أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حسين علوان حسين - رجع الوجع / الحلقة الأخيرة للرواية / 20















المزيد.....


رجع الوجع / الحلقة الأخيرة للرواية / 20


حسين علوان حسين
أديب و أستاذ جامعي

(Hussain Alwan Hussain)


الحوار المتمدن-العدد: 3529 - 2011 / 10 / 28 - 18:29
المحور: الادب والفن
    


يدخل أبو ميثم و أم مريم و مريم الغرفة الراقد فيها ميثم في المستشفى . ينظرون حولهم ، و لا يستطيعون التعرف على ميثم . يسأل أبوه - بصوت أبح مهزوز - المرضى الراقدين :
- هل المريض ميثم هنا ؟
- هنا ، يا بابا . هنا !
يلتفت الثلاثة صوب صوت المنادي ، يتوقفون لحظة غير مصدقين حصول كل هذا التغيير و الإصابات لديه . ثم يهجمون عليه من الجانبين و يعانقوه ، و تبكي مريم و أم مريم التي تخرج رغماً عنها لعنة :
- لعنة الله على الظالمين !
- من تقصدين ؟ ها ؟ يسأل المريض شقيق نقيب الأمن .
- تقصد الكفار المجوس ! يرد ميثم .
- جيد !
يقرر والد ميثم إخراج إبنه من المستشفى حالاً . يوقع بإخراجه من ردهة الكسور على مسؤوليته ، و يضعه على عربة نقل المرضى ، و ينقله للطابق السفلي . و من باب المستشفى يودع مريم و أمها معتذراً ، و يأخذ سيارة أجرة إلى بيت شقيقه ببغداد مباشرة و هو غير مصدق أن إبنه ما زال حياً . يبقى ميثم تحت إشراف طبيب و مضمد خاص في بيت عمه ستة شهور حتى تندمل كل جراحه و كسوره . يبيع عمه بيت والده - جد ميثم - في الكرادة الشرقية ، و من بغداد يهرِّب ميثماً بدون جواز سفر إلى سوريا عبر الأردن ، و يعطيه كل ما تبقى من بدل مبيع دار جده . يبقى ميثم يسكن غرفة واحدة في السيدة زينب بسوريا سنة كاملة قبل أن يحصل على اللجوء الإنساني في إنگلترا . يسافر إلى لندن ، و من ثم إلى لفربول ، فيكمل هناك دراسته الإعدادية و الجامعية و التخصصية ، و يتخرج طبيباً نفسانياً . ثم يتزوج طبيبة إيرلندية ، فتهبه إبنته "هِبَهْ" .
بعد سقوط بغداد على يد المغول الجدد ، يسافر ميثم مع إبنته هبة من لندن لعمّان ، حيث يمضيان يومين هناك قبل أن يستطيعا أخذ الطائرة من عمّان لبغداد . و من مطار بغداد يتوجهان لبيت عمّه مباشرة ، و هما يتشوقان للفرح القادم بلقيا الأهل و الأحبة و التمتع بجمال معالم بغداد . يشاهد ميثم الشوارع - المزدحمة إزدحاماً رهيباً بالسيارات - و هي مزروعة بنقاط السيطرة للشرطة و الجيش ؛ و بين نقطة سيطرة و سيطرة ، توجد سيطرة تزيد الإزدحام إزدحاماً . يهاله حجم الدمار الشامل الذي أصاب كل معالم بغداد الجميلة التي يتفقدها حوله ! و في كل نقطة سيطرة يسألهم أشخاص مدججون بالسلاح و ملثمون : " من أين أتيتم ؟ " ، و " إلى أين أنتم ذاهبون ؟ " ، و " هل لديكم أسلحة ؟ " ، " إفتحوا لنا الصندوق الخلفي للسيارة ! " و كأنهم يؤدون دوراً من أدوار مسرحيات العبث . يحار ميثم كيف يفسر لإبنته مجريات الأمور حوله في بلده العزيز العراق . و يحس فجأة بالغربة : ليست هذه هي بغداده ، إنها شبح بغداد التي دمرها المغول الجدد من الجيران و الأمريكان !
