أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - فؤاد النمري - المتلفعون باليسار واليسارويّة















المزيد.....


المتلفعون باليسار واليسارويّة


فؤاد النمري

الحوار المتمدن-العدد: 3343 - 2011 / 4 / 21 - 18:29
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
    


السؤال الكبير الذي يتوجب طرحه بقوة في عالم السياسة اليوم هو .. لماذا تتعالى الدعوات إلى تنشيط " اليسار " وتوحيد تياراته المختلفة ؟ وهو السؤال الذي تستوجب الإجابة عليه إجابة كلية ووافية البحث في طبيعة هذا اليسار، وفي الدور الذي يلعبه في الصراع الطبقي والتطور الإجتماعي الماثلين اليوم. وحبذا لو أن اليسارويين يطرحون على أنفسهم مثل هذا السؤال ويشاركوننا في البحث عن دورهم في قضية التطور الإجتماعي والصراع الطبقي. لو أنهم يفعلون هذا لكف الكثيرون منهم عن دعاوى اليساروية المشبوهة والمفلسة بذات الوقت. لذا فإننا ندعوهم بقوة من فوق هذا المنبر إلى الإجابة على السؤال المفصلي والمحكّ .. لماذا أنتم يساريون ؟؟

بجانب الإحراريين (أدعياء الحرية) من البورجوازية الوضيعة، تشارك بعض الأحزاب " الشيوعية " في طور التفكك بهذه الدعوى وبتذاكي الغبي تعلن أن اليسار الموحد سيقيم الحرية والديموقراطية والعدالة الإجتماعية !! هكذا ودفعة واحدة دون أن تعلن لمنفعة مَن ستقيم مثل هذه البنى السياسية والإقتصادية ــ وهي لن تعلن كيلا تفضح الطبيعة الطبقية لليسار وفي ذلك مقتل له ــ ولذك يصرون على القول بأن ذلك لمصلحة الشعب، أي لكافة طبقات الشعب. هذا الجواب تحديداً يكشف زيف هذه الدعوى ونفاقها. وليس أدل على نفاق هؤلاء اليسارويين وأكاذيبهم من أن أهدافهم النهائية المعلنة، الحرية والديموقراطية والعدالة الإجتماعية، تفتقد كليّاً لأية مدلولات حسيّة على أرض الواقع، حيث لم يسبق للبشرية أن عرفت مثل هذا المجتمع غير الموجود أصلاً، فإما أن يكون المجتمع طبقياً كما كان عبر مراحل التاريخ المعروفة، وفيه تقوم العلاقات بين الطبقات والأفراد على مبدأ استغلال الإنسان للإنسان فتنتفي بذلك كل آثار الحرية والديموقراطية والعدالة الإجتماعية، وإما أن يكون لاطبقياً كما في الحياة الشيوعية وفيه تنعدم كلياً أية مفاهيم تتعلق بالحرية والديموقراطية والعدالة الإجتماعية طالما أنها من مفردات المجتمعات الطبقية وقد انقضى عهدها والحاجة إليها ــ وفي كل الأحوال فإن مفاهيم الحرية والديموقراطية والعدالة الإجتماعية لا يشير أي منها إلى مدلول حسّي محدد كما نؤكد مرة أخرى.
ثمة نفر يدّعي أن الدول الإسكندينافية هي مثال الحرية والديموقراطية والعدالة الإجتماعية، وينسب صناعتها إلى اليسار فيها ــ فلماذا لا تكون هذه الدول أنموذجاً يحتذى من قبل اليسار (غير الماركسي) في بلدان أخرى كالبلدان العربية!؟ لقد تمت مناقشة هذا الأمر مع بعض هذا النفر غير الماركسي وتبيّن بالأرقام أن هذا اليسار الاسكندينافي المزعوم إنما هو لصوص وأفاقون حيث الوفرة في بلدانهم، وهي وحدها التي تقيم الحرية والديموقراطية والعدالة الإجتماعية بصورة مزورة، إنما هي وفرة تتوفر على حساب الشعوب الأخرى ومن سلة الدولار الزائف، إذ أن جميع الدول الاسكندينافية مدينة بمثلي، وبعضها بأربعة أمثال، مجمل إنتاجها القومي وفي هذا مخالفة فظة لأبسط قواعد علم الإقتصاد، وهي ستؤدي سريعاً إلى الإنهيار التام ــ طبعاً هؤلاء اليساريون الإحراريون لم يقتنعوا بمثل هذه النهاية المأساوية حتى وبعد أن تأكد لهم حجم المديونية الهائل لهذه الدول !! ــ إدارة الظهر للحقائق هو لون من ألوان اليساروية الزائفة.

