أربع أطروحات في الترجمة


حسين علوان حسين
الحوار المتمدن - العدد: 7648 - 2023 / 6 / 20 - 21:49
المحور: الادب والفن     

الأطروحة الأولى
الترجمة هي عملية نقل للرسالة من لغة الأصل إلى لغة الهدف.
الأطروحة أعلاه يُشتقُّ منها ما يلي:
1.1. أن كل ما يمكن أن يُقال في أي لغة يمكن نقله لأي لغة اخرى. لذا، فإن مفهوم "استحالة الترجمة" لهذا الشكل من أشكال الخطاب أو ذاك في أي لغة الى لغة اخرى هو تلفيق. إن عملية الترجمة تكتسب شرعيتها من ذاتها نفسه كنشاط اجتماعي وثقافي ضروري ومطلوب للاشتغال على كل النصوص بلا استثناء، مثلها في ذلك مثل الضرورة الاجتماعية التي اقتضت وجود اللغات نفسها. وتكمن درجة صعوبتها بدرجة فنّية الرسالة الاصل والقدرة على مطاوعتها وتطويعها للنقل.
1.2. أن فعل الترجمة يشتغل بنقل الرسالة عبر اللغات، وليس ضمن اللغة الواحدة. لذا، فأن مفهوم الترجمة داخل نطاق نفس اللغة الواحدة (intratranslation) هو استعارة اجنبية على حقيقة وطبيعة فعل الترجمة لكونه تخص محض عملية "توضيح" الرسالة للمتلقي داخل نطاق نفس اللغة الواحدة وليس نقلها الى لغة اخرى، علاوة على كونها توسيعاً بعيداً لمصطلح الترجمة زائداً على اللزوم.
1.3. لما كانت اللغات يمكن أن تستخدم أوساطاً مختلفة للتعبير القابلة للتلقي عبر حواس البصر والسمع واللمس البشرية، لذا فإن كل النقل بواسطة أو عبر أي من أشكال التعبير المختلفة هذه كائن ضمن نطاق عملية الترجمة.
1.4. لما كان لكل لغة في العالم ستة مستويات للتحقيق (المستوى الصوتي والصرفي والنحوي والدلالي والتداولي والأسلوبي)، لذا فإن كل الترجمة تقضي حتماً تغيير الرسالة الأصل على صعيد هذه المستويات اللغوية الستة كافة.
1.5. أن شمولية عملية التغيير المقتضاة هذه تعني أن خطاب الترجمة هو خطاب مستحدث قائم على وجه الاستقلال بنفسه؛ وهو مختلف جوهرياً عن خطاب نص المصدر، وإن ارتبط به واقترب من بهذا الشكل والحد أو ذاك.
1.6. لما كانت الرسالة المترجمة تمثل خطاباً أخر قائماً بذاته، لذا فأنه يمتلك كل مقومات أي خطاب في التأليف والابداع الأدبي. وهذا يعني أن المترجم – مثل مؤلف النص الأصلي سواء بسواء – هو مؤلف حاضر وليس غائباً ولا متخفياً؛ وهو أديب مبدع بدرجة ابداع تنفيذه لعمله المترجم.
1.7. لما كانت كل الترجمة هي سيرورة معقدة ومتغيرة محكومة بظروف انجازها، لذا فإن مراحل معالجتها وإخراجها ترتبط بظروف المقام وبالأسلوب التنفيذي وبالمترجم القائم على الترجمة الي يستطيع استخدام العشرات من تقنيات الترجمة المتاحة، والتي تبقى دائماً أغنى من معلبّات التصنيفات للوصفات الجاهزة المحررة من طرف هذا أو ذاك من المنظرين للترجمة.
1.8. لما كانت الترجمة هي عملية نقل للرسالة اللغوية، لذا فإن الدليل عليها وحقيقتها كائنان في سيرورتها بالذات. وهذا يعني أن حقيقة الترجمة كائنة داخل مخرجات عملية الترجمة نفسها، و ليس في نظريات الترجمة، التي تبقى دوماً نشاطاً أجنبياً كائنا خارج فعل الترجمة، كائنا ما كانت المدارس اللغوية التي تستند إليها هذه النظريات.
