تثوير تماسك القصيدة العربية: الشاعرة الكبيرة وئام مُلا سلمان أنموذجاً / 2-2


حسين علوان حسين
الحوار المتمدن - العدد: 7697 - 2023 / 8 / 8 - 00:27
المحور: الادب والفن     

في الفرزة الثانية والأخيرة من قصيدتها الرمزية الرائعة: "أوقات رتيبة"، تحكي الشاعرة الكبيرة وئأم مُلا سلمان قصة عقابيل احتساء راويتها لزجاجة خمر كاملة حتى الثمالة، ومن ثم وقوفها وحيدة غير قادرة على الحراك بلا مُعين، فيما الدُوار يلف كل شيء حولها بانتظار مُخَلِّص مُرتجى:
أوشلتُ زجاجةَ هذي الليلة
شربت ثمالة كأسي
حتى لا أخسر قطرة سحر ظلت عالقة في شفتيَ
تلمّظت .............
من يسند رأسي؟
اللحظة أبحث عن متكأ
كتف يغسل ما تهريقه عيناي من الجمر
يملأ جوف كنانتهِ بالزهرِ
ضلع أتمدد شاطئه
أخاصم ندّي
أتوسد ضدي
كهف أتقرفص بين صخوره
أهرب من رؤية أشباح الليل
ضباع البر
تطاردني .....
لا أعرف أن اكره
عاجزة حتى في الغثيان
كلّ ٌحولي يترنح
وأنا واقفة دون حراك
تمثال من شمع
ينتظر الله لينفخ فيه الروح
أو يلهب نارا تصهره
ليسيح من وهج السكر على كفيّ نحّاتِه
أيلول 2005
في النص أعلاه، لدينا قصة رمزية عميقة الدلالة، مسبوكة في إطار قصيدة خمرية- الشاعرة وئام ملا سلمان هي، على حد علمي المتواضع، أول شاعرة عربية مفلقة تبدع في هذا المضمار الشعري العربي القح.
على البنية السطحية لدلالات هذا النص، يتبيَّن للمتلقي أن الراوية تحكي قصة احتسائها لزجاجة خمر كاملة مثلما تفعل في ليل كل يوم، ومن ثم حرصها على تلمظ أخر قطرة سحر منها ظلت عالقة في شفتيها. عندها تشعر بالدوار، وبالحاجة الى متكأ ما يُسنِد رأسها. هذا المتكأ المرتجى يمكن أن يكون كتفاً يريحها ويكفكف دمعها السخين، محولاً جمرات حزنها الى فرح زهري. أو يمكن أن يكون ضلع صدر رحيب تتمدد للراحة عليه كشاطئ فسيح دافئ؛ كما يمكن أن يكون كهفاً تتقرفص بين صخوره لتهرب من رؤية أشباح الليل وضباع البر المطاردة لها رغم أنها لا تعرف أن تكره أحداً. دُوار الرأس يتواصل، وهي عاجزة حتى في الغثيان ، فيما كل شيء حولها يترنّح. تبقى الراوية واقفة في الليل دون حراك مثل تمثال من الشمع ينتظر من الله أن ينفخ فيه الروح، أو يلهبه ناراً ليسيح مخموراً على كفّي نحّاته.
هذا على المستوى الدلالي السطحي. أما على المستوى الدلالي الرمزي، فإن احتساء زجاجة خمر كاملة والتلمظ بأخر قطرة منها يمكن أن يفهم كإشارة الى امتلاء روح الراوية من كل عذابات دنياها الرهيبة التي تصطلي بها، حتى أشدها إيغالاً، بحيث أنها باتت تتلمظ تلك الآلام كمن يتلمظ متلذذاً بثمالة كأس خمرته كل ليلة. هذا الترميز للعذاب المفروض على حياة الراوية بالخمرة يحيل ليس الى فكرة الخمرة كدواء- مثل مُراد القائل: "وداوني بالتي كانت هي الداء" ، وانما يحيل إلى عبِّ الراوية لآلام مكابدات الحياة كما لو كانت تلك الآلام زجاجة خمر مفروضة عليها جبراً وقدراً مسلطاً، ولا مندوحة للراوية من تجرع عبِّها بكل مراراتها حتى آخر قطرة منها ليلة كل يوم. "وشل زجاجة هذه الليلة" هو الكناية عن تحمل الاصطلاء بتباريح الحياة كل ليلة. وهذه صورة جديدة في الشعر العربي، وهي موغلة في العمق والتأثير إذا ما اخترنا هذا التأويل.