إذاً كيف برز هؤلاء اليسارويون ولماذا ؟
هذا سؤال مفصلي وفي غاية الأهمية إذ من شأنه أن يلقي ضوءاً كاشفاً على طبيعة اليسار ودوره التاريخي كعائق اجتماعي، الأمر الذي يمكّن مختلف العاملين في الحقول السياسية، واليسارويون أولهم، من التعرف على هذا اليسار والتعامل معه بمقتضى الحال.
عندما كان المشروع اللينيني المتجسد بالثورة الإشتراكية العالمية بكامل عافيته ويشق طريقه بقوة في تفكيك النظام الرأسمالي العالمي وعبور الإشتراكية نحو الشيوعية، في تلك الأثناء لم يكن أحد يلتفت لدعاوى يساروية وحتى لو في الهوامش. خلال الحرب العالية الثانية قام الإتحاد السوفياتي (1941 ــ 1945) بتطهير القارة الأروربية من رجس النازية والفاشية وشرورهما بعد أن لم تصمد أمامهما أكبر إمبراطوريتين استعماريتين قبل الحرب وهما بريطانيا وفرنسا. بروز الإتحاد السوفياتي كأقوى قوة في الأرض عمل على اجتياح قوى الثورة العالم كله. نهضت كل الشعوب المقهورة تحت الوصاية الرأسمالية الإمبريالية في ثورة وطنية تفك الروابط مع مراكز الإمبريالية لتقيم دولها المستقلة سياسياً واقتصادياً عن الرأسمالية العالمية. في مرحلة ما بعد الحرب 1946 ــ 1972 عرف العالم ثلاث قوى اجتماعية رئيسية وهي، قوى الرأسمالية الإمبريالية بقيادة الولايات المتحدة وتضم فيما تضم أحزاب الإشتراكية الديموقراطية في أوروبا الموصوفة اليوم باليسارية، وقوى الإشتراكية والشيوعية بقيادة الإتحاد السوفياتي وتضم جميع الأحزاب الشيوعية في كافة أقطار المعمورة، ثم قوى التحرر الوطني بقيادة البورجوازية الوطنية في بلدان العالم الثالث وهذه بطبيعتها متحالفة مع قوى الإشتراكية. خلال الربع الثالث من القرن العشرين لم يكن هناك أي حيّز في فضاء العالم تشغله أية قوى توصف باليسارية. لم يلتفت حتى الخاصة آنذاك إلى أية قوى وصفت، حقيقة أو مجازاً، باليسارية. كان هناك ثلاث قوى نوعية ليس غير وليس منها ما وصف باليسار.

