أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان - كمال الجزولي - كُنْ قَبيحَاً!















المزيد.....


كُنْ قَبيحَاً!


كمال الجزولي

الحوار المتمدن-العدد: 2142 - 2007 / 12 / 27 - 11:35
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان
    


رزنامة الأسبوع 11-17 ديسمبر 2007
الثلاثاء:
كلُّ عام وأنتم والسودان بخير. وهذه أيام لا تصحُّ فيها، بطبيعة الحال، غير التهاني، والتبريكات، وعذب الامنيات، والكلام الطيِّب كرائحة الجدَّات، والحلو كما تَمْرُ (بت تمودة). لكن السيِّد وزير العدل النائب العام، غفر الله له، اختار على قبايل هذا العيد، للأسف، أن يتجهَّمنا، نحن أعضاء هيئة الدفاع عن متهمي ما يعرف بـ (المؤامرة التخريبيَّة)، بكلام مُهين مُرٍّ فحواه أنه قرَّر إطلاق سراح مبارك الفاضل لأن محاميه تقدَّم باستئناف ضدَّ توجيه التهمة إليه، في حين أن المحامين الآخرين في هيئة الدفاع لم يتقدَّموا باستئنافات مماثلة، كونهم، على حدِّ تعبيره، "أرادوا أن يحرموا موكليهم هذا الحق!"، أو كما قال لا فضَّ فوه! يعني، بالبلدي الفصيح، محامين يستغلون قضايا الناس لتنفيذ أجنداتهم الخاصَّة ولو على حساب موكليهم!
كان لا بُدَّ لنا من الرَّد عليه، ففعلنا. كما وكان لا بُدَّ لنا من تقديم طلب إلى رئاسة الجمهوريَّة لسحب الحصانة عنه تمهيداً لمقاضاته جنائياً ومدنياً، وأيضاً فعلنا .. ومال إيه؟! أليس لحكم القانون سيادة؟! و .. أليس الناس سواسية أمام القانون؟! أم أنهم ينقسمون، حقاً، إلى خيار وفقوس؟!
ما أن خطونا بهذا الاتجاه حتى سارع سيادته إلى نفي أن تكون هذه العبارة الماسَّة بسمعتنا قد صدرت منه! وعجبنا كيف أنه انتظر حتى صدر بيان ردِّنا عليه كي ينفي، أو، إن شئت، (يُكذِّب) ما نسبته إليه الصحف! بل عجبنا أكثر لكونه اكتفى بالنفي، فحسب، دون أن يتخذ أي إجراء ضدَّ الصحف التي (قوَّلته) ما أكد أنه لم يقله!
أما أكثر ما جعلني، شخصياً، أضرب كفاً بكف فهو قوله، بعد كلِّ هذا، إنه قرَّر أن (يغلق) هذا الملف تماماً، وأن (يسدل) الستار، نهائياً، عليه! سوى أن سيادته لم يقل متى يكون ذلك: قبل أم بعد صدور القرار بشأن طلبنا إسقاط الحصانة، والذي لم نتلق، بعد، ردَّاً عليه!