تلاحظ هبة أن دوريات القوات الأمريكية الراجلة كثيفة جداً ككثافة الذباب المتجمع على الجثث المتفسخة ، و لكنه ذباب مدجج بأفتك أصناف أسلحة القتل و التدمير في العالم . و يروق لآلياتهم السير بسرعة جنونية عكس إتجاه المرور كما لو كانوا مطاردين من جانب طفل يحمل قنابل نيوترونية ، و يستبيحون رمي المدنيين العزل من راكبي السيارات حولهم بمدافعهم الرشاشة بقصد القتل ، و صدم سياراتهم بالدبابات و المدرعات لمواصلة مسيرة قوافل عجلاتهم بدون توقف في الشوارع . أما العمران ، فلا توجد بناية جميلة في بغداد لم تتم سرقة كل محتوياتها من الأثاث و الأجهزة الكهربائية و حتى مقاعد المرافق تحت الإشراف و التواطؤ المباشر لجيش الإحتلال الأمريكي أولاً ، و من ثم حرقها عدة مرات . أما الطرق ، فكلها مقطّعة الأوصال : الأمريكان يقطعون الطرق ، الشرطة تقطع الطرق ، الجيش يقطع الطرق ، و الأهالي يقطعون الشوارع الفرعية لمحلاتهم . بلد يسود فيه قُطّاع الطرق .
حالما يصل إلى بيت عمه ، يبلغه الأخير باكياً بأن أباه قد توفي قبل أسبوع فقط و ذلك في القصف الأمريكي بالقنابل العنقودية لحي نادر السكني في الحلة ، و أنه قد كتب له رسالة يخبره فيها بالفاجعة ، و أرسلها بالبريد المسجل لعدم توفر وسيلة إتصال أسرع في العراق ، و ذلك حال إنتهاء مجلس العزاء لأبيه ؛ و لا بد أن تزامن سفره للعراق مع تاريخ إرسال الرسالة قد أدى إلى عدم إستلامه لها . يبكي الجميع بصمت . يقرر ميثم الذهاب للنجف لزيارة قبر أبيه و أمه ، فيبلغه عمه بأن كل الطرق المؤدية للنجف مغلقة بسبب المعارك الشرسة المندلعة بين جيش المهدي و قوات التحالف و الجيش العراقي منذ يومين . يتعجب ميثم : عراقي يقتل عراقي ؟ إلى متى يبقى العراقي يقتل العراقي ؟
في اليوم التالي ، يقرر ميثم أخذ إبنته في جولة لمشاهدة معالم بغداد ، ولكنه يحار في إختيار مَعْلَمٍ من شأنه إثارة إهتمامها ، فيجعله يزهو أمامها بمفاخر بلده . يقرر أخيراً زيارة ثلاث مناطق : سوق الشورجة و المدرسة المستنصرية ؛ مدينة الكاظمية ؛ و كورنيش الأعظمية . في منطقة الشورجة و ما حولها ، يشاهدان إندلاع الحرائق الرهيبة في عمارتين ضخمتين دون وجود من يتحرك قيد أنملة لإطفاء الحريق الضخم . أما سوق الشورجة العبق بأريج العراقة نفسه ، فهو مغلق ، و الباعة يبسطون بضائعهم في الشوارع المقطوعة حوله محولين إياها إلى أسواق مجاني .
عند تمثال الرصافي ، يشرح ميثم لإبنته التاريخ المجيد لصاحب هذا العقل العملاق . و يستشهد ببيته الشعري الذي بقي و سيبقى يقدم أبلغ وصف لطبيعة الحكم في العراق طيلة سنوات القرن العشرين و القرن الواحد و العشرين:
علمٌ و دستورٌ و مجلسُ أمةٍ ، كلٌ عن المعنى الصحيحِ مُحرّفُ .
تسأله هبة :
- Why did the sculptor put two holes in the statue; one in the head, the other in the ass? Is there any particular message here, papa ?
