أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - التربية والتعليم والبحث العلمي - صبري المقدسي - الكون في نظر العلم والاساطير الدينية















المزيد.....


الكون في نظر العلم والاساطير الدينية


صبري المقدسي

الحوار المتمدن-العدد: 4072 - 2013 / 4 / 24 - 17:50
المحور: التربية والتعليم والبحث العلمي
    


مجّدت كل الثقافات العالمية، جمال الكون الطبيعي وأصالته عبر الاجيال، إلا أن الثقافة العلمية الحديثة كانت ولا تزال الثقافة الوحيدة التي قامت بمجهود منهجي لدراسة طبيعة الكون ومكانة الانسان فيه. إذ بلغت الانسانية في أوج مجدها في مجال العلم والتطور الكوني الكوزمولوجي، وخاصة بعد الاكتشافات العلمية في المائة سنة الاخيرة. وبعد الجهود المضنية والتحاليل العلمية الهائلة والزاخرة في مختلف الجوانب العلمية والمختبرية، وبعد اكتشاف واستخدام التليسكوبات الفلكية والفضائية المتطوّرة، تغيّرت نظرة الانسان عن الكون، بعد أن كان يظن، أنه يقتصر على الأرض كمركز له، والشّمس والقمر والكواكب الخمسة، مع بضعة آلاف من النجوم تدور حولها. فأدت كل هذه التطورات الى إستنتاجات مدهشة حول الارض بكونها جسم صغير قد لا يكون أكبر من حبة رمل، مقارنة بحجم الكون الذي يضم حوالي 0100 (مليار) ألف مليون مجرّة. وكل مجرّة تحوي الى أكثر من 1000 (مليار) ألف مليون نجم. ولربما يكتشف العلماء مجرات تحوي على أكثر من هذه الارقام من النجوم. ولكن في الحقيقة لا أحد يعرف مدى حجم الكون، ويتوقع علماء الفلك بأن الكون يحوي على عدد لا يحصى ولا يُقدّر من المجرات والنجوم، وهي على أقل تقدير بليون أو مليار (1000 مليون) مجرّة، ما عدا السدم المنتشرة فيها. وقد يكون هناك أكوان غير كوننا الذي نعيش فيه.
لذلك كان طبيعيا أن يوسع الانسان نظرته حول الكون، ويكوّن مفهوما جديدا عنه. ويُعرف الكون بعد كل الاكتشافات العظيمة بأنه: كل المادة والطاقة والزمان والمكان، وكل ما هو موجود ومعروف وغير معروف من أصغر الاشياء كالذرات الى أكبر الاشياء كالكواكب والنجوم والمجرّات والعناقيد والمجاميع المجرّية.
وفي تعاريف أخرى عن الكون (universe cosmos,) هو عبارة عن مجموعة من المجرات المتواجدة بأشكالها وأحجامها وكتلتها وصفاتها وحركاتها وقـــوى الترابط بينها وحركتها الدائمة والمتصلة فيما بينها بواسطة الجاذبية بما فيها الارض والنجوم والكواكب والاقمار.
وأما علم الكونيات، فهو فرع من فروع علم الفلك، ويغطي المنطقة التي عندها يختلط علم الفلك بالفيزياء والرياضيات والفلسفة. وعلم نشوء الكون الذي هو الفرع الآخر من العلوم والذي يهتم أيضا بالكونيات Cosmology ويتناول أصل وتطوّر الاجرام السماوية وانظمتها، ويبحث في القوانين العامة للعالم من حيث أصله وتكوينه العام، ويشمل علم الفلك والجغرافيا والجيولوجيا. وأما علم الهيئة Cosmogony فهو يستعمل من قبل العلماء بقصد التخصص بدراسة أصل الكون وتطوره.
ولقد مرّ تصور البشرية للكون بمراحل عديدة ومختلفة. فما نعرفه اليوم عن الكون يختلف عما كان يعتقده البشر في الحضارات القديمة أو يتصوره أسلافنا العلماء الذين كانوا يتصورون أنّ الكون يتكون من كل ما تراه العين المجرّدة. ولكن المفاهيم الكونية تطورت في القرن العشرين، حيث تصوّر بعض العلماء بأن الكون أزلي، غير محدود في أبعاده، ومُتجانس في محتواه المادي، ومستقر وثابت.
