إمبريالية القرن الحادي و العشرين 2-3


حسين علوان حسين
الحوار المتمدن - العدد: 6127 - 2019 / 1 / 27 - 00:11
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية     

و بالرغم من هذه الزيادة الكبيرة الحاصلة في تعداد عمال بلدان الجنوب إلا أن اقتصاد الجنوب لم ينمو بالسرعة الكافية لتوفير فرص العمل لاستيعاب ملايين الشباب الذين يدخلون سوق العمل و ملايين الفارّين من الفقر الريفي - مع الاستثناء الجزئي للصين التي تمثل حالة خاصة بسبب سياسة "الطفل الواحد فقط للعائلة الواحدة" ، و لنموها السريع على نحو استثنائي ، و لانتقالها غير الكامل من الاشتراكية إلى الرأسمالية .
"مراجحة العمالة العالمية" - مفتاح الدفع لعولمة الإنتاج
من خلال اقتلاعها لمئات الملايين من العمال و المزارعين في بلدان الجنوب من علاقاتهم بالأرض و من وظائفهم في الصناعات الوطنية المحميّة ، فقد أسهمت الرأسمالية الليبرالية الجديدة في تسريع وتائر نشوء كتلة كبيرة من العمالة الخاضعة للاستغلال الفائق . و لقد تفاعل قمع حرية حركة اليد العاملة مع هذا العرض المتزايد بشكل كبير ليحدث فجوة درامية في فروقات أجور العمالة الدولية ، و التي ، وفقا لباحثين من البنك الدولي ، "تتجاوز بضعف أو بأكثر أي شكل آخر من أشكال الفجوة السعرية الناجمة عن تخطي الحدود" . و يتيح هذا التدني الحاد في الأجور طريقتين مختلفتين للرأسماليين الشماليين لزيادة الأرباح : هجرة الإنتاج إلى البلدان ذات الأجور المنخفضة ، أو هجرة العمال من تلك البلدان . يصف صندوق النقد الدولي (IMF) هذا الأمر بدقة على الوجه التالي : "يمكن للاقتصادات المتقدمة الوصول إلى الموارد العالمية للعمل عبر الواردات و الهجرة" ، مع الملاحظة المهمة بكون : "التجارة هي القناة الأكثر أهمية و الأسرع توسعاً ؛ غالباً ، لأن الهجرة لا تزال مقيدة للغاية في العديد من البلدان" (8) .
إن ما يصفه صندوق النقد الدولي هنا بعبارة : "الوصول إلى الموارد العالمية للعمل" يُطلِق عليه آخرون مصطلح "المراجحة العمالية العالمية" ، و ميزتها الأساسية - وفقاً لستيفن روتش - هي استبدال "العمال ذوي الأجور العالية بعمال مماثلين من ذوي الأجور المنخفضة هنا ، و بذوي الأجور المنخفضة في الخارج" (9) . روتش ، الذي عمل رئيساً لعمليات المصرف الأمريكي العملاق "مورغن ستانلي" في آسيا ، يحاجج بالقول :" يقود عملية المراجحة العالمية ذلك الالتحام الفريد و القوي لثلاثة توجهات عملاقة " هي : " نضوج منصات التعهيد الخارجية للإنتاج ... الربط القائم على الإنترنت ... و التحكم في التكاليف (10) . و من هذه القوى ، فإن "التحكم في التكاليف" - أي ، الأجور المنخفضة - هو "العامل المساعد الذي يجعل عملية المراجحة في العمل تشتغل على مستوى العالم". و توسعًاً في هذا ، يشرح روتش ذلك بالقول :
"في العصر الذي يسود فيه العرض الزائد للمنتجات ، تغدوا الشركات مفتقرة لروافع التسعير على نحو لم يكن معهوداً من قبل . لذا ، يصبح محتّماً عليها أن تفتش على نحو مستميت عن أرجحيات جديدة (من شأنها خفض كلف الإنتاج) . و من غير المستغرب أن يكون العمل هو بؤرة التركيز لهذا التفتيش باعتباره يمثل الحجم الأكبر من تكاليف الإنتاج في العالم المتقدم .. و بالتالي ، تصبح الاستعانة بالمصادر الخارجية للعمل ، التي تستخرج المنتجات من العمال المكافئين من ذوي الأجور المنخفضة نسبياً في العالم النامي ، هي التكتيك الملح العاجل على نحو متزايد لضمان البقاء لشركات الاقتصادات المتقدمة (11) ."
