أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - ملف فكري وسياسي واجتماعي لمناهضة العنف ضد المرأة - مختار سعد شحاته - محطة سيدي جابر بعد التطوير.















المزيد.....

محطة سيدي جابر بعد التطوير.


مختار سعد شحاته

الحوار المتمدن-العدد: 4078 - 2013 / 4 / 30 - 00:03
المحور: ملف فكري وسياسي واجتماعي لمناهضة العنف ضد المرأة
    


هل فكرتي مستهلكة؟:
أعترف أنني لم أخطط لكتابة هذا المقال، ربما دفعت بي الصدفة نحو أفكاري تلك، وأنا أحد هؤلاء المؤمنيين بأن الصدف كفيلة أن تدمر كل عمل أدبي، لكن؛ لست هنا بصدد الأدب والكتابة أو التنظير، بقدر ما أنا أحاول أن أخلص من تلك الأفكار وأضعها أمامي قبل أن أضعها أمامك عزيزي القاريء، ربما قد أضيف بعض الجمل الأدبية التي تساعدني في الوصول إلى إجابات أبحث عنها لحظة أنارت بعلامات الاستفهام داخل عقلي، وأظنها خلفت علامتي استفهام وتعجب كبيرتين في داخل القلب، وأعرف أن المشهد الذي أثار كل هذا هو مشهد يترى على أعيننا كل يوم عشرات المرات، وقد تكون فكرة المقال مستهلكة أدبيًا، وأخشى ما أخشاه أن تكون قد تمّ استهلاكها إنسانيًا، فهذا ما حدا بي للكتابة هنا، نعم؛ خوفي أن تكون فكرتي تلك تم استهلاكها إنسانيا، فلو كان، فهي علامة عظمى لها دلالة فارقة في تاريخنا البشري على هذه الأرض، بل لا أبالغ حين أقول على هذا الكوكب الذي يضم حيواتنا العجيبة غير النمطية بتقلباتها وأعاجيب الأخاديد الإنسانية فيها، نعم هي طامة كبرى لو كانت فكرتي هنا في هذا المقال قد تم استهلاكها إنسانيا، فهي تلغي ما عرفته عن أصل جنسنا – أو أحاول استدراكه في شخصي وإن شكك الكثير- هي إنسانيتنا التي أخذت تتآكل بقسوة وبلا أدنى مبالاة من الكثير.


محطة سيدي جابر:
يبدأ المشهد برنيين هاتف، رقم المتصل أخي الأكبر، يخبرني بأن أخي الأصغر سقط في عمله –صحيفة الوطن المصرية- وأنه لا يعرف ما به، جل الأمر أنه تلقى هو الآخر في جريدته اتصالا من زميل يفيد بإغماء الأصغر. فورا جهزت نفسي سريعا للسفر نحو القاهرة، فاتني أقرب موعد لقطار يتحرك، لعنت القطارات والحر الطويل في انتظار القطار التالي في محطة سيدي جابر بالإسكندرية، لم يعجبني تطوير المحطة التى آكلت أصالة المبنى القديم، ودفعت بتكنولوجيا سلم متحرك كهربائي، وبعض أرضيات من الرخام الرديء، وكسوة من زجاج ترى العالم من ورائها، جعلتني أشعر بأنني أنعزل عن العالم، وهو إحساس أكره المرور به، المحطة تآكلت بكل ذكراتي القديمة عنها ومعها، وباتت الآن محض قبة زجاجية من الرخام والتكنولوجيا الرخيصة، سرت العاملين ممن تمترسوا خلف ألواح زجاجية تزيدهم رتابة وآلية، وكانهم ميكنوهم هم الآخرين، على الفور تسلمت تذكرة القطار ونزلت إلى رصيف المحطة.