وتوصل العلماء الى نتيجة تشبيهية رائعة للكون بعد كل هذه التطورات، وهي أن الكون يشبه آلة ضخمة تسير كالساعة، أو كالحاسوب الآلي الضخم. وجاء هذا التشبيه بعد اكتشاف نظرية النسبية لآينشتاين ونظرية تباعد المجرات وتوسع الكون وانتشاره.
وتغيرت المفاهيم حول الكون بعد الاكتشافات الحديثة التي أثبتت وجود مجرات أخرى مثل مجرتنا (درب التبانة) ومجرات أكبر منها بكثير. وبلغ التطور الكوزمولوجي حدا مذهلا من التطور، أدى الى إنبهار الجميع في كشف أسرار الطبيعة والكون. ولا يزال العلماء يتوقعون الكثير في العلوم الكونية ويتصورونها في بداية تطورها.
من المؤكد أن الكثير من الشعوب البدائية لاحظوا ظواهر فلكية مختلفة وفسروها تفسيرا دينيا وربطوها بالارواح والآلهة وفعالياتها المختلفة بحسب تصوراتهم. وكانت الاهتمامات التي أبداها الفلكيون في بلاد ما بين النهرين(العراق) من قبل الكلدانيين والاشوريين والسومريين، الذين استخدموا علم الفلك للتنبوء بإرادة الآلهة ومعرفة المستقبل، ومراقبة النجوم والاجرام السماوية، وغيرهم من الفلكيين المصريين والاغريق، الذين نجحوا في وضع نظريات تفسير الاجرام السماوية بدقة كبيرة. وكذلك الفلكيون الهنود والصينيون والعرب المسلمون وعلماء المايا الذين فسروا الكثير من تلك النظريات والتي اصبحت دراساتهم وتفسيراتهم الحجر الاساس في التطور الذي حصل في جميع الميادين العلمية الكوزمولوجية.
ولقد كان للديانات القديمة تصوّرات اسطورية بسيطة عن الكون، إذ تصورت معظمها العالم كنصف كرة، أو كإسطوانة قبتها السماء متزيّنة بالشمس والقمر والنجوم والكواكب وقاعدتها الارض الثابتة. وقد عرض السومريون فكرتهم الاولى عن نشوء الكون في ملاحم شعرية رائعة، وهم من أوائل الشعوب الذين أسسوا أول حضارة في التاريخ البشري، وقدموا للبشرية وقائع اجتماعية وعلمية بالغة الاهمية، ترقى الى أكثر من 6000 سنة قبل الميلاد، حسب ما أثبته الفحص بالاشعاع الذاتي للآثار المكتشفة في قرى وادي الرافدين(جرمو وحلف وسومر وأكد وأور).
وقد ساهمت الشعوب القديمة الاخرى كالبابليين والاكديين والاشوريين والصينيين والهنود والاغريق والمايا والأزتيك والعرب، وغيرهم من الذين تصوروا العالم مغمورا بالمياه، فقامت الآلهة بإزاحة المياه أولا لتظهر الارض (أريدو أو أريضو). وبحدوث صراع عظيم بين الآلهة (آلهة الخير وآلهة الشر) للسيطرة على العالم. ومثل الاله مردوخ جانب الخير في تلك الاساطير. وتقول الاساطير بأن الاله مردوخ أمسك بتيامات إلآهة الشر وقطع جثتها الى جزأين مستطيلين، رفع أحدهما ليكون السموات، وخفض الآخر ليكون الارض. وعندما إنتهى مردوخ من رفع السماء، نثر على صفحتها الكواكب لتضيء، ولتجري في مسار منتظم ومرتب. وتقول الاساطير بأن الكواكب التي خلقها أصبحت بيوتا للآلهة. وجعل أيضا القمر لحكم الليل ولإضاءته وجعل الشمس بيتا لتضىء في النهار.
