أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - فؤاد النمري - ليس في الماركسية ما يفشل ... لماذا؟















المزيد.....


ليس في الماركسية ما يفشل ... لماذا؟


فؤاد النمري

الحوار المتمدن-العدد: 3116 - 2010 / 9 / 5 - 11:53
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
    



لو سؤلت لماذا كارل الفتى الألماني الصغير صار كارل ماركس الكبير الذي تستولي أفكاره على الملايين من البشر من مختلف القارات والأجناس والذي يشار إليه بأنه أعظم إنسان ظهر في الألفية الثانية من تاريخ البشرية؟ لو سؤلت مثل هذا السؤال لما وجدت حقاً أصدق من جواب بالغ القصر وعظيم الدلالة وهو " نبض الحياة ". ولد الطفل كارل تنبض فيه الحياة بقوة صارخة لا يمتلكها الآخرون. هذا النبض القوي هو ما كان يدفع بكارل على الدوام لاكتشاف مسالك الحياة وأسرارها. ما إن أكمل تعليمه في بلدته تراير حتى ذهب ليدرس القانون في الجامعة في بون؛ ولما لم يجد في بون ما يستجيب لنبضه الحيوي ترك بون وذهب إلى برلين العاصمة حيث تتلاطم أمواج الحياة العالية وأفكارها الفلسفية الخاصة بقوة لا مثيل لها في التاريخ؛ وكان هذا من حسن حظ الطالب كارل، بل وحسن حظ البشرية جمعاء. تحول الطالب كارل إلى دراسة الفلسفة في الجامعة في برلين، فهي البحث الأكثر اشتباكاً مع الحياة اشتباكاً عميقاً وشاملاً. ومن خلال اشتباكه العميق والشامل مع مختلف الفلسفات السائدة تعرّف إذّاك على الديالكتيك الهيجلي، أحدث فلسفات تلك المرحلة، ورأى فيه السر في حركة الحياة والطبيعة بمختلف تجلياتها. لكنه، وبسبب حيويته المتقدة دون توقف، رأى في ديالكتيك هيغل عائقاً ضخماً لتدفق الحياة ألا وهو المثالية وتقديس العقل وصولاً إلى ترسيخ مفهوم الدولة. ولذلك سرعان ما انضم إلى الهيجليين الشباب المعروفين بأنشطتهم الفكرية ضد الميتافيزيق ومن أبرزهم لودفيج فيورباخ المعروف بفلسفته المادية، لكنه اختلف أخيراً مع فيورباخ لسبب رئيسي ذي مغزى وهو أن فيورباخ ومن سبقه من مختلف صنوف الفلاسفة قصروا اهتامهم على تفسير العالم كما هو، العالم الذي لا ينبض بالحياة، أما ماركس فاجتهد في فلسفة تستجيب لنبض الحياة في جسمه، فلسفة تعنى بتغيير العالم وباستشرافه كما سيكون، وليس كما هو.

وهكذا مرق ماركس إلى المادية الديالكتيكية التي لا توصف بالفلسفة إلا لأنها حلّت محل الفلسفات السابقة وجبّتها، دفنتها نهائياً إلى غير رجعة. المادية الديالكتيكية أغلقت دائرة الفلسفة إغلاقاً نهائياً وانتقلت إلى دائرة العلوم وتمثلت بقانون علمي هو القانون العام للحركة في الطبيعة بمختلف تجلياتها بمواده الديالكتيكية الثلاث وهي .. وحدة التناقضات، والتغيرات الكمية المتراكمة حتى التغير الكيفي، ونفي النفي. وفسر فردريك إنجلز المادية الديالكتيكية بالقول.. " يستحيل تصور المادة بلا حركة "، وزاد آنشتاين على ذلك مؤكداً أن المادة والطاقة هما ذات الشيء، وجهان لعملة واحدة. بهذه "الفلسفة" الماركسية الخارقة، وأداة البحث الكلية القدرة التي لا تخطئ، استعرض ماركس تاريخ البشرية وتطور الحياة في المجتمعات المختلفة وتوقف أمام تناقض الحياة مع الطبيعة وميّز تناقض الإنسان عن تناقض الحيوانات الأخرى معها ورأى نجاح الإنسان في مواجهة الطبيعة، خلافاً لسائر الحيوانات الأخرى، نابعاً فقط من استخدام الإنسان للآلة (instrument)؛ ومن هنا استنتج ماركس أن افتراق الإنسان عن مملكة الحيوان وابتدائه رحلة الأنسنة المتجلية بنمو الوعي والإدراك إنما بدأ مع نجاح الإنسان الحيوان باستخدام الآلة في قهر الطبيعة وإنتاج حياته وإعادة إنتاجها. وهكذا رأى ماركس أن الإنسان نفسه ورحلة الأنسنه التي ميزت الحيوان الإنسان عن سائر الحيوانات الأخرى إنما هو محصلة التناقض الديالكتيكي اللانهائي بين الإنسان من جهة وأدوات الإنتاج من جهة أخرى، كما رأى أن تاريخ الإنسانية لم يتقدم متمرحلاً من المشاعية البدائية إلى العبودية إلى الإقطاع ثم الرأسمالية إلا بسبب التطورات النوعية لأدوات الإنتاج، وأن أي تطور نوعي إضافي لأدوات الإنتاج الرأسمالية سترحّل الإنسان إلى مرحلة الشيوعية.