الأربعاء:
ما فهمت شيئاً من خبر الحكم الذي كانت أصدرته محكمة جنايات الخرطوم شمال، قبل العيد، بناءً على شكوى (هيئة علماء المسلمين)، بحق المصريَّين عبد الفتاح عبد الرؤوف ومحروس محمد عبد العزيز، الموظفين بجناح مكتبة مدبولي بمعرض الكتاب الذي نظم مؤخراً في الخرطوم، والذي مُني، بالمناسبة، بكساد مريع، وبوار شنيع، وفشل ذريع، وربما لم يكن ليسمع به أحد لولا محاكمة هذين الموظفين بتهمة (إهانة العقيدة)!
قلت ما فهمت شيئاً، إذ لم أستطع أن أميِّز وجه (الاهانة!)، أهو في عرض كتاب حديث يتناول مقتل عثمان رضي الله عنه، وكذلك (موقعة الجمل) بين علي كرَّم الله وجهه وعائشة رضي الله عنها، أم في عرض "كتب جنسية تخدش الحياء من تأليف نوال السعداوي وكتباً فلسفية أخرى مثيرة للجدل"، على حد تعبير ممثل (الهيئة) سعد احمد سعد، أم للسببين معاً (الرأي العام ، 16/12/2007م).
أياً كان السبب، فإنه لا يبطل العجب! فمن جهة أولى، إن كان تناول (مقتل عثمان) و(موقعة الجمل) هو موضوع الاتهام، فذانك خبران متواتران في أعرق وأجلِّ أسفار التاريخ الاسلامي، وأوثقها لدى أكثر الباحثين. ويمكن لمن أراد التثبت أن يلتمسهما في (تاريخ الطبري لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري المتوفى سنة 310 هـ، الجزء الرابع، ص 365 ـ 547)، أو في (مروج الذهب ومعادن الجوهر لأبي الحسن علي بن الحسين المسعودي المتوفى سنة 346 هـ، المجلد الثاني، ص 340 ـ 383)، أو في (الكامل في التاريخ للامام العلامة عمدة المؤرِّخين ابن الأثير الجزري المتوفى سنة 630 هـ، الجزء الثالث، ص 75 ـ 135)، أو في (تاريخ ابن خلدون المسمَّى ديوان المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والبربر ومن عاصرهم من ذوي الشأن الأكبر لعبد الرحمن بن خلدون المتوفى سنة 808 هـ، الجزء الثاني، ص 586 ـ 622)، أو في غيرها من المصادر التي ظلت تحتويها خزائن التاريخ الاسلامي الجياد طوال ما يربو على الألف سنة! فأين، إذن، وجه (الاساءة إلى العقيدة) في تناول المُتناوَل أو تداول المُتداوَل إسلامياً لأكثر من عشرة قرون؟!
أما إن كانت شكوى مندوب (هيئة علماء المسلمين) قد انصبَّت، من جهة أخرى، على عرض جناح مدبولي "كتباً جنسية تخدش الحياء من تأليف نوال السعداوي وكتباً فلسفية أخرى مثيرة للجدل" فذاك، بالحق، حديث عجب بكلِّ المعايير! إذ ما هي الدلالة الحقيقيَّة للشكوى ضدَّ احتواء الجناح على "كتب فلسفية مثيرة للجدل"؟! وهل ثمَّة فلسفة غير مثيرة للجدل أصلاً؟! أم أن المقصود هو (إعدام الفلسفة) كلها؟! ثمَّ إن مؤلفات السعداوي ظلت تعرض في أرفف المكتبات على مدى أكثر من ثلاثة عقود، لا بهدف إشاعة (الفاحشة)، وفق اتجاه الشكوى، وإنما لإفشاء نمط مغاير من التفكير العلمي القائم على إجلاء ما ران على العقل المسلم، والعربيِّ عموماً، جيلاً بعد جيل، من ركام الصدأ الذي لا يد للاسلام فيه، والذي كاد يسدُّ، نهائياً، أيَّ مسرب لنور المعطيات المعرفيَّة الثابتة المبرِّئة لبيولوجيا الأنواع والوظائف الفسيولوجيَّة للجسد البشري من تهمة التسبُّب في اضطهاد المرأة، ونشر الوعي بكون الأمر برمته متجذراً، لا في فروقات (الجنس) وأوهامه، بل في فروقات (الاجتماع) وحراكاته التاريخيَّة!