وتوصل الكلدان أيضا الى نتائج مذهلة في الفلك ومراقبة الشمس والقمر والنجوم والكواكب الخمسة التي تؤثر في مصائر الناس بحسب إعتقادهم. وفي احتساب الوقت وفي وضع الجداول الزمنية وإظهار تصورات خاصة حول الكون وبطريقة ذكية. وكان الكلدان من أوائل الشعوب الذين ميّزوا الكواكب السيارة عن النجوم الثابتة، وعرفوا من خلال تأملاتهم وعباداتهم للشمس والكواكب والنجوم، وبرعوا في معرفة مدارات الكواكب بكل دقة. ويعترف خيرة علماء الفلك الاغريق بأنهم درسوا علم الفلك لدى الكلدان البابليين، وإعتمدوا عليهم في معرفة حركات النجوم والكواكب وغيرها من الامور الفلكية الاخرى مثل الخسوف والكسوف وترتيب التقاويم الشمسية والقمرية.
وكان للهنود القدماء أيضا نظرتهم الخاصة حول الكون، إذ تقول أساطيرهم بأنهم آمنوا بإله أكبر، واجب الوجود لا يُدرك بالعقل، يُقيم وحده في الشمس، وآلهة اخرى تعد بالملايين تقوم بأعمالها كل يوم. وبدأ الخلق في مفهومهم عندما خلق الاله الاكبر، الماء أولا، ومن ثمّ ألقى بذرته فيه، فصارت البذرة(بيضة ذهبية)، بدأت تلمع كالشمس. وانطلق منها الاله براهما Brahma الخالق الذي صنع من قشرة البيضة العليا السماء، ومن قشرتها السفلى الارض، وزرع بينهما الفضاء ومن ثم المخلوقات والزمن وأجزاءه.
وهناك تصورات اخرى في الديانة الهندوسية عن الخلق، ومنها أن الأرض قوقعة تحملها أربعة أفيال عملاقة تقف على ظهر سلحفاة. وفي ملحمة اخرى من سفر (اليوبانيشاد)، تقول بأن الآلهة خلقت الارض والسماء من جسد رجل عظيم هائل في الضخامة، ضحى بجسده، ورضيت الآلهة بتحويل جسده الى ذرات صغيرة عادت لتلتئم من جديد ولتتحد جزيئاتها، وصنعت من هذا الاتحاد، الارض، وكل ما يحيط بها من يبس وماء، وارتفعت من فوقها السماوات السبعة، ومن تحتها الطبقات السبعة من الاراضي.
وأما في القصص والاساطير الدينية الصينية، فإسطورة الخلق لا تختلف كثيرا عن الاساطير في الاديان الاخرى، إذ تقول إحدى تلك القصص عن العناصر الاثيرية التي لا تفسد، والتي تنفصل مع بداية الخلق لتتكون من جزئها النقي والنظيف، السماء (ينغ) ومن جزئها الغليض والثقيل الارض (يانغ). والارض في اعتقادهم ثابتة لا تتحرك. وكان الصينيون يتصورون الارض مكانا مربع الزوايا تحيط بها المياه من كل الجهات. والسماء، تشبه اسطوانة مستديرة تغطي الارض، وترتبط بها بأعمدة منتشرة في عدة اماكن.
وتتكلم القصص التوراتية اليهودية عن خلق الكون والمراحل التي مر بها من تطور فيزيائي وتاريخي، ومن تحديد الفترة الزمنية الرمزية لنشوئه وتكوينه، وهي كلها اشارات لا تتناقض مع نظرة العلم للكون ونشوئه وتطوره. بل تدعمه وتؤيده بحسب التفسيرات المسيحية الكاثوليكية. وكان القديس توما الاكويني من الاوائل الذين فسروا الظاهرة الكونية على أساس النظرة التوراتية للخلق وبالطريقة ألآرسطوية. وكانت رؤية الاكويني للكون ومحتواه تتمثل بإدخال الخالق بصفة رئيسية ومباشرة على تصورات آرسطو، وعلى أن الخالق، لا نهائي القدرة، موجود في كل مكان وهو المسيّر المباشر والمستمر للكون.
ففي الفصل الاول من سفر التكوين يقول الكتاب: "في البدء خلق الله السموات والأرض، وكانت الأرض خاوية وخالية وعلى وجه البحر ظلام، وروح الله يرف على وجه المياه. وقال الله ليكن نور... وفصل الله بين النور والظلام... وكان اليوم الأول. وقال الله ليكن في وسط المياه جَلد يفصلُ بين مياه ومياه... وكان اليوم الثاني. وقال الله: لتجتمع المياه... ولتظهر اليابسة... وسمى الله اليابسة أرضا ومجتمع المياه بحارا... وقال الله: ليكُن في جلد السماء نيّران تفصل بين النهار والليل، وتُشير الى الأعياد والأيام والسنين... فكان كذلك......".