عندما صاح لينين يقول .. " إن الماركسية كليّة الصحّة " فهو لم يكن يهب صوته العبقري مجاناً، بل كان يعلم تماماً من خلال الفحص الكلّي والدقيق أن البنيان الماركسي مرصوصة حجارته بإسمنت المادية الديالكتيك الهائلة القدرة. نبض الحياة في الشاب كارل ماركس ما كان ليُترجم إلا بالمادية الديالكتيكية التي هي حركة الحياة والطبيعة، وهي الحقيقة المطلقة النهائية لمختلف تجليات المادة. بهذا النبض الحي المتدفق المتجسد بحركة الطبيعة والقوانين الناظمة لها شرع ماركس يقيم بنيانه المدهش حقاً غير القابل للنقض أو الإنهيار. إنه عمارة الحياة الذي بنته الحياة. وهنا يلزم التنبيه إلى أن بعضهم يدخل بنيان الماركسية من مدخل خاطئ إعتقاداً منه أن الماركسية إنما هي نظرية غائية، غايتها خدمة الإنسانية من خلال إقامة الحرية والمساواة أو العدالة الإجتماعية. حقيقة الأمر ليست كذلك، لم يوظف ماركس عقله في تحقيق غايات إنسانية نبيلة بل إن نبض الحياة في ماركس هو ما جعل عقل ماركس ينبض ذات النبض استمراراً للحياة، فالحياة تعيد إنتاج ذاتها؛ ويمكن اعتبار العقل هنا مجرد محطة دفع حيوية. ولذلك يمكن تعريف الماركسية على أنها نظرية الحياة في إعادة إنتاج الحياة بغض النظر عن أية شروط تتواجد فيها وبعيداً عن كل غايات بعينها. وما انتصار ماركس للطبقة العاملة إلا لأنه رأى أن العمال هم وحدهم من ينتج الحياة لكن ذلك لا يعود عليهم بحياة كريمة. وهكذا، لا يجوز القول بفشل الماركسية الذي لا يعني سوى أن الحياة لم تعد تنتج الحياة، وهذا قول باطل طالما أن قائليه هم أحياء تؤكد فيهم الحياة استمرارها؛ كما لا يجوز القول بفشلها طالما أن الخطأ لا يأتيها من خلفها أو من بين يديها، لا من خطأ في النظرية ولا من سوء التطبيق، طالما أنها مؤسسة بكامل هياكلها تأسيساً محكماً على القانون العام للحركة في الطبيعة، على المادية الديالكتيكية. إنها بكلمة جزء من الطبيعة وتعمل عمل الحياة في الطبيعة.
فيما بعد انهيار الإتحاد السوفياتي كثر القائلون بفشل الماركسية. يقولون هذا من وراء ستار التعميمات الذي يعفيهم من كل مقاربة علمية وموضوعية لما يطرحون. حجتهم الوحيدة هي أن لينين كان قد أعلن إقامة الإتحاد السوفياتي على قواعد الماركسية وعليه فإن انهيار الإتحاد السوفياتي برهان غير قابل للطعن على انهيار الماركسية وفشلها. هؤلاء هم من أهل الإفك. هم يعلمون تماماً أن أحداً من قادة الإتحاد السوفياتي من بعد ستالين لم يحاول حتى التعرف على لينين. لم يذكره أو يستذكره أحد منهم بل إن خروشتشوف، قائدهم وعرّابهم في الردّة، أعلن إنكاره للينين بوقاحة منكرة عندما خاطب البلاشفة في المكتب السياسي للحزب في يونيو حزيران 57 بالقول .. " شبعنا من لينينكم ولم نشبع الخبز " ، ثم عاد ليستنكره في تقريره للمؤتمر العام للحزب في العام 61 بالقول .. " لكن لينين لم يعاصر الشركات المتعددة الجنسيات " في محاولة منه تثير الهزء والضحك لإقناع المؤتمرين بأنه المنظّر الذي يسبق لينين خاصة وهو يعلم أن أحداً من أعضاء المؤتمر لا يعلم بأن خروشتشوف هذا، خليفة لينين وستالين، لم يقرأ صفحة واحدة من أعمال ماركس ولينين وأنه أيضاً لا يجيد الكتابة وربما القراءة أيضاً فهو لم يكتب شيئاً حتى ولا مذكراته التي كان يسجلها بصوته على أشرطة يعطيها لكاتبه المستخدم ليفرغها بلغة الكاتب وليس بلغته.