المشهد كما حدث:
كانت تجلس في لا مبالاة بكل الضجيج من حولها، لا تسمع من المحطة غير صوت نفسها، هي –أيضا- حاربت المحطة الجديدة بتقنيتها الخاصة، حيث قررت أن تعزل كل الموجودات عن عالمها وتكتفي لنفسها بنفسها، هذا المشهد يذكرني بواحدة من جملي الأدبية "وحدي يكفي وحدي". ممتلئة الجسد بشكل لافت، ملامحها المغبرة والمتربة لا تخلو من ملاحة تخبر بها عن أيامها الذابلات التي ملأت بها "جوال" الملابس والأشياء الأخرى الممدد بين ساقيها الممددتين، لا تتوقف عن الابتسام في وجه كل من يمر بها، تتحول في دراماتيكية سريعة إلى موجة غضب سافر وسافل في آن واحد، تطلق البذاءات من فمها نحو هؤلاء، هم لا يعرفهم غيرها، وحدها التي تعرف من هؤلاء الذين تشير نحوهم، تبتسم في سرعة من جديد، تغني "ياما جرح الورد أيادي حتى الجانينية.. على اليادي اليادي اليادي..." تستمر في الكوبليه بلا أخطاء، تطرقع بأصابعها ويتمايل كل جزعها الممتليء علامة الفرح والسعادة، تُحدث الجُلوس حولها، ولا مجيب، قليل من المارة يتجاوب معها فيبتسم، فتضبطه متلبسا بالسخرية، تعلل لهم "يا بيه.. يا هانم.. ست كبيرة وعندي ترللي.. مدققوش عليها.. الدكتور قال إني منخوليا"، تتحول للهجوم على الطب والأطباء، وكيف قرروا حرمانها من الإنجاب، تعود فتغني "حلو يا اللي ماشي ما ترمي السلام والله حرام..." تغني وتستمر، تتمايل بكامل جزعها في تموجات غريبة، تعترف لنفسها بعد لحظة صمت تشد الانتباه "أيوه بحب يا خالة.. بحبه يا خالة.. وهي عارفة إني بأحبه، هو الحب حرام يا خلق".. تستمر في شكواها إلى تلك الخالة المجهولة، والرواد بالمحطة لا يكفون عن الابتسام والضحك أحيانا، تنتبه لهم، وتقرر أنهم مثل الجميع فتتحول إلى وحش كاسر تهجم بلسانها وشتائمها على الجميع، لا تتوقف، تضربني عيناها مباشرة، تصمت، تبتسم، فلا أملك غير الابتسام، تتحرك نحوي، أخجل، ثم تسألني أغرب ما حدث في عمري "هات بوسة يا عسل"..أخجل أبتسم، فتعلل لي بأنها في حاجة إلى قبلة رجل، حتى ولو كان "رفيوع ومعصعص شبهك يا واد"، أبتسم، تبدأ في التوسل، أشيح بنظري وجسدي بعيدا، لكنها تأتي من الناحية الأخرى وتطلب مني ثانية "بوسة والنبي يا عم"، أحاول الهروب، تعاود الكرة "يا عالم نفسي حد يبوسني، حد يبوسني ويقول لي يا زينات أنت أحلاهم"، يزداد توتري، يسخر المنتظر للقطار جواري ويقول :"ما تديها بوسة يا أستاذ لله". هنا وفي غرابة جعلتني أشك في كونها مختلة عقليا أم تدعي الجنون، أراها تنتفض وتحتد عليه "أنا مش بتاعة رجالة، ومنفسيش الرجالة تتواسخ معايا، أنا بس نفسي حد يبوسني وخلاص".