أن الله في الأيام الثلاثة الاولى، يفصل الأشياء بعضها عن البعض. ففي اليوم الأول يفصل الله بين الليل والنهار والظلمة والنور. وكأنه يوجه رسالة للذين يعبدون(النور ـ أهورمزدا ـ والظلام ـ أهريمان)، وهي آلهة للزرادشتيين الفرس قائلا لهم أن النور والظلام ليسا بإلهين، وانما الهُنا الذي هو إله واحد، خلق النور والظلام، في اليوم الأول.
وفي اليوم الثاني، يفصل الله بين المياه التي فوق الجلد والمياه التي تحت الجلد. وفي اليوم الثالث، يفصل الله بين اليابسة (الأرض) وبين مجتمع المياه (البحار). فبعد أن يجري الله عدة عمليـات فصل، تظهر اليابسة ليجعل منها مكاناً مناسباً للانسان. فهو يفصل السموات والأرض والنور والظلمة في اليوم الأول. ويفصل السماء والبحر في اليوم الثاني، ومن ثمّ الأرض، فالشمس والقمر والنجوم في اليوم الرابع، الى اليوم السادس.
ويحاول الكتاب المقدس في هذا الفصل أن يقول للمؤمنين بأن الشمس ليست إلهة كما كان الآشوريون وغيرهم يدعونها بل أن الله الواحد الاحد هو خالقها. وكذلك الأرض فهي ليست إلهة، فالله (يهوه)، الإله الواحد الاحد هو خالقها في اليوم الثالث (كانت الشعوب الكنعانية والفينيقية والسومرية تُقدسّ الارض وتؤلهها).
ولا تختلف رؤية القرآن الكريم عن الرؤيا التوراتية والمسيحية في جوهرها، إذ أن الله في الاسلام هو الخالق: "خلق الله السموات والارض بالحق إن في ذلك لآية للمؤمنين" العنكبوت 44 . ولم يعط القرآن وصفا بيّنا ودقيقا للتسلسل في الخلق كما جاء في التوراة، ولكنه لخصه في آية تقول: "الله الذي خلق السموات والارض في ستة ايام ثم استوى على العرش" سورة السجدة 4 . ويتفق القرآن مع التوراة في خلق الكون في ستة أيام، ولكنه مع شرح لصورة الخلق في آيات عديدة أخرى كما جاء في سورة الملك 5: "ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين". ويدعو القرآن الكريم الى التأمل في الخلق وتسبيح الله: "قل سيروا في الارض فإنظروا كيف بدأ الخلق ..." العنكبوت 20 . وهو الاله نفسه الذي يخلق كل شىء بكلمة من فمه إذ يقول كن فيكون: "انما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون" يس 82 .
واستفاد الاغريق من القصص والاساطير المنتشرة في الشرق حول خلق الكون وتركيب العالم، والتي انتقلت إليهم من بابل ومصر. وسطر الاغريق الكثير من الملاحم حول الالهة (عشتروت ـ أفروديت) بإعتبارها زهرة نبتت في البحر وإرتفعت الى السماء لتصبح زهرة مضيئة. وبدأت تلد الكواكب الاخرى بمعاشراتها الجنسية. وإستمرت تصورات الاغريق عن خلق الكون بطريقة العلاقات الغرامية تارة، أو بطريقة الحروب بين الآلهة تارة اخرى.
ونجد في الاساطير اليونانية الاخرى دورا أكبر للمنطق والعقل في خلق الكون. إذ كان الفلاسفة الاغريق يؤمنون بالكون الدائري والازلي. وتقول احدى تلك الاساطير بأن الكون في البدء كان العدم أو الخلاء، وظهرت للوجود الارض أولا لكي تمنح للآلهة مكانا تقف عليه، وظهرت السماء بعد ذلك لكي تكون مكانا لراحة الآلهة. وبعد ذلك اليابسة والجبال الشاهقة والمحيط بدواماته وأمواجه وتياراته، ومن ثمّ الكائنات والوحوش التي فيه، فالوحوش العملاقة، فالنجوم، وبعد ذلك المرأة (أفروديت) التي أنجبت ابنها الاله (زيوس).