1.9 لما كانت لغة الهدف تصبح في الترجمة هي الهدف للغة التعبير؛ لذا، فأن هدف الرسالة في لغة الاصل واجب التشخيص والنقل الوظيفي.
الأطروحة الثانية
الاخلاص في نقل رسالة الأصل هو القانون النسبي الوحيد للترجمة.
هذا القانون طبيعته نسبية بحتة وهو محكوم بمتغيرات شتى، وتترتب عليه الاشتقاقات أدناه حال ربطه بالأطروحة الأولى:
2.1. لما كانت الترجمة كعملية لنقل الرسالة من لغة لأخرى تقتضي تغيير كل مستويات التحقيق اللغوي الستة (انظر1.4) للرسالة الأصل والتي تميز التفرد الوجودي لكل لغة عن غيرها من اللغات، لذا، فإن هذا التغيير الجبري – الذي تصبح عملية الترجمة مستحيلة بدونه – يعني أن كل عملية الترجمة تقتضي بحكم طبيعتها بالذات إخراج أوجه حاكمة للاختلاف عن الانظمة الصوتية والصرفية والنحوية والدلالية والتداولية والأسلوبية للخطاب الأصلي. ولما كان كل واحد من أنظمة الاخراج اللغوي الستة حمّالاً للمعاني ولمجمل ترابطاتها المتفردة، لذا فإن عملية الترجمة تنطوي حتماً على التغيير التوصيلي المختلف عن الأصل بهذه الدرجة أو تلك على صعيد كل هذه المستويات.
2.2. وعليه، فلا مندوحة من الخسارة و الربح في مخرجات كل عملية للترجمة. وهو ما يعني أن كل الترجمة – بحكم طبيعتها كعملية تغيير – تعني عدم الوفاء للرسالة الأصلية بقدر الحبّات التي تقتضيها كل التغييرات الاجبارية الملازمة لعملية تنفيذ الترجمة. والاستنتاج هو أنه لا توجد ترجمة طبق الأصل تماماً للرسالة الأصلية. وحدها الرسالة الأصلية هي طبق الأصل لنفسها، في حين أن الترجمة – بقدر ما هي النقل المخلص للأصل – هي طبق أصل ذاتها كخطاب منقول قائم بحد ذاته وليس بغيره.
2.3 تحصل عملية الربح في الترجمة عندما ينجح المترجم في تشخيص وتوظيف قيماً اضافية على رسالته حسبما أقصى ما تتيحه أنظمة مستويات التحقيق الستة للغة المنقولة إليها الرسالة.
2.4 لذا، فأن على المتصدي للقيام بعملية الترجمة الاجتهاد في التفتيش ضمن ما تتيحه أنظمة اللغة الهدف الصوتية والصرفية والتحوية والدلالية والتداولية والاسلوبية من خيارات للتقليل ما أمكن من الخسارات الاجبارية عبر تعظيمه لنقاط الربح التي تعوّض عن تلك الخسائر، مع الأخذ بعين الاعتبار المشتقة (3.1)..
2.5 تكتسب عملية تعظيم الربح عبر اضافة القيم الجديدة للخطاب الهدف أهمية خاصة في ترجمة الأنواع الأدبية وأهمها اعادة الاستخراج لشعرية النص الاصلي المتمثلة بالتوازي الصوتي والصرفي والنحوي والدلالي والتداولي والاسلوبي والتنقيطي.
2.6 وعليه، فأن الترجمة تقتضي من المترجم السيطرة والضبط الكافي لأنظمة اللغة الأصل اعلاه وما يقابلها من أنظمة اللغة الهدف بالمستويات التي تكفي للإيفاء بمتطلبات (2.4) أعلاه.
2.6 تقتضي عملية الترجمة الإضافة والحذف والتحويل للأبنية الستة لرسالة الاصل، وكل هذه التغييرات تكون مشروعة بقدر ما هي وجوبية، وتكون غير مشروعة بقدر عدم وجوبيتها.
الأطروحة الثالثة
الترجمة هي فعل ذاتي يمثل الانعكاس لشخصية المترجم، ولمدى ضبطه للغة الأصل والهدف، والعكس صحيح.