وتستوقفنا، بوجه مخصوص، محاولة قمع المعرفة بالشكوى من (خدش الحياء)! فلو كانت هذه المؤلفات (تخدش) الحياء حقاً، لكان هذا (الحياء) قد (تدشدش)، بالكليَّة، ولما كان قد تبقى فيه سنتمتر (صقيل) واحد، ليس فقط منذ مطالع سبعينات القرن الميلادي العشرين، عندما بدأت السعداوي نشر مؤلفاتها العلميَّة، بل ومنذ أوائل القرن الثالث الهجري، أوان بدأ يظهر هذا الضرب من التآليف المعرفيَّة في علوم التدوين الاسلاميَّة من خلال السياق الارشادي الذي دأب عليه الأئمَّة والفقهاء، ولعلَّ أشهر هذه التآليف طرَّاً كتاب قاضي الانكحة الجليل الشيخ النفزاوي الموسوم بـ (الرَّوض العاطر في نزهة الخاطر)، وهو نصٌّ في التثقيف الجنسي وفقه النكاح مطوَّر من أصل نصِّه السابق المختصر الموسوم بـ (تنوير الوقاع)، وقد استند فيه، على نهج علوم التدوين كافة، إلى القرآن والسُّنة وأفعال وأقوال الصحابة، ويعود تاريخه إلى النصف الأول من القرن الثامن الهجري، وما يزال حتى يوم الناس هذا محلاً للاعتبار والتجلة والترجمة إلى أغلب اللغات الحيَّة. ولعلَّ المفارقة ذات المغزى العميق هنا تتمثل في واقعة إقدام نظام هتلر ووزير ثقافته غوبلز، فور صعود النازيَّة إلى سدة الحكم في المانيا، على سحب الترجمة الالمانيَّة لكتاب النفزاوي، والتي يعود تاريخها إلى عام 1905م، ومن ثمَّ حرقها بتهمة (الاباحيَّة)!
العقل السويُّ وحده هو الذي يستطيع التمييز بين ما هو (تثقيفي) يرنو إلى الكشف والتفتح الانسانيَّين، وبين ما هو (إباحي) لا يستهدف سوى إثارة الغرائز البدائيَّة. ولأن الاسلام براء من هذا الاخير، فقد أصاب الامام الحافظ ابن قتيبة الدَّينوري كبد الحقيقة الدينيَّة في (عيون الاخبار) بقوله السديد: "وإذا مرَّ بك حديث فيه إفصاح بذكر عورة، أو فرج، أو وصف فاحشة، فلا يحملنك الخشوع أو التخاشع على أن تصعِّر خدَّك، وتعرض بوجهك، فإن أسماء الاعضاء لا تؤثم، وإنما المَأثم في شتم الاعراض، وقول الزور والكذب، وأكل لحوم الناس بالغيب"!
ما يستحق الادانة والدمغ، حقيقة، ليس التفكير العلمي، بل هو هذا النمط المُعوَج من التفكير العصابي الذي لا يمت إلى دين العقل بأدنى وشيجة، بل يرتبط ارتباطاً لا انفصام له بذهنيَّة الحظر بلا استحقاق، والتحريم دونما سند! وقد ظلَّ هكذا على الدوام، وعبر كلِّ تواريخ الجمود التي ابتليت بها البشريَّة، كابراً عن كابر، من أزمان (قتل الساحرات) إلى أزمان .. (حرق الكتب)!