وحاول الاغريق إعطاء التصوّرات العلمية للكون بعيدا عن الاساطير المنتشرة آنذاك. وظهرت في جميع المناطق الاغريقية مدارس فكرية وعلمية وفلكية تعطي أفكارها حول الكون وشكله وطريقة نشوئه. وكان الفيلسوف والرياضي (فيثاغوراس Phythagoras 580 – 500 ق . م) من الفلاسفة الاوائل الذين أكدوا على كروية الارض واعتقدوا على أن الظواهر الطبيعية والكونية يمكن تفسيرها بإسلوب رياضي رقمي. وكان لفيثاغوراس اهتمامات فلكية رائعة وتصورات تعد بعضها صحيحة، وبعضها الآخر خاطئة. ومن الامور الرائعة التي استنتجها فيثاغوراس، وجود نار مركزية في الكون يدور كل ما في الكون حولها في مدارات دائرية ثابتة. وشارك الفلكي والفيلسوف كسينوفانس Xenophanes في سنة 570 قبل الميلاد، بتقديم الكثير من النظريات الفلكية، ومنها أن الكون في جوهره كروي متجانس من الداخل، والارض منبسطة وبلا حدود. وأعطى الفلكي بارمنيدس Parmenides (504 – 450 ق . م) رأيا مهما بخصوص كروية الارض والذي يعتبر رأيا علميا، إذ قال: بأن الجسم الكروي هو جسم مثالي لأنه أي نقطة من سطحه تقع على نفس المسافة من المركز. وتعد تصورات بارمنيدس، التصورات العلمية الاولى في تاريخ البشرية، إذ تصور الكون على شكل طبقات تتمركز حول الارض الكروية التي تعلوها القبة السماوية المحكمة، وتأتي تحتها طبقة من عنصر رقيق خفيف، ومن ثم طبقة لنجمة الصباح عطارد، ونجمة المساء الزهرة. ومن ثم طبقة للشمس والقمر، وطبقة للنجوم. وأما الارض فإعتبرها ساكنة وثابتة وفي حالة توازن. وآمن بارمنيدس بوجود العقل المسيّر للكون بحكمة ونظام، وبنى على هذا الاساس نموذجا رائعا للكون واقترح وجود أكثر من كون. وشارك أيضا الفلكي (هيراقليطس Herakleitos 540 – 480 ق . م) بتقديم تصورات رائعة حول الكون مفادها أن الاشياء في الكون غير ساكنة، ولا يوجد شىء مستقر أو ساكن، والنار هي الاصل لكل الاشياء ومن ضمنها الماء والارض والشمس والقمر. وكانت تصورات (العالم أمبيدوكليس Empedocles 490 – 430 ق . م .) ممزوجة بالاساطير الدينية حيث أنه تصور أن للكون نصفان منفصلان، واحد من نار وآخر من هواء، وبلغت تصوراته أوجّها عندما ابتكر نظرية العناصر الاربعة التي ترجع كل الموجودات الى هذه العناصر الاربعة وهي (النار والهواء والماء والتراب)، واعتبر أمبيدوكليس، تلك العناصر خالدة وأزلية، وبإمكانها التفاعل مع الاشياء الاخرى لتكوين الموجودات في الكون.
وكان سقراط من الفلاسفة الذين آمنوا بوجود عقل كوني يسيّر الكون الذي اعتبره أزلي الوجود، يقوم بترتيب تدريجي للعالم عن طريق الحركات التي يسببها بإدارة الافلاك الخارجية للكون. وأما تصورات الفيلسوف أفلاطون Plato 427 – 347 ق . م . فهي تشبه في كثير من الجوانب تصورات سقراط، إذ تصور الكون على انه كروي، والارض ساكنة تقع في مركزه، وتتحرك الشمس والقمر والكواكب السيارة حولها في حركة دائرية.