في فبراير شباط 1956 قام الحبر الأعظم للهيكل المقدس بتدنيس الهيكل على غير انتظار من أحد. أعلن الأمين العام للحزب الشيوعي السوفياتي، نيكيتا خروشتشوف، كفره بالنظام السوفياتي الذي بناه ستالين بالرعب والخوف وبالدكتاتورية الفردية. اعتراف خروشتشوف في ذلك التقرير المشؤوم الذي كتبه وأدلى به في جلسة لم تكن على أجندة المؤتمر العام العشرين للحزب ودون موافقة قيادة الحزب كما يقضي النظام، إعترافه في نهاية التقرير بالخدمات الجلّى التي قدمها ستالين إلى وطن الإشتراكية لم يكفِ ليحد من الفرح الغامر الذي استقبل به أعداء الإشتراكية، أعداء البروليتاريا، كفر حبر الإشتراكية الأول بالإشتراكية السوفياتية الموصوفة حقاً بالستالينية. لم يقتصر الفرح الغامر على الرأسماليين الإمبرياليين في الغرب بل زادت عليهم فرحاً البورجوازية الوضيعة في الإتحاد السوفياتي. هذه البورجوازية الوضيعة الروسية نفسها كانت قد رفعت السلاح في وقت مبكر بوجه البلاشفة بهدف إبادتهم في مارس آذار 1918 لكنها وقبل أن تهزم نهائياً اقترفت فعل الخيانة العظمى واستدعت تسعة عشرجيشاً أجنبياً إلى داخل روسيا لأجل إبادة البلاشفة واستعمار روسيا، ومع ذلك انتصر البلاشفة عليها جميعها وتحقق لهم النصر في العام 1921. لم تستسلم البورجوازية الوضيعة بالطبع واستمرت تقاوم العبور الإشتراكي إلا أن الحزب بقيادة ستالين لم يتهاون معها ونجح في القضاء على كل مناوراتها وأعمالها التخريبية حتى العام 1952. في أكتوبر من ذلك العام انعقد المؤتمر العام التاسع عشر للحزب. ليس ثمة أدنى شك في أن المؤتمر التاسع عشر للحزب كان مقرراً له أن يرسم آخر معركة كبرى يخوضها الحزب ضد البورجوازية الوضيعة بهدف القضاء على عمودها الفقري وهو الفلاحون. ولذلك دلالات عديدة يلزم التوقف عندها طويلاً وبإمعان نظراً لأهميتها القصوى في الإضاءة على طريق التطور الإجتماعي للجنس البشري في الماضي كما في المستقبل، وهي . .
(1) في العام 1950 جرى في قيادة الحزب الشيوعي البولشفي، بمشاركة حثيثة من ستالين، مناقشة عميقة وموسعة حول التخلص من الإنتاج البورجوازي لدى الكولخوزيين (الفلاحين التعاونيين) وطالب قادة كثيرون وعلى رأسهم فياتشسلاف مولوتوف باتخاذ قرار سلطوي بإلغاء طبقة الفلاحين مرة واحدة وإلى الأبد، إلا أن ستالين رفض مثل هذا التوجه لخطورته على مستقبل الثورة وتعلل بأن محو طبقة الفلاحين يلزم أن يتم بالتدريج خلال سبع سنوات على الأقل وذلك عن طريق إغراق المجتمع بالسلع الإستهلاكية حتى لا يعود الفلاح قادرا على الحصول على السلع المعروضة.
(2) في العام 1951 تم الكشف عن مجموعة من الأطباء اليهود في الكرملين المنخرطين في مؤامرة على حياة قادة الحزب، وإذاك لاحظ ستالين أن عدداً من قادة الحزب انتهت حياتهم مبكراً وأن لافرنتي بيريا عضو المكتب السياسي ووزير أمن الدولة لا يقوم بالمهام الموكولة إليه كما يجب.
(3) في أكتوبر 1952 انعقد المؤتمر العام التاسع عشر للحزب الشيوعي وكان مؤتمراً مفصلياً تقرر فيه . .
أ ــ خطة خمسية تهدف إلى إغراق المجتمع بالسلع الاستهلاكية كإجراء لازم لإلغاء طبقة الفلاحين كما كان قد صرح ستالين 1950
ب ــ إلغاء صفة البولشفي من اسم الحزب حيث كانت البولشفية في البداية لا تعني أكثر من تحالف العمال مع الفلاحين.
ج ــ مضاعفة عدد أعضاء المكتب السياسي للحزب توطئة لإحالة الطواقم القديمة إلى التقاعد وقد ثبت أنها ليست على قدر المسؤولية وقد جرى انتخاب عدد منهم إلى المكتب السياسي خلافاً لرغبة ستالين.
(4) وفاة ستالين بعد أربعة شهور على نهاية المؤتمر (5 مارس آذار 1953) وفي ظروف غامضة تدعو للريبة إذ اعترف بيريا شخصياً لمولوتوف أنه عمل على ترحيل ستالين (!!) وهو من سارع بعدئذٍ إلى إخراج الأطباء اليهود من السجن وإلغاء الإتهام بحقهم وزاد في إعدام الضابط المسؤول عن التحقيق معهم ــ لجنة من المؤرخين الروس والأمريكان تحققت في العام 2003 من أن ستالين مات مسموماً. وكان مولوتوف قد قال بذلك.
(5) بعد ستة شهور على رحيل ستالين أي في سبتمبر ايلول 1953 جرى الإنقلاب على كافة قرارات المؤتمر التاسع عشر ورافق ذلك تنحية جيورجي مالينكوف من الأمانة العامة للحزب بسبب إصراره على السير قدماً بتنفيذ مقررات المؤتمر العام للحزب ليحل محله رجل العسكر المتعاون خروشتشوف.
(6) بعد شهرين من ذلك الإنقلاب الرجعي الأسود تم اعتقال بيريا وأمر خروشتشوف بإعدامه دون محاكمة خلافاً لأنظمة الحزب وللأعراف. وسبب ذلك برأي مولوتوف هو أن خروشتشوف كان يعلم من طرف خفي بتآمر بيريا على حياة ستالين فخشي من أن تحقيقاً شاملاً وجدياً قد يصل إليه كمشارك في الجريمة.
(7) ما يؤشر إلى أهمية المؤتمر التاسع عشر للحزب الشيوعي، وهو آخر مؤتمر يشارك ستالين في تحديد اتجاهاته ووضع مقرراته، هو أنه ومنذ الإنقلاب الرجعي الأسود على مقررات المؤتمر وإلغائها جملة وتفصيلاً في سبتمبر ايلول 1953، جرى التعتيم على المؤتمر ومقرراته بصورة خاصة وحفظها في سرية مطلقة إستثناءً من كل الأرشيف السوفياتي ولا يجوز الكشف عنها إلا بأمر من رئيس الدولة خلافاً لسائر المؤتمرات الأخرى!!
في مواجهة هذه الوقائع التاريخية ينتهز الكتاب البورجوازيون الفرصة ليستخفوا أيما استخفاف بالحزب الشيوعي السوفياتي وبالدولة السوفياتية متسائلين بالقول .. أي نظام هو ذلك النظام السوفياتي حيث يقرر مصير دولة كبرى، بل مصير العالم، عدة أفراد متآمرين !!؟ وأي حزب هو ذلك الحزب الذي يصل إلى قيادته أشخاص منافقون مثل خروشتشوف وسوسلوف، ومتآمرون قتلة مثل بيريا !!؟ في الحقيقة لا تنم كل هذه التساؤلات عن خبث بورجوازي، لكنها من المؤكد منطلقة من جهل مطبق بأثر الصراع الطبقي وتحكّمه بتطور المجتمع وتقرير مصائره. نستذكر في هذا السياق الخطة الإقتصادية الجديدة (NEP) التي اعتبرها لينين مع بداية تشكيل الدولة في العام 1922 خطوة إلى الخلف من أجل احتواء سخط البورجوازية الوضيعة ومعارضتها للنظام الإشتراكي. في الواقع أن كل خطوة للخلف من شأنها أن تزيد من معارضة البورجوازية الوضيعة للعبور الإشتراكي. في العام 1926 وبعد أن انتعشت البروليتاريا السوفياتية من جديد استبدل الحزب الشيوعي بقيادة ستالين سياسة التراجع لاحتواء معارضة البورجوازية الوضيعة بسياسة التقدم، وسياسة خطوة للأمام بدل خطوة للخلف. في مواجهة هذه السياسة برز تياران بورجوازيان في قيادة الحزب نفسها، تيار يساري بقيادة تروتسكي وتيار يميني بقيادة بوخارين. في الحقيقة أن كل ما وصف ب " الجرائم " وعزيت إلى ستالين إنما كانت من أعمال الحراسة المشددة لحماية مسيرة البروليتاريا المحفوفة بالمخاطر لعبور الإشتراكية وصولاً إلى الشيوعية. لقد كال ستالين ضربات قوية ومتلاحقة للبورجوازية الوضيعة، العدو الأول للعبور الإشتراكي السوفياتي منذ العام 1922 وحتى العام 1953؛ ومع ذلك فما أن رحل ستالين حتى انقضّت البورجوازية الوضيعة متمثلة بالجيش وبالفلاحين على البروليتاريا واغتصبت سلطتها وانقلبت على سياساتها في سبتمبر ايلول 1953. كان ذلك الإنقلاب الكارثي على مصائر البشرية جمعاء هو نهاية معركة خاسرة لم تحسن البروليتاريا خوضها ضد البورجوازية الوضيعة بعد رحيل ستالين، وليس تنفيذا لرغبات أفراد بعينهم كما يظن بعض الكتبة البورجوازيين. ومع ذلك فإن الملحمة التاريخية الكبرى التي خاضها حزب البلاشفة بقيادة ستالين دفاعاً عن مستقبل بروليتاريا العالم ضد البورجوازية الوضيعة دون انقطاع منذ مارس آذار 1918 وحتى مارس آذار 1953 ــ باستثناء سنوات الحرب بالطبع ــ تحتل سجلاً خاصاً يميّز الوعي الجديد للإنسان بقيمة إنسانيته الرفيعة.