كيف يجيبها ؟ المسكينة تعتقد أن ذينك الثقبين هما من صنع النحات نفسه . حقها و الله ! من يتصور أن هناك وحوشاً آدمية مجنونة تصوّب رصاص رشاشاتها إلى رأس و عجيزة تمثال برونزي لأعظم شاعر مجدد عرفه العرب في القرن العشرين ؟ بأي شيء ضرّهم هذا التمثال كي ينفذوا فيه حكم الإعدام ؟ شرح لها سبب وجود الثقبين ، موضحاً أن هناك بالفعل رسالة بليغة لهما : فتاريخ العراق الجديد منذ تأسيسه و لحد الآن هو صراع بين من يريد بالسلاح إلغاء العقل ليتسنى له أن يَتَحيوَنَ على هواه ، فيثبت صحة نظرية كون أصل الإنسان حيوان كاسر تنصب إهتماماته على إشباع غرائزهم الحيوانية ، و بين من يريد بعقله كبح حيوانية من يحمل السلاح ضده . و في مثل هذا الصراع غير المتوازن ، لا يوجد ثمة أمل للإنسان العاقل في الإنتصار على الإنسان الحيوان . الغريزة الحيوانية المدججة بالسلاح في العراق هي دائماً أقوى من العقل الأعزل ! و لذلك تجد أن عدد العقول الكبيرة المغدورة في العراق لا يدانيها عددهم في كل بقية أرجاء العالم قاطبة . لقد كتب لهذه الأرض الولّادة بالعقول الكبيرة أن تشهد وأد أعظم أبنائها بلا بكاء ، أو موتهم منسيين في الغربة بعد عذاب طويل . لا محل لعقل كبير في العراق – هذا البلد الجميل المعطاء – و لا حتى لعقل وديع بريء ، لأن العقول الوسخة تعاجله بالانقضاض عليه ببراثنها و بأسنة أنيابها ، و قد تتفسخ جثته أو تأكلها الذئاب دون أن يهتم بدفنها أحد !
و بالطبع فأنه لم يشرح لها الإعتقاد السائد في المجتمع العراقي عموماً بأن الفعل بعجز الذكر هو كسر وجه أبدي له ، و سبّة إجتماعية و شخصية ضده ، كما أنه الشهادة على التفوق الإجتماعي و الشخصي للفاعل على المفعول به ، و مصدر فخر دائمي له بين أخدانه و معارفه و كل الناس ، و كأنه الفوز بوسام البطولة الأولمبي ، أو ما هو أرفع منه بكثير . و كلما أصبح المفعول به المزعوم أرفع درجة في المجتمع ، كلما تَرقّى إحساس الفاعل برفعة منزلته ، و تباهى بفعلته المزعومة ؛ فتتناقل الألسن أسمه كما لو كان بطلاً قومياً ، و تبكيه بأعذب الألحان ، و تسمّيه "عالماً" : "مات اللمپچي داوود و علومه !" أما إسم المفعول به المزعوم ، فيُذكَر صاحبه كإنسان من أحط منزلة ، و ليس ضحية لأخلاق إجتماعية تستبيح إلحاق الأذى الجسيم بجسد و سمعة الآخر ، فتُكْسب البطولة لمرتكب الجرائم الخلقية . في العراق : الضحية تتسربل بالعار ، و المجرم يتسربل بالغار ! كل القيم لدينا بالمقلوب ! و لهذا فإن زعم الفاشلين في المجتمع بكونهم قد كسروا وجه هذا أو ذاك من الشخصيات اللامعة يوفر أسمى تعويض لدونيتهم الإجتماعية . معلومٌ من أية طينة هذا الذي أطلق النار على عجيزة تمثالك بعد وفاتك بستين سنة يا معروف الرصافي ! حسبك أنهم قد نصبوا تمثالاً لك بعد وفاتك ؛ و حسب راميك أن عقله قد تفتق عن إكتشاف وظيفة جديدة له !
في الكاظمية ، لا يسمح أصحاب القلوب المريضة و العقول الوسخة لإبنته هبة بالدخول لزيارة ضريح الإمام ، بحجة كونها غير محجّبة ! تسأل والدها حانقة :
- Why don t these silly clergymen understand that the scarf has nothing to do with women s virtue? Can t anyone tell them the simple fact the women s virtue is conduct, not a piece of cloth ?
يسكت ميثم ، و قلبه يقطر دماً .
في الأعظمية ، يكتشف ميثم أن الكورنيش الجميل و ملتقى العشاق في بغداد الذي يجمع الماء و الخضراء و الوجوه الحسان قد تحول إلى قصر للرئيس دميم البناء بجدران إسمنتية شاهقة تشبه أسوار القلاع المحاصرة . و قد حوله المحتلون إلى قاعدة عسكرية لهم . إيه يا صدام : لا بقاء لجميلٍ يقع تحت ناظريك . عيونك أسوأ من عين الميدوزا التي على الأقل تجمّد الجمال . أما عيناك ، فتبيدان كل جميل !