ولكن صورة هذه الاستعارة تتمدد: الراوية - المجبرة على تجرع آلام حياتها - تُدوّخها دوّامة هذه الآلام، وهي وحيدة وبأمس الحاجة لمن يسندها في محنتها هذه ليواسي وجعها (من يسند رأسي؟ اللحظة أبحث عن متكأ، كتف يغسل ما تهريقه عيناي من الجمر)، ويشاركها مكابداتها ويعينها على تحمل صروف الدنيا كي لا تبقى واقفة وحيدة تلفها دوامات الحياة بلا أمل في خلاص (وأنا واقفة دون حراك): كائناً ضعيفاً وحيداً رهيفاً كتمثال من شمع لا يقوى على الذبِّ عن نفسه، وينتظر أن تتنزل عليه رحمة الله بخلاصه مما هو فيه كي يمضي في الحياة بعونه إلى أمام (ينتظر الله لينفخ فيه الروح)، أو يزيد عليه اصطلاءه بلظى دوامات الحياة فيرتاح منها بأن يسيح منصهراً بين كفّيه (ليسيح من وهج السكر على كفيّ نحّاتِه).
وعليه فإن خلاصة قصة هذا النص هي:
ربّي، لقد تحملتُ وحيدةً ما لا يُطاق، وما بقي فيَّ متسع لتحمل المزيد، فإما أن تسعفني بمد يد العون لي، أو تقبض على أمانتك!
ونلاحظ بهذا الصدد مدى شموخ خيال الشاعرة، ورحابة تشعباته، وتوظيفها المكين للرموز التي يزخر بها كل واحد من مصاريع القصيدة. انها قصة حياة مشفرة بالنظم! وفوق كل هذا، يأتي ضبط الوزن وجزالة اللفظ والحرص على إكساب بنية النص موسيقى داخلية مميزة عبر تكرار أصوات بعينها: التاء (30 تكراراً)، الراء (17 تكراراً)، الهاء (13 تكراراً)، الحاء (10 تكراراً). كما أنها تميّز كل مقطع شعري بتكثيف تكرار أزواج مشخصة من الأصوات فيه (الشين و السين في أول ثلاثة أسطر) لتنتقل بعدئذ إلى التنويع بتكثيف تكرار صوتين آخرين بعده مثل الراء و الكاف .. الخ. وهذه البنية الصوتية المتميزة تعمّق التماسك الكلي للنص.
الترجمة
Tedious Acts (2)

Iraqi Poetess: Wi’aam Mulla Salmaan

I emptied my bottle of tonight,
I drank my cup to its last drops
Lest losing a of magic remaining stuck to my lips,
I savored blunting it.
Who holds my head?
This moment, I m looking for an aid
A shoulder that washes my eyes from spilt embers,
Filling the hollows of their quiver with flowers
A rib to lay on its shore,
To fight my equal,
To lean against my rival
A cave to squat among its rocks
To run away from seeing night’s ghosts.
Wild hyenas are chasing me...
I can’t know to hate,
I’m helpless even in retching.
All around me is reeling,
And I am standing inert.
A statue of wax
Waiting for God to breathe the spirit into it,
Or ignites a fire that melts it,
Removing the glow of drunkenness
On the palms of its sculptor.