عولمة الإبادة الفاشية تحت قناع التأدلج اللبرالي/5


حسين علوان حسين
الحوار المتمدن - العدد: 7718 - 2023 / 8 / 29 - 13:37
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

"التعاون الليبرالي في صعود الفاشية الأوروبية
لقد كان من الأهمية بمكان أن تنشأ الفاشية في أوروبا الغربية داخل نطاق الديمقراطيات البرلمانية نفسها وليس من خارجها. صعد الفاشيون إلى السلطة في إيطاليا في لحظة أزمة سياسية واقتصادية حادة في أعقاب الحرب العالمية الأولى. ثم، في وقت لاحق، خلال مرحلة الكساد الاقتصادي الكبير. كان ذلك أيضًا هو الوقت الذي شهد فيه العالم للتو أول ثورة ناجحة مناهضة للرأسمالية في الاتحاد السوفييتي. ولقد عُهِد لموسوليني - الذي استهل نشاطه السياسي عميلاً في المكتب الخامس للمخابرات العسكرية البريطانية (MI5) – بواجب تفكيك حركة السلام الإيطالية خلال الحرب العالمية الأولى، ثم تم دعمه لاحقًا من قبل كبار الرأسماليين الصناعيين والمصرفيين بفضل توجهاته السياسية المناهضة للعمال والمؤيدة للرأسمالية. كان تكتيكه هو العمل داخل النظام البرلماني، من خلال حشد المؤيدين الرأسماليين الأقوياء لتمويل حملته الدعائية الموسعة، بينما كانت قمصانه السود تدوس بعنف على صفوف الاعتصامات ومنظمات الطبقة العاملة. في أكتوبر من عام 1922، قدّم له كبار رجال اتحاد الصناعة وكبار قادة المصارف التجارية الملايين اللازمة للمسيرة إلى روما في استعراض مذهل للقوة. ومع ذلك، فإنه لم يستولي على السلطة. وبدلاً من ذلك، مثلما أوضح "دانييل غيرين" في دراسته الرائعة "الفاشية والشركات الكبرى" ، فقد تم استدعاء موسوليني من قبل الملك الإيطالي في 29 أكتوبر، وتم تكليفه - وفقاً للأعراف البرلمانية - بتشكيل الحكومة. لقد سلمت الدولة الرأسمالية نفسها له بلا مقاومة. لكن موسوليني كان عازما على تشكيل الأغلبية المطلقة في البرلمان بمساعدة الليبراليين أنفسهم الذين دعموا قانونه الانتخابي الجديد في يوليو 1923 . ثم شكل الليبراليون قائمة مشتركة مع الفاشيين للانتخابات في 6 أبريل 1924 ، حيث حصل الفاشيون - الذين لم يكن لديهم قبلئذ سوى 35 مقعدًا في البرلمان - على 286 مقعدًا بمساعدة الليبراليين.
وفي ألمانيا، صعد النازيون إلى السلطة بنفس الطريقة تقريباً؛ أي من خلال العمل داخل النظام البرلماني وكسب تأييد كبار رجال الصناعة والمصرفيين. ولقد قدم رجال المصارف التجارية الدعم المالي اللازم للنفخ في الحزب النازي وتأمين النصر الانتخابي له أخيراً في سبتمبر 1930. وقد شهد هتلر نفسه لاحقًا، في خطاب ألقاه في 19 أكتوبر 1935، كم كانت أهمية حصوله على الموارد المادية اللازمة لدعم 1000 محرض نازي بسياراتهم الخاصة، لكي يستطيعوا عقد حوالي 100000 اجتماع جماهيري عام على مدار السنة. وفي انتخابات ديسمبر/كانون الأول عام 1932، رفض زعماء الحزب الديمقراطي الاشتراكي - الذين كانوا على أقصى يسار الليبراليين المعاصرين ولكنهم شاركوهم أجندتهم الإصلاحية - تشكيل التحالف الانتخابي مع الشيوعيين ضد النازية. "مثلما هو الحال في العديد من البلدان الأخرى في الماضي والحاضر، كذلك في ألمانيا" كتب "مايكل بارينتي": "يعمد الديمقراطيون الاشتراكيون إلى التحالف مع اليمين الرجعي على عجل بدلاً من إقامة جبهة مشتركة مع الحمر". قبل الانتخابات، قال مرشح الحزب الشيوعي الألماني: "إيرنست تيلمان" إن تصويت الحزب الديمقراطي الاشتراكي لصالح رئاسة المشير المحافظ "فون هيندنبورغ" كان بمثابة التصويت لصالح هتلر وللحرب. بعد أسابيع فقط من انتخاب هيندنبورغ، دعا الأخير هتلر ليصبح مستشارًا.