يقرر ميثم زيارة مدينة الحلة لإستعادة ذكريات سني الطفولة و المراهقة . يذهب مع إبنته هبة لزيارة بيت الشهيد أبو مريم في حي الجزائر . يدق ميثم على باب الدار ، فتخرج له إمرأة عجوز تتشح بالسواد من أم رأسها و حتى أخمص قدميها ، و تضع النظارات السميكة على عينيها . يتعرف عليها ميثم حالاً : إنها أمه الحقيقية : أم مريم . لا تستطيع أم مريم التعرف عليه للوهلة الأولى ، ثم تحدق به ، فتشهق و تعانقه و يعانقها و هي تقول :
- إبني ميثم ! يمّا ، محصّن بالله ! يمّا هم زين شفتك قبل ما أموت !
يواصلان العناق بباب الدار مدة و لسانهما يتلجلج بالكلمات المحبوسة ، فتفصح عنها الدموع السخينة المدرارة . ثم يعرفها ميثم بإبنته هبة ، فتتعانقان . تدخلهما أم مريم الدار و هي تكفكف دموعها ، و تجلسهما في غرفة الإستقبال ، و تشعل الفانوس لإنقطاع التيار الكهربائي عن المنطقة ، ثم تدخل المطبخ لجلب الشاي . يكفكف ميثم دموعه ، فيلاحظ الصورة الملونة الكبيرة للعائلة بالكامل و هي ما تزال معلقة في مكانها على الحائط . يأخذ ميثم الفانوس و أبنته أمام الصورة ، و يؤشر لها على الطفل الذي يجلس مغمضاً نصف عينه اليسرى على الورك الأيمن للعميد الشهيد ، و يسألها :
- Do you know who is this?
- Why papa ! That must be you! Cute!
يعرّفها على الرجل بالملابس العسكرية و بالشارب الأنيق ألظاهر في الصورة . و عندما يصل إلى أم مريم ، يؤشر عليها و هو يقول :
- This is my real mother.
ثم يرسم دوائر على الوجوه الصغيرة المشرقة للبنات السبعة قائلاً :
- And all these beautiful girls are my true sisters!
فتعلق هي بالقول :
- Wow! Nice bunch .

بعدها ، يأتي التيار الكهربائي ، فتدعوهما أم مريم لشرب الشاي . تخرج هبة هاتفها النقال ، و تلتقط عدة لقطات للصورة الكبيرة و لأم مريم و هي تحمل مبتسمة صينية الشاي ، و هي تعانق أباها المنحني بقامته العملاقة إزاءها . ثم تطلب من أبيها تصويرها مع جدتها و هما يتعانقان و يقبلان بعضهما ، و أم مريم تبتسم بعيون دامعة ، فيما تتراقص العينان الشهلاوان لهبة بسعادة غامرة .