ليس من قبيل المناكفة نقول لهؤلاء الأفّاكين أننا نمتلك البرهان القاطع الذي يؤكد أن انهيار الإتحاد السوفياتي جاء ليؤكد الصحّة الكليّة للماركسية، وأن الإشتراكية لا يمكن بناؤها إلا على القواعد التي أرساها كل من ماركس ولينين. برهاننا القاطع هو الخطاب السري لخروشتشوف في المؤتمر العام العشرين للحزب الشيوعي في فبراير 1956. لن نتوقف هنا عند ما هو غير شرعي في هذا الخطاب حيث أن أحد أعداء الدولة السوفياتية هو من كتب هذا الخطاب لخروشتشوف الذي لا يعرف أن يحيك الأكاذيب الحياكة التي ظهر فيها الخطاب الذي لم يعرضه على المكتب السياسي ليأخذ موافقته الضرورية في تلك الحالة، إنما احتفظ به في جيبه مما اضطره بالتالي إلى إلقائه في جلسة إضافية بعد انتهاء المؤتمر بصورة رسمية، وهذه حقيقة تؤكد أن الخطاب لم يكن خطاباً رسمياً بل خطاباً شخصياً لا يعبر عن رأي الحزب، بل إن خروشتشوف نفسه وهو الأمين العام للحزب يعرف تماماً أن الحزب لا يقبل ذلك الخطاب ولذلك لم يعرضه على المكتب السياسي ليأخذ موافقته عليه ليصبح من وثائق المؤتر ويتلى في جلسة رسمية. وسمي بالخطاب السري ليس فقط لأنه طلب جلسة إضافية سرية لإلقاء الخطاب بل لأن أغلبية أعضاء المكتب السياسي لم يكن لهم علم بالخطاب وبمحتوياته وتبيّن فيما بعد أن غالبيتهم كانت ضد الخطاب. ماذا قال الخطاب؟ ما يهمنا من ذلك الخطاب هو الإدانة التامة والشاملة للنظام السوفياتي في عهد ستالين وخاصة فيما بين العام 1934 وحتى رحيل ستالين عام 1953 ودمغ تلك الفترة بالطغيان والتصفيات التي طالت معظم قادة الحزب وبالدكتاتورية الفردية والاستبداد. بهذه الأوصاف المنحطة لم يكن النظام السوفياتي الستاليني بالطبع نظاماً ديموقراطياً واشتراكياً حتى وإن كل المآثر السوفياتية العظيمة تحققت خلال تلك الفترة والتي ليس أعظمها سحق النازية التي كانت قد فككت أعظم امبراطوريتين استعماريتين، بريطانيا وفرنسا. ووعد المنقذ (كما وُصف خروشتشوف آنذاك وكما وُصف ابنه بالعمودية غورباتشوف فيما بعد) بإعادة الإشتراكية إلى طهرها وألقها في عهده الميمون.