الخميس:
في سياق معالجاتها للأزمة التي نشبت مؤخراً بين شريكي (نيفاشا)، أصدرت رئاسة الجمهوريَّة، بتاريخ 12/12/07، مصفوفة جداول تنفيذ قراراتها وتوجيهاتها، حيث اعتبرت، وحسناً فعلت، أن إحياء وتجديد (روح) إتفاقيَّة السلام، والتزام الطرفين بتعزيز التحوُّل الديمقراطي، والمصالحة الوطنية، وتحقيق الوحدة الطوعية، من القضايا الاستراتيجية الرئيسة التي أوكلت تنفيذها لمؤسَّسة الرئاسة مع اللجنة الدائمة المشتركة ولجنة موائمة القوانين لتتسق مع الدستور، وحدَّدت فترة التنفيذ ما بين يناير ويوليو 2008م.
لكن (المصفوفة) أغفلت تماماً، للأسف، أيَّ ذكر لقضيَّة (العدالة الانتقاليَّة) في ما يتصل بقضيَّة (المصالحة الوطنيَّة)! ولا نعتبر هذا بالأمر الشكلي أو الهيِّن، فالمشكلة ظلت قائمة، من زاوية نظرنا، في ما ظللنا نلمح وننبِّه إليه، منذ أيام التفاوض بين الطرفين في كينيا، من (خِفة) التناول لقضيَّة (المصالحة الوطنيَّة)، كما لو كان المطلوب إعادة إنتاج ذلك الشكل الشائه من صفقة النميري مع بعض خصومه السياسيين عام 1977 ـ 1978م. ولذلك لم يكن مستغرباً أن تبرز هذه (الخِفة)، بجلاء، في نصِّ المادة/21 من الدستور الانتقالي لسنة 2005م، والتي (توجِّه) الدولة بابتدار عمليَّة (مصالحة وطنيَّة) شاملة، كون هذه المادة مصاغة بأكثر العبارات فضفضة، بحيث تقول كلَّ شئ ولا تقول، في الواقع، شيئاً! كما وأنها واردة ضمن القسم (المُوجِّه) وليس (المُلزم) من الدستور!
(العدالة الانتقاليَّة) هي المفهوم الأشمل الذي لا يمكن إدراكه إلا بإدراك جملة مفاهيم تشكل، في النهاية، معماره الكلي، وعلى رأسها مفهوم (اعترافات الجُناة) و(لجان الحقيقة) و(إنصاف الضحايا)، و(الاصلاح السياسي والتشريعي والقضائي)، وبهذا وحده يمكن فتح الباب أمام (المصالحة الوطنيَّة) و(التحوُّل الديموقراطي).
يقرن مفهوم (العدالة الانتقالية) بين مفهومي (العدالة) و(الانتقال)، ويعنى تحقيق شكل ومستوى مناسبين من (العدالة) أثناء (مرحلة انتقالية) تجتازها دولة ما من أوضاع تتسم بـ (الشموليَّة) أو (القمع) أو (العنف) أو (النزاعات الاهليَّة المسلحة)، إلى أوضاع (سلام اجتماعي) و(ديموقراطيَّة سياسيَّة) تراعى الحريات العامَّة وتحترم حقوق الانسان، على غرار ما حدث من تجارب وخبرات في أكثر من أربعين بلداً في مختلف قارات العالم، مثل تشيلي (1990) وغواتيمالا (1994) وجنوب أفريقيا (1994) وبولندا (1997) وسيراليون (1999) وتيمور الشرقية (2001) والمغرب (2004) وغيرها.
التحوُّل السياسي الحقيقي، مثل هذا الذي نرومه دون أن نطرق إليه السبيل القويم، والذي يعقب فترات (الشموليَّة) و(القمع) و(العنف) و(النزاعات الاهليَّة المسلحة)، غالباً ما يضع المجتمع المعيَّن بأسره أمام تركة مثقلة من الانتهاكات التي يستحيل تجاوزها بمجرَّد (الطبطبة) على الاكتاف أو المضمضة اللفظيَّة عبر أجهزة الاعلام! فبإزاء واقع مُرٍّ كهذا يتحتم على الدولة التعاطي مع (جرائم الماضي) بما يليق من (عمليات العدالة) القضائية وغير القضائية، الكفيلة بإبراء الجراح، وطمأنة الارواح المكدودة، وإعادة التأهيل المطلوبة، والتعويض الفردي والجماعي عن الآلام النفسيَّة والماديَّة. هذا، بالطبع، إن توفر لدى مثل هذه الدولة ما يكفي من الإرادة السياسيَّة لاستدبار تركة الماضي، والرغبة الصميمة في المضي قدماً على طريق (السلام) و(المصالحة).
هكذا يمكننا أن نلمح، بيُسر، أن (المصالحة الوطنيَّة) لا يمكن تحقيقها بمعزل عن تحقيق مهام (العدالة الانتقاليَّة). ونخشى أن ذلك هو وجه القصور الأساسي في هذا الجانب من (المصفوفة)، علاوة على قصور آخر لا يقلُّ خطورة، وهو أن (العدالة الانتقاليَّة)، بطبيعتها، مِمَّا لا يمكن قصره على عمل الادارات الحكوميَّة أو شريكي الحكم، بل لا مناص من استنهاض كلِّ قوى المجتمع الحيَّة باتجاهه، ممثلة في المؤسَّسات المدنيَّة والاهليَّة كافة، بما في ذلك جميع الأحزاب السياسيَّة، والمنظمات غير الحكومية، فضلاً عن رموز وناشطي المجتمعات المحليَّة.