يلاحظ ميثم خلو الدار من أحد ، فيسأل أم مريم :
- ماما : أين مريم ؟ ها ؟ و أين هن بقية أخواتي ؟
تبكي أم مريم مولولة وهي تضرب بيد على فخذها ، و تغطي عيونها بالشيلة السوداء باليد الأخرى . ثم تقول بصوت أبح متقطع ممزوج بالنشيج ألممض :
- لقد قتل الأمريكان كل أخيّاتك عندما كنّ في زيارة لبيت أختهن الدكتورة مريم قرب مطار بغداد بمناسبة عيد الميلاد الأول لعلي أبن مريم بعد زواجها من الطبيب صفاء . سبعتهن مع الطفل و أبيه و خالتهن أختي أسكتهن صاروخ كروز أمريكي مسح عشرين داراً مسحاً تاماً برمشة عين . أوووووهووه . لقد تحولت الأجساد الطريّة لأخيّاتك الصغيرات إلى بقايا أشلاء مضمّخة بالدماء و الفحم و التراب . هوئووووووو . عشرة أكياس من اللحم و العظم المفروم صفّت جنب بعضها البعض في شاحنة "هينو" من بغداد للمقبرة في النجف .ئووووووو ! دفنهن أهل الطبيب زوج مريم هناك في النجف ، و أنا هنا لا أعلم بوفاتهن .أأأووووأووو ! يا ليتني مت قبلهن ، فلا أعاني وجع فقدهن ليل نهار ، و لا عذاب ذكريات الحكايات الحلوة المضيعة ظلماً و عدواناً لكل واحدة منهن . و لكن أرعب شيء كان رأس المسكينة أختك الدكتورة مريم : فقد وجده صدفة صاحب دار يقع على مبعدة مائتي متر عن مركز الإنفجار ، و هو يتوسد سطح الطابق الثاني لداره ، و بقي يبحث أسبوعاً عن أهل من يمكن أن تكون صاحبته ، حتى إهتدى أخيراً لبيت أهل زوج مريم في حي الجهاد . و لم يستطع أحد منهم التعرف على صاحبة الرأس . أووو هوووووو , أوو . جاءوا إلى ، أووو هعهعأوو إلى هنا ، و أخذوني إلى الدار ، فإذا هو رأس أخيّتك الدكتورة مريم ، أأووووهووئووو ، مريم الأولى على العراق في الصف السادس العلمي أأووووو أوووو ! زاد الله شرفكم يا أمريكان ! كفنت الرأس ، بعد عيني أوووو هوووو ، نف ، طع أووهوووو و ، دفنته ، أوووعععع بعد أسبوعين من دفن أشلاء جسده . هل تعلم يا إبني أنني لم أستطع معرفة في أي من القبور العشرة أدفن رأس الدكتورة مريم ! لقد تحولت أخيّاتك و خالتهن و زوج مريم و أبنها إلى مجرد أكياس من اللحم و العظم المفروم ! ااوووووووو . أخيراً طلبت من الدفان الحائر مثلي دفنه في ثالث قبر ، و وضعت الشواهد على كل قبر حسب الأعمار : من الأكبر سناً إلى الأصغر سناً إعتباطاً . تصوّر نفسك وأنت تزور قبراً واحداً تختلط فيه أشلاء عشرة أقارب و أبناء من أبنائك – إسم الله على المحروسة أبنتك – و كل هذا في كل واحد من العشرة قبور ! أووو هوووو !
و تواصل أم مريم نشيجها الدامع :
- هل تعلم يا إبني أن قبر الشهيد المرحوم أبو مريم في وادي السلام بالنجف قد مسحته دبابات لواء الجيش الذي كان آمراً عليه مسحاً في انتفاضة آذار ؟ أووووو أوووو . شقوا شارعاً للسيارات فوق رأسه وسط المقبرة . أووو ! أستغفر الله ! حتى الموتى لا يخلصون من شرّك يا صدام ! نف .
دموع بآهات ، فدموع بحسرات ، فدموع خرساء الأمل ، تنتظر غدران دموع جديدة في المستقبل !
تصر أم مريم على مبيت ميثم و أبنته عندها لذلك اليوم . و بعد تناول طعام العشاء ، و شرب الشاي ، يقضي ميثم و أم مريم الوقت معا وسط الحكايات و الذكريات و الدموع حتى الفجر و هبة نائمة . تبشّره أولاً بأن الله قد إنتقم له من مساعد مدير الأمن عبد الله زيدان و إبنه وليد شر إنتقام . فبعد أيام قليلة من قيام المرحوم والده بنقله بجبائره لبيت عمه في بغداد ، جرى نقل الرائد عبد الله زيدان إلى مديرية أمن قضاء الهندية القريبة من الحلة كي يبقى ساكناً في دار الدولة الكائن في حي الجزائر . بعد ذلك بحوالي الشهر ، يحصل شجار بين جمال و وليد ينتهي بقيام وليد