أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد احمد الغريب عبدربه - الخروج الي الحديقة















المزيد.....

الخروج الي الحديقة


محمد احمد الغريب عبدربه

الحوار المتمدن-العدد: 4670 - 2014 / 12 / 23 - 09:50
المحور: الادب والفن
    


كانت الحجرة مظلمة، ونصف سقفها الايسر ملون بالاسود والثاني بالابيض، ومنتصفه يستقبل أعين نائمة لم تستيقظ منذ يوم، هذه النقطة كانت تدمع في الظلام حتي اصبحت أكثر بروزاً عن اي منطقة اخري في السقف، وتزداد اكثر بروزأ عندما يستيقظ صحاب الأعين ويلامسها بأصابعه بلطف ثم يجلس ينظر اليها ويضحك.
كانت تزداد في البكاء والبروز أكثر مع تزايد ضحكاته وتغيرها الي نظرات حزينة، كل لحظات، هذه النقطة لا تهتم الا به، طول الوقت تنظر له وينظر لها، مشهد بطئ ملئ بالمشاعر، بين شئ صامت صلب، ورجل فقد الحياة لتوه، واصبح يضحك لكي لا يتذكر ما فقده.
وكان يهتم بها هو ايضاً، بل يهتم بدهان السقف كله بالوأنه كما هي، وذلك بانتظام كل فترة، حتي يظهر بشكلأ واضح وزاهي يسر الناظرين، يحمل فرشاة الدهان، ويجلب مكونات الدهان ويرتدي ملابس تناسب هذا الأمر، وعندما لمس الفرشاة تذكر أنه منذ بدأ الدهان قد ذهب عدة اشهر لكي يتعلم الدهان في أحد الأماكن المخصصة لذلك.
شعر في هذه اللحظة أنه بذل ما لديه لكي ينجح في ذلك، كان يدهن بابتسامات لحظات وحزن لحظات، ثم يستريح مستلقياً علي الأرض وناظراً لمنتصف السقف.
وعندما ينتهي من الدهان تنتابه لذة كبيرة ثم يذهب في النوم، ويحلم بها، ويحضنها بقوة ولكنه يرفض الحلم ويستيقظ باكياً ويجرجر نفسه بين انحاء الشقة بعد أن يترك حجرته خالية من نفسه، ثم يستقر به الحال علي السرير مستلقيا ظهره، وماسحاً دموعه كلها، وناظراً لمنتصف الحجرة.
ويفتح نافذة تقع فوق السرير وينظر الي المباني التي تلتصق بنظراته، فتضيق الرؤية فيصبح اكثر اكتتئاباً ومناجاة، ويتمتم لنفسه بنهاية كل شئ، رغم استمراره المفزع في فضاء مشتت.
***
رن جرس شقة في الدور اسفل شقته مباشرة، فانتبه له وارتدي ملابسه، واقترب لهذا الامر، ورأي صديقه متسائلاً عنه، واصفاً اياه لشخص فتح الباب لتوه، انه طويلاً ذو عينان زرقاتان، وعريض الجبهة، يملك من الخبرة الواسعة في تاريخ فنون عصر النهضة.
اندهش من هذه المعلومات المغلوطة، وظن أنه يبحث عن شخص اخر، ولكن تأكد أنه يبحث عنه لأنه صديق يمسك بكتاب في طب الجنون، وهو كتابه الذي ينتظره من صديقه بفارع الصبر، فكثيرا من الوقت يقرأ مقتطفات منه، وهو مستريحا سريراً ناظراً الي منتصف السقف، كعادته.
كما أنه ينتظره لكي يسأله عن اخر تطورات امور الدهانات واسعارها، والوانها التي تتغير كل فترة، فهو يريد الحديث منها حتي يصبح السقف أكثر جمالا واشراقا كما يود ويقول لنفسه ذلك..
تأمل حديث صديقه المطول مع جاره، والذي يمتلئ بالأخطاء عنه وعن حياته، الا بعض المعلومات الصحيحة ومنها تطرقه للحديث حول كتابه الذي اخذه منه وكان حول الاكتئاب وقام برده منذ اسبوع واخذ مكانه كتاب الجنون، وأنه اليوم سيأخذ منه كتاب حول العبث، وايضا قال لجاره ان لديه كثير من المعلومات يحملها لصديقه عن عالم الدهانات.
ونظر له صديقه، وابتسم ولوح له بكتاب الجنون، وطلع السلالم ثم دخل شقته، وجلس يثرثر معه، ومرت الاحاديث والموضوعات المتعددة، وكان اكثر الكلام عن الدهانات والكتب التي تقرأ، ثم فجأة شعر كلاهما بالضيق والملل، بعد أن كان مستمتعان بالحديث في بدايته، يبدو أنهم ليس علي حد الاتفاق، أو أنهم لا يفهمان بعضهم جيداً، ثم تبادلا الكتب، وانصرف صديقه.
وسأل نفسه لماذا يستمر في علاقته بهذا الصديق، إلم يحن الوقت لوضع نهاية معه.
***
مر عليه الوقت ثقيلاً تارة قارئاً بعض كتبه في الاكتئاب والجنون وتاريخ الشواذ في كل الاشياء وبعض الافكار التمهيدية في الفلسفة، وتارة مسترخياً علي سريراً ناظراً الي نقطة منتصف السقف، حتي شعر باحتياجه الي الاجتماعي، وفعل تواصلي بسيط لا يحتاج الي حسابات وفهم للمصلحة والواقع جيداً.
فذهب الي البلكونة ورأي بعض الافراد جالسين يثرثرون في امور عدة فرغب، ان يشاركهم ذلك، فارتدي ملابسه وقبل خروجه من المنزل صعد مرة أخري الي كهفه الدائم، واصبح بشكل مؤكد غير قادراً علي الجلوس مع اصحاب النوادر والحكايات المسلية. فنادي علي عامل القهوة أن يأتي اليه، وحادث نفسه أنه لا يمكنه الاستغناء عن التواصل مع الاخرون، ولكن ليس بشكل مباشر مطلقاً، فهناك كثير من الاختيارات متاحة أمامه رغم مرارتها، لكنه ستناسبه لوقت طويل.
دخل عامل القهوة شقته، وحادثه احاديث كانت تردد في الاسفل، فسعد كل السعادة، ولكنه نفر بعد عدة دقائق، وقد شعر بارتياح غامض ملئ اعماقه، وقدم للعامل عشاءاً فاخراً ومشروبات وطلب منه تناول ذلك دون حديث، كان يجلس أمامه ينظر له وهو يأكل بهم، ويبتسم ويصرخ بداخله بأنه رد جميل هذا العامل دون اي تقصير من جانبه.