أول تطهير للنظام كان خروجه على الأنظمة والقوانين بفظاظة غير مسبوقة في النظام السوفياتي. ففي يونيوه حزيران لم تعد قيادة الحزب قادرة على تحمل هرطقات خروشتشوف فسحبت منه الثقة، وهو ما يرتب عليه أن يخلي منصبيه كأمين عام للحزب وكرئيس لمجلس الوزراء، غير أن هذا المتعطش للسلطة ولعبادة الفرد، وهي التهمة الكاذبة التي وجهها لستالين، لم يصدع لقرار قيادة الحزب واستقوى بالجيش وهو رجله في الكتب السياسي، والجيش كان الخليفة الفعلي لستالين باعتراف خروشتشوف نفسه، فكان أن جمع الجيش اللجنة المركزية للحزب من أقاصي القارات السوفياتية خلال 24 ساعة بواسطة الطائرات الحربية السريعة متجاوزا الأعراف والقوانين لتلغي تلك اللجنة المركزية قرار المكتب السياسي بإقالة خروشتشوف وهو ما لا يجوز لها وليس من حقها حيث قرارات البريزيديوم غير قابلة للإلغاء. بل ولتقرر أيضاً طرد جميع الذين صوتوا لنزع الثقة من خروشتشوف ومنهم جميع البلاشفة من المكتب السياسي وهذا ليس من حقها أيضاً. تلك هي ديموقراطية خروشتشوف الموعودة. انتقد ستالين بزعم أنه لم يكن يصغي لآراء رفاقه في القيادة علماً بأن ستالين طيلة حياته لم يتخذ أية قرارات دون الرجوع إلى المكتب السياسي. وانتهى هو بعد عام فقط إلى ألا يصغي للقيادة كلها مجتمعة، بل وليقوم بانقلاب عسكري عليها وعلى الحزب. ليس كل هذا ما يهمنا بالدرجة الأولى. خلافه مع المكتب السياسي وما أدى إلى سحب الثقة منه هو أنه جاء بمشروع رجعي ضد الإشتراكية يقضي بشد عصب طبقة الفلاحين، الطبقة التي كان محور الخطة الخماسية التي أقرها مؤتمر الحزب التاسع عشر بحضور ستالين في أكتوبر 1952 هو إلغاؤها نهائياً من المجتمع السوفياتي. كان خروشتشوف الأمين العام المسؤول عن تنظيم الحزب قد تآمر مع العسكر لعزل مالنكوف في أكتوبر 1953 للحلول محله مقابل إلغاء الخطة الخمسية وتحويل الأموال المكرسة فيها للصناعات المدنية إلى الصناعات العسكرية؛ وعاد في العام 1957 ليشد من عصب طبقة الفلاحين من خلال مشروعه "إصلاح الأراضي البكر والبور" الذي بدأ بأن زاد في طبقة الفلاحين 200 ألف فلاح جديد وأحال ملكية الدولة لمختلف المكائن والمعدات الزراعية لملكية الفلاحين الخاصة دون مقابل. عهد خروشتشوف شكل ثورة مضادة قامت بها البورجوازية الوضيعة ومنها العسكر والفلاحون ضد البروليتاريا ونظامها الإشتراكي. النظام السوفياتي ومنذ إسقاط مالنكوف في أكتوبر 1953 الذي أبى إلا أن ينفذ الخطة الخماسية التي كانت تقضي برفع المستوى المعاشي للطبقة العاملة تخصيصاً ومحو طبقة الفلاحين، وأزيح لهذا السبب، لم يعد نظاماً اشتراكياً بالمعنى الحقيقي للكلمة وهو "محو الطبقات بتعبير لينين" من خلال التركيز على الصناعات المدنية. وللقطع في هذا الموضوع قام خروشتشوف في المؤتمر الإستثنائي الحادي والعشرين للحزب في العام 1959 بالإعلان عن إلغاء دكتاتورية البروليتاريا وأخفى سلطة البورجوازية الوضيعة في دولته الجديدة بتزوير إسم لها هو "دولة الشعب كله". وللقطع أيضاً فقد اعترف خروشتشوف في مذكراته بعد أن دبّر العسكر انقلاباً ضده لمصلحة بريجينيف في أكتوبر 1964، إعترف أن كل السلطة منذ أن جيء به بدل مالنكوف كانت وما زالت للعسكر وأكد في خاتمة مذكراته أن أكبر رأس في الحزب لا يجروء على مخالفة أوامر العسكر !!