بقتل جمال بمسدس كان والده قد سرقه من دار أحد ضحاياه . و يلف الغموض سبب تلك المشاجرة . فالبعض يقول أنها كانت بسبب ضبط وليد لجمال و هو يركب أمه ؛ و البعض يقول أن أمه هي التي كانت تركب جمالاً ، و أنه فد أطلق رصاصتين : واحدة على أمه و واحدة على جمال ، و لكن الرصاصة الأولى طاشت عن رأس أمه فأصابتها بخدش بسيط . قسم آخر من الجيران يقول أن سبب المشادة هي غيرة عبد الله من علاقة جمال بزوجته ، و التي دفعته لتحريض إبنه عليه لقتله . فيما يؤكد البعض الآخر أن وليداً أراد الزواج ، فأبلغه أبوه بتعذر إمكانية توفير سكن له و لزوجته لديهم بسبب العلاقة الخاصة بين أمه و أبن عمها . و بعد مقتل جمال على يد وليد ، تبلغه أمه بأنه قد قتل والده الحقيقي ، فينتحر وليد بنفس المسدس المسروق الذي قتل به والده ، و تقرر هاجر أن رأس البلاء في مقتل إبنها الوحيد و أبن عمها هو زوجها ، فتقتله بنفس المسدس حال مجيئه عصراً للبيت من الدائرة . و في الليل ، تصاب بمس من الجنون و هي تحدق بجثث القتلى الثلاثة ، فتقفل أبواب الدار عليهم و عليها ، و لا تستطيع الشرطة فتح أبواب الدار حتى بعد إستدعائها لوالدها الشيخ المعمم من بغداد ، و بقاءه يومين يستعطف أبنته لفتح أبواب الدار دون طائل ، و لحين إقتحام الدار من طرف مجموعة من القوات الخاصة المستقدمة لهذه المهمة بالذات . و من الدار المخلَّعة الأبواب ، تنقل أم وليد مباشرة لزنزانات الحبس الإنفرادي في مستشفى المجانين في الشمّاعيّة . و خلال إنتفاضة آذار من عام 1991 ، يعمد المسؤولون عن المستشفى إلى قفل كل أبوابه المحصنة كعادتهم في كل ليلة لمنع المرضى من الهرب قبل عودتهم للمستشفى صباح اليوم التالي . في الليل ، تأتي قوات الحرس الجمهوري ، فتقطع كل الطرق المؤدية للمستشفى ، و تفرض حصاراً كاملاً على المنطقة بأكملها طيلة ثلاثة أسابيع لقمع الإنتفاضة بمدافع الدبابات و المدافع الثقيلة و صواريخ السمتيات . و عند فك الحصار ، و عودة منتسبي المستشفى إليه أخيراً ، و فتحهم الأبواب المقفلة ، يجدون كل المرضى ميتين ، و بعضهم قد أكل لحم بعض ، و منهم هاجر أم وليد .
و تختتم أم مريم روايتها بالقول :
- حتى المجانين لم يستطيعوا الإفلات من جرائم البعثيين أيضاً ! رماهم الله على رؤوسهم بحجر ، أستغفر الله ، و تكفل البعث بالإجهاز عليهم بالحجر الثاني !
- أنت تعلمين أحسن مني يا ماما ما هو السبب الحقيقي لمأساة عائلة المرحوم وليد ، و لمآسي العراقيين جميعاً . مأساتنا هي غياب الحب : بيت بلا حب ، هو بيت مهدوم ؛ و الكراهية ظلم ، و دار الظالم خراب . الحب نبتة طبيعية مغروسة في كل النفوس ، و هذه النبتة روحها عزيزة . أما الكراهية ، فهي نبتة خبيثة يزرعها مرضى العقول لتتكاثر و تعتاش على نبتة الحب ، فتعمد على قرضها قرضاً حتى تميتها .
ثم تذهب أم مريم لإعداد وجبة جديدة من الكعك بالشاي ، فيما يقلب ميثم قنوات التلفاز الفضائية . يشاهد في إحدى الفضائيات شيخاً معمماً بسبحة طويلة و لحية بيضاء كثة ، و هو يجلس إلى جانب عاهر معروفة ترتدي اللكچة و وجهها تعلوه الأصباغ المركّبة تركيباً مضحكاً ، و تستقبل أسئلة المشاهدين المؤمنين في كل الأمور و العلوم ، و الشيخ يجيبها عن كل الأسئلة بذلاقة لسان عجيبة ، و الإبتسامة لا تفارق شفتيه . تعود أم مريم حاملة صينية الشاي و الكعك ، و تشاهد وجه الشيخ الضليع في كل شيء مطلاً من على شاشة التلفاز . تقترب من الشاشة ، و تبحلق به طويلاً ، فتبتسم ، ثم تسأل ميثم :
- هل تعرف من هو هذا الشيخ ؟
- إسمه مكتوب على الشاشة : الشيخ الأستاذ الدكتور سعد الخالدي .