الجمعة:
أيام وتهلُّ الذكرى الحادية والخمسون لاستقلال بلادنا. وها قد انقضَت، أو كادت، ثلاثون عاماً حسوماً على انعقاد اثنتين من أهمِّ الدَّورات البرامجيَّة للجنة الحزب الشيوعي السوداني المركزيَّة (أغسطس 1977م وديسمبر 1978م).
ولئن كانت تانَك الدَّورتان قد أسَّستا لخلاص الحزب، مرَّة وللأبد، من اوهام (الديموقراطيَّة الشعبيَّة) و(الديموقراطيَّة الجديدة) و(الديموقراطيَّة الموجَّهة) و(الشرعيَّة الثوريَّة) وما إلى ذلك من (ديباجاتٍ) كم كانت برَّاقة، من (موسكو لينين) إلى (صين ماو) إلى (مصر ناصر)، ولطالما دفعته دفعاً، تحت سنابك ما تعرَّض له من قهر وقمع، لتدبير انقلابات، أو دعم انقلابات، أو تأييد انقلابات، مما كان ينسجم، آنذاك، ورؤى عصر ما بعد الحرب الثانية لإشكاليَّة الصراع السياسى، وسلطة الحزب الواحد، والشمولية، فما من أحد، مع ذلك، داخل الحزب أو خارجه، يستطيع أن يحيل إلى أيٍّ من المحاكمات الماركسيَّة الشائعة أو هجائيَّاتها الكلاسيكيَّة لـ (الديموقراطيَّة الليبراليَّة) شيئاً من نتائج تينك الدورتين. ورغم أن تلك (الديباجَات) لم تكن مفتقرة، فى إطار ظرفها التاريخى المحدَّد، إلى التكريس النظرى فى قلب التربة الفكريَّة لحركة اليسار العالمى، عموماً، وللحركة الشيوعيَّة العالميَّة، بوجه مخصوص، إلا أنه يصحُّ القول أيضاً بأنها إنما تسربت إلى فكر الحزب بالذات ـ الذي ما نظر لـ (الاستقلال)، أصلاً، ومنذ بواكيره، إلا كتوق عاصف لبناء (الدَّولة الديموقراطيَّة) ـ من بين ملابسات التآمر اليمينى، فى أعقاب ثورة أكتوبر 1964م، والذى استهدف وجود الحزب نفسه، دَعْ نشاطه واتساع نفوذه وسط الجماهير. بل ولقد زاد طين (الديموقراطيَّة الليبراليَّة) بلة في فكر الحزب، يومها، صدور ذلك التآمر من مواقع ذات القوى التى كانت قد ارتضتها نهجاً وأسلوباً فى الحكم والحياة السياسية بعد الاستقلال ، لكنها ما لبثت أن رفعت شعار (تحرير لا تعمير) الذي أدارت به الظهر لضرورة الربط في مقام (الديموقراطيَّة الليبراليَّة)، بجوهرها الناشب في أعمق معاني (الحريَّات والحقوق)، بين (الاستقلال السياسي)، من جهة، وقضيَّة (الاستقلال الاقتصادي والعدالة الاجتماعيَّة) التي تشكل، من الجهة الاخرى، المحتوى الحقيقي لذلك (الاستقلال السياسي) في منظور مصالح الشعب الكادح. ثم ما لبثت أن عادت تلك القوى، في غمرة ممارستها (الشكلانيَّة) لـ (الديموقراطيَّة الليبراليَّة)، كي توجِّه لها طعنة نجلاء فى الظهر بحل الحزب وطرد نوابه من البرلمان، حيث ارتفـع في الاوساط الشعبيَّة، وبين جماهير الحضر ومناطق الانتاج الحديث، بوجه مخصوص، السؤال المحتقن بعلقم التجربة حول جدوى (الديموقراطيَّة الليبراليَّة) أصلاً، الأمر الذى لم يعدم التعبير (النظري) عنه فى وثيقة المؤتمر الرابع للحزب عام 1967م ، ولا التأكيد (العملي) عليه من خلال التعاطف الجماهيري مع انقلاب مايو عام 1969م، أوَّل أمره، ثمَّ عودة نفس هذه الجماهير التي لم تصب مردوداً من انتفاضتها الباسلة عام 1985م، لتستقبل انقلاب يونيو عام 1989م الذي قضى على الديموقراطيَّة الثالثة، بالايادي المتصالبة على الصدور ، للوهلة الاولى، إحجاماً عن "ذود الطير عن مُرِّ الثمر"!
مطلوبٌ، ليس من الشيوعيين وحدهم وهم يتأهَّبون للذهاب إلى مؤتمرهم الخامس، بل ومن الجسم السياسي بأسره، استخلاص الدروس القاسية من مسيرة السنوات الخمسين الماضيات!