إنطلاقاً من تصريح خروشتشوف هذا بالإضافة إلى إعلانه عن إلغاء دولة دكتاتورية البروليتاريا التي تشكل المدخل الوحيد للإشتراكية وتعطيل الصراع الطبقي الذي هو أس السياسات للدولة الإشتراكية، وقد أعلنهما رسمياً قائد الإنقلاب نفسه، خروشتشوف، في المؤتمر الاستثنائي الحادي والعشرين للحزب في العام 1959، لا يمكن لأي مدعٍ أن يدعي بأن النظام في الإتحاد السوفياتي منذ استبدال مالنكوف بخروشتشوف هو نظام اشتراكي. لقد انقلب من نظام إشتراكي بروليتاري إلى نظام الطبقة الوسطى، طبقة البورجوازية الوضيعة وطليعتها العسكر ثم الفلاحون. الدلالة الكبرى على هذه الحقيقة هو أن الإتحاد السوفياتي ومنذ ألغيت الخطة الخماسية في أكتوبر 1953 أصبح منتج السلاح الأول في العالم وبدأ بسد النقص فيما يحتاجه من القمح بشرائه من أميركا مع العلم أن إنتاجه من القمح كان أكثر من ثلاثة أضعاف ما تنتجه الولايات المتحدة وذلك بسبب عدم إيفاء الفلاحين لحصة الدولة من إنتاجهم وسرقتها. وانتهج النظام سد الطريق أمام بناء الاشتراكية وعبورها وتجويع البروليتاريا حتى انتهى الأمر إلى أن شاع هروب العمال من المصانع ومطاردتهم من قبل الشرطة لإعادتهم إلى العمل الذي بات عمل سخرة يذهب ريعه لصناعة السلاح الفائض عن الحاجة بكل المعايير إذ كان إنتاج السلاح الفائض هو الطريق الوحيدة لتعطيل الاشتراكية وإبعاد العمال عن السلطة وليس لمسابقة الولايات المتحدة كما نافق وكذب القادة السوفييت آنذاك. كما أن الحزب الذي هو بالتعبير اللينيني هيئة أركان الطبقة العاملة لم يعد كذلك بل أصبح ذيلاً للقيادة العسكرية ولم يعد يتمتع بأية سلطات. سلطاته أمست أشبه بسلطة الخليفة العباسي أيام السلاجقة. الإنهيار الذي وقع في العام 1991 لم يكن إلا انهياراً شكلياً تم الإعلان الرسمي من خلاله عن حقيقة النظام غير الجديد في روسيا وسائر الجمهوريات الأربع عشرة الأخرى، النظام اللاإشتراكي. ولم يخجل قادة ما كان يسمّى زوراً بالحزب الشيوعي من فعلتهم الشنعاء المعادية لكل ما هو ديموقراطي وما هو اشتراكي، بل ولكل ما هو إنساني، فتوزعوا الجمهوريات لكل واحد منهم جمهوريتة واصدروا مراسيم يمنع بموجبها كل نشاط للحزب الشيوعي الذي كانوا هم قادته !! بعد كل هذا يتواقح الكثيرون فيدعون أن الإشتراكية الماركسية أثبتت فشلها في حين ليس هناك غير الماركسية ما يشير إلى إمكانية النكوص عن الإشتراكية وهو ما حذر منه لينين في العام 1922 وحذر منه ستالين في العا 1952 وكنت قرأت تحذيراتهما جيداً في العام 1963 فأكدت لرفاقي في السجن تعليقاً على تقرير خروشتشوف لمؤتمر الحزب الثاني والعشرين في العام 1961 بأن الإتحاد السوفياتي سينهار في العام 1990 وهو ما كان فعلاً. الماركسيون هم وحدهم من تنبأ بانهيار الإشتراكية السوفياتية في حين غير الماركسيين تفاجؤوا بالإنهيار واعتبروه زلزالاً لم يكن في الحسبان، ومع ذلك يدعي غير الماركسيين وبكل وقاحة بأن الماركسية فشلت رغم أن الوقائع تقول بأنهم هم الذين فشلوا وليس الماركسيون.

