخرج من هنا.. "، خاطبتها أخيراً فيما كنتُ أتناهض. قالت لي فوراً بنبرة مؤملة: " تستطيع، لو شئتَ، الدفعَ بالدراخما! ". رحتُ أرتدي ملابسي وكأنني لم أسمع ما قالته. ثمة في الشارع، طلبت مني أن أعطيها أجرة التاكسي. كان هذا آخر ما سمعته منها؛ فهيَ لم تنبس حتى بكلمة " شكراً " حينما تكرّمتُ بمنحها عشرَ دولارات.
في مساء اليوم التالي، التقيتُ " هادي " في المقهى العربي. لم أخبره بحقيقة الفتاة. وكي أداري خيبتي، فإنني غطيتُ عليها بخيبة أخرى: " اليوم عصراً، دخلتُ إلى متجر تحف في منطقة الأكروبول. كان المستخدم هناك مصرياً، فأبدى استعداده لجعل معلمه يخفض لي ثمن إحدى التصاوير الإغريقية الرائعة، المُصنّعة من السيراميك المذهّب. بعدما لفَّ الغرضَ، ناولته بخشيشاً لقاء خدمته. في الشقة، إذا بي أفاجأ بأنّ ذلك النصّاب قد عمَدَ على غفلة مني إلى استبدال تصوير السيراميك بصحن من الفخار الرخص! ".
يومان على الأثر، ورأيتني مرة أخرى في شقة مرافق " عرفات " السابق. قال لي " أبو طارق " وهوَ يُناولني أحد جوازات السفر ذات اللون البني: " ما رأيك بهذا؟ ". فتحتُ أوراقَ تلك الوثيقة اليونانية المزوّرة، وصرتُ أقلّبها. وإذا بي أرى صورة مألوفة: " ولكن، أليست هذه صورتي؟ "، تساءلتُ مذهولاً. هنا، ضحك صاحبنا الفلسطيني وقال: " وماذا كنتَ تظنّ، إذاً؟! ".
في الأيام التالية، كنتُ لا أفعل شيئاً سوى التسكّع هنا وهناك بانتظار الفيزا الهولندية. ذات صباح مُشرق، تسلقتُ الهضبة المخضوضرة المحتفية بالكنيسة القديمة. عندئذٍ، شاءَ رفيقا الشقة مرافقتي. هناك، أخذنا عدة صوَر تذكارية. قال لي الأصغر فيهما ضاحكاً: " بمعطفك الأسود اللون ولحيتك الشقراء، تبدو شبيهاً بسيّدنا المسيح! ".
" العشاء الأخير "، في هذه الحاضرة العريقة، جازَ أن يكون بمثابة حفلة وداع. في أحد المنازل القديمة، المتحوّلة إلى مطعم، كنتُ مع رفيقيّ المسكن علاوة على " هادي " وصديقته. هذه الأخيرة، هيَ من تفاهمت مع النادل بشأن لوازم مائدتنا من مازة ونبيذ أحمر. أفرطتُ بالشرب في تلك الليلة الجميلة، متناولاً الكأس إثر الأخرى مُستمتعاً بأجواء السهرة مع الموسيقى اليونانية. عندما نهضنا للمغادرة عند منتصف الليل، عليّ كان أن أجرّ قدميّ جراً. الطائرة، كان من المقرر أن تقلع الساعة السادسة صباحاً. رافقني إلى المطار " أبو جاسم "، المهرّب العراقي الطيّب القلب. كان منزعجاً للغاية من رفيقيّ السكن، وكأنهما هما المسؤولان عن حالتي الرثة. قام هوَ بأغلب الإجراءات، ثم تمنى لي سفراً سعيداً وموفقاً. خلال الطريق إلى " براغ "، استغرقتُ في النوم تماماً. أما في صالة الترانزيت ثمّة، فإنني كنتُ قد استعدتُ نفسي نوعاً. في المقابل، كانت الهواجسُ تتناهبني فيما يخصّ وصولي المفترض إلى هولندا بالطائرة ومنها للسويد بالقطار.



#دلور_ميقري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- سيرَة أُخرى 9
- المُخلّص
- سيرَة أُخرى 8
- مجنون الكنز
- الحكايات الثلاث
- سيرَة أُخرى 7
- أمثولتان
- مجنونة الجبل
- سيرَة أُخرى 6
- الحكايتان
- من أمستردام إلى مالمو
- سيرَة أُخرى 5
- حكايات
- أمستردام
- سيرَة أُخرى 4
- مراهق
- حكايتان
- ثلاث حكايات
- سيرَة أُخرى 3
- مجنون عبّاد الشمس


المزيد.....




- “القط بيجري ورا الفأر”.. استقبل Now تردد قناة توم وجيري الجد ...
- الان Hd متابعة مسلسل صلاح الدين الايوبي الحلقة 23 مترجمة عبر ...
- تابع حلقات Sponge BoB تردد قناة سبونج الجديد 2024 لمتابعة أق ...
- من هو الشاعر والأمير السعودي بدر بن عبد المحسن؟
- وفاة الشاعر الأمير بدر بن عبد المحسن
- بتهمة -الغناء-.. الحوثيون يعتقلون 3 فنانين شعبيين
- دراسة تحدد طبيعة استجابة أدمغة كبار السن للموسيقى
- “أنا سبونج بوب سفنجة وده لوني“ تردد قناة سبونج بوب للاستمتاع ...
- علي بن تميم: لجنة جائزة -البوكر- مستقلة...وللذكاء الاصطناعي ...
- استقبل الآن بجودة عالية HD.. تردد روتانا سينما 2024 على الأق ...


المزيد.....

- أبسن: الحداثة .. الجماليات .. الشخصيات النسائية / رضا الظاهر
- السلام على محمود درويش " شعر" / محمود شاهين
- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - أثينا