لقد وصلت الفاشية في ايطاليا وألمانيا إلى السلطة من خلال الديمقراطية البرلمانية البرجوازية، حيث قام رجال رأس المال الكبير بتمويل المرشحين الذين سينفذون أوامرهم، بينما خلقوا أيضًا مشهدًا شعبويًا – ثورة زائفة – حشدت وحازت على الجاذبية الجماهيرية. لقد تم استيلاؤهما على السلطة ضمن هذا الإطار القانوني والدستوري، الذي أمّن لهما شرعيتهما الواضحة على الجبهة الداخلية، وكذلك داخل المجتمع الدولي للديمقراطيات البرجوازية. ولقد فهم "ليون تروتسكي" هذا الأمر تمامًا، وقام بتشخيص ما كان يحدث في ذلك الوقت ببصيرة رائعة بالقول:
"والمحصلة الأخيرة هي تحول الديمقراطية البرجوازية بشكل قانوني وسلمي إلى الدكتاتورية الفاشية. السر بسيط بما فيه الكفاية: الديمقراطية البرجوازية والدكتاتورية الفاشية كلتاهما أداتان بيد نفس الطبقة الحاكمة: الرأسماليين. ومن المستحيل على الإطلاق منع استبدال احداهما بالأخرى عن طريق اللجوء إلى الدستور، أو المحكمة العليا في لايبزيغ، أو إجراء انتخابات جديدة، وما إلى ذلك. الأمر الضروري هو تعبئة القوى الثورية للبروليتاريا. إن الشهوة الدستورية تقدم أفضل المساعدة للفاشية".
ولكن بمجرد تأمين سلطتها، فقد كشفت الفاشية عن وجهها الاستبدادي، وتحولت إلى ما أشار إليه تروتسكي بالديكتاتورية العسكرية البيروقراطية من النوع البونابرتي. لقد انطلقت بلا هوادة - بوتيرة مختلفة إلى حد ما في إيطاليا عنها في ألمانيا - لاستكمال المهمة التي تم تعيينها لإنجازها من خلال سحق العمل المنظم، والقضاء على أحزاب المعارضة، وتدمير الصحافة المستقلة، ووقف الانتخابات، واتخاذ كباش الفداء، والقضاء على الطبقات الدنيا العنصرية، وخصخصة الأصول العامة، وإطلاق مشاريع التوسع الاستعماري والاستثمار بكثافة في اقتصاد الحرب المفيد لمؤيديها الصناعيين. ومن خلال تأسيس الديكتاتورية المباشرة لرأس المال الكبير، دمرت حتى بعض العناصر الأكثر شعبية وشعبوية في صفوفها.