وطلب من صديقه علي الذي يبتادل معه الكتب أن يقابله بعد عدة أيام في مكان وسيط بينهم ليسلمه بعض الاوراق التي تحتوي علي احاديث وثرثرات التي تتناثر علي مجالس الناس وبعض القهاوي التي تتواجد في المنطقة التي يعيش فيها علي.
وبالفعل تجاوب علي معه وقابله واعطاه كثير من الارواق والاحاديث، فتلقي التحيات والتقدير منه ..
جلس يطالع الاحاديث المكتوبة بنشاط وسرور، وتذكر معها ما قاله عامل البوفيه، بانتباته نشوة غامضة وكان ذلك في الصالة، فلم يدخل حجرته ومتابعة نقطة السقف، وقال لنفسه الان سلامي الداخلي تجاه العالم جيد، فقد تشبعت بكثير من البهجة والسرور، فالاخرون مدوني بها عن طريق القراءة والذكريات ولما يطالبوني بالمقابل وهذا انجاز في حد ذاته، ساسعي لتكراره يوما بعد يوم...
قرار بقائه في الشقة اصبح مستقر بداخله، فهو لا يخرج الا للطورائ ومناجاة العالم لتخفيف الألم، وعندما يعترف ان الوحدة اصبحت لا تفي بمهمة تخفيف الألم، وفي نهاية اليوم وبعد أن يأخذ جولة بالخارج يعترف لنفسه أن الألم يتزايد يوما بعد يوم ولا وجدوي في شئ ينتظره..
***
وأغلق فتحات الشقة عليه، وجلس في الصالة للتحدث للعالم بصوته وليس عبر اوساط حديثة تنتشر بين جموع البشر، بل اصبح عاريا تماما ومسك بيديه تفاحة وعلقها في شئ مرتفع، ثم ذهب يبحث عنها في الشقة حتي رأها معلقة فالتقطها وقام بقضمها بكل قوة حتي انتهت في معدته.
ثم ارتدي ملابسه وقفز في الهواء عدة قفزات حتي اصبح يتسلق اثاث الشقة القليلة، حتي تحطم كل الاثاث واصبح في شكل غير مرتب وسريالي للغابة، فلمسه بأطرافه واصبح يشعر معه بالدفء، فاندهش لكل هذا التغير، واشعل سجائره في فرح.
حتي رن جرس التليفون، فشعر بالصدمة والحيرة، وقام ترتيب كل شئ في مكانه مرة اخري، وحاول اصلاح كل ما فسد من الاثاث بسرعة فائقة، فلم يلحق الرد علي الهاتف، وانتظر حتي يتصل مرة اخري، ولكن ذلك لم يحدث فاغلق الهاتف نهائيا ونام مستلقيا علي ظهره ناظرا لمحتويات الشقة وملامح المكان في بؤوس كامل..
ولانهاء هذه الحالة من الحيرة والارتباك قام بجمع كل الاوساط الحديثة من هاتف واجهزة تلفاز واثاث مكسر وفاسد واثاث اخر مرتب وجميل في مكان ضيق في الشقة، واصبح بدون شئ يستند اليه عند الحاجة فاصبحت الشقة فراغاً هائلاً.
وذهب الي النوم الهادئ الطويل، تاركاً خياله للسعادة، حتي تخفف عنه ألم الصداع واركان الوحدة التي تفترشه، وجلب بعض المسامير الطويلة حتي تتناسب مع ملامح النوم القادم، ووضعه علي السرير بشكل منظم، والقي بعض الجرائد القديمة المليئة بالاتربة ورائحة العفن، وجعل منها غطاء جميل حتي يخفف من شعوره بالبرد، ونام وهو يتأوه من ملامسة المسامير لجسده المهترأ ومتألما من محاولاته الفاشلة لاستنشاق هواء جيداً نظيفا بعيدا عن رائحة العفن التي تقترب منه بكل حفاوة.
لم يستطع اغلاق مشهده بكل سهولة، فرغباته الداخلية تشطره الي ذرات تلتصق بالمسامير ورائحة العفن والاتربة، فزاد التصاقا بها حتي نام في هدوء وراحة وجاء الصباح مهلهلاً لعلاج الجروح واستنشاق هواءاً جديداً نقياً من شباك الصالة.
وارتدي ملابسه ونزل الي الصيدلية واشتري بعض ادوية الجروح، وانتهز الفرصة واستنشق هواء نقياً، ولكن الحزن ارتسم علي وجه، رغم انتهاء معاناته الليلة بصباح العلاج والنسيان.
جلس علي أحد الارصفة وتأمل السماء الصافية وضحكات المارة وضجيج الاطفال وقال لنفسه أن الحياة اليوم افضل من الأمس وخاصة ملامسة المسامير لجسده، ولكنه شك في الأمر، وقرر السير في بعض الطرقات دون تأمل شئ أو تذكر ليلته الماضية.
ولكن الحظ دائما يقف ضده فكل شئ بالأمس تجلي أمامه، فوجد بائع للمسامير والحدايد يعرض عليه بضاعته باسعار رخيصة، فاشتري كثير من المسامير فاصبحت جراح الأمس هي جراح اليوم وبشكل اكبر.
وارتخي جسدة في احد الحدائق ليقوم بادخال المسامير ومسلامستها لجسده تدريجيا وبشكل دقيق، وأخذ يتقن هذا الامر، حتي سال الدماء من جسده، ولكن ليس غزيراً، فهو يحك جسده فقط بالمسمار حتي يشق بعض من لحمه وجلده، واطمأن ان الجروح لا تقتله وأنها عادية تنتظر وقتاً طويلاً لكي تمحي بعلاج اعتيادي.
شعر بحرية المكان والألم، فحضن الهواء بدمائه المنسلة علي جلده، ولعن جلوسه في الشقة وحيداً لا يراه أحداً ولا يري أحد، ووقف لمشاهدة المارة والعاشقين لكي يطلب منهم بعض السعادة، فمنحوه الابتسامة البعيدة وقبلة ثنائية هادئة ليس هو طرف فيها، ولكنه علي مضض شعر بالمتعة.
ثم استلقي علي حشاش الحديقة ونظر الي انتهاء ملامسة المسامير لجسده والهواء النقي وهو يتخلله، وتمني أن يقرأ كتاباً في الجنون أو العبث في هذه اللحظة مثلما كان يفعل في شقته البائسة.