السبت:
مرَّت بنا الذكرى الثامنة عشر لرحيل أبي ذكرى. ترحَّمنا على روحه الطاهر للمرَّة المليون. ولكن، هل، ترانا، عقلنا، بعدُ، تماماً، طقس أنينه المأساويِّ في ثنيات تصحيفه الفاجع لقولة أبي ماضي: "أيُّها المُشتكِي وما بكَ داءٌ/ كنْ (قبيحاً) ترَى الوُجودَ جَميلا"؟!

الأحد:
من أقيم ما تلقيت، بمناسبة عيد الاضحى المبارك، هديَّتان: الأولى فتوى هيئة شئون الانصار بجواز التصدُّق بثمن الخروف، أما الثانية فكتاب (الحرب في دارفور والبحث عن سلام) الذي أحضره لي معه من نيروبي، مشكوراً، صديقي ناشط حقوق الانسان المثابر عبد المنعم الجاك، ربَّما لعلمه باهتمامي الاستثنائي، سياسياً وثقافياً وقانونياً، بهذه المشكلة التي ما تنفكُّ تتفاقم، يوماً بعد يوم، في هذا الاقليم المنكوب، جاذبة إليها المزيد من الاهتمام الاقليمي والعالمي الرسمي وغير الرسمي.
تولى تحرير الكتاب، فضلاً عن الاسهام فيه بثلاث مقالات، أليكس ديوال المتخصِّص في الشأن الدارفوري منذ مجاعة أواسط الثمانينات. ومعلوم أن لديوال مؤلفات سابقة، من بينها كتاب (المجاعة التي تقتل: دارفور، السودان 1984 ـ 1985م، كلاريندون برس 1989م)، كما شارك الصحفيَّة جوليا فلنت في تأليف كتاب (دارفور: تاريخ مختصر لحرب طويلة، زد بوكس 2005م). وفوق هذا وذاك كان الرجل قد عمل مستشاراً لمجموعة وسطاء وميسِّري (أبوجا) التي انتهت إلى (خيبة) كبيرة، مِمَّا جعل من دوره فيها مثار جدل لا تلوح له نهاية قريبة!
الكتاب الجديد الذي يقع في ما يربو على الاربعمائة صفحة من القطع الكبير صادر هذا العام (2007م) عن منظمة (أفريقيا العدالة ـ Justice Africa)، بالتعاون مع (المبادرة العالميَّة للانصاف ـ Global Equity Initiative) بهارفارد، ربَّما بجامع إدارة ديوال لـ (المنظمة)، وزمالته، أيضاً، في (المبادرة). والكتاب، حسب علمي، هو الأحدث ضمن ما صدر، حتى الآن، من مؤلفات حول المشكلة، بل تكاد موضوعاته تكون الأكثر شمولاً وإحاطة، من حيث كونه يحتوي، بالاضافة إلى تصدير وكرنولوجيا وشرح للالفاظ والمختصرات وتعريف بكتاب المقالات زائداً الهوامش وثبت المراجع والدلالات، على خمسة عشر مقالة تنافس بعضها البعض في أهميَّة الطرح ودقة التناول، بأقلام مجموعة من الكتاب المتخصِّصين، هم، على التوالي: أليكس ديوال في مقالته الافتتاحيَّة (السودان: الدولة المضطربة)، ثمَّ موسى عبد الجليل وآدم الزين وأحمد يوسف (الادارة الاهليَّة والحكم المحلي في دارفور: الماضي والمستقبل)، وجيرومي توبيانا (دارفور: حرب من أجل الأرض)، وأحمد كمال الدين (الاسلام والحركة الاسلاميَّة في دارفور)، وعلي حجر (أصول وتنظيم الجنجويد في دارفور)، وجوليا فلنت (حركات دارفور المسلحة)، ورولاند مارشال (الآثار الاقليميَّة غير المرئيَّة لأزمة دارفور)، وآدم الزين محمد (إتفاق السلام الشامل ودارفور)، وداويت توقا (وساطة الاتحاد الافريقي ومفاوضات السلام في أبوجا)، ولاوري ناثان (النجاح والاخفاق في التوصُّل لاتفاق سلام دارفور)، وأليكس ديوال في مقالته الثانية (الموعد النهائي لدارفور: الأيام الأخيرة لمسار أبوجا للسلام)، وعبد الجبار فضل وفيكتور تينر (دارفور عقب أبوجا: رؤية من الواقع على الأرض)، وديبورا ميرفي (حكاية دارفور: دارفور في الصحافة الامريكيَّة بين مارس وسبتمبر 2004م)، وربيكا هاملتون وتشاد هازليت ("ليس بحضورنا": بروز الحركة الامريكيَّة من أجل دارفور)، وأخيراً أليكس ديوال في مقالته الثالثة (آفاق السلام في دارفور).
مواضع كثيرة في المقالات مِمَّا يمكن أن يتفق معها القرَّاء أو يختلفون. ومع ذلك فالكتاب الذي التهمته في ليلتين وضحى، وأعيد الآن قراءته للمرَّة الثانية، بكلِّ (النَّهم) الذي وفره غياب السيِّد الخروف، لهو في جملته مِمَّا لا غنى عنه لأي باحث أو مهتم.