السؤال الفيصل في هذه المطارحة هو .. لماذا يجري التجاهل العمد للإنقلاب على الإشتراكية الذي قام به العسكر من وراء الغبي خروشتشوف في أكتوبر 1953؟ ينقسم المتعمدون تجاهل هذا الإنقلاب رغم صعوبة تجاهله إلى صنفين؛ الصنف الأول وهو الصنف الأخطر والأسوأ ويتشكل من "الشيوعيين" الذين كانوا قد ساندوا خروشتشوف بانحرافه الفج والفاضح عن مبادئ الماركسية اللينينية ولم يعترفوا بخطئهم حتى اليوم رغم افتضاح كل هرطقاته المنافية للمبادئ الأولية للماركسية اللينينية، وفي هذا خطأ بورجوازي أكثر عيباً من الإصطفاف وراء خروشتشوف. والموقف المخزي الذي يقفه هذا الصنف هو أنهم يعْزون إنهيار الإتحاد السوفياتي إلى ذات الإدعاءات التي إدعى بها معلمهم خروشتشوف ضد ستالين رغم أنهم كانوا قد ورثوا من ستالين اتحاداً يفخر به عمال العالم وثورة اشتراكية عالمية تدق بقوة أبواب مراكز الرأسمالية في الغرب. الإشكال الكبير الذي يتسبب به شيوعيو البورجوازية الوضيعة هو أنهم يبررون كل إدّعاءات أعداء الشيوعية والماركسية. أما الصنف الثاني وأثره أقل بكثير من أثر الصنف الأول فيتشكل من أعداء الشيوعية ورافضي الماركسية إذ يتجاهلون إنقلاب العسكر بقيادة خروشتشوف في الخمسينيات ضد الإشتراكية وضد البروليتاريا كي يقولوا أن ما انهار في العام 91 هو الإشتراكية وأن ما فشل هو الماركسية وليس أي شيء آخر. هؤلاء وأولئك يتجاهلون عن عمد أولى حقائق الماركسية ألا وهي الصراع الطبقي الذي حذر من خطورته لينين حين قدم خطته في السياسة الإقتصادية الجديدة وظل ستالين يخوض وطيس حرب طبقية لا هوادة فيها، الحرب التي تدينها بالطبع البورجوازية الوضيعة في الإتحاد السوفياتي ومحافل الرأسمالية خارجه وهو ما تصفه بالتصفيات في قيادات الحزب التي قام بها ستالين عبر ما وصفوه بالمحاكمات الصورية رغم علنية المحاكمات وحضور وكالات الأنباء والسفراء الغربيين. في البيان الشيوعي توقف ماركس وإنجلز عام 1848 عند صعوبة التناقض مع طبقة البورجوازية الوضيعة والجهد اللازم لمحوها. قام ستالين بنصف الجهد لكن النصف الآخر الذي لم يطل العمر بستالين ليقوم به هو ما أوصل مشروع لينين الإشتراكي إلى الإنهيار وسمح لأعداء الإنسانية بالتقول عن فشل الماركسية.

