رباعيات مظفّر النوّاب : وصف و ترجمة 2-2


حسين علوان حسين
الحوار المتمدن - العدد: 6362 - 2019 / 9 / 27 - 15:03
المحور: الادب والفن     

ملاحظة حول تحقيق النصوص الشعرية لسيد الشعراء العرب مظفر النوّاب

حسب علمي ، فإن الشاعر مظفر النواب لم يُشْرف بنفسه على طبع أي من دواوينه الشعرية ، ربما باستثناء ديوانه الرائع الأول "للريل و حمد" ، و هذا أمر يؤسف له لأهمية و غزارة منجزه الشعري . و لأنه شاعرٌ جماهيري من الطراز الأول و القدير في فن الإلقاء الشعري المؤثر أمام جمهوره العريض ، فقد اعتمد في الانتشار على التسجيل الصوتي أولاً و الفيديوي من بعد ذلك لبعض من أهم قصائده ، سواء تلك المنظومة بالفصحى أم باللغة الدارجة العراقية ، دون أن يحفل – عكس غيره من غالبية الشعراء – بالتوثيق المستندي لتراثه الشعري أولاً بأول حفاظاً عليه من الضياع – وقد ضاع منه ما ضاع – و لا التمسك بحقوقه الإبداعية في النشر قط . و لهذا ، فقد تسابق الناشر القرصان لطبع أشعاره و إعادة طبعها بلا رخصة من الشاعر و من دون تحقيق و لا تنقيح لقوة الطلب عليها ، فحصل الخطأ و التصحيف فيها مثلما سبق و أن نوّه إليه قبلي العديد من الدارسين لأشعاره . لذا ، فقد عمدتُ إلى التدوين المباشر للعدد القليل من القصائد التي وصفتها و ترجمتها له على موقعي الفرعي هذا بالاستناد إلى تسجيلات أشرطته الفيديوية المتوفرة على الشبكة . و هذه مهمة ليست باليسيرة دوماً . أقول هذا فيما أنا أتفكَّر بمعاني المصراع الأخير لرباعيته الأولى :

شَزَرَ المولى ، فذابَتْ مهجتي بالشَزْرِ .

و الذي يظهر مطبوعاً أيضاً على النحوين التاليين :

شَجَرَ المولى ، فذابَتْ مهجتي بالشَجْرِ .
و
شَذَرَ المولى ، فذابَتْ مهجتي بالشَذْرِ .

و لم تسعفني أذناي في التمييز القاطع للفظ الصحيح من التسجيل الفيديوي على الشبكة ، و إن كان موقع الشاعر على الحوار المتمدن يثبّت الصيغة المكتوبة :
شَجَرَ المولى ، فذابَتْ مهجتي بالشجرِ .
و يلحقها بملاحظة خاصة بمعناها لا أعتقد أنها تعود للشاعر نفسه لأن "المولى" لا يشجر في هذا المقام الشعري حسبما أظن ، و أرجو أن لا أكون مخطئاً في ظني هذا . أما مفردة "الشذر" فتنطوي على الغموض المستحكم الذي يفرض فرضاً معنيين متضاربين هما "التشتيت و التجوهر" لا فكاك بينهما قط) (irresolvable ambiguity)، و مظفر النواب المتسلطن على العربية و ناشد الصراحة و قول الحق هو المعارض الأول للغموض لكون رسالته الشعرية المتفردة قد امتازت دوماً بالثبات الفكري و العاطفي و المنهجي الناصع الوضوح : تثوير دلالات المفردات الشائعة في اللغة بربطها بأطرى الصور المبتكرة المشحونة بالتحريض الثوري الغاضب و الساخر بمرارة عبر المزاوجة بين الأضداد . و لهذا ، فيمكن عدّه أحد أعظم المجددين في الشعر العربي المعاصر ، قريضاً و دارجاً.