وأما تأكيدات العالم والفلكي الفيلسوف، أرسطو طاليس ( 384ـ322 ق. م)، تختلف عن الفلاسفة الآخرين الذين سبقوه، إذ تصور بأن الأرض كرة ساكنة تقع في مركز العالم، فيما الشمس والقمر والكواكب الخمسة (عطارد والزهرة والمريخ والمشتري وزحل)، تقع في مسارات ثابتة حول الارض وتدور حولها. واثبت آرسطو آراءه بالحجج العقلية لأنه كان محبا للتجربة والاستقراء بالاضافة الى التعمّق الفلسفي. ومن المسائل التي كانت لها أهمية خاصة لدى آرسطو هي ان الحركة لا تتحقق إلا بتأثير القوة. ولذلك تصور وجود علة أزلية للعالم وهو الاله، المحرك الأزلي، الذي يُحرك كل شىء بحركة دائرية متواصلة لا تتوقف، هي أصل كل الحركات الاخرى. وكان تصوّر الفيلسوف (أنساغوراس Ansagoras) غريبا نوعا ما، إذ تصوّر بأن الهواء هو أصل الوجود، وأن الموجودات جميعها من الاجرام العلوية والسفلية قد صدرت منه، وكل ما هو فوق الهواء هو روحاني، وكل ما هو دون الهواء فهو مادي وجسماني.
وبالرغم من كل هذه النظريات والمفاهيم المتطورة لتلك الفترة والتي صدرت عن مخيلة الاغريق الذين حاولوا إعطاء الطابع العلمي لنتاجاتهم الكونية، إلا أن المفاهيم ظلت تتسم بالطابع الفلسفي أكثر من الطابع العلمي، ولم تؤثر قياساتهم العلمية على التصورات الكونية التي تشكلت في أذهان علمائهم وفلاسفتهم الى أن جاء عهد بطليموس Ptolemy الذي آمن بنظرية مركزية الارض، وبتحديد مواقع الكواكب وحركة الشمس والارض والقمر، وبإعطاء النماذج الهندسية الرائعة والدقيقة لحركات الاجرام السماوية التي سادت الى (القرن السابع عشر) والتي انتشرت في جميع انحاء العالم، واخذ بها جميع علماء العالم الى عهد العالم البولوني كوبرنيكوس، الذي بدأ العالم معه عهدا جديدا من الطفرات العلمية الكونية المثبتة بالدليل والبرهان وليس فقط بالنظر والمشاهدة العيانية.
ولم يكن سهلا قبول فكرة كوبرنيكوس الجديدة، وذلك بسبب أفكار ومفاهيم بطليموس التي كانت سائدة في العالم ولمئات السنين. إذ انتقد كثير من رجالات الكنيسة العالم الفلكي (كوبرنيكوس) ومن ضمنهم القس والراهب المصلح البروتستانتي (مارتن لوثر) متهما اياه بالمتهور الذي يريد قلب اسس الفلك بأكملها ومدّعيا بأن النبي يشوع (Joshua ) أمر الشمس وليس الارض لكي تبقى ساكنة.
وأدت المفاهيم الكوبرنيكية الى نشوء نقاشات حادة بين الكنسيين من جهة وبين الفلكيين من جهة اخرى. وبالرغم من أن كثير من الفلكيين كانوا من رجالات الكنيسة، ومن ضمنهم بابا الكتيسة في ذلك الوقت. وقد أدت النقاشات الى تنظيم محاكمات ضد بعض العلماء والفلكيين ومنهم العالم الفلكي والقس (غيوردانو برونو Giordano Bruno ) الذي أحرق بسبب افكاره الفلكية. والفلكي غاليلو غاليلي Galilio Galilei الذي حوكم بالسجن ولم يحرق كما يزعم البعض.
وجدير بالاشارة ان الثورة الكوبرنيكية أدت الى تغير جذري كبير في معظم المفاهيم العلمية، والى قلب التصورات الكونية للبشر عن السماء، وكسر فكرة مركزية الارض التي كانت مهيّمنة على الأذهان الى تلك الفترة. ولم يكن كوبرنيكوس العالم الاول الذي اكتشف هذا المفهوم لأن العالم الاغريقي أرستاركوس ِAristarchus تبنى هذا التصور قبل ألفي سنة من إكتشاف كوبرنيكوس، إلا أن فكرته لم تؤخذ بجدية آنذاك. ولهذا يعتبر كوبرنيكوس الاب الحقيقي لهذا التصوّر في التاريخ البشري.