لعل بعضهم يستهجن انتقالي من البحث في طبيعة اليسار الجديد ودعاويه إلى التفصيل في انهيار المشروع اللينيني وفشل الثورة الإشتراكية العالمية. غير أن استهجانهم سيتبدد بعد أن يتذكروا أن اليسار لم يكن له حتى الإسم قبل أن يبدأ بنيان الثورة الإشتراكية بالتصدع والتداعي في الستينيات. حتى البورجوازية الوضيعة التي كانت معششة في الأحزاب الشيوعية، بما في ذلك حزب البلاشفة، لم تكن لتتجرأ على الإنفصال عن الحركة الشيوعية تحت راية اليساروية كما كان تروتسكي قد فعل في العشرينيات ولم يكن جزاؤه إلا سخط واستنكار عمال العالم. في الستينيات وبعد أن أفصح قائد الثورة الإشتراكية العالمية، نيكيتا خروشتشوف، عن شجبه للإشتراكية السوفياتية من بناء ستالين، وبعد أن ظهر الصدع العريض في المعسكر الإشتراكي متمثلاً بالخلاف الصيني السوفياتي، وبعد أن لحق بالإتحاد السوفياتي هزائم متلاحقة على الصعيد الدولي، بعد كل هذا بدأ لون من ألوان اليساروية يُلمح في فضاء أوروبا باسم "الشيوعية الأوروبية" (Euro-communism). فلماذا الشيوعية الأوروبية؟ مع تصدع المشروع اللينيني بإدارة خروشتشوف وهزائمه المتلاحقة على الصعيدين الداخلي والخارجي انتهزت البورجوازية الوضيعة الأوروبية الفرصة لتعلن أن القراءة اللينينية لماركس ليست صحيحة بل وأن بعض ما في الماركسية نفسها جرى عليه التقادم ولم يعد معاصراً. وهكذا خرجت البورجوازية الوضيعة الأوروبية تحت راية يساروية اسمها الشيوعية الأوروبية من معسكر البروليتاريا لتنضم إلى المعسكر البورجوازي بقيادة الرأسماليين وقالت بإمكان الوصول إلى الإشتراكية عن طريق الإنتخابات وهو ما كان قد قال به رائدها نيكيتا خروشتشوف، شأنها في ذلك شأن أحزاب الإشتراكية الديموقراطية في أوروبا الغربية التي لم يعد لها أدنى علاقة بالإشتراكية.