- أقصد : هل تعرف لمن يقرب ؟
- كلا ! لمن ؟
- أنه أبو المرحومة : هاجر ، أم وليد ! لقد بقي نهارين واقفاً هنا عند باب الدار يستعطف إبنته لتفتح له الباب و تسمح له بالدخول ، و هي تشتمه بأقذع الشتائم و تنعته بأخزى النعوت ، و ترمي عليه من شباك غرفتها العلوية كل الأحذية الموجودة في الدار !
عند الفجر ، يأخذ الإعياء مأخذه من ميثم و أم مريم ، فينامان .
في حوالي الساعة العاشرة صباحاً ، تستيقظ أم مريم ، و تعد طعام الفطور للضيفين ، ثم توقظهما .
بعد تناول طعام الفطور ، و إحتساء أقداح الشاي ، يخرج ميثم ظرفاً به عشرة آلاف دولار أمريكي و يقدمه لأم مريم . تتساءل أم مريم بعيون مستنكرة :
- ما هذا ، يا إبني ميثم ؟
- هدية بسيطة ، يا ماما !
- عفا عليك يا إبني !
- أرجوك يا أمي : تقبليها مني كرمز لإعتزازي الدائم بك ، و لحبّي الصميمي لك ، و رداً لديون كثيرة لك في رقبتي يا ماما . أسعديني يا ماما بتقبلها منّي !
تنتحب أم مريم و تنتحب و تنتحب ، و يشاركها هو و أبنته النحيب ! و لا يفلح ميثم بإقناعها بقبول الهدية على مضض إلا بعد تقبيل يديها عدة مرات ، و تأكيده لها بأن مثل هذا القبول سيفرحه كثيرا ، لكونه سيعزز لديه الشعور بأنها تعتبره إبنها الحقيقي مثلما يعتبرها هو أمه الحقيقية . ثم يعطيها بطاقته الشخصية لتأمين ديمومة الإتصال بينهما مستقبلاً ، و يتوادعان بالعناق و الدموع .
بعدها يزور ميثم بناية مديرية أمن الحلة سابقاً . يشرح لإبنته تاريخ هذه البناية : بهو البلدية ، مركز شباب البعث ، ملهى و مرقص عشتار ، مديرية أمن الحلة ... فتمتدح إبنته تصميم البناية و تتساءل :
- What is it used for now ?
ينظر ميثم للمدخل الجانبي للبناية الذي دخلت منه سيارة اللاندكروزر يوم إعتقاله المشؤوم ذاك ، فيجد رجال الشرطة المدججين بالأسلحة و بالمحاجر العابسة و هم يرابطون على جانبيها بأعداد أكبر مما كانت عليه من زمن حكم البعث . يبحلق رجال الشرطة بهما شزراً ، و خصوصاً بإبنته ، و هم يحملون بأيديهم الرشاشات الصدئة بعتلات أمانها المفتوحة . كما يشاهد خيمة للشرطة منصوبة إزاء عارضة حديدية جديدة تقطع الشارع الفرعي الكائن خلف البناية . يتعجب ميثم من جرأة هذا الإستهتار . حتى أزلام البعث لم يفعلوا هذا : قطع شارع فرعي كامل لمنطقة سكنية . كيف يستطيع أصحاب الدور الكائنة خلف البناية الدخول و الخروج بسياراتهم من دورهم ؟ و يتساءل مع نفسه : من – غير البعثي – تبلغ به الصفاقة و القباحة حد سكن مبنى عُذّب فيه مئات الآلاف من الأبرياء ، و فيه أتخذ القرار بإزهاق أرواحهم ظلماً و عدواناً ؟ أنه ليكاد يسمع صراخ المعذبين و أنين الأرواح المغدورة يضج من كل شبر فيه ، و بضمنهم من أعدم بتهمة الانتماء لنفس الحزب المحتل للبناية الآن !