وكانت أهمية نظرية كوبرنيكوس في وضع الشمس في مكانها الصحيح من النظام الكوني وفتح الباب أمام العلماء للإنطلاق في البحث الحر في اوروبا، إذ أكتشف علماء مشهورون ما يدعم نظرية كوبرنيكوس ومنهم العالم الالماني يوهانس كبلر Johannes Kepler 1571 – 1630 الذي دعم نظرية كوبرنيكوس بإفتراضه أن الكواكب تدور حول الشمس بمدارات أهليجية، وقدم ثلاثة قوانين مهمة سميّت بقوانين كبلر. وحاول كبلر في معظم مؤلفاته اثبات وجود الله بالاساليب العلمية. وكان لتعاون كبلر مع العالم الفلكي وصاحب المرصد المجهز بأحسن الاجهزة (تيخو براهي ( Ticho Brahiأكبر الاثر في نشوء النظرة الفلكية الجديدة للكون، الى أن جاء العالم (غاليلو غاليلي 1564 – 1642 ) الفيزيائي والفلكي الايطالي الذي نجح في إحداث أكبر ثورة علمية في اوروبا بتحقيق اكتشافات فلكية مهمة في فترة وجيزة، وإكتشاف دوران الشمس والبقع الشمسية وحركتها.
وهناك عباقرة وعلماء آخرون تركوا بصمات فكرهم على التصور الكوني، وعلى المسيرة العلمية عموما ومنهم العالم (رينيه ديكارت Rene Descartes 1596 – 1650 )، الذي قدم الكثير للرياضيات وللعلوم الكونية، وهو الذي انطلق في بحثه عن الحقيقة من العقل قبل الحواس، إذ كان يرى بأن العقل هو الحارس الفطن الذي ينبغي جعله الحكم ضد الحواس والافكار المسبقة. ولهذا كانت نظرياته الكونية مبنية على الاستنتاجات العقلية وعلى إعطاء العقل المدعم بالرياضيات الدور الاهم. وشهدت العلوم الكونية تطورات مهمة جدا بعد مجىء العالم (اسحق نيوتن 1727 - 1642) الذي حضي بالشهرة خلال حياته في سن مبكرة من عمره، ودخل التاريخ كفيزيائي مثالي، إذ وضع أسس فيزيائية جديدة تنطبق على الاجسام المادية في الكون. واشتهر نيوتن أيضا بإيمانه العظيم في العلم ومحاولة إثبات خلق الله للكون، إذ جاء بمنظور جديد للعالم جاعلا من الله الخالق الواضع والمرتب للقوانين الثابتة. إذ قال نيوتن في هذا الصدد: "إن النظام البديع، المكون من الشمس والكواكب والمذنبات، لا يمكن أن يسير إلا وفق هداية وربوبية كائن عظيم في منتهى الذكاء والحكمة". وإعتبر نيوتن الله، السبب الاول للخلق والمنظم والمرتب لكل شىء والموجود في كل مكان، والقادر على تكوين وتصليح كل أجزاء الكون والمتابع لخليقته بدقة وانتظام.
واستمر العلماء بعد نيوتن بتوسيع مجال العلوم الكونية، وبإعتبار الكون لا ينحصر على النظام الشمسي فقط، ولا على مجرة واحدة فقط، بل يشمل على عدد كبير من المجرّات التي تحتوي على مليارات من النجوم والكواكب. واستطاع الانسان بعد هذه الاكتشافات من توسيع نظرته وفكره وقبول الواقع الكوني المكتشف، وهو أن الكون ليس مجرد مجرّة ضخمة مكونة من ملايين النجوم تدور نجومها وكواكبها حول الشمس التي كانوا يتصورونها في المركز بحسب نظرية كوبرنيكوس الفلكية، بل يتكون من مجرات هائلة، تحتوي على مجاميع نجمية وعنقودية عديدة، وعلى مجاميع شمسية كمجموعتنا تحكمها قوانين طبيعية ثابتة هي نفسها في كل انحاء الكون.
