ذكريات شيوعي عراقي : كاظم الشيخ / 6


حسين علوان حسين
الحوار المتمدن - العدد: 5397 - 2017 / 1 / 9 - 18:10
المحور: مقابلات و حوارات     

تكملة تفاصيل الاعتقال الرابع / 1963
طالت فترة حجزي في معتقل حزب البعث الجهنمي ذاك لتستمر ستة شهور و ثمانية عشر يوماً ، و التي جَثَمَتْ جوائحها على صدري و وجداني كأطول عهد مررت به مدى العمر . و لقد استمرت خلال جل تلك الفترة جولات التعذيب الطرائقي الممنهج باستمراء بين يوم و يوم ؛ حيث يتم إنزالي في كل مرة إلى السرداب كي أتولى من جديد عصر دماغي لتوليد حيثيات دور البهلول ، و ذلك في سيناريوهات متحوِّلة عرجاء في خضم لجَّة لسعات قراع عصي و قابلوهات مبارياتهم السادية . تلكم هي ألفباء ثقافة البعثيين و توجهاتهم و تربيتهم الحزبية . لا عجب أن كل تاريخ هذا الحزب - التي زرعته الإمبريالية في العراق بالتعاون مع خصيان الخليج و شاه إيران - قد أثبت و يثبت على مر الأجيال و على نحو قاطع أنه أعدى أعداء كل واحدة من مفردات شعاره الكاذب الذي يحاول بيعه للمغفلين : الوحدة و الحرية و الاشتراكية . لقد دمّر هذا الحزب الفاشي بإصرار و ترصد مستدام كل خلية إنسانية و وطنية حيَّة في جسد المجتمع العراقي على مدى أربعين عاماً [1963-2003] ، حتى سلّمه أخيراً لقمة سائغة لبساطيل أسياده المنقلبين عليه : المحتلين الأمريكان عام 2003 . هل كان بإمكان الأمريكان احتلال العراق إبان المدِّ الوطني عام 1959 ؟ قطعاً لا .
كانت فترة الغروب من كل يوم اعتقال من أشد الفترات ثقلاً على صدري ؛ لذا ، فقد دأبت على التحامل على جسدي المتورم المنهوك للوقوف بساق واحدة خلف النافذة الصغيرة المطلة على شط الحلة كي أروِّح عن نفسي قليلاً بالتشييع الحزين لسدول الشمس على الشريعة الأبعد للشط . و قد لفَت انتباهي من بعيد (حوالي مائتي متر) يوماً وجود امرأة تتلفع بالعباءة تأتي إلى رصيف النهر بُعيد العصر ، لتبقى جالسة لوحدها قبالة زنزانتي حتى مغيب الشمس . و لقد استغربت لمواظبتها على المجيء إلى نفس ذاك المكان ، و جلوسها لوحدها حتى المغيب . و في إحدى الأمسيات ، و على غير عادتي ، فقد غفوت قليلاً بعد الظهر بسبب الإنهاك الشديد جرّاء فظاعة التعذيب و تثخُّن الجراح . و عندما استيقظت من النوم ، كانت الشمس قد آلت للمغيب ، فتحاملت على آلامي ، و جرجرت نفسي إلى النافذة لممارسة طقس إطلالتي اليومية على الشط ، فشاهدت شبح المرأة السوداء على الجانب الثاني الأبعد من الشط و هي تقوم من جلستها ، و تنفض عباءها من أتربة الرصيف بحركة متفردة كانت أليفة عندي : لا بد أنها أمي المسكينة !
قلت لرفيق الزنزانة ، أستاذ اللغة الإنجليزية ، حفظي شهيد :
- إن أمي المسكينة تواظب الجلوس على الشريعة المقابلة كل مغرب !
- يا معوَّد ، شجابها لأمك للشريعة ؟
- أنها أمي ، بلا ريب !
- و ما أدراك أنها أمك بالذات ، و ليست أي امرأة أخرى من مئات النساء ؟
- من طريقتها في نفض عباءتها عند مغادرتها المكان مع غيبة الشمس !
و قد أيدت بعدئذ لي أمي صحة حدسي هذا عندما أفادتني بالقول :
- و قتها ، تسلطّت علي الرغبة الطاغية للذهاب يومياً للجلوس هناك مقابل بناية المعتقل بغية رؤية المكان الذي يحتجزونك فيه عنّي ، و لو من بعيد . لم يكن الأمر بيدي أبداً بعد طغيان ذاك الاندفاع لتفقد المكان الذي أنتَ فيه يومياً ، و الدعاء لله كي يفكَّ أسْرك سالماً لأكحِّل عيني برؤيتك من جديد .
لله درك أيتها المرأة العراقية الماجدة ! لقد تحملت نساء العراق المنكوب بشموخ و حدب و دموع كل مآسي العراق طوال أربعين عاماً حيث كانتِ هي بالذات الضحية الحقيقية لكل عقابيلها المأساوية الرهيبة و المتواصلة على مدار جيلَين عجفَين .