و عندما يعثر أخيراً على اليافطة المعلقة على البناية ، يقرأ عليها إسم "حزب البعث الشيعي" . يترجم لأبنته هوية من يحتل البناية مجاناً الآن ، فتتعجب هبة من إجابة أبيها ، و تسأله عما إذا كان حزب البعث ما زال موجوداً في العراق ، فيجيبها بنعم . نعم ، إنه موجود ، و بكثرة . لقد فرّخ حزب البعث عشرات الأحزاب البعثية ، و إن بمسميات جديدة منافقة ؛ فلدينا الآن دزينة من الأحزاب البعثية الشيعية ، و دزينتين من الأحزاب البعثية السنيّة ، و على الأقل نصف دزينة من الأحزاب البعثيّة الكردية ، و مثلها التركمانية ! و لكن هذا ليس هو أرعب الكوارث ؛ فالداهية الدهياء في العراق الجديد هي تفشي فيروس إستمراء الإستحواذ على أموال و حقوق الغير في عقول سادة الشعب : أحزاب و مليشيات و عصابات تستولي على ممتلكات و أمول و وظائف عامة و خاصة و تبتز الأتاوات ، أشخاص يستحوذون على بيوت و ممتلكات و أموال جيرانهم ، حاكمون يأكلون أموال محكوميهم ، موظفون يأكلون أموال دوائرهم ، باعة يحولون الشوارع العامة إلى دكاكين مجانية ، رجال دين يسرقون أموال الوقف و الزكاة و الخمس و أصوات الناخبين بإسم الدين . و إزاء سيادة ثقافة أكل السحت الحرام ، فقد تلاشى عدد الشرفاء ممن لا يأكلون خبزهم إلا بعرق جبينهم ، و أصبحوا مصدراً للتندر و للتشكيك و للإتهام كما لو كان الشرف سبّة على صاحبه مثل سبّة أصحاب السوابق الإجرامية ، فتحولوا إلى نوع مهَدّد بالانقراض .
ثم تسأله إبنته عن إسم الشخص الأصلع بالنظارات الذي تظهر صورته العابسة في الملصق الضخم المرفوع عند المدخل الأمامي للبناية ، فيجيبها :
-( خرية صدام) He is a piece of Saddam s shit . In Iraqi Arabic, he is called:
و بعد أن يأخذ هو و إبنته سيارة أجرة في طريق العودة لبغداد ، يستعرض ميثم في ذهنه مرعوباً شريط رجع الوجع لجوائح الدمار الشامل لكل شيء حوله : من خراب ملايين النفوس ، إلى ما كان و سيكون من الحروب و موجات القتل الضروس ؛ من السير بالمقلوب إلى الوراء أبداً ، إلى حملات الإبادة الجماعية و التطهير العرقي و الديني و المذهبي ؛ من الترليونات المنهوبة إلى ملايين الترليونات التي ستنهب ؛ فيتمتم مع نفسه قائلاً و الدمع ينهمل :
- أوّاه يا عراق ! كم أبكيك يا بلدي الجميل المدمر المنكود : فقد كتب عليك القتلة الكارهون من أبنائك و جيرانهم أن تبقى بلا مستقبل لمائة سنة قادمة !
النهاية
بغداد ، 6 / 6 / 2006.



#حسين_علوان_حسين (هاشتاغ)       Hussain_Alwan_Hussain#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- رجع الوجع / رواية بحلقات / 19
- رجع الوجع / رواية بحلقات / 18
- رجع الوجع / رواية بحلقات / 17
- رجع الوجع / رواية بحلقات / 16
- رجع الوجع / رواية بحلقات / 15
- رجع الوجع / رواية بحلقات / 14
- رجع الوجع / رواية بحلقات / 13
- رجع الوجع / رواية بحلقات / 12
- رجع الوجع / رواية بحلقات / 11
- رجع الوجع / رواية بحلقات / 10
- رجع الوجع / رواية بحلقات / 9
- رجع الوجع / رواية بحلقات / 8
- رجع الوجع / رواية بحلقات / 7
- رجع الوجع / رواية بحلقات / 6
- رجع الوجع / رواية بحلقات / 5
- رجع الوجع / رواية بحلقات / 4
- رجع الوجع / رواية بحلقات / 3
- رجع الوجع / رواية بحلقات / 2
- رجع الوجع / رواية بحلقات
- كتاب الدرر البهية في حِكَمْ الإمبريالية الأمريكية


المزيد.....




- إعلام إسرائيلي: حماس منتصرة بمعركة الرواية وتحرك لمنع أوامر ...
- مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز ...
- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حسين علوان حسين - رجع الوجع / الحلقة الأخيرة للرواية / 20