في مقاربة هذا الإنشقاق الطبيعي والخطير بذات الوقت فإن كل مقاتل في جبهة البروليتاريا لا يفارقه الشعور بأن البورجوازية الوضيعة الأوروبية اقتفت أثر البورجوازية الوضيعة السوفياتية التي أنزلت هزيمة ساحقة بالمشروع اللينيني، فلماذا إذاً لا تقوم هي نفسها بذات الشيء وتعلن الشيوعية الأوروبية المعارضة كليّاً لشيوعية ماركس ولينين !! المفارقة المستهجنة بغير حدود في هذا السياق هو أن البورجوازية الوضيعة تقوم بكل هذا وتنكر بنفس الوقت أنها حاربت المشروع اللينيني وأنه قد انهار على يديها !!؟ وتصل بها الوقاحة لأن تدعي بأن المشروع اللينيني يحمل في ذاته بذور انهياره. هذه وقاحة تتجاوز كل حدود الوقاحة التي يمارسها من لهم سيماء بني البشر. كيف لقرارات المؤتمر العام للحزب في أكتوبر 52 أن تُلغى جملة وتفصيلاً في سبتمبر 53 ، وهو أمر تحرّمه مختلف الأنظمة الحزبية فما بالك بالأنظمة الحديدية في الأحزاب الشيوعية!؟ ليس ثمة أدنى شك في أنه لو تم تنفيذ مقررات ذلك المؤتمر العتيد، وخاصة تلك التي تقضي بغمر المجتمع بالسلع المدنية الإستهلاكية، لشكل ذلك تطوراً نوعياً في المشروع اللينيني وما عاد من الممكن أن تنقلب عليه البورجوازية الوضيعة، لو تم ذلك لكان العالم يعيش اليوم في سلم ورخاء ثابتين. لقد عرفت البورجوازية أن خطة ذلك المؤتمر، المؤتمر التاسع عشر، هي حفر قبر البورجوازية عميقاً في الأرض السوفياتية فقامت قبل أن يلقى بها بالقبر بالإنقلاب المذكور وقرر عدد من الأغبياء والمتآمرين في المكتب السياسي للحزب خيار إنتاج الأسلحة بدل إنتاج البضائع ــ كان الإسم الرسمي لإنتاج الأسلحة هو "الصناعات الثقيلة" وكنت أنا نفسي من مناصري الصناعات الثقيلة وضد الصناعات الإستهلاكية الخفيفة دون العلم بمخالفة قرارات المؤتمر العام للحزب. لماذا ظل الإتحاد السوفياتي ينتج من الأسلحة أضعاف ما تنتجه الولايات المتحدة وحلفاؤها مجتمعين؟ إنتاج الأسلحة ليس إنتاجاً اشتراكياً، بل هو ضد الإشتراكية كما ظل ستالين يؤكد طيلة الثلاثينيات قبل مؤتمر المؤامرة الكبرى في ميونخ 1938. كما أن إنتاج الأسلحة الكثيف في الإتحاد السوفياتي لم يكن بهدف حماية أمن الدولة بل العكس تاماً هو الصحيح والسباق مع أميركا لم يكن إلا غطاء لخيانة الإشتراكية.