نحن الشيوعيين يمكننا بحق أن نؤكد أن انهيار الإتحاد السوفياتي الذي بدت علائمه تلوح في الأفق منذ الستينيات حين تزاحمت الثورات المضادة والإنقلابات العسكرية في شتى بقاع الأرض هو انهيار نظام الرجوع عن الإشتراكية بقيادة البورجوازية السوفياتية الوضيعة. الإنكسارات التي رافقت الرجوع عن الإشتراكية بدءاً من العام 1953 وحتى العام 1991 إنما هي ظواهر طبيعية ترافق الرجعة عن الإشتراكية وهو ما يعني أن الإشتراكية لا تنهار وأن الماركسية لا تفشل. المآثر العظمى التي حققها الحزب الشيوعي بقيادة معلم البولشفية الأول يوسف ستالين ما بين 1922 حين كانت الشعوب السوفياتية تبيت على الطوى بكلمات لينين إلى العام 1953حين تقدم الإتحاد السوفياتي على الولايات المتحدة بتفجير القنبلة الهيدروجينية ثم اختراق الفضاء في العام 1957 مرورا بسحق النازية بجبروت هائل لم يشهد التاريخ مثيلاً له، مثل تلك المآثر العظمى تقطع بصورة نهائية لا تحتمل الشك بأن الإشتراكية اللينينية لا تنهار وليس في الماركسية ما يفشل. يتخلى المجتمع عن الإشتراكية عبر صراع طبقي حاد تفوز فيه البورجوازية الوضيعة لكن هذا لا يعني بحال من الأحوال انهيارها بذاتها. نعم، ليس في الماركسية ما يفشل.

فؤاد النمري
www.fuadnimri.yolasite.com



#فؤاد_النمري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الإشتراكية السوفياتية ليست رأسمالية الدولة
- رسالة من ستالين إلى الرئيسين روزفلت وتشرتشل
- الرسائل الثلاث ودلالاتها . . . (5)
- الرسائل الثلاث ودلالاتها . . . (4)
- الرسائل الثلاث ودلالاتها . . . (3)
- الرسائل الثلاث ودلالاتها . . . (2)
- الرسائل الثلاث ودلالاتها . . .
- الرسالة الثانية . . ردٌّ على ردّ
- جواب قيادة الحزب الشيوعي الأردني على رسالتي
- رسالة قديمة إلى قيادة الحزب الشيوعي الأردني
- مشروعية السؤال .. ما العمل؟
- ماركسية صدر القرن الحادي والعشرين
- البولشفية وضرورة إحيائها
- الماركسيون ليسوا يساريين
- سفر الخروج / 3
- ما بين الرأسمالية والإستهلاكية
- أزمة اليونان مرة أخرى
- ما تفسير الأزمة في اليونان؟
- سفر الخروج 2
- سفر الخروج


المزيد.....




- الوقت ينفد في غزة..تح‍ذير أممي من المجاعة، والحراك الشعبي في ...
- في ذكرى 20 و23 مارس: لا نفسٌ جديد للنضال التحرري إلا بانخراط ...
- برسي کردني خ??کي کوردستان و س?رکوتي نا??زاي?تيي?کانيان، ماي? ...
- صدور أسبوعية المناضل-ة عدد 28 مارس 2024
- تهنئة تنسيقيات التيار الديمقراطي العراقي في الخارج بالذكرى 9 ...
- الحرب على الاونروا لا تقل عدوانية عن حرب الابادة التي يتعرض ...
- محكمة تونسية تقضي بإعدام أشخاص أدينوا باغتيال شكري بلعيد
- القذافي يحول -العدم- إلى-جمال عبد الناصر-!
- شاهد: غرافيتي جريء يصوّر زعيم المعارضة الروسي أليكسي نافالني ...
- هل تلاحق لعنة كليجدار أوغلو حزب الشعب الجمهوري؟


المزيد.....

- حول الجوهري والثانوي في دراسة الدين / مالك ابوعليا
- بيان الأممية الشيوعية الثورية / التيار الماركسي الأممي
- بمناسبة الذكرى المئوية لوفاة ف. آي. لينين (النص كاملا) / مرتضى العبيدي
- من خيمة النزوح ، حديث حول مفهوم الأخلاق وتطوره الفلسفي والتا ... / غازي الصوراني
- لينين، الشيوعية وتحرر النساء / ماري فريدريكسن
- تحديد اضطهادي: النيوليبرالية ومطالب الضحية / تشي-تشي شي
- مقالات بوب أفاكيان 2022 – الجزء الأوّل من كتاب : مقالات بوب ... / شادي الشماوي
- بصدد الفهم الماركسي للدين / مالك ابوعليا
- دفاعا عن بوب أفاكيان و الشيوعيّين الثوريّين / شادي الشماوي
- الولايات المتّحدة تستخدم الفيتو ضد قرار الأمم المتّحدة المطا ... / شادي الشماوي


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - فؤاد النمري - ليس في الماركسية ما يفشل ... لماذا؟