ولم تسمح الديمقراطية البرجوازية بصعود الفاشية داخل إيطاليا وألمانيا فحسب، بل وكذلك أيضاً على المستوى الدولي. فقد رفضت الدول الرأسمالية تشكيل أي تحالف مناهض للفاشية مع الاتحاد السوفييتي، وهو البلد الذي كانت قد غزته واحتلته جيوش أربعة عشر دولة منها في الفترة من 1918 إلى 1920 في محاولة فاشلة منها لتدمير أول جمهورية عمالية في العالم. وخلال الحرب الأهلية الإسبانية - التي وصفها مؤرخون مثل "إريك هوبسباوم" بأنها كانت النسخة المصغرة من حرب منتصف القرن الكبرى بين الفاشية والشيوعية - لم تدعم الديمقراطيات الليبرالية الغربية رسمياً الحكومة الديمقراطية الإسبانية ذات الميول اليسارية التي تم انتخابها. وبدلاً من ذلك، فقد وقفت مكتوفة الأيدي، بينما قدمت قوى المحور الألماني-الايطالي دعمًا هائلاً للجنرال فرانسيسكو فرانكو أثناء إشرافه على انقلابه العسكري ضد الجمهورية المنتخبة ديمقراطياً.. ومن المثير للغاية أن حكم فرانكو- الذي أعلن نفسه فاشيًا على رؤوس الاشهاد - غالبًا ما يتم رَكْنُه جانباً في المناقشات التي تجري حول الفاشية الأوروبية. كان فرانكو يفهم بوضوح ملحوظ سبب اختلاف الخصائص الظاهرية للفاشية بشكل كبير بناءً على الظرفية الدقيقة: "الفاشية، بما أن هذه هي الكلمة المستخدمة، تقدِّم، أينما تظهر نفسها، خصائص تختلف بقدر اختلاف البلدان والأمزجة الوطنية". ولقد كان الاتحاد السوفييتي وحده هو الذي هبَّ لمساعدة الجمهوريين الذين حاربوا الفاشية في إسبانيا، حيث أرسل الجنود والأسلحة. وفي وقت لاحق ، رد فرانكو هذا الجميل النازي ، إذا جاز التعبير، من خلال نشره لقوة عسكرية تطوعية لمحاربة الشيوعية الملحدة إلى جانب النازيين. وبطبيعة الحال، سيصبح فرانكو أيضًا أحد أعظم حلفاء الولايات المتحدة الأمريكية بعد الحرب العالمية الثانية في حربها العالمية الثالثة ضد "الخطر الأحمر".
وفي عام 1934، وقَّعت المملكة المتحدة وفرنسا مع إيطاليا وألمانيا على "اتفاقية ميونيخ"، التي وافقت فيها بريطانيا وفرنسا على السماح لهتلر بغزو واستعمار منطقة السوديت الصناعية في تشيكوسلوفاكيا [وعلى اجراء الاستفتاء لضم النمسا لهتلر]. يقول "إريك هوبسباوم" : "إن الإحجام التام للحكومات الغربية عن الدخول في أي مفاوضات فعالة مع "الدولة الحمراء " حتى خلال الفترة من 1938 إلى 1939 - عندما لم يعد أحد ينكر ضرورة إقامة التحالف المناهض لهتلر - كان أمرًا واضحًا للغاية. وفي الواقع، فقد كان الخوف من تركه لمواجهة هتلر لوحده هو الذي دفع أخيراً ستالين - الذي ظل منذ عام 1934 هو بطل تحالف الغرب ضده - إلى عقد ميثاق مولوتوف - ريبنتروب في أغسطس 1939، والذي كان يأمل من خلاله الحفاظ على إبقاء الاتحاد السوفييتي خارج نطاق الحرب الماثلة للعيان" . ولقد تم تقديم ميثاق "عدم الاعتداء" هذا بشكل مخادع في وسائل الإعلام الغربية باعتباره إشارة لا يمكن إنكارها إلى أن النازيين والشيوعيين كانوا حلفاء بطريقة أو بأخرى [وما زال عملاء السي آي أي وسماسرة المكتب السادس البريطاني يلوكون هذه الفرية التي لقنها أسيادهم بها حتى اليوم، ضاربين عرض الحائط بواقعة توقيع أسيادهم لاتفاقية ميونخ - التي تكفلت بتسليم قلب أوربا الصناعي : اقليم السوديت ومن بعده النمسا بكاملها لهتلر، مع الاستبعاد الكلي للاتحاد السوفيتي من المفاوضات]."
يتبع، لطفاً.