3.1 يأتي نقل الرسالة عبر الترجمة ناجحاً بمقدار إحكام المترجم لسيطرته وضبطه للغة الأصل وللغة الهدف على حد سواء. وتكون خاطئة بمقدار عدم إحكامه لهما، أي بمقدار الفجوات المعرفية الحاصلة في شبكات ضبطه لهما البائنة في مخرجات الترجمة. والمترجم المقتدر قادر على الترجمة بكفاءة في الاتجاهين: من اللغة (أ) إلى اللغة (ب)، وبالعكس؛ وهذه المقدرة تمثل الحد الأدنى المطلوب لكفاية المترجم (translator competence).
3.2 لما كانت عملية نقل الرسالة الأصلية تتطلب أولاً استيعاب وتفسير معنى الرسالة قبل تنفيذ عملية نقلها من طرف المترجم الى اللغة الهدف، لذا فإن درجة وعمق هذا الاستيعاب والتفسير محكومان بكل المتغيرات المعرفية والنفسية والاجتماعية المميزة لكل شخص عن غيره فيما يتعلق بخلفيته الاجتماعية والدينية والثقافية وتجاربه الحياتية والعملية، علاوة على التفضيلات والتحيزات والتوجهات الفكرية والسياسية والموقفية والأسلوبية والنفسية والظرفية والقصدية الخاصة والمميزة للمترجم نفسه كإنسان مختلف عن غيره من البشر، وغيرها من المتغيرات كثير. ولهذا تختلف مخرجات الترجمة للرسالة الأصل الواحدة من شخص لآخر بقدر تباين كل هذه المتغيّرات المكوّنة والمميِّزة للشخصية.
3.3 جوهرياً وعملياً، الترجمة هي عملية نقل الرسالة عبر الإخراج التواصلي الشخصي (personal communicative production) المحض والذاتي البواعث والأهداف والمخرجات. وهي بهذا المعنى ليست علماً بقدر ما يكون التعبير اللغوي هو فعل تواصل شخصي وليس علماً. لذا، لا فأن كل الكلام عن كون الترجمة هي "علم" أو عن "البحث عن علم للترجمة"، لا معنى علمياً له ولا فائدة ترتجى منه قدر تعلق الأمر بفعل الترجمة نفسه. العلم موجود في أنظمة اللغات وليس في تنفيذ الفرد للتواصل الشخصي بواسطتها، و الترجمة هي شكل من أشكال التواصل اللشخصي، ليست إلا.
3.4 الدليل على الترجمة كائن في قيمة مخرجاتها نفسها، وتبقى النظريات حول الترجمة كافة أجنبية على تلك المخرجات وعالة عليها.
3.5 فعل التقييم للترجمات الأدبية المنجزة من طرف الغير هو وجهة نظر شخصية بحتة غير موجبة للآخرين وهي تحصيل حاصل، وغير قابلة للتعميم؛ لذا فلا قيمة أكاديمية حقيقية لها. وحدها القراءة المفضلة عبر مختلف عصور التاريخ هي التي تقترح تقييمها لمثل هذه الترجمات، وهي عرضة للتغيير حسب التيارات الفكرية السائدة في كل عصر.
الأطروحة الرابعة
التكافؤ الدلالي والتداولي والثقافي للمفردات عبر اللغات نسبي الطابع على طول الخط.
4.1. كل مفردة في قاموس كل لغة تمثل بؤرة للتقعيد وللتواضع الدلالي المتفرد اجتماعياً وحضارياً وتاريخياً لدلالاتها عند الناطقين بها؛ ولا توجد المترادفات المتطابقة (100%) في كل دلالات وترادفات وألوان وظلال وترابطات أي مفردتين عبر اللغات. لذا، فإن كل الترجمة هي عملية تقريب (approximation) نسبي قدر تعلق الأمر بما تقتضيه من وجوب استبدال مفردة بمفردة مكافئة نسبياً عبر اللغات.
4.2 لكل لغة حقولها المميزة للمتبلورات الدلالية والتداولية والأسلوبية الخاصة بها، وكلها تتطلب نقلها بعناية كما هي للغة الهدف، وليس مطلقاً افتعال تلبيس لغة الهدف بالحقول الثقافية للغة الأصل الأجنبية عليها. مثل فعل التلبيس هذا هو "تنغيلي" المنحى، وليس فعلاً للترجمة المشروعة التي يجب أن تستهدف لغة وثقافة المتلقي للرسالة المنقولة إليه، وليس لغة وثقافة رسالة الأصل.