أسئلتي الساذجة في رأسي:
لن أسأل من وراء تلك المشردة مختلة العقل، ومن السبب وراء حالتها، وأين الدولة والحكومة والحقوقيون وأنصار المرأة، لكن دعوني أسأل، كيف عدمت هذه المرأة رجلا يقبلها؟! مجرد يقبلها ويمرر إليها شعورا بالوجود، وبأنها مازالت تعيش في عالم لم يفقد كل إنسانيته بعد، "أنا بس عايزة حد يحبني زي ما أنا"، هذا مطلبها البسيط، مجرد شخص يحبها، يشعرها بكونها موجودة، فمن علم تلك المرأة أن الحب وحده هو ما يجعلنا نشعر بالحياة؟ من أخذ عقلها كيف لم يتمكن من أخذ تلك الحاجة إلى الشعور بالحب والحاجة للإحساس بالتواجد؟ من علم المرأة المجنونة في محطة سيدي جابر كيف تكون "بوسة والنبي" طريقا نحو الحياة بعد الموات؟ من علمها أن العالم لا يُحتمل بلا حبيب؟ ومن أذهب عقلها الذي نسى كل شيء إلا هذا الحبيب الذي تغنيه "يرضيكوا الحليوة يسبني للنار اللي هتدوبني..."، ربما تساؤلاتي فيها من المباشرة فجاجة ما، لكنها لا تقل من ناحية أخرى عن فجاجتنا تجاه هذه المرأة، فالجميع يسخر، يبتسم، يتندر بمجانيين رآهم، وما انتبه أحد إلى شكواها، وما لفت انتباه الكثير بالمحطة تفتيشها الدائم عن حبيبها الذي تخبئه في "جوال" يضم بعض ملابسها وأوراقًا مهملة، وبعض الأشياء التي لا تعدو كونها "زبالة" لدى البعض منا. أين هذا الحبيب؟! وكيف يمكن لمجتمع طرفيه يدعيان بإخلاص أنهما "أصحاب رسالة السلام"، أو "أصحاب رسالة المحبة"، فأين السلام وأين المحبة في وجود تلك المرأة هنا تغني هجر الحبيب، وتشي تصرفاتها بغياب العقل تماما؟! هل هكذا يمكن أن نتجرد من ملامحنا الإنسانية ونتجرد إلى الحد الذي لا نرى فيه كل ما تعانيه المرأة في مجتمعاتنا من القهر والتهميش والظلم، لتصل في نهاية الأمر إلى حال هذه المرأة؟! وكيف لا نرى الطامة ونكتفي بمجرد الابتسام والسخرية منها ومن حالها؟!


تخيل ساذج مثل أسئلتي:
أنا لا ادعي إنسانية أعلى من الآخرين، لكن ربما هي صادفت لحظة سكون داخلي عاينته في انتظار القطار نحو القاهرة، فرأي قلب تلك المرأة الذي أحب، والذي دفع عنه الجسد ثمن هذا الحب، ففقدت عقلها للأبد. فأي مجتمع هذا الذي يدفع بالنساء فيه إلى حافة الهلاك ولا يرى مآسيهن؛ ويكفيه مجرد الابتسام والسخرية؟!
لثوان تخيلتها مكاني وأنا مكانها، وكيف صار لها أن تعبر بكل أريحية عما في صدرها تجاه العالم، تلعنه وقتما تريد، تغني وتتراقص بجزعها حين تشعر بالحاجة إلى ذلك، تغضب تثور أو حتى تشرح للمارة حالها كيفما تريد، بلا رقيب أو خوف. هل نحتاج إلى الجنون لنعبر كما عبرت المرأة في محطة سيدي جابر؟! هل لا يحمي المحبين سوى جنونهم؟ هل مجنون ليلي ومجنون عزة ومجنون لبنى، وغيرهم في تاريخ البشرية لم يحمِ حبهم غير الجنون؟! وكيف لا يستصيغ العالم -ممن يدعي العقل- أفعال الحب؟ ونسى أن القلوب تتقلب بغير إرادة لها، فهي بين أصابع الرحمن يقلبها بالمحبة والقرب كيفما اتفق؟!


نهاية القصة بلا خجل أو مواربة:
لا أعرف ربما التساؤلات التي شغلتني تلك وغيرها، إضافة إلى انشغالي بحالة أخي الأصغر الصحية، وقلقي الزائد عليه، هو ما جعلني أغفل عنها، وعما تقول، وهو ما مكنها من الانقضاض عليّ؛ وتقبيلي فوق رأسي، واحتضاني بقوة؛ شعرت وقتها كما أنا عريان في مجتمع شديد العري، لا يرى فيها غير مجنونة، وغفل أن يراها بعين الحب، وإن أنسى لن أنسى جملتها الأخيرة قبل أن تبتعد تحكي حكايتها "بس يا حبيبي مكنتش عايزة غير حضنك، وبوسة على جبينك؛ تقول لي أن أنا عايشة لسه"، وتبكي وتتابع الحكي مبتعدة. تمنيت لو أنها عادت؛ فكررت ضمتها وقبلها على رأسي بكل أوساخ العالم التي حملتها، وأن أحملها عنها ولو لحظات.
أتمنى أن يجد أخي في المستشفى مجنونا يقبل رأسه، ويطبطب عليه، ويخبره بأن العالم يشعر به، وأنه منا قريب حبيب، وأن يلقى أحبتنا من يهون عليهم.
شفا الله كل مريض.