الإثنين:
أمام محكمة بإحدى مدن الجنوب الامريكي الصغيرة وقف محامي الاتهام يستجوب شاهدته الأولى، وكانت سيدة عجوز، محنيَّة الظهر، تتوكأ على عصا، وتلهث بفم تساقطت منه الأسنان، ولولا مساعدة الحاجب لما استطاعت أن تصعد إلى منصَّة الشهود، وهي تتلفت، وتحدِّق في القاضي والمحامين والجمهور، من وراء نظاراتها السميكة. وكما يفعل المحامون، أحياناً، أراد الأستاذ أن يبدأ معها ببعض الاسئلة التمهيديَّة:
ـ "سيِّدة جونز .. هل تعرفينني"؟!
غضَّنت وجهها، هنيهة، وتلفتت تبحث عن مصدر الصوت، وهي تحرِّك فكَّيها المترهِّلين تمضغ الهواء، وتضيِّق ما بين عينيها باسطة كفها فوقهما تدقق النظر، ثمَّ ما لبثت أن صاحت بصوت متحشرج:
ـ "منو؟! وليامز؟! أمانة ما بعرفك عِرفة .. منذ أن كنت ولداً صغيراً إلى أن كبرت وأصبحت، بصراحة، خايب، عايب، كذاب، تخون زوجتك، وتغتاب الناس! أنت يا وليامز تظن أنك شئ .. لكنك لا تملك حتى المُخ الذي يجعل منك شيئاً! عاد كيفن ما بعرفك"؟!
صعق محامي الاتهام تماماً! وفجأة، في غمرة ارتباكه، ألفى نفسه، دون أن يقصد، يمدُّ ذراعه يشير إلى زميله الجالس على الطرف الآخر، ويسأل:
ـ "سيِّدة جونز .. هل تعرفين محامي الدفاع"؟!
عادت العجوز تمضغ الهواء بفكيها المترهِّلين، وهي تتلفت باسطة كفها فوق عينيها، قبل أن تصيح بصوتها المتحشرج:
ـ "منو؟! برادلي؟! بعرفو والله مِمِّا كان في الكليَّة .. كسول ومتعصِّب وسُكرجي كمان! ده غير إنو أفشل محامي في البلد، وإنسان غير قادر على إقامة علاقة سويَّة مع الآخرين! أما خياناتو المتكررة لزوجتو .. فخليها ساكت"!
شحب وجه محامي الدفاع، وغاص في مقعده يكاد يموت من هول الصعقة! وفجأة، قبل أن ينطق محامي الاتهام بكلمة أخرى، أمر القاضي كلا المحاميين بالاقتراب من منصته، ليهمس لهما بصوت مرعوب وعينين جَّاحظتين:
ـ "إسمعا جيِّداً أيُّها الوغدان .. إعملا حسابكما! إذا سأل أيٌّ منكما هذه الشاهدة إن كانت تعرفني، فليكن متأكداً من أنني سأرمي به في السجن، لا محالة، بتهمة .. إهانة المحكمة"!