هذا الوصف للقوة الدافعة للعولمة اللبرالية الجديدة هو أغنى من ذلك الذي يعرضه صندوق النقد الدولي أعلاه . مع ذلك ، فإن من حقنا التساؤل عن السبب الذي حدا بروتش للكلام هنا عن "استخراج المنتجات" و ليس عن "استخراج القيمة" ، في ضوء كون الرأسماليين غير معنيين أساساً بالمنتجات نفسها و إنما بالقيمة المتبلورة فيها ؟ أغلب الظن أن الجواب هو أن استخدام عبارة "استخراج القيمة" كان سيصرح على نحو أبلغ بكون هؤلاء العمال المتدنين الأجور إنما يخلقون ثروة تفوق ما يستلمونه من أجور ، أي أنه "يتم استغلالهم" - و هذا المفهوم (العلمي الصحيح) يعده الإقتصاديون التقليديون نوعاً من الهرطقة . كما أن ملاحظة روتش أعلاه تثير السؤال المهم التالي : " كيف يتسنى "لشركات العالم المتقدم" أن "تستخرج الإنتاج" من العمال البنغلاديشيين و الصينيين و دول الجنوب الأخرى ؟ إن المساهمة المنظورة الوحيدة لهؤلاء العمال في قيود الحسابات الختامية لشركات العالم المتقدم هو ترحيل الأرباح من حساب "الاستثمار الأجنبي المباشر” دون قيد فلس واحد من أرباح ، مثلاً ، شركة (H&M) السويدية للأزياء أو شركة جنرال موتورز ألأمريكية للسيارات لحساب مجهزيهما المستقلين في بنغلادش أو المكسيك لكون هذه الأرباح لا تظهر في حسابات شركات العالم المتقدم إلا كقيم مضافة من عوائد النشاطات الذاتية للشركات الأخيرة نفسها . هذا اللغز الذي يبقى بدون حل لدى علماء الاقتصاد التقليديين يصار إلى تجاهله من طرفهم ، إذ لا يمكن حله إلا بإعادة تعريف مفهوم القيمة المضافة (value added) بكونه "القيمة المستولى عليها" (captured value) ؛ أي بكلمة أخرى فأن "القيمة المضافة" للشركة في العالم المتقدم لا تمثل القيمة التي قامت "هي" بإنتاجها و إنما هي ذلك الجزء من كامل القيمة المنتجة عبر اقتصاد العالم كله و التي تفلح هي بالاستيلاء عليه من خلال عملية التبادل ، بضمنها تلك القيمة المستولى عليها من العمل الحي في البلدان البعيدة . و على العكس من ادعاءات علماء الاقتصاد التقليديين ، فإن عملية الاستيلاء على القيمة ليست فقط غير متطابقة مع عملية خلق القيمة فحسب ، بل و لا يوجد كذلك أي تعالق (correlation) بينهما . المصارف ، مثلاً ، لا تخلق أي قيمة ؛ و لكنها تستولي على الكثير منها . و لما كان اجمالي الناتج المحلي لأي بلد ليس سوى مجموع القيم المضافة لشركاته ؛ لذا ، فإن إحصائيات أجمالي الناتج المحلي تتكفل بالتقليص الممنهج للمساهمة الفعلية لبلدان الجنوب في الثروة العالمية ، في نفس الوقت الذي تبالغ في مساهمة البلدان المتقدمة في تلك الثروة . و الهدف من ذلك هو التعمية على تفاقم العلاقة الطفيلية الاستغلالية الإمبريالية القائمة بينهما . و لقد أطلقت على هذا إسم : "خدعة الناتج المحلي الإجمالي" (GDP illusion) (12) .

الملاحظات
8. صندوق النقد الدولي ، آفاق الاقتصاد العالمي ، أبريل 2007 (واشنطن العاصمة : صندوق النقد الدولي ، 2007) ، http://imf.org.
9. ستيفن روتش ، "المزيد من الوظائف ، و العمل أسوأ" ، نيويورك تايمز ، 22 يوليو 2004 ، http://nytimes.com.
10. Steven Roach، Outsourcing، Protism، and Global Labor Arbitrage، Morgan Stanley Special Economic Study، 2003، http://neogroup.com، 6.
11. Ibid .
12. John Smith، “The GDP ratio Illusion،” Monthly Review 64، no. 3 (2012): 86-102.

يتبع ، لطفاً .