وقد ساهمت الانجازات والاكتشافات العلمية في تطوير العلوم الكونية وقيادة البشرية نحو التطور العلمي الهائل والى تطوير قابلية الانسان على التطور والابداع، وجعله قادرا على رؤية روعة وجمال الكون وبهاء الله الكلي القدرة. والسؤال الذي يتبادر في ذهن كل مُبصر ومتأمل في السماء دائما وأبدا، كم هو واسع هذا الكون؟. وللإجابة على هذا السؤال علينا أن ننظر الى الكون على انه عائلة كبيرة تحوي على مجموعتنا الشمسية، والتي هي جزء من مجرتنا درب التبانة، والتي هي بدورها جزء من كوننا الواسع جدا. ومن ثم الانطلاق نحو المجرات الاخرى التي تنتشر في هذا الكون الواسع كأنها حبات من الرمل على سواحل البحار.
صبري المقدسي



#صبري_المقدسي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- العمل قانون الحياة
- لماذا نحتاج الى الصداقة والاصدقاء؟
- مفهوم الزمن وقيمته في العلم والحياة اليومية
- بدأ الكون من نقطة كان الزمن فيها صفرا
- التفاؤل: مفتاح النجاح في الحياة العملية
- الحضارة المعاصرة: وليدة الحضارات القديمة مجتمعة
- الحداثة: الضامن الرئيسي لتحرير العقل
- اللغة: اهم ركيزة لتحصين الثقافة والهوية
- معرفة الذات: الطريق الامثل لمعرفة الآخرين
- الحضارة المعاصرة بنت الحضارات القديمة مجتمعة
- الثقة بالنفس: الاساس المتين للنجاح في الحياة
- علم الفلك: أم العلوم واصل كل العلوم
- البحث عن السعادة
- الحرية اقدس وأغلى عطية للإنسان
- دور التربية في بناء المجتمع وتنظيمه وقيادته
- في البدء كان السؤال وفي السؤال كان التمدن
- دور العلم في بناء المجتمع وتطوره وازدهاره
- المثقف: هو الرسول وهو الرسالة
- الحداثة: الضامن الرئيسي الوحيد لتحرير العقل
- العولمة: هوية جديدة للبشرية


المزيد.....




- أضرار البنية التحتية وأزمة الغذاء.. أرقام صادمة من غزة
- بلينكن يكشف نسبة صادمة حول معاناة سكان غزة من انعدام الأمن ا ...
- الخارجية الفلسطينية: إسرائيل بدأت تدمير رفح ولم تنتظر إذنا م ...
- تقرير: الجيش الإسرائيلي يشكل فريقا خاصا لتحديد مواقع الأنفاق ...
- باشينيان يحذر من حرب قد تبدأ في غضون أسبوع
- ماسك يسخر من بوينغ!
- تعليقات من مصر على فوز بوتين
- 5 أشخاص و5 مفاتيح .. أين اختفى كنز أفغانستان الأسطوري؟
- أمام حشد في أوروبا.. سيدة أوكرانية تفسر لماذا كان بوتين على ...
- صناع مسلسل مصري يعتذرون بعد اتهامهم بالسخرية من آلام الفلسطي ...


المزيد.....

- اللغة والطبقة والانتماء الاجتماعي: رؤية نقديَّة في طروحات با ... / علي أسعد وطفة
- خطوات البحث العلمى / د/ سامح سعيد عبد العزيز
- إصلاح وتطوير وزارة التربية خطوة للارتقاء بمستوى التعليم في ا ... / سوسن شاكر مجيد
- بصدد مسألة مراحل النمو الذهني للطفل / مالك ابوعليا
- التوثيق فى البحث العلمى / د/ سامح سعيد عبد العزيز
- الصعوبات النمطية التعليمية في استيعاب المواد التاريخية والمو ... / مالك ابوعليا
- وسائل دراسة وتشكيل العلاقات الشخصية بين الطلاب / مالك ابوعليا
- مفهوم النشاط التعليمي لأطفال المدارس / مالك ابوعليا
- خصائص المنهجية التقليدية في تشكيل مفهوم الطفل حول العدد / مالك ابوعليا
- مدخل إلى الديدكتيك / محمد الفهري


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - التربية والتعليم والبحث العلمي - صبري المقدسي - الكون في نظر العلم والاساطير الدينية