#محمد_احمد_الغريب_عبدربه (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حب تحت المطر واغتيال الجسد والواقع
- بورخيس يغازل فوكو في نقد الحقيقة لدي الغرب
- الارادة ضد السعادة والحيوية في ميلاد التراجيديا لنيتشة
- المادية البيولوجية والثقافية الرومانسية في الانسان
- العلاقات الاجتماعية والاستمرارية
- مقدمة في علم صراع الاهتمام
- الحدود التركية السورية بين الوضع الانساني وخطر التصعيد
- تسعة مقالات في نقد نيتشة
- شيوعية الانثي
- ( فوكو الابن والاب نيتشة) واستمرارية التفلسف
- الانتخابات البرلمانية وثقافة الرموز
- مقال عن جينالوجيا الاخلاق لدي نيتشة
- سؤال التنوير
- اصداء في وعي المرأة
- ما وراء الشر والخير مع نيتشة
- عولمة الأفكار
- ملاحظات علي العلاقة مع الأخر
- العولمة ومنهج المكونات التاريخية للظاهرة الإنسانية
- عولمة الثورات الشعبية في العالم العربي
- الجسد في ثورة 30 يونيو وتقنيات السلطة في توظيفه


المزيد.....




- وفاة المخرج ميشائيل فيرهوفن وساسة ألمانيا يشيدون بأعماله الف ...
- -الماتريكس 5-.. حكاية المصفوفة التي قلبت موازين سينما الخيال ...
- -باهبل مكة-.. سيرة مكة روائيا في حكايات عائلة السردار
- فنان خليجي شهير يتعرض لجلطة في الدماغ
- مقدّمة في فلسفة البلاغة عند العرب
- إعلام إسرائيلي: حماس منتصرة بمعركة الرواية وتحرك لمنع أوامر ...
- مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز ...
- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد احمد الغريب عبدربه - الخروج الي الحديقة