كما أبلغني بعدها أبي أنه قد حاول يوماً استثارة الأحاسيس الآدمية في وجدان "الحرس القومي" : حسوني العميدي (الحارس في مخازن الحبوب الذي كان يلازم برشاشته - و من بعده ابنه - باب المعتقل) كي يسمح له بمواجهتي على عجل في زنزانتي ، و لكن الأخير دفعه بقوة ، فهوى المسكين أرضاً .
و بعد مضي أكثر من ستة شهور على اعتقالي أنا و الأستاذ حفظي شهيد ، و الصمود الأسطوري للأخير ، مع مواظبتي على لعب دور البهلول خلال كل جلسات التعذيب ، فقد تولَّدت القناعة لدى القائم على التحقيق – "الحرس القومي" : طارق كاظم عبد الإخوة – بأننا لا يمكن أن نكون منتميَيْن فعلاً لصفوف الحزب الشيوعي العراقي ، و إلا لكنّا قد اعترفنا بذلك جراء ممارسته ضدنا أبشع أصناف التعذيب المقرون بالتهديد بتنفيذ الإعدام الفوري بنا في حال رفضنا الاعتراف بارتباطاتنا الحزبية و الإبلاغ عن أسماء و عناوين كل رفاقنا خلال ربع ساعة . فأخَذَنا ، بعد إحدى جولات التعذيب العَدَميّة ، إلى المكتب الفسيح الفخم الكائن في الطابق الأول لمسؤول "الحرس القومي" : وهاب الأعور . ما أن ولجنا مكتب الأخير ، حتى أبتدر طارقاً بالسؤال :
- هل اعترفا ؟
- رفيقي : أشو هذا (و أشَّر علي) يحچي شيش بيش ، مثل الزعطوط . و حفظي يقول أنه لا علاقة له بالشيوعيين ، و ليس لديه سابق معرفة بكاظم بن الشيخ . أجابه طارق عبد الأخوة .
- ليش ، أدبسز ، ما إعترفت ؟ سألني وهاب الأعور .
طفقت بالهذيان الطفولي .
- شنو إنتَ دا تمثِّل علي ؟ صرخ بي وهاب الأعور و هو ينتصب منتفخ الأوداج حاملاً خيزرانته ، و يغادر كرسيه مسرعاً نحوي كمن يروم أكلي هرساً و سرطاً .
- لا و الله عمّي ، آني مو ممثل بالسينما ، و ألعن أبو كل حرامي ! عمّو ، هو منو هو هذا الشوعي ؟ هل هو الحرامي ؟ ألعن أبو كل حرامي !
أسقط في يد ذاك المجرم الجبان ، فخفف من غلوائه .
- شنو هذا الزعطوط ؟ استعجم وهاب الأعور و هو يضربني بالخيزرانة على كفي ، و يأمر جلميزه طارقاً :
- يللا وَدّوهم للغرفة !
بعدها بحوالي اسبوعين - توقفت خلالها جولات التعذيب بين يوم و يوم - و في الساعة العاشرة من صباح يوم تموزي قائض ، جاءني إلى زنزانتي نسيبنا الأستاذ الجامعي السيد باقر محمد سماكه (نجل سماحة المرحوم الشيخ محمد سماكه وكيل السيد محسن الحكيم في لواء الحلة) بعد كفالته الشخصية لي ، و خاطبني بالقول :
- يللا : شيل أغراضك ، و تعال معي .
و أخيراً ، فقد انتصر الإنسان بصموده ، و خرجت من الظلمات إلى النور ، ففزت بعمر جديد .
خارج باب المعتقل ، كان في استقبالي أبي و أمي و شقيقتي . وكم تألمت لرؤيتي أمي و هي تمشي متهادية يمنة و يسرى بسبب التردي الشديد لحالتها الصحية ، و تسقط أرضاً ثم تقف مبحِّرة ببصرها الدامع - الذي كان قد ضعف كثيراً – في قامات الرجال حولها و هي تشهق باكية و تنشج :
- أين ابني ؟
و حال سماع العطارين في شارع الإمام علي بخبر الإفراج عني ، فقد بادروا إلى رمي مختلف أنواع عبوات الحلويات و السكاكر على رؤوس السابلة مجاناً (نسميها بطقس : يَطِشّون واهليّه) . و زارني للتهنئة الحلاق المرحوم السيد حسن المزيِّن و القهواتي السيد سلمان عمران و سائق سيارة الباص السيد صاحب دُخنة و المضمد السيد عبد فخري الشلاه ؛ علاوة على كل من بلغه من الجيران و الأقارب نبأ خروجي من المعتقل .
راجعت بعدها أطباء الكسور في بغداد و الحلة لمعالجة انخلاع عظم قصبة ساقي الأيسر ، فأجمعوا على وجوب بتر رأس العظم المخلوع للحيلولة دون تمدده و نفاذه خارجاً من تحت لحم و جلد أسفل الركبة . و رقدت أخيراً في مستشفى الحلة الجمهوري لإجراء عملية البتر . و لحسن الحظ ، فإن طبيب الكسور البريطاني المختص في المستشفى : الدكتور نوبار أسترجان قد قرر في حينها - بعد الفحص الدقيق - العدول عن البتر ، لحصول القناعة لديه بأن رأس العظم المخلوع لن يتمدد ليخترق العضلات و الجلد حوله ، و قد كان قراره ذاك حكيماً .

يتبع ، لطفاً .

الحلة في 9/1/2017