#كمال_الجزولي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- جَثَامِينٌ فِي حَشَايَا الأَسِرَّة!
- قُبَيْلَ حَظْرِ التَّجْوَالْ!
- قَانُونٌ .. دَاخلَ خَطِّ الأَنَابيبْ!
- أَلاعِيبٌ صَغِيرَةْ!
- النَيِّئَةُ .. لِلنَارْ!
- أوريجينال!
- يَا لَلرَّوْعَةِ .. أَيُّ نَاسٍ أَنْتُمْ؟!
- وَمَا أَدْرَاكَ مَا .. حَدَبَايْ!
- كَابُوسُ أَبيلْ!
- غابْ نَجْمَ النَّطِحْ!
- بُحَيْرَةُ مَنْ؟!
- دِيْكَانِ عَلَى .. خَرَاب!
- صُدَاعٌ نِصْفِي!
- كَجْبَارْ: إِرْكُونِي جَنَّةْ لِنَا! - سيناريو وثائقي إلى رو ...
- عَوْدَةُ الجِّدَّةِ وَرْدَةْ!
- الحُرُّ مُمْتَحَنٌ!(صَفْحَةٌ مِن مَخْطُوطَةِ ما بَعْدَ السِّ ...
- طَاقِيَّتي .. التشَاديَّةْ؟!
- كانْ حاجَةْ بُونْ!
- إنتَهَت اللَّعْبَة!
- سَفِيرُ جَهَنَّمْ!


المزيد.....




- زرقاء اليمامة: قصة عرّافة جسدتها أول أوبرا سعودية
- دعوات لمسيرة في باريس للإفراج عن مغني راب إيراني يواجه حكما ...
- الصين تستضيف محادثات مصالحة بين حماس وفتح
- شهيدان برصاص الاحتلال في جنين واستمرار الاقتحامات بالضفة
- اليمين الألماني وخطة تهجير ملايين المجنّسين.. التحضيرات بلسا ...
- بعد الجامعات الأميركية.. كيف اتسعت احتجاجات أوروبا ضد حرب إس ...
- إدارة بايدن تتخلى عن خطة حظر سجائر المنثول
- دعوة لمسيرة في باريس تطالب بإلإفراج مغني راب إيراني محكوم با ...
- مصدر يعلق لـCNNعلى تحطم مسيرة أمريكية في اليمن
- هل ستفكر أمريكا في عدم تزويد إسرائيل بالسلاح بعد احتجاجات ال ...


المزيد.....

- كراسات التحالف الشعبي الاشتراكي (11) التعليم بين مطرقة التسل ... / حزب التحالف الشعبي الاشتراكي
- ثورات منسية.. الصورة الأخرى لتاريخ السودان / سيد صديق
- تساؤلات حول فلسفة العلم و دوره في ثورة الوعي - السودان أنموذ ... / عبد الله ميرغني محمد أحمد
- المثقف العضوي و الثورة / عبد الله ميرغني محمد أحمد
- الناصرية فى الثورة المضادة / عادل العمري
- العوامل المباشرة لهزيمة مصر في 1967 / عادل العمري
- المراكز التجارية، الثقافة الاستهلاكية وإعادة صياغة الفضاء ال ... / منى أباظة
- لماذا لم تسقط بعد؟ مراجعة لدروس الثورة السودانية / مزن النّيل
- عن أصول الوضع الراهن وآفاق الحراك الثوري في مصر / مجموعة النداء بالتغيير
- قرار رفع أسعار الكهرباء في مصر ( 2 ) ابحث عن الديون وشروط ال ... / إلهامي الميرغني


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان - كمال الجزولي - كُنْ قَبيحَاً!