مختار سعد شحاته.
"Bo Mima"
روائي.
الإسكندرية- مصر
القطار بين الإسكندرية- القاهرة.



#مختار_سعد_شحاته (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أنا نبيُ.
- أنا قابل .. عامية مصرية.
- ال Nickname : هوجة ولا ثورة؟
- محطات للوجع.. قصة قصيرة.. إلى شاعر العامية الرائع/ محمد بهاء ...
- ريبورتاج المدينة.. موهبة ووعي مبدع.
- بائعة الطماطم.. قصة قصيرة.
- ويل الوطن.. ويل ليه -أغنية-.
- كيف نرى؟
- شارع سيرلانكا.. نص أدبي.
- مزاد علني
- رحلة صعود إلى أعلى الدرج.
- راجع م السفر
- أحفاد القردة والخنازير.. حقيقة أم وافتراء؟
- حكاية النملة.. إلى النملة التي تحركت من فروة رأس الجد نحو وج ...
- امرأة كانت ذات يوم مراهقة محبب لها الفرح .. -قصة قصيرة.-.. ن ...
- مزج مقدس.. حالة من حالات الرجل. -نص أدبي-.
- جبريل لم يعد ملاكًا!! ولا أي إندهاشة.
- نِفيسة.. قصة قصيرة إلى نفيسة التي عرفتها، وعرفها نجيب محفوظ ...
- حلقة ذِكر.. قصة قصيرة.
- شعب الطُرشان


المزيد.....




- إدانة امرأة سورية بالضلوع في تفجير وسط إسطنبول
- الأمم المتحدة تندد بتشديد القيود على غير المحجبات في إيران
- الاعتداء على المحامية سوزي بو حمدان أمام مبنى المحكمة الجعفر ...
- عداد الجرائم.. مقتل 3 نساء بين 19 و26 نيسان/أبريل
- هل تشارك السعودية للمرة الأولى في مسابقة ملكة جمال الكون؟
- “أغاني الأطفال الجميلة طول اليوم“ اسعدي أولادك بتنزيل تردد ق ...
- استشهاد الصحافية والشاعرة الغزيّة آمنة حميد
- موضة: هل ستشارك السعودية في مسابقة ملكة جمال الكون للمرة الأ ...
- “مش حيقوموا من قدامها” جميع ترددات قنوات الاطفال على النايل ...
- الحكم على الإعلامية الكويتية حليمة بولند بالسجن بذريعة “الفج ...


المزيد.....

- جدلية الحياة والشهادة في شعر سعيدة المنبهي / الصديق كبوري
- إشكاليّة -الضّرب- بين العقل والنّقل / إيمان كاسي موسى
- العبودية الجديدة للنساء الايزيديات / خالد الخالدي
- العبودية الجديدة للنساء الايزيديات / خالد الخالدي
- الناجيات باجنحة منكسرة / خالد تعلو القائدي
- بارين أيقونة الزيتونBarîn gerdena zeytûnê / ريبر هبون، ومجموعة شاعرات وشعراء
- كلام الناس، وكلام الواقع... أية علاقة؟.. بقلم محمد الحنفي / محمد الحنفي
- ظاهرة التحرش..انتكاك لجسد مصر / فتحى سيد فرج
- المرأة والمتغيرات العصرية الجديدة في منطقتنا العربية ؟ / مريم نجمه
- مناظرة أبي سعد السيرافي النحوي ومتّى بن يونس المنطقي ببغداد ... / محمد الإحسايني


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - ملف فكري وسياسي واجتماعي لمناهضة العنف ضد المرأة - مختار سعد شحاته - محطة سيدي جابر بعد التطوير.