أيجاز وصفي للرباعيات
يُطلق الشاعر على رباعياته (و عددها عشرة ، قبل أن يضيف إليها رباعيتي الرد على مهاجيه السوداني) هذه اسم ألـ "حيرة" لتوصيف مشاعره إزاء أوضاع غريبة سريالية المنحى تثير أسئلة مشروعة عنده لا يجد تفسيرات و لا إجابات شافية لها ؛ و كلها تفيد حفز الترقب و الاهتمام عند المتلقي و زرع العجب عنده في شدٍّ درامي متصاعد . و يؤسس الشاعر أوضاع و أسئلة حيرته هذه على نقض الموضوعة الشعرية العتيدة في "الدعوة للتمتع بملذات الحياة" ( اغتنم يومك = carpe diem) (نجد أول تعبير شعري معروف لها في ملحمة ﮔلـﮔـامش على لسان صاحبة الحانة "شيدوري") . و هذه الدعوة هي نفس الغرض الشعري لترجمة الشاعر أحمد رامي لرباعيات الخيّام (و هي من البحر السريع : مُسْتَفْعَلُنْ – مُسْتَفْعَلُنْ – فاعِلُنْ) ، و التي يعارضها شاعرنا النوّاب برباعياته المنظومة بأرقِّ بحور الشعر العربي ، ألا وهو بحر الرمل المحذوف (فاعِلاتن – فاعِلاتن – فاعلا ، المستخدم في الموشحات ) مع استعارة بعض من القافية و المفردات الأساسية الواردة في ترجمة أحمد رامي ، إنما بمعان شعرية جديدة شديدة الاكتناز . أول رباعيات الخيام التي غنتها أم كلثوم تبدأ بالقول :

سمعتُ صوتاً هاتفاً في السحَرْ
نادى من الغيب غُفاةَ البَشَرْ
هُبّوا املئوا كاسَ المُنى قبل أن
تملأ كأسَ العمرِ كفُّ القدرْ

أما النوّاب فيعكف على خلق العُقد الدرامية المتلاحقة في كل واحدة من رباعياته ، في سرد شديد التكثيف يشبه الحدوتة . العقدة الأولى تستغرق متن رباعيتين أولاهما :

طائفٌ قد طافَ بي في غيهبٍ بالسَحَرِ
ساكباً في عَدَمٍ يصخبُ كأسَ العُمُرِ
صحتُ: يا مولاي ما هذا الذي تفعله ؟
شَزَرَ المولى ، فذابَتْ مهجتي بالشزرِ .

مثل عمر الخيّام ، يستهل النوّاب رباعياته بالحُلُم في وقت السَحَر : آخر الليل قبيل الفجر ؛ و إن كان سَحَر النوّاب شديد سواد الظلمة (غيهب) بلا بصيص من نور . الحُلُم لدى الخيّام بترجمة رامي الكثيرة الحشو له هو (صوت هاتف) ، و مفردة (هاتف) هي التوكيد اللفظي التوصيفي لنوع الصوت في هذا المقام . و كذا الحال في حلم النوَّاب المسمى : (طائف) المؤكد توكيداً مزدوجاً بـ (قد) و بالفعل (طاف) ، و الذي يحيل كذلك إلى معنى الملاك و الحارس العاسُّ و الرفيق الرقيق . و مثل الخيّام ، يتطرق النوّاب إلى رسم صورتي ملء كأس المنى و كأس العمر . عدا هذا التناظر اللفظي ، فإن معاني النواب هي النقيض لمعاني الخيّام . عند الخيّام هنالك الدعوة لملء كأس المُنى و ارتشاف كل لذّاتها قبل حلول أجل الإنسان عند امتلاء كأس العمر بالوفاة ، أمّا الطائف بالنوّاب فإنه : "يسكب في عَدَمٍ يصخب كأس العمر" . و عندما يسترعي الشاعر انتباه الطائف به إلى عدميّة فعله هذا باستفهام مستتر رقيق ، يشزره الطائف على استفهامه هذا غير المقبول عنده ، ليذوّب مهجته بسبب دالّته عليه باعتباره "المولى" المحترم صاحب الكلمة المسموعة .
إلامَ يشير النوّاب هنا في مقولته الجدلية : "يسكب في عَدَمٍ يصخب كأس العمر" و هي إحدى أبلغ الصياغات الشعرية المعاصرة المكتنزة بالمعاني ؟ لدينا هنا أولاً كأس المُنى ، و لكنها مترعة بالعَدَم بدلاً من الأمنيات المحققة . كما إن هذا العَدَم هو الذي يصخب كأس العمر ؛ أي أن كل عمر الشاعر المحتد بجلبة الانغماس بهموم ومتطلبات تحقيق الأماني الوردية و الأحلام الجميلة قد انقضى في مسيرة تتنقل بين المحطة و الأخرى من عَدَمٍ إلى عَدَمٍ رغم سطوع الرؤى و سمو الأماني التي هي لذة الحياة عند الشاعر . و النتيجة هي تعذر "ملء كأس المُنى" رغم الجد و الاندفاع المخلص في النضال المستميت عبر محطات كل العمر لتحقيق ذلك . هنا تكمن درامية الصراع الذاتي و الموضوعي لتخطي الصدع العميق الكائن الحائل بين الحلم و الواقع ؛ بين ما هو ضروري منشود و بين ما قد تحقق فعلاً على أرض الواقع .
وفي تصوري ، فإن بلاغة هذه الرباعية تحيل القاري بذكاء إلى واحدة من أعظم قوانين الحياة لكل البشر و التي صاغها كارل ماركس في كتابه : "الثامن عشر من برومير للويس بونابرت" بلغة درامية أخّاذة بالقول :
"البشر يصنعون تاريخهم ، و لكنهم لا يصنعونه حسب ما يروق لهم ؛ إنهم لا يصنعونه في ظل الظروف المختارة من طرفهم ، بل في ظل الظروف الموجودة سلفاً ، الظروف المعطاة و المنتقلة إليهم من الماضي . إن ميراث كل الأجيال البائدة يجثم كالكابوس على عقول الأحياء . و فيما يبدو أن البشر منشغلون بتثوير أنفسهم و تثوير الأشياء لخلق شيء لم يكن موجوداً من قبل ، بالضبط في مثل هذه المراحل من الأزمة الثورية ، فإنهم يستدعون متلهفين أرواح الماضي لخدمتهم فيستعيرون منها الأسماء و شعارات المعركة و الأزياء لكي يقدموا هذا المشهد الجديد من تاريخ العالم بقناع عتيق و بلغة مستعارة ."
إذن ، دعوة الخيّام البشر في السعي لملء كأس الأماني قد يتعذر تحقيقها تماماً لتغدو عَدَماً بحكم ما تمليه عليهم وقائع الظروف الموروثة الفاعلة المفعول . و لكن هل ينبغي لهذه الوقائع أن تفرض على الإنسان الكف عن السعي لملء كأس الأماني ؟ قطعاً لا ، مثلما توضحه الرباعية الثانية عندما ينهض الشاعر من الحلم مرتبكاً و قد شد العزم على تحقيق الإنجاز الثوري المنشود الذي يعبر عنه بإمكانية : "إطفاء نيران ارتباكي بالطلا " ، و إن لم يفز من هذا العزم بغير : " فراغُ الكأسِ بالصمتِ إمتلى" :