الشيوعية الأوروبية في الستينيات كانت الطيف اليساروي الأول والذي استدعى مجمل الأطياف اليساروية الأخرى. صحيح أن بعض الجماعات التي ادّعت " الإشتراكية " تواجدت قبل الستينيات، مثل حزب البعث، لكن هذه الجماعات لم تصنف نفسها في اليسار، فحزب البعث مثلاً كان يخفي يمينيته المنفلتة تحت شعاره المعروف القائل .. " لا شرقية ولا غربية ". نظرة إجمالية في تتبع أصول اليسار تقودنا إلى مستنبتين نبتت فيهما أعشاب اليسارية الضارة، في الأول كانت البورجوازية الوضيعة التي حاربت الثورة الإشتراكية من داخلها، وفي الثاني أولئك الذين لم يدركوا الأسباب الحقيقية التي عملت على انهيار المشروع اللينيني فظنوها خطأ في النظرية ولذلك خرجوا منها، وهؤلاء بعمومهم من البورجوازية الوضيعة أيضاً. كل الذين يرفعون راية اليسار اليوم هم من الذين يرفضون القراءة اللينينية لماركس ومن الذين يشككون في صحة الماركسية كعلم للتطور الإجتماعي. جميعهم يرفضون حقيقة دكتاتورية البروليتاريا دون أن يعوا أن رفضهم دكتاتورية البروليتاريا يخرجهم نهائياً من دائرة العلوم الماركسية حيث أن الصراع الطبقي ينتهي حكما إلى أن تؤول السلطة إلى البروليتاريا التي عندئذٍ تؤكد سلطتها المطلقة من خلال إلغاء تقسيم العمل البورجوازي. إنكار دكتاتورية البروليتاريا يعني مباشرة إنكار الصراع الطبقي الذي هو أبجدية العلوم الماركسية.

ما يؤكد تهافت يسارية اليساريين هو أنهم لم يتعرفوا إطلاقاً على أية قوى اشتراكية في المجتمع السوفياتي، وهم لذلك يضطرون إلى القول بأن ستالين ومنذ أن تولى منصب الأمين العام للحزب الشيوعي السوفياتي في العام 1922 انتهج القضاء على كل القوى الإشتراكية. وعندما يتأكد بعض هؤلاء بأن مثل هذه المزاعم تخلو من العقلانية حيث لا يمكن لأي مجتمع أن يخلو من القوى الإشتراكية خاصة وقد تضاعف حجم البروليتاريا فيه ثلاث مرات، يذهبون إلى المزيد من اللاعقلانية فيدعون أن ستالين كان يمثل القوى الرأسمالية في المجتمع السوفياتي وقد بنى الدولة الرأسمالية(!!) ــ ليس هذا إلا كلام أطفال يعمل آباؤهم في إعلام الدوائر المعادية للشيوعية. عندما يكبر هؤلاء الأطفال ويتعرفون على أسباب انهيار الإتحاد السوفياتي الحقيقية لن يعودوا يساريين وسيستنكر المتعقلون منهم تاريخهم اليساري.

www.fuadnimri.yolasite.com



#فؤاد_النمري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- العقبة الكبرى أمام استئناف العمل الشيوعي
- الحرية ليست إلاّ شرطاً ظرفياً يستوجبه فقر أدوات الإنتاج
- فؤاد النمري في حوار مفتوح حول: القراءة اللينينية لماركس المت ...
- ماذا في مصر وفي تونس
- حزب العمال الشيوعي يعادي الشيوعية
- الكارثة الكونية الوشيكة (انهيار نظام النقد العالمي)
- الدكتور علي الأسدي يغطي على المرتدين والمحرفين السوفييت
- نهاية التجربة الإشتراكية لدى علي الأسدي
- كيف تخلَّقَ عالم اليوم
- - المسألة الستالينية - !!
- العدو الرئيسي للعمل الشيوعي اليوم
- الحزب الشيوعي اللبناني يطلّق الماركسية
- ثورة أكتوبر لم تفشل
- - حفّار التاريخ - يسأل أسئلة صعبة
- صيحة الديموقراطية الكاذبة
- البورجوازية طبقتان متايزتان (في البورجوازية العربية)
- الليبراليون لا يعرفون معنى الليبرالية (الحرية)
- تنويراً لأنصاف الماركسيين
- ليس في الماركسية ما يفشل ... لماذا؟
- الإشتراكية السوفياتية ليست رأسمالية الدولة


المزيد.....




- هدفنا قانون أسرة ديمقراطي ينتصر لحقوق النساء الديمقراطية
- الشرطة الأمريكية تعتقل متظاهرين مؤيدين للفلسطينيين في جامعة ...
- مناضل من مكناس// إما فسادهم والعبودية وإما فسادهم والطرد.
- بلاغ القطاع الطلابي لحزب للتقدم و الاشتراكية
- الجامعة الوطنية للقطاع الفلاحي (الإتحاد المغربي للشغل) تدعو ...
- الرفيق جمال براجع يهنئ الرفيق فهد سليمان أميناً عاماً للجبهة ...
- الجبهة الديمقراطية: تثمن الثورة الطلابية في الجامعات الاميرك ...
- شاهد.. الشرطة تعتقل متظاهرين مؤيدين للفلسطينيين في جامعة إيم ...
- الشرطة الإسرائيلية تعتقل متظاهرين خلال احتجاج في القدس للمطا ...
- الفصائل الفلسطينية بغزة تحذر من انفجار المنطقة إذا ما اجتاح ...


المزيد.....

- مساهمة في تقييم التجربة الاشتراكية السوفياتية (حوصلة كتاب صا ... / جيلاني الهمامي
- كراسات شيوعية:الفاشية منذ النشأة إلى تأسيس النظام (الذراع ال ... / عبدالرؤوف بطيخ
- lمواجهة الشيوعيّين الحقيقيّين عالميّا الإنقلاب التحريفي و إع ... / شادي الشماوي
- حول الجوهري والثانوي في دراسة الدين / مالك ابوعليا
- بيان الأممية الشيوعية الثورية / التيار الماركسي الأممي
- بمناسبة الذكرى المئوية لوفاة ف. آي. لينين (النص كاملا) / مرتضى العبيدي
- من خيمة النزوح ، حديث حول مفهوم الأخلاق وتطوره الفلسفي والتا ... / غازي الصوراني
- لينين، الشيوعية وتحرر النساء / ماري فريدريكسن
- تحديد اضطهادي: النيوليبرالية ومطالب الضحية / تشي-تشي شي
- مقالات بوب أفاكيان 2022 – الجزء الأوّل من كتاب : مقالات بوب ... / شادي الشماوي


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - فؤاد النمري - المتلفعون باليسار واليسارويّة