قُمْتُ مذهولاً إلى إبريق خمري ثملا
علّني أطفئ نيرانَ ارتباكي بالطِلا
سَكَبَ الإبريقُ في كأسي نضوباً صامتاً
آه ، مولاي : فراغُ الكأسِ بالصمتِ إمتلى .

كيف يمكن للصمت أن يملأ فراغ الكأس ؟ يحصل مثل هذا الوضع المحيّر عند العجز عن بث روح الثورة في نفوس الناس للقيام بإنجاز التغيير الإيجابي المنشود ، فيبقون صامتين منكفئين عن ملء كأس الأماني ؛ و الخيبة ، تتلو الأخرى . و لكن هل ينثني الشاعر إزاء هذه السلبية عن الدعوة للتغيير و لو حتى عبر "النقر على كأس المنى الناضب" ، أي التحفيز للتغيير الثوري ؟ مرة أخرى : قطعاً لا ، فهذا هو بالضبط ما يطلبه من المتلقي كي ينجلي ليل الظلم عن الشعب الحزين (الماء الحزين) :

أنقرِ الكأسَ إذا ما نضبت واسمع رنين الكأس و اثمل بالرنينْ
كل كأس خمرةٌ حتى إذا كان بها ماء حزينْ
فإذا ما لائمٌ لامك فيها ، قل : صحيحٌ ؛
إنّما من يُسكِتُ الأوجاعَ في ليلٍ بلا دنياً و دينْ ؟

بدون الإيمان بضرورة التغيير لخلق الدنيا الجديدة ، ستبقى أوجاع الظلم للبشر . التغيير هو البلسم لوجع ظلمة الليل على البشر ، كما أن الثورة تليق بكل الأزمان و لكل الشعوب (كل كأس خمرةٌ حتى إذا كان بها ماء حزينْ).
يلاحظ في هذا الصدد مدى سيطرة الشاعر على زمام أنظمة اللغة العربية الفصحى ؛ ففي البيت الأول تتوالى على المتلقي أربعة أفعال دفعة واحدة : أنقر ، نضب ، إسمع ، و أثمل . و هناك التكرار المتوازي لأصوت الكاف و الراء و السين و النون و اللام و الميم . كما يوظف الشاعر بسلاسة شكل المحاججة الجدلية المعقد في البناء الرباعي ، و ذا إنجاز كبير . و يضاف إلى هذا و ذاك التجديد في الأغراض الشعرية و صياغة المعاني بعبارات و صور جديدة متفردة .
بعدها يقارن الشاعر نفسه بالطير الحر الحائر الشاكي سجنه بصوت مرير بلا مجير ، و يخاطبه بالقول : " فاشرب . ليس عدلٌ إن طيراً ذي جناحٍ لا يطيرْ" ؛ أي : "ثُرْ على ظلم السجن كي تطير" . يلاحظ أن المزاوجة بين الشرب و الطيران و الثورة و الحب تتكرر بتلاوين منوّعة في كل تضاعيف الرباعيات . ثم يختتم الشاعر بالدعوة لرص صفوف شتات الثوار في كل مكان لأن "في الشتات الممات" ؛ لافتاً النظر إلى أن فرقتهم هذه قد أفضت إلى غلبة أصوات الغربان الظلاميين على الأجواء ، و إلى أيلولة كراسي السلطة لأسوأ السلاطين الرجعيين المتخلفين من رافعي شعار : "إلى الوراء دُر" في مؤتمراتهم المخزأية . هؤلاء هم الحكام من الحمير المركوبين من طرف قوى الإستعباد و اللابسين لبوس البشر ، حيث لا يسلم الحمار منهم كرسيه إلّا إلى خليفة من الحمير مثله ليملأ الجو نعيقاً : " فسماوات الأغاني امتلكتها أنكر الغربان صوتاً ؛ و لقد أي حمار يملك الجو غداً " . كل هذا التخلف و الحيف ، و هذه الدواب لا تستحي من الاحتجاج ضد من يسميها بأسمائها الحقيقية .
الترجمة
The Quartets of Mudhaffar al-Nawwab

Bewilderment
1.
A rover roved with me before the darkest dawn,
Pouring in a void that roars life’s stein.
I shouted: “Lo my Lord, what are you doing?”
The Lord stared, so my soul adsorbed in the staring.
2.
Stunned, I rose to my vintage pitcher, in drunkenness
Perchance to put out my confusion’s fires in wine.
The pitcher poured into my cup a silent depletion
Ah, my Lord, the cup’s vacuum is filled with silence.
3.
Click the cup if it runs out, hear the cup ring, and get drunk with the ring
Every cup is wine even if it had sad water
And if a contender blames you, say: “True
But who silences aches at a night with no a morning, nor a tomorrow?”
4.
Then a bird sends a complaint how bitter the voice is!
Weeping in an alien cage not sure where to seek support.
He s like me: with a broken heart.
Drink! How unfair for a bird with a wing not to fly!
5.
The sober winked at me that I was drunk that was not a lie.
You approached me from the heart’s core I am sour
I no longer see but your census, Ye the One, Ye the All.
That s why I drink.
6.
The lover is afflicted with lots of sorrow, and wine, too.
Increase the two for awakening from love is dangerous.
The load perched on my back but I did not kneel
And I am still on the trail.
7.
Why does somebody accuse me with your love’s intoxication,
Whereas he is drunk condominiums, calling them: your satisfaction?
O son of two pockets, ill-gotten:
I get drunk to endure the world in which I see you.
8.
A wolf howled wearing a hoax, hypocrite piety
Upon his cheeks, from sucking people’s blood in sin, is an alley.
He said: Lo, drunk!
And two rivers of tears sprung on my cheeks: Iraq.
9.
My spittle went through wars of ignorance on all sides
Do the Euphrates’ groves not fill my tankards?
Worried, I call the birds of diaspora:
Reunite, for there is no death except in this diaspora.
10.
Thirty years in banishment passed in vein
The free bird is left with just the silence of his wings a horizon.
The heavens of songs were procured by the sounds of weirdest raven,
Indeed, any ass can tomorrow possess the communication.
11.
"Why were you hours late, almost till sunset?"
"Forgive me, I kept the timing to the Summit
I had no idea backwards it was set.
Reasonable was all their writ, But only an ass can believe a snippet of it."
12.
Lo, Lord: my form is done, but I have a tiny query:
Why haven t you rendered some people the forms of donkey
So that humans can get some rest?
Or might some beasts protest